القسم الأول حلب قبل الإسلام اسمها زمن إبراهيم الخليل اسم حلب عربي لا شك فيه. وكان لقبًا لتل قلعتها. وإنما عرف بذلك لأن إبراهيم الخليل صلوات الله عليه، كان إذا اشتمل من الأرض المقدسة، ينتهي إلى هذا التل فيضع به أثقاله، ويبث رعاءه إلى نهر الفرات وإلى الجبل الأسود. وكان مقامه بهذا التل يحبس به بعض الرعاء، ومعهم الأغنام، والمعز، والبقر. وكان الضعفاء إذا سمعوا بمقدمه أتوه من كل وجه، من بلاد الشمال. فيجتمعون مع من اتبعه من الأرض المقدسة، لينالوا من بره، فكان يأمر الرعاء بحلب ما معهم طرفي النهار. ويأمر ولده وعبيده باتخاذ الطعام فإذا فرغ له من ذلك أمر بحمله إلى الطرق المختلفة بإزاء التل، فيتنادى الضعفاء: " إن إبراهيم حلب "، فيتبادرون إليه. فنقلت هذه اللفظة كما نقل غيرها، فصارت اسمًا لتل القلعة. ولم يكن في ذلك الوقت مدينة مبنية. قيل: إن " بيت لاها " كان يقيم به أيضًا إبراهيم صلى الله عليه ورعاؤه يختلف إليه. وكان يفعل فيه أيضًا، كما يفعل في تل القلعة. لكن الاسم غلب على تل القلعة دون غيره. وقيل: إن إبراهيم صفى الله عليه لما قطع الفرات من حران أقام ينتظر ابن أخيه " لوطا "، في كثير ممن يتبعه في سنة شديدة المحل. وكان الكنعانيون يأتون

1 / 7

إبراهيم ﵇ بأبنائهم فيهبونهم منه، ويتصدق عليهم بأقواتهم من الطعام، والغنم. وصار إبراهيم ﵇ إلى أرض حلب فاتخذ الركايا، وكرا الأعين، ومنها: عين إبراهيم ﵇ وهي التي بنيت عليها مدينة حلب. وكان للكنعانيين بتل القلعة في رأسه بيت للصنم، فصار إليه إبراهيم ﵇ فأخرج الصنم، وقال لمن حضره من الكنعانيين: أدعوا إلهكم هذا أن يكشف عنكم هذه الشدة. فقالوا: وهل هو إلا حجر. فقال لهم: فإن أنا كشفت عنكم هذه الشدة، ما يكون جزائي. قالوا له: نعبدك فقال لهم: بل تعبدون الذي أعبده فقالوا: فجمعهم في رأس التل، ودعا الله، فجاء الغيث. وضرب إبراهيم ﵇ برأس ظله حين أقلع الغيث. وتوافت إليه رعاؤه، فكان يأمر أصحابه بإصلاح الطعام، ويضعه بين أوعية اللبن، ويأمر بعضهم فينادي: " ألا إن إبراهيم قد حلب فهلموا "، فيأتون من كل وجه، فيطعمون، ويشربون، ويحملون ما بقي إلى بيوتهم. فكان الكنعانيون يخبرون عن مقام إبراهيم بما كان يفعله. وصار قولهم " حلب " بطول هذا الاستعمال لقبًا لهذا التل، فلما عمرت المدينة تحته سميت باسمه. وذكر بعضهم: أنها إنما سميت " حلب " باسم من بناها، وهو: حلب بن المهر ابن حيص بن عمليق من العمالقة. وكانوا إخوة ثلاثة: بردعه، وحمص، وحلب، أولاد المهر. فكل منهم بنى مدينة سميت باسمه. عند اليونانيين وكان اسم حلب باليونانية " باروا " وقيل بيرؤا. وذكر ارسطاطاليس في كتاب الكيان: أنه لما خرج الاسكندر لقصد دارا الملك، ومقاتلته، كان ارسطاطاليس في صحبته، فوصل إلى حلب وهي تعرف بلسان اليونانية " بيرؤا " فلما تحقق ارسطوطاليس حال تربتها، وصحة هوائها، استأذن الإسكندر في المقام بها، وقال له: إن بي مرضًا باطنًا، وهواء هذه البلدة موافق لشفائي. فأقام بها فزال مرضه. بناؤها في قديم الزمان وقيل: إن الذي بنى مدينة حلب أولًا ملك من ملوك الموصل يقال له:

