فجثا صالح عند فراشها وقال: «ما الذي جرى يا مولاتي؟ هل حدث شيء جديد؟»
قالت وهي لا تستطيع أن تمسك نفسها عن البكاء: «آه يا صالح! كنت نائمة فرأيت في منامي أن ذلك القاسي جاءني وفي يده خنجر، وكأنه يهم بقتلي، فصحت فيه: ويلك يا ظالم! أهذا جزاء المحبة؟! ووبخته وعنفته وعاتبته عتابا شديدا وهو واقف لا يتكلم، وكان غيظي يتعاظم عليه، وحنقي يشتد، وأشعر رغم ذلك بشيء يتحرك في قلبي وينعطف نحوه، وكأن بين ناظريه وعروق قلبي رباط لا أدري ما هو، فقلت له: لا يغرنك ضعف هذا القلب؛ فإني سأغلبه وأغلبك، وأنتقم لقتل والدي شر انتقام.»
فقطع صالح كلامها بلهجة المجون وقال: «احذري أن تذكري اسمي، أو تخبريه إني مشجعك على هذا الانتقام؛ لئلا يرسلني إلى خوارزم.» قال ذلك وضحك كما كان يفعل في أيام مجونه.
فلم يسع جلنار إلا الضحك رغم ما بها، ثم أمسكت نفسها ونظرت إليه شزرا، فابتدرها قائلا: «لا ذنب لي في ذلك، فإنك ناديتني باسمي القديم وتمنيت أن أتسمى به، فتقمصت شخصيته؛ لأن الضحك على كل حال خير من البكاء. ومع ذلك لم أكن أحسبك تهتمين بأضغاث الأحلام، وتستسلمين للضعف النسائي. وقد طلبت إليك منذ أول خطوة خطوناها أن تخلعي عنك هذا الضعف، وتتخلقي بأخلاق الرجال؛ لأن الأمر الذي نحن بسبيله يحتاج إلى دهاء وتعقل وسعة صدر.»
قالت: «لا أزال غير قادرة على فكر أو عمل.»
قال: «لا أكلفك أن تقومي بعمل؛ فقد شرعت في العمل منذ الآن، فكتبت كتابا إلى سليمان بن كثير (وأخبرها فحواه)، وإنما أطلب إليك الصبر والدعاء وأنا ضامن أنك ستنسين كل هذه المتاعب. اصبري؛ إن الله مع الصابرين.»
فأحست جلنار بثقل أزيح عن صدرها وقالت: «صدقت؛ لا حيلة لي غير الصبر.» ثم مسحت عينيها والتفتت إلى ريحانة، فرأتها تذرف الدموع بلا بكاء ولا شهيق حتى كادت تختنق من ضيق صدرها، وحبس عواطفها. فلما رأت مولاتها تنظر إليها ووجهها منبسط، ابتسمت والدمع ملء عينيها وقالت: «تجلدي يا مولاتي. ولا بد من الصبر، والفرج قريب، بإذن الله.»
فرأى صالح أن من الحكمة أن يشغلهما عن ذلك الحديث النسائي فقال: «أخبريني يا مولاتي: هل تعرفين أبا سلمة الخلال؟»
فظلت جلنار صامتة مطرقة كأنها تستحث ذاكرتها وهي تتذكر أنها سمعت هذا الاسم قبل الآن، فبادرت ريحانة إلى الجواب قائلة: «أظن مولاتي لا تذكره، ولكنني أعرف هذا الاسم جيدا؛ فإنه لرجل فارسي من أكبر أرباب الثروة في العراق وفارس، وكان بينه وبين مولاي - رحمه الله - علاقات قديمة، وكثيرا ما كان يزوره وينزل في داره أياما، وكانت مولاتي الدهقانة لا تزال صغيرة.»
فابتسم صالح وبدا السرور في وجهه وقال: «إن هذا الرجل من أكبر دعائم هذه الدعوة؛ فهو يؤيدها بماله كما يؤيدها أبو مسلم بسيفه ودهائه، وحكايته مع أبي مسلم مثل حكاية ابن كثير، فإن أبا سلمة كان مع ابن كثير يدعوان للعلويين، ثم أطاع أبو مسلم في الدعوة الجديدة رغم إرادته، فإذا استطعنا تحويل أبي سلمة عن تأييد هذا المشروع، غلت أيديهم عن العمل، ولا سيما بعد القبض على إبراهيم نزيل الحميمة.»
نامعلوم صفحہ