فقال صالح: «نعم، وكل إنسان سواك وسوى ريحانة. والسبيل إلى ذلك أن نأمر الخدم فيسرجوا الخيول، ونظهر أننا ذاهبون للتنزه على ضفاف الفرات، ونشغل الخدم والسياس بما يلهيهم عن مرافقتنا أو اللحاق بنا، ونحتج بأننا نحب التنزه على انفراد. ومتى بعدنا عن المحلة عرجنا نحو الدير، فنقيم هناك حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.»
فأحست جلنار كأن حبلا غليظا التف حول عنقها، وكاد يخنقها؛ لشدة ما هاج في نفسها من أسباب اليأس؛ لاضطرارها بعد أن أقامت في منزل أبي سلمة واستأنست بخالتها وأحبها نساء القصر، أن تفر إلى دير تنقطع فيه عن الناس، ولم تر ما يخفف من همها إلا البكاء، وبكت معها ريحانة، وحتى صالح - مع ما علمته من جمود قلبه - أوشك أن يبكي معها، على أنه أخذ يخفف عنها ويقول لجلنار : «لا تيأسي يا مولاتي؛ لا بد من الأخذ بالثأر ولو بعد حين، فإن العاقل من صبر على مضض الحياة، وتربص لاغتنام الفرص. وكل آت قريب.»
فتذكرت أبا مسلم حبيبها القديم، وكيف كانت تحبه، وكيف أصبحت لا تصبر عن قتله مع ما جدده وعد اليهودي من تحريك قلبها، فهاجت عواطفها، وبكت مرة ثانية لسبب غير سبب بكائها الأول، وصالح لا يعبأ بذلك، أو هو لا يفهمه، وإنما كان همه أن يستعجل في إعداد ما يحملونه معهم إلى الدير، فقال لها: «مري الخدم أن يسرجوا لنا الأفراس.» فأمرتهم. وفي أصيل ذلك اليوم، خرج الثلاثة من المحلة يتظاهرون بالتنزه على ضفاف الفرات، وليس معهم أحد من الخدم، ولا يعرف أحد مقصدهم، حتى إذا تواروا عن الناس تحولوا نحو الدير، فذهبوا أولا إلى دير هند. وقد أعد صالح صرة فيها مائة دينار دفعها إلى رئيسه هبة للدير. وكان الليل قد أسدل ستاره، فدعاهم إلى المبيت هناك على أن يبكروا في الذهاب إلى دير العذارى فأطاعوه، فقدموا لهم من أطعمة الدير وفاكهته، فأكلوا وشربوا وباتوا تلك الليلة.
وفي الصباح التالي، كتب لهم الرئيس كتابا إلى رئيسة دير العذارى أوصاها فيه بالفتاة ومن معها، ودفع الكتاب إلى صالح، فحمله وذهب بجلنار وريحانة، وأرسل الرئيس معهم دليلا يوصلهم إلى الدير المذكور، فبلغوه نحو الظهر، فاستقبلتهم رئيسته أحسن استقبال، وأنزلتهم على الرحب والسعة، ولا سيما بعد ما رأت من لطف جلنار وكرمها؛ لأنها حالما وصلت إلى هناك أمرت ريحانة فدفعت إلى الرئيسة هبة من المال، فخصصت لهما غرفة فسيحة نظيفة الأثاث، وأوصت بعض الراهبات بأن تعنى بهما.
الفصل الحادي والسبعون
بيعة أبي العباس السفاح
فاطمأن صالح على جلنار، وتفرغ للنظر في شئونه، فأقام في دير هند، وكان يتردد على دير العذارى حينا بعد حين يتعهد جلنار بما تحتاج إليه، وينزل الكوفة متنكرا يتجسس الأخبار الشائعة ليتعرف على مصير الأمور، ويترقب فرصة يتمكن بها من بلوغ غايته، فعلم أن بني العباس نزلوا عند أبي سلمة، وأنه كتم أمرهم، وأهل الكوفة لا يعلمون بمجيئهم. وكان الخراسانيون قد علموا بانتقالهم إلى هناك، فجاء جماعة منهم وعسكروا خارج الكوفة عند حمام أعين، وقوادهم يبحثون عنهم. وكان أبو سلمة بعد أن أنكر على صالح الفتك بهم، عاد فنظر في أمرهم، فرأى أن السداد في رأيه، ولكنه أعظم الإقدام على قتلهم فحبسهم، وكتم أمرهم، وتوقع أن يرجع إليه صالح فيفاوضه في شأنهم؛ لعله يصمم على الفتك بهم أو ببعضهم.
وأما صالح فلم يعد يظهر لأحد قط، وكان يمر بحمام أعين وهو متنكر، فيسمع أهل أبي سلمة وخدم جلنار يذكرون فقدانها منذ خرجت مع خادمتها على ضفاف الفرات، وقد رجحوا غرقها فيه. وكان يتنكر أحيانا في ملابس الفقهاء، فيقضي يومه في المسجد يسمع أحاديث القوم، ويلبس أحيانا ملابس الجنود أو الشحاذين أو العيارين أو غيرهم، فعلم أن الناس عرفوا بمقتل الإمام إبراهيم، وضجوا في السؤال عن إخوته وأهله، ثم علم بعد أربعين يوما من مجيء العباسيين أن الخراسانيين المعسكرين بظاهر الكوفة عرفوا بوجودهم في دار الوليد بن سعد؛ مولى بني هاشم، وهي الدار التي أنزلهم فيها أبو سلمة، وأن إبراهيم أوصى بالخلافة لأخيه أبي العباس، فاتهموا أبا سلمة بأنه حبسهم هناك لرغبته في نقل الخلافة إلى العلويين.
فلما علم شيعة العباسيين بوجودهم في تلك الدار، انطلق إليهم كبير منهم اسمه أبو حميد الحيري، فلما أقبل رأى جماعة لم يعلم أيهم الخليفة فسأل: «من الخليفة منكم؟» فتقدم داود بن علي؛ أحد أعمام أبي العباس، وقال: «هذا إمامكم وخليفتكم.» وأشار إلى أبي العباس، فسلم أبو حميد عليه بالخلافة قائلا: «السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله.» وقبل يديه وقدميه وقال له: «مرنا بأمرك.» وعزاه في إبراهيم الإمام، ثم رجع وأخبر جميع القواد وكبار الشيعة، فجاء معه منهم جماعة حتى دخلوا على أبي العباس وقالوا: «أيكم عبد الله بن محمد بن الحارثية؟» فقالوا: «هذا.» وأشاروا إلى أبي العباس، فسلموا عليه بالخلافة وعزوه في إبراهيم. فلما علم أبو سلمة بانكشاف أمر القوم، أراد أن يدخل فيبايع أبا العباس مثل سائر الناس، فمنعوه إلا أن يدخل وحده؛ لأنهم أساءوا الظن به، فدخل وسلم عليه بالخلافة.
وكان صالح يسمع في أثناء ذلك أنهم سيخرجون بالخليفة ليبايعوه في المسجد يوم الجمعة في 12 ربيع أول سنة 132ه،
نامعلوم صفحہ