A Treatise on Predestination and Fate
رسالة في القضاء والقدر
ناشر
دار الوطن
ایڈیشن نمبر
١٤٢٣هـ
اصناف
مقدمة
...
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له.
واشهد أن لا اله آلا الله وحده لا شريك له، واشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله الله تعالى بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا فبلٌغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى اله واصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد.
أيها الاخوة الكرام: إننا في هذا اللقاء الذي نرجو
1 / 3
أن يفتح الله علينا فيه من خزائن فضله ورحمته وان يجعلنا من الهداة المهتدين ومن القادة المصلحين ومن المستمعين، المنتفعين، نبحث في أمر مهم يهم جميع المسلمين ألا وهو "قضاء الله وقدره" والأمر ولله الحمد واضح، ولولا أن التساؤلات قد كثرت ولولا أن الأمر اشتبه على كثير من الناس، ولولا كثرة من خاض في الموضوع بالحق تارة وبالباطل تارات ونظرا إلى أن الأهواء انتشرت وكثرت وصار الفاسق يريد أن يبرر لفسقه بالقضاء والقدر، ولولا هذا وغيره ما كنا نتكلم في هذا الأمر.
والقضاء والقدر ما زال النزاع فيه بين الأمة قديما وحديثا فقد روى أن النبي ﷺ خرج على أصحابه وهم يتنازعون في القدر فنهاهم عن ذلك وأخبر أنه
1 / 4
ما اهلك الذين من قبلكم ألا هذا الجدال١.
ولكن فتح الله على عباده المؤمنين السلف الصالح الذين سلكوا طريق العدل فيما علموا وفيما قالوا وذلك أن قضاء الله تعالى وقدره من ربوبيته ﷾ لخلقه فهو داخل في أحد أقسام التوحيد الثلاثة التي قسم أهل العلم إليها توحيد الله ﷿:
القسم الأول: توحيد الألوهية، وهو إفراد الله تعالى بالعبادة.
القسم الثاني: توحيد الربوبية وهو إفراد الله تعالى بالخلق والملك والتدبير.
القسم الثالث: توحيد الأسماء والصفات، وهو
_________
١ رواه الترمذي،كتاب القدر باب ما جاء في التشديد على الخوض في القدر رقم (٢١٣٣) وابن ماجة في المقدمة، باب في القدر رقم (٨٥) .
1 / 5
توحيد الله تعالى بأسمائه وصفاته.
فالأيمان بالقدر هو من ربوبية الله ﷿ ولهذا قال الأمام احمد رحمه الله تعالى: القدر قدرة الله لانه من قدرته ومن عمومها بلا شك وهو أيضا سرٌ الله تعالى المكتوم الذي لا يعلمه آلا الله ﷾. مكتوب في اللوح المحفوظ في الكتاب المكنون الذي لا يطٌلع عليه أحد ونحن لا نعلم بما قدٌره الله تعالى في مخلوقاته ألا بعد وقوعه لو الخبر الصادق عنه.
أيها الاخوة: أن الأمة الإسلامية انقسمت في القدر إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: غلوا في إثبات القدر وسلبوا العبد قدرته واختياره وقالوا: أن العبد ليس له قدرة ولا اختيار وانما هو مسير لا مخير كالشجرة في مهب
أيها الاخوة: أن الأمة الإسلامية انقسمت في القدر إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: غلوا في إثبات القدر وسلبوا العبد قدرته واختياره وقالوا: أن العبد ليس له قدرة ولا اختيار وانما هو مسير لا مخير كالشجرة في مهب
1 / 6
الريح، ولم يفرقوا بين العبد الواقع باختياره وبين فعله الواقع بغير اختياره. ولا شك أن هؤلاء ضالون لأنه ما يعلم بالضرورة من الدين والعقل والعادة أن الإنسان يفرق بين الفعل الاختياري والفعل الإجباري.
القسم الثاني: غلوا في إثبات قدرة العبد واختياره حتى نفوا أن يكون الله تعالى مشيئة أو اختيار أو خلق فيما يفعله العبد وزعموا أن العبد مستقل بعمله حتى غلا طائفة منهم فقالوا أن الله تعالى لا يعلم بما يفعله العباد ألا بعد أن يقع منهم وهؤلاء أيضا غلوا وتطرفوا تطرفا عظيما في إثبات قدرة العبد اختياره.
القسم الثالث: وهم الذين آمنوا فهداهم الله لما اختلف فيه من الحق وهم أهل السنة والجماعة سلكوا في ذلك مسلكًا وسطًا قائمًا على الدليل الشرعي وعلى الدليل العقلي وقالوا: أن الأفعال التي يحدثها
1 / 7
الله تعالى في الكون تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: ما يجريه الله ﵎ من فعله في مخلوقاته فهذا لا اختيار لأحد فيه كإنزال المطر وانبات الزرع والأحياء والإماتة والمرض والصحة وغير ذلك من الأمور الكثيرة التي تشاهد في مخلوقات الله تعالى وهذه بلا شك ليس لأحد فيه اختيار وليس لأحد فيها المشيئة فيها لله الواحد القهار.
