وجمود الشاطئ حقد على فتور الليالي ومعاكسات الأيام.
هنا ارتعاش الأوراق على الغصون تحية همت من مقل الكواكب وسلام وتمايل الأفنان ودلالها نجوى ملك الوحي والإلهام.
هنا ليلة أنوار، وفجر ظلام، وألغاز ملامس وألوان وأنغام.
حينما يمر الفجر على قمم الجبال يرى صورته في هذه المرآة البلورية، يرى رمز الشبيبة مع ما يتبعها من الآمال النضرة كالأزهار، والميول المتنقلة كالأطيار، ثم يأتي الغروب ساكبا في أعماقها مرارة أحزانه، مع ما يرافقها من النظرات المتحولة، والابتسامات المتغيبة، والجباه الكئيبة، والشفاه المتحركة بالصلوات، الساكنة بالتأملات.
هنا عيدان الأشجان تبكي، تبكي بقلب جريح، وفي كل لحظة يخيل أنها تسلم نفسها الأخير، بشهيق فيه من اللوعة والكتمان والتجلد بقدر ما فيه من المجد والعظمة، من البسالة وعزة النفس الأبية.
لكن المياه لا تموت ولا تحيا، بل تعيد ذكرى الماضي، وتهمس بنبوءتها في المستقبل، وتكرر أصوات الأفراح، وتردد آهات الأتراح.
هنا لغز من ألغاز الحياة، وليلة من ليالي الزمان، وأنا لغز أمام هذا اللغز، وليلة إزاء هذه الليلة. أهيم وحيدة على الشاطئ الحزين، أنظر ولا أرى، أسمع ولا أفهم، أبحث ولا أجد، أستعلم ولا أعلم ... فؤادي يخفق مع فؤاد النهر الخفي، ونفسي قيثارة الأحلام والألحان، لكني لغز حي تائه في ظل الغصون، ينظر مستفسرا إلى لغر آخر فلا يجد فيه إلا صورته، فيود تمزيقها وسحقها وإن أحبها! •••
عند احتضار النهار، ذهبت إلي رأس النبع وجلست على صخرة قائمة في وسط المياه المتسلسلة من صدر الصخرة الكبيرة. جلست وأرواح الخيال تتنشق الأريج العطري المعانق شعور بنات المياه، وآلهة الألوهية الأربع يتلاعبون بدقائق الشفق سابحين على أمواج الظلام، وحول أشباحهم تلتف أكاليل البنفسج وقلائد الياسمين، وفي ثغورهم يلمع فتيت النجوم، بينا أبكار الشعر تسر لأخواتها خفايا اليأس والرجاء تحت أشجار الصنوبر، وعذارى الطرب تستخرج من عناقيد «باخوس» خمرا تسكر به الآلهة، ومن سكر الآلهة يولد الشعراء والأنبياء.
وعلى هذه الصخرة حيث أنا أحلم ثملة بما شربته مشاعري من رحيق الخيال العلوي، كان يجلس الأمير بشير الشهابي الكبير. كثيرون بعده وقبلي جلسوا هنا وفؤاد كل منهم منقبض تهيبا وخشوعا أمام أنفاس الطبيعة وأصوات الخلود، وما يجول بخاطري الآن كان يجول بخاطرهم؛ لأن الأفكار تتشابه في المصدر، وفي النتيجة، رغم تشعبها وتفرعها، والرغائب الكثيرة اللاصقة في أعماق النفس البشرية هي هي في كل آن ومكان.
جميعنا طرح السؤال الذي ألقيه الآن على المياه المتراكضة: هو سر الأسرار الغامضة الذي يرجعه صدى الهياكل المشادة في قدس أقداس البشرية: من أين وإلى أين؟ من أين وإلى أين؟
Bilinmeyen sayfa