فقالت المعلمة حسنية بغير مبالاة: طالب عاهة، أليس كذلك؟
فضحك زيطة وراح يقص عليها قصته، والمرأة تضحك وتلعنه على شيطنته، ثم اتجه نحو الباب الخشبي القصير الذي يؤدي إلى مأواه، وتردد على عتبته لحظة ثم سألها: أين جعدة؟
فأجابته المرأة: في الحمام.
وظن الرجل لأول وهلة أنها تسخر منه لقذارته المعروفة، فرمقها بحذر؛ ولكنه وجدها جادة، فأدرك أن جعدة قد ذهب إلى حمام الجمالية، وهو ما يفعله مرتين في العام، وأنه لن يعود قبل منتصف الليل على وجه التقريب، فحدثته نفسه بأن يجالس المعلمة قليلا، متشجعا بما أثارته قصته من سرور. وجلس على عتبة بابه مستندا إلى مصراع الباب، مادا ساقيه كعمودين رقيقين من الفحم، غير عابئ بما أحدثه جلوسه من دهشة وإنكار لاحت آياتهما في عينيها. وكانت المرأة تعامله كما يعامله بقية أهل الزقاق، غير كلمات يتبادلانها في ذهابه أو إيابه، بوصفها مالكة مأواه. ولم تكن تشك في أن علاقته بها تنقطع عند هذا الحد، ولم يدر لها بخلد أنه يطلع على الكثير من دخائل حياتها ودقائقها. ولكن مخلوقا كزيطة لا يعدم أن يجد منفذا في الجدار بينه وبين الفرن يطلع منه على ما يروي غلته المتطفلة، وأحلامه البهيمية، فصار وكأنه واحد من هذه الأسرة، يشهد عملها وراحتها، ويلذه، بوجه خاص، أن يرى المعلمة وهي تكيل الضرب لبعلها لأقل هفوة، وما أكثر هفوات جعدة التي يقع فيها كل يوم ويعاقب عليها كل يوم، حتى بات الضرب من غذائه اليومي، يتلقاه تارة في تصبر وتجلد، وتارة في بكاء وصراخ وعواء. وهو لا يفتأ يحرق بعض الأرغفة في أثناء خبزها، أو يسرق البعض الآخر ليلتهمه خفية فيما بين الوجبات، أو يبتاع بسبوسة بنصف قرش من أجر الخبز الذي يحصله من البيوت، ولا يتورع عن ارتكاب هذه الجرائم يوما بعد يوم، دون توفيق في طمس معالمها، ولا قدرة على منع عقوباتها الصارمة. وكان زيطة يعجب لخنوع الرجل وجبنه وعتهه. وأعجب من هذا أنه - زيطة - كان يستقبحه ويهزأ بصورته! كان جعدة طويل القامة لحد مفرط، طويل الذراعين، ممطوط الفك الأسفل، غائر العينين، غليظ الشفتين. ولطالما حقد عليه زيطة تمتعه بهذه الزوجة الهائلة التي يرمقها بعين الإعجاب والرغبة، ولذلك مقته واحتقره، وتمنى لو يستطيع قذفه داخل الفرن مع العجين والصواني. ولذلك أيضا سره أن يجد في غياب الحيوان فرصة ليجالس المعلمة قليلا، فجلس ومد ساقيه، غير عابئ بما يحدثه جلوسه من دهشة وإنكار. ولم تتردد المعلمة حسنية بجرأتها المعهودة أن سألته بجفاء بصوت غليظ: ما لك جلست هكذا؟!
فقال زيطة لنفسه: «اللهم ارفع غضبك ومقتك عنا.» ثم قال لها بلطف وتودد: أنا ضيف يا معلمة، والضيف لا يهان.
فقالت بتقزز: ولماذا لا تنجحر وتريحني من وجهك؟
فقال زيطة برقة مبتسما عن أنيابه الوحشية: لا يمكن أن يقضي الإنسان حياته كلها بين الشحاذين والقاذورات والديدان، ولا مفر من أن يتطلع لمنظر أبهج وأناس أفضل.
فانتهرته بعنف قائلة: يعني لا مفر من أن يؤذي الناس بمنظره الكريه ورائحته الخبيثة! .. أف .. أف .. انجحر وأغلق الباب وراءك!
فقال زيطة بخبث: ومع ذلك فعسى أن توجد مناظر أفظع وروائح أخبث.
وأدركت المعلمة أنه يلمح إلى زوجها، فاربد وجهها وقالت بلهجة تنم عن الوعيد: ماذا تعني يا أخا الديدان؟!
Bilinmeyen sayfa