القسم الثاني: ما تفعله الخلائق كلها من ذوات الإرادة فهذه الأفعال تكون باختيار فاعليها وأرادتهم لان الله تعالى جعل ذلك إليهم قال الله تعالى: ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ﴾ [التكوير:٢٨] وقال تعالى: ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾ [آل عمران ١٥٢] وقال تعالى: ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ
1 / 8
فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: ٢٩] والإنسان يعرف الفرق بين ما يقع منه باختياره وبين ما يقع منه باضطرار واجبار فالإنسان ينزل من السطح بالسلم نزولًا اختياريًا يعرف انه مختار ولكنه يسقط هاويًا من السطح يعرف انه ليس مختارًا لذلك ويعرف الفرق بين الفعلين وان الثاني إجبار والأول اختيار وكل إنسان يعرف ذلك.
وكذلك الإنسان يعرف انه إذا أصيب بمرض سلس البول فالبول يخرج منه بغير اختياره وإذا كان سليما من هذا المرض فان البول يخرج منه باختياره. ويعرف الفرق بين هذا وهذا ولا أحد ينكر الفرق بينهما. وهكذا جميع ما يقع من العبد يعرف فيه الفرق بين ما يقع اختيارًا وبين ما يقع من العبد يعرف فيه الفرق بين ما يقع اختيارًا وبين ما يقع اضطرارًا وإجبارًا بل إن من رحمة الله ﷿ أن من الأفعال ما هو باختيار العبد ولكن لا يلحقه كما في فعل الناسي
1 / 9
والنائم ويقول الله تعالى في قصة أصحاب الكهف: ﴿وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ﴾ [الكهف: ١٨] وهم الذين يتقلبون ولكن الله تعالى نسب الفعل إليه لان النائم لا اختيار له ولا يؤاخذ بفعله، فنسب فعله إلى الله ﷿ ويقول ﷺ: "من نسى وهو صائم فأكل وشرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه" ١فنسب هذا الإطعام وهذا الاسقاء إلى الله ﷿ لأن الفعل وقع منه بغير ذكر فكأنه صار بغير اختياره وكلنا يعرف الفرق بين ما يجده الإنسان من آلم بغير اختياره وما يجده من خيفة في نفسه أحيانًا بغير اختياره ولا يدرى ما سببه وبين أن يكون الألم هذا
_________
١ رواه مسلم، كتب الصيام، باب أكل الناسي وشربه وجماعه لا يفطر رقم "١١٥٥".
1 / 10
ناشئًا من فعل الذي اكتسبه أو الفرح ناشئًا من شي هو الذي اكتسبه وهذا الآمر ولله الحمد واضح لا غبار عليه.
أيها الاخوة: أننا لو قلنا بقول الفريق الأول الذين غلوا في إثبات القدر لبطلت الشريعة من اصلها لان القول بان فعل العبد ليس له فيه اختيار يلزم من أن لا يحمد على فعل محمود ولا يلام على فعل مذموم لانه في الحقيقة بغير اختيار وارادة منه وعلى هذا فالنتيجة أذن أن الله ﵎ يكون - تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا - ظالما لمن عصى إذا عذبه وعاقبه على معصيته، لانه عاقبة على أمر لا اختيار له فيه ولا إرادة وهذا بلا شك مخالف للقران صراحة يقول الله ﵎: ﴿وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ
1 / 11
إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍقَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [ق:٢٣- ٢٩] .
فبين سبحانه أن هذا العقاب منه ليس ظلما بل هو كمال العدل لانه قد قدم إليهم بالوعيد وبين لهم الطرق وبين لهم الحق وبين لهم الباطل ولكنهم اختاروا لانفسهم أن يسلكوا طريق الباطل فلم يبق لهم حجة عند الله تعالى: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء: ١٦٥] .
فان الله ﵎ نفى أن يكون للناس حجة بعد إرسال الرسل لانهم قامت عليهم الحجة بذلك فلو كان القدر حجة لهم لكانت هذه الحجة باقية حتى بعد بعث الرسل لان قدر الله تعالى لم يزل ولا يزال
1 / 12
موجودا قبل إرسال الرسل أذن فهذا القول يبطله الواقع كما فصلنا بالأمثلة السابقة.
أما أصحاب القول الثاني فانهم أيضا ترد عليهم النصوص والواقع ذلك لان النصوص صريحة في أن مشيئة الإنسان تابعة لمشيئة الله ﷿: ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [التكوير: ٢٨، ٢٩] ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ﴾ [القصص:٦٨]، ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [يونس: ٢٥] .
