وتكرر الرجاء من ناحية الرجل الساذج، فاصطدم كل مرة بالرفض والسخرية، حتى كف الرجل يائسا، وراح الحلو بعد ذلك يعلن للإخوان ما اعتزم من العمل في الجيش البريطاني، ويستمع إلى آرائهم ونصائحهم، وقد اجتمعت كلمتهم على الموافقة على مشروعه، وتمنوا له النجاح والثراء. وكان السيد رضوان الحسيني منهمكا في حديث طويل من أحاديثه المليئة بالوعظ والإرشاد، وقد مال على محدثه وأنشأ يقول: ... فلا تقل مللت! الملل كفر، الملل مرض يعتور الإيمان. وهل معناه إلا الضيق بالحياة؟! ولكن الحياة نعمة الله سبحانه وتعالى، فكيف لمؤمن أن يملها أو يضيق بها؟! ستقول: ضقت بكيت وكيت، فأسألك: من أين جاءت كيت وكيت هذه؟ أليس من الله ذي الجلال؟ فعالج الأمور بالحسنى، ولا تتمرد على صنع الخالق. لكل حالة من حالات الحياة جمالها وطعمها، بيد أن مرارة النفس الأمارة بالسوء تفسد الطعوم الشهية. صدقني إن للألم غبطته ولليأس لذته وللموت عظته، فكل شيء جميل وكل شيء لذيذ! كيف نضجر وللسماء هذه الزرقة، وللأرض هذه الخضرة، وللورد هذا الشذا، وللقلب هذه القدرة العجيبة على الحب، وللروح هذه الطاقة اللانهائية على الإيمان؟ كيف نضجر وفي الدنيا من نحبهم، ومن نعجب بهم، ومن يحبوننا، ومن يعجبون بنا. استعذ بالله من الشيطان الرجيم ولا تقل مللت.
وحسا حسوة من قدح القرفة، ثم أردف وكأنه يعبر عن خلجات ضميره: أما المصائب فلنصمد لها بالحب، وسنقهرها به. الحب أشفى علاج، وفي مطاوي المصائب تكمن السعادة كفصوص الماس في بطون المناجم الصخرية، فلنلقن أنفسنا حكمة الحب.
كان وجهه الأبيض الوردي يفيض بشرا ونورا، تحيط به لحيته الصهباء إحاطة الهالة بالقمر. وكان كل شيء حوله يلوح بالقياس إلى طمأنينته الراسخة قلقا مضطربا. وكان نور عينيه صافيا نقيا ينطق بالإيمان والخير والحب والترفع عن الأغراض. ربما قيل إنه رجل خسر الجاه يوم أخفق في دراسته الأزهرية، وإنه أيس من خلود الدنيا حين ثكل الأبناء، ففزعت نفسه إلى تعويض خسرانها الفادح بالاستيلاء على القلوب بالحب والجود! ولكن كم من المصابين مثله من سلك سبيله، وكم منهم من سقط فريسة الجنون، وكم منهم من صب جام غضبه على الدنيا والدين؟! ومهما يكن من أمر نفسه الخافية فما من شك في إخلاصه، كان مؤمنا صادقا، ومحبا صادقا، وجوادا صادقا، ومن عجب أن يكون هذا الرجل - الذي طار صيته في الخير والحب والجود كل مطار - حازما حاسما وعلى فظاظة وحرص في بيته! ربما قيل إنه وقد أيس من كل سلطان حقيقي في هذه الدنيا يفرض سطوته على المخلوق الوحيد الذي يذعن لإرادته، ألا وهو زوجه! وإنه يشبع شهوته الجائعة للنفوذ والسلطان باصطناع الحزم والمهابة معها. ولكن ينبغي ألا نسقط من حساب التقدير تقاليد الزمان والمكان، وما تسنه البيئة لسياسة المرأة وفلسفتها، وما تراه أكثرية أهل طبقته من وجوب معاملة المرأة كالطفل تحقيقا لسعادتها هي نفسها قبل كل شيء. على أن زوجه نفسها لم يكن لديها ما تشكوه نحوه، ولولا الجروح التي تركها الأبناء تذكارا خالدا في قلبها، لعدت نفسها امرأة سعيدة، فخورا بزوجها وحياتها.
أما المعلم كرشة فكان حاضرا غائبا، لم يطمئن به المجلس لحظة واحدة، وعانى مرارة الانتظار في صمت كئيب. وكلما مرت دقائق لوى عنقه واشرأب به نحو مطلع الزقاق، ثم يعود إلى صندوق الماركات متصبرا متجلدا قائلا لنفسه: «سيأتي حتما، سيأتي كما أتى إخوان له من قبل.» وتمثل له وجهه، ثم نظر إلى الكرسي القائم بينه وبين أريكة الشيخ درويش، فرآه بعين الخيال يطمئن إليه، لم يكن فيما سلف ليجرؤ على دعوة أحد أمثال هذا الشاب إلى قهوته تسترا أو حياء، ثم افتضح أمره، وذاعت فضيحته، فكشف وجهه وارتاد الإثم جهارا. وكان يقع بينه وبين زوجه من المآسي ما يبقى حديثا فاضحا تتناقله الألسن، ويتلقفه بشغف أمثال الدكتور بوشي وأم حميدة، ولكنه لم يعبأ شيئا. وما تكاد النار تخمد إلى حين حتى يصب عليها نفطا بسوء سيرته فيضرمها إضراما، وكأنه وجد أخيرا في الجهر لذة فلهج بها. وهكذا جلس قلقا لا تعرف السكينة سبيلا إلى نفسه الملوثة، كأنه يجلس على مشواة، يكاد ينبري عنقه من كثرة ليه، حتى لاحظ الدكتور بوشي اضطرابه وقال للحلو في خبث: هذه علامات الساعة!
وهنا خرج الشيخ درويش عن صمته فجأة، وأنشد يقول:
حننت إلى ريا ونفسك باعدت
مزارك من ريا وشعباكما معا
فما حسن أن تأتي الأمر طائعا
وتجزع إن داعي الصبابة أسمعا - آه يا ست. الحب يساوي الملايين .. أنفقت في حبك يا ست مائة ألف جنيه، وإنه لقدر زهيد! •••
وأخيرا رأى الدكتور بوشي المعلم كرشة يحدق باهتمام شديد في مطلع الزقاق، ورآه يستوي جالسا وقد ابتسمت أساريره، فنظر إلى مدخل القهوة مترقبا، وما لبث أن طالعه وجه الشاب، وقد ألقى على السمار نظرة المتردد من عينيه الساجيتين.
Bilinmeyen sayfa