ليس هذا توفيق مكرم الذي أريد الكتابة عنه، فهذه الشخصية عديد أمثالها، وألوف يخدمون الإدارة والهندسة والحركة، ويأكلون ويشربون ويتزوجون وينسلون ويموتون.
ولكن «توفيق مكرم» كان شخصية أخرى، كان رجلا لا يعرف غير ديوانه وبيته، وقضى في بيته ثلاثين سنة جادا مجدا في اختراع أو ابتكار ما سماه «الطوب المعشق» أو «البناء دون مونة»، وهو نوع من الحجر الصناعي يمكن أي شخص أن يبني به بيته بيده، فلا يحتاج إلى مهندس أو بناء أو صانع سلالم أو مبلط؛ لأن «طوب مكرم» مصنوع بطريقة تنفع لتشييد الحيطان والسلالم والسقوف معا بأقل من نفقة البناء العادي كثيرا.
لم يكن توفيق مكرم مهندسا ولا شبه مهندس، ولكنه بدأ بتجاربه من باب التسلية وقطع الوقت. وفي بيته معرض بديع لهذه التجارب وأنواع ونماذج الطوب، مصنوع بعضها من الخشب والبعض من الجبس، تبين لك تطور الابتكار وكيف كان معتدا حتى أصبح الآن طوبة واحدة تنفع للزوايا والشبابيك والأبواب.
فاتح بعض أقاربه وأصدقائه في الموضوع فرموه بالعته والجنون والخيبة وإضاعة المال وحرمان أولاده القوت، فلم يبال بهم وسار في عمله. وانضم إليه نجار وبناء ساعداه زمنا طويلا دون أجر، ولمح مالي بوارق النجاح فمده بنحو خمسمائة جنيه ذهبت كلها في التجارب والمحاولات والرسومات.
وعبثا حاول أن يجد مساعدة من كتاب الصحف ومحرريها، فالبعض تكرم عليه بسطور، والبعض تمحل العذر بدعوى أن الموضوع فني لا يحتمل مسئولية الكتابة فيه، وقال له آخرون: إذا كنت تنتظر ربح الألوف من الجنيهات فنحن لا نكتب لك مقالة إلا بعشرات الجنيهات.
وسعى لدى كبار المقاولين فصرفوه بالتي هي أحسن لتأكد الكثيرين منهم أنه «يبوظ عليهم الصنعة».
وتردد على وزارة الأشغال، ودعا هذا وذاك من المهندسين وسألهم أن يبدوا له رأيهم كتابة بصلاح الابتكار أو فساده فأصروا على الإباء.
وعرض المشروع على أعضاء الرابطة الشرقية بخطبة مسهبة مفصلة بنماذج من الحجر، وخرجوا من الجلسة كما دخلوها.
وشيد دارا صغيرة في المعرض الزراعي الصناعي سنة 1925 زارها مئات الألوف وسأل بعضهم عن كيانها، والله يحب المحسنين!
وسمحت له مصلحة التجارة والصناعة بإقامة «كشك» في فناء المصلحة يمر به الزائرون مرور الكرام.
نامعلوم صفحہ