والذين يقولون بهذا القول هم في الحقيقة مبطلون لجانب من جوانب الربوبية وهم أيضا مدعون بان في ملك الله تعالى ما لا يشاء ولا يخلقه والله ﵎ شاء لكل شي خالق لكل شي مقدر لكل
1 / 13
شيء وهم أيضا مخالفون لما يعلم بالاضطرار من أن الخلق كله ملك لله ﷿ ذواته وصفاته لا فرق بين الصفة والذات ولا بين المعنى وبين الجسد أذن فالكل لله ﷿ ولا يمكن أن يكون في ملكه ما لا يريد ﵎ لكن يبقى علينا إذا كان الآمر راجعا إلى مشيئة الله ﵎ وان الآمر كله بيده فما طريق الإنسان أذن وما حيلة الإنسان إذا كان الله تعالى قد قدر عليه أن يضل ولا يهتدي؟
فنقول: الجواب عن ذلك أن الله ﵎ إنما يهدى من كان أهلًا للهداية، ويضل من كان أهلًا للضلالة، ويقول الله ﵎: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف:٥] ويقول تعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ﴾ [المائدة: ١٣] .
1 / 14
فبين الله تبارك أن أسباب إضلاله لمن ضل إنما هو بسبب من العبد نفسه، والعبد كما أسلفنا آنفًا لا يدرى ما قدر الله تعالى له، لانه لا يعلم بالقدر إلا بعد وقوع المقدور. فهو لا يدرى هل قدر الله له أن يكون ضالا أم أن يكون مهتديا؟ فما باله يسلك طريق الضلال ثم يحتج بان الله تعالى قد أراد له ذلك أفلا يجدر به أن يسلك طريق الهداية ثم يقول أن الله تعالى قد هداني للصراط المستقيم؟ أيجدر به أن يكون جبريا عند الضلالة وقدريا عند الطاعة كلا لا يليق بالإنسان أن يكون جبريا عند الضلالة والمعصية فإذا ضل أو عصى الله قال هذا آمر قد كتب على وقدر على ولا يمكنني أن اخرج عما قضى الله تعالى للطاعة والهداية زعم أن ذلك منه ثم من به على الله وقال أنا أتيت به من عند
1 / 15
نفسي فيكون قدريا في جانب الطاعة جبريا في جانب المعصية هذا لا يمكن أبدًا فالإنسان في الحقيقة قدرة وله اختيار وليس باب الهداية باخفى من باب الرزق واخفي من أبواب طلب العلم. والإنسان كما هو معلوم لدى الجميع قد قدر له ما قدر من الرزق ومع ذلك هو يسعى في أسباب الرزق في بلده وخارج بلده يمينًا وشمالًا لا يجلس في بيته ويقول أن قدر لي رزق فانه يأتيني، بل يسعى في أسباب الزرق مع أن الرزق نفسه مقرون بالعمل كما ثبت ذلك عن النبي ﷺ.في حديث ابن مسعود رضى الله عنه: "أن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقه مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات يكتب رزقه واجله
1 / 16
وعمله وشقي أم سعيد" ١.
فهذا الرزق أيضا مكتوب كما أن العمل من صالح أو سيئ مكتوب فما بالك تذهب يمينا وشمالًا وتجوب الأرض والفيافي طلبًا لزرق الدنيا ولا تعمل عملا صالحا لطلب رزق الآخرة والفوز بدار النعيم أن البابين واحد ليس بينهما فرق فكما انك تسعى لرزقك وتسعى لحياتك وامتداد أجلك، فإذا مرضت بمرض ذهبت إلى أقطار الدنيا تريد الطبيب الماهر الذي يداوى مرضك ومع ذلك فان لك ما قدر من الأجل لا يزيد ولا ينقص، ولست تعتمد على هذا وتقول أبقى في بيتي مريضًا طريحًا وان قدر الله لي أن يمتد الأجل
_________
١ رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، ذكر الملائكة رقم (٣٢٠٨) ومسلم، كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه رقم " ٢٦٤٣".
