وكان الفتى يتحامى أباه عادة، ولا يصطدم به إلا إذا ضاقت به السبل؛ ولكنه كان قد عزم عزما صادقا على نبذ ماضيه مهما كلفه الأمر، فلم يتردد ولم يتراجع، خصوصا أنه كان يرى مسألة إقامته في البيت أو مغادرته من صميم حقه الذي لا ينازعه فيه منازع، فقال بهدوء وعزم معا: نعم يا أبي.
فسأله الرجل وهو يعاني خناق غيظه: ولماذا؟
فتفكر الشاب قليلا ثم قال: أريد أن أحيا حياة أخرى.
فقبض الرجل على ذقنه، وهز رأسه ساخرا وقال: فهمت .. فهمت .. تريد حياة أخرى تناسب المقام! لأن كلبا مثلك نشأ محروما جائعا، يجن إذا امتلأ جيبه، وأنت الآن صاحب قرش إنجليزي، فمن الطبيعي أن ترتاد حياة أخرى تليق بمقامك العالي يابن قنصل الأوز!
فكظم حسين غيظه وقال: لم أكن كلبا جائعا قط؛ لأني نشأت في بيتك، وبيتك لم يعرف الجوع أبدا والحمد لله، وكل ما في الأمر أني أريد أن أغير حياتي، وهذا حقي لا مراء فيه، ولا داعي مطلقا لغضبك وسخطك.
ولم يفهم المعلم مراده، كان الشاب يتمتع بحرية مطلقة، فلا يسأل عما يفعل، فلماذا يريد أن ينشئ لنفسه بيتا خاصا؟ وكان المعلم، على رغم ما يقوم بينهما من أسباب الشقاق والملاحاة والخصام، يحبه؛ ولكنه حب لم يظفر قط بالجو الذي يستطيع أن يتنفس فيه، وغشيته دائما غواشي الغيظ والحنق والسباب، ولطالما نسي كثيرا أنه يحب ابنه الوحيد. وحتى في هذه الساعة والفتى ينذره بهجره غاب حبه وإشفاقه تحت ستار الغضب والحنق، وتمثل له الأمر تحديا وعراكا، ولذلك سأله في تهكم مر: نقودك في جيبك، تنفقها كما تشاء وينعم بها الخمارون والحشاشون والقوادون، هل سألناك مليما؟ - أبدا .. أبدا، أنا لا أشكو هذا مطلقا.
فتساءل المعلم بنفس اللهجة المرة: أمك الجشعة ذات العينين اللتين لا يشبعهما إلا التراب، هل أخذت منك مليما؟
فقطب حسين ضجرا وقال: قلت: إني لا أشكو هذا، كل ما في الأمر أني أريد حياة غير هذه الحياة، إن كثيرين من زملائي يقطنون في بيوت فيها الكهرباء! - الكهرباء! أمن أجل الكهرباء تترك بيتك؟! .. الحمد لله على أن أمك بفضائحها قد جعلت بيتنا أحمى من الكهرباء.
وهنا خرجت المرأة عن صمتها مولولة: مظلومة والله يا ربي ظلم الحسن والحسين.
واستدرك حسين قائلا: إن زملائي جميعا يحيون حياة جديدة، وقد انقلبوا جميعا جنتلمان كما يقول الإنجليز.
Bilinmeyen sayfa