1 / 17
امتد. بل نجدك تسعى بكل ما تستطيع من قوة وبحث لتبحث عن الطبيب الذي ترى انه اقرب الناس إن يقدر الله الشفاء على يديه فلماذا لا يكون عملك في طريق الآخرة وفى العمل الصالح كطريقك فيما تعمل للدنيا؟ وقد سبق أن قلنا أن القضاء سر مكتوم لا يمكن أن تعلم عنه فأنت الآن بين طريقين طريق يؤدى بك إلى السلامة وإلى الفوز والسعادة والكرامة وطريق يؤدى بك إلى الهلاك والندامة والمهانة وأنت الآن واقف بينهما ومخير ليس أمامك من يمنعك من سلوك طريق اليمين ولا من سلوك طريق الشمال إذا شئت ذهبت إلى هذا وإذا شئت ذهبت إلى هذا فما بالك تسلك الطريق الشمال ثم تقول أن قدر على آفلا يليق بك أن تسلك طريق اليمين وتقول انه قٌدٌر لي فلو انك أردت السفر إلى بلد ما كان أمامك
1 / 18
طريقان إحداهما معبد قصير آمن والآخر غير معبد وطويل ومخوف لوجدنا انك تختار المعبد القصير الآمن ولا تذهب إلى الطريق الذي ليس بمعبد وليس بقصير وليس بآمن هذا في الطريق الحسي أذن فالطريق المعنوي مواز له ولا يختلف عنه أبدًا ولكن النفوس والأهواء هي التي تتحكم أحيانًا في العقل وتغلب على العقل والمؤمن ينبغي أن يكون عقله غالبا على هواه وإذا حكم عقله فالعقل بالمعنى الصحيح يعقل صاحبه عما يضره ويدخله فيما ينفعه ويسره.
بهذا تبين لنا أن الإنسان يسير في عمله الاختياري سيرًا اختياريًا وانه كما يسير لعمل دنياه سيرًا اختياريًا وهو أن شاء جعل هذه السلعة أو تلك تجارته، فكذلك أيضا هو في سيره إلى الآخرة يسير سيرًا اختياريًا، بل أن طرق الآخرة أبين بكثير من طرق
1 / 19
الدنيا لان بين طرق الآخرة هو الله تعالى في كتابه وعلى لسان رسوله ﷺ. فلابد أن يكون طرق الآخرة اكثر بيانا أجلى وضوحا من طرق الدنيا. ومع ذلك فان الإنسان يسير في طرق الدنيا التي ليس ضامنا لنتائجها ولكنه يدع طرق الآخرة التي نتائجها مضمونة معلومة لأنها ثابتة بوعد الله والله ﵎ لا يخلف الميعاد.
بعد هذا نقول: أن أهل السنة والجماعة قرروا هذا وجعلوا عقيدتهم ومذهبهم أن الإنسان يفعل باختياره وانه يقول كما يريد ولكن أرادته واختياره تابعان لإرادة الله ﵎ ومشيئته ثم يؤمن أهل السنة والجماعة بان مشيئة الله تعالى تابعة لحكمته وانه ﷾ ليس مشيئته مطلقة مجردة ولكنها مشيئة تابعة لحكمته لان من أسماء الله تعالى الحكيم والحكيم هو الحاكم المحكم الذي يحكم
1 / 20
الأشياء كونًا وشرعًا ويحكمها عملًا صنعًا والله تعالى بحكمته يقدر الهداية لمن أرادها لمن يعلم ﷾ انه يريد الحق وان قلبه على الاستقامة ويقدر الضلالة لمن لم يكن كذلك لمن إذا عرض عليه الإسلام يضيف صدره كأنما يصعد في السماء فان حكمة الله ﵎ تأبى أن يكون هذا من المهتدين آلا أن يجدد الله له عزمًا ويقلب أرادته إلى إرادة أخرى والله تعالى على كل شي قدير ولكن حكمة الله تأبى إلا أن تكون الأسباب مربوطة بها مسبباتها.
ومراتب القضاء والقدر عند أهل السنة والجماعة أربع مراتب: المرتبة الأولى: العلم وهى أن يؤمن الإنسان أيمانا جازما بان الله تعالى بكل شي عليم وانه يعلم ما في السماوات والأرض جملة وتفصيلًا سواء كان
ومراتب القضاء والقدر عند أهل السنة والجماعة أربع مراتب: المرتبة الأولى: العلم وهى أن يؤمن الإنسان أيمانا جازما بان الله تعالى بكل شي عليم وانه يعلم ما في السماوات والأرض جملة وتفصيلًا سواء كان
1 / 21
ذلك من فعله أو من فعل مخلوقاته وانه لا يخفى على الله شي في الأرض ولا في السماء.
المرتبة الثانية: الكتابة وهى إن الله ﵎ كتب عنده في اللوح المحفوظ مقادير كل شي.
وقد جمع الله تعالى بين هاتين المرتبتين في قوله: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [الحج:٧٠]، فبدا سبحانه بالعلم وقال أن ذلك في كتاب أي انه مكتوب في اللوح المحفوظ كما جاء به الحديث عن رسوله الله ﷺ: "أن أول ما خلق الله القلم قال له اكتب قال رب ماذا اكتب؟ قال اكتب ما هو كائن فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة" ١. ولهذا سئل
_________
١ رواه أبو داود، كتاب السنة، في باب القدر رقم (٤٧٠٠) والترمذي،كتاب القدر رقم"٢١٥٥".
1 / 22