1 / 8

بلوكوس الموصلي. ويسميه اليونانيون: " سردينبلوس ". وكان أول ملكه في سنة ثلاثة آلاف وتسعمائة وتسع وثمانين سنة لآدم صلوات الله عليه. وملك خمسًا وأربعين سنة. وفي سنة تسع وعشرين من ملكه وهي سنة أربعة آلاف وثماني عشرة سنة لآدم، ملكت ابنته " أطوسا "، المسماة " سميرم " مع أبيها بلوكوس. وذكر أبو الريحان البيروني في كتاب القانون المسعودي، وقال: بنيت حلب في أيام بلقورس من ملوك نينوى، وكان ملكه لمضي ثلاثة آلاف وتسعمائة واثنتين وستين سنة لآدم ﵇ ومدة مقامه في الملك ثلاثون سنة. وشاهدت على ظهر كتاب عتيق من كتب الحلبيين بخط بعضهم: رأيت في القنطرة التي على باب أنطاكية، من مدينة حلب، في سنة عشرين وأربعمائة للهجرة كتابة باليونانية، فسألت عنها، فحكى لي أبو عبد الله الحسين بن إبراهيم الحسيني الحراني أيده الله، أن أبا أسامة الخطيب بحلب حكى له: أن أباه حدثه: أنه حضر مع أبي الصقر القبيصي، ومعهما رجل يقرأ باليونانية، فنسخوا هذه الكتابة وأنفذ إلي نسختها في رقعة وهي: " بنيت هذه المدينة، بناها صاحب الموصل، والطالع العقرب والمشتري فيه، وعطارد يليه، ولله الحمد كثيرا ". وهذا يدل على ما ذكرناه، وهو أن بلوكوس الموصلي هو الذي عمرها. وكان قبل الاسكندر. وذكر يحيى بن جرير التكريتي في كتاب له ضمنه أوقات بناء المدن، ما يدل على أن حلب بعد بناء بلوكوس خربت، وجدد عمارتها غيره، بعد موت الاسكندر فإنه قال بعد ذكر دولة الاسكندر وموته باثنتي عشرة سنة بنى سلوقوس اللاذقية، وسلوقية وأفامية، وبارؤا وهي حلب، واداسا وهي الرها، وكمل بناء أنطاكية وزخرفها وسماها على اسم ولده انطيوخوس وهي أنطاكية وكان شرع في بنائها قبله أنطيغنوس في السنة السادسة من موت الاسكندر. وذكر أنه بناها على نهر أورنطس وسماها: انطوغينا. وقال: كان الملك الأول على سوريا، وبابل، " سلوقوس نيقطور " وهو

1 / 9

سرياني، وملك في السنة الثالثة عشرة لبطلميوس بن لاغوس، بعد موت الاسكندر، وألزم اليهود أن يقيموا في المدن التي بناها وقرر عليهم الجزية. وسوريا هي الشام الأولى وهي: حلب وما حولها من البلاد على ما ذكره بعض الرواة وفي طرف بلد حلب، بناحية الأحص، مدينة عظيمة داثرة، وبها آثار قديمة، يقال لها سورية وإليها ينسب القلى السورياني، فلعل الناحية كلها ينسب إليها، ويطلق عليها اسمها، كما أطلق بعد ذلك على جميع الكورة اسم قنسرين. وقال بعض المؤرخين من المسيحية: الذي ملك بعد الاسكندر بطلميوس الأريب وهو الذي بنى مدينة حلب، وسماها " أشمونيت ". وذلك أنه اختار بناء المدينة في موضع، وأراد أن يكون بها الماء، فخرج ودار حولها، حتى رأى الأعين التي " بحيلان "، فأمر المهندس أن يبني عليهن بناء، ويحكمه، وأن يجريهن إلى المكان الذي هو مرسوم بمنزلة الملك. وجمع الناس للعمل في عمارة المدينة، فاحتفر في وسط المدينة حفيرة بثقها إلى النهر الذي أجراه، وأمر بالقساطل أن تعمل فاختفت، فاتخذت من الحجارة، فتم ما أراد وبنى له بناء في موضع الريحانيين يومنا هذا، واتخذ عليه قصرًا، وبنى المدينة. وآخر ما بناه " باب أنطاكية " ورتب فيها ابنته " أشمونيت "، وسمى المدينة باسمها وأضاف لها جندًا وزوجها " بإيلياوس "، أحد أبناء ملوكهم، وكان قائد جيش الأريب، وصار إلى أنطاكية، وليست من بناء اليونان فإن رسمها قديم، فتمم بناءها، وأضافها إلى إيلياوس زوج أشمونيت. حكامها من اليونان وملك الأريب تسعًا وعشرين سنة. وملك بعده ابنه بطلميوس، ولفب

1 / 10

باليونانية: " محب أخيه "، وكانت أخته أشمونيت نائبة عنه، فبقي في الملك ستًا وعشرين سنة. وملك بعده ابنه بطلميوس الاورجاتس ولقب باليونانية بالفاعل فبقي في الملك أربعًا وعشرين سنة. وملك بعده بطلميوس فليفاطر ولقب باليونانية محب أبيه، وأشمونيت وزوجها وولدها يتولون حلب. وملك بعده " بطلميوس محب أمه " وهو ابن أشمونيت وكان ينزل حلب، وعمر على صخرتها قلعة، وحضنها، فخرج عليه في آخر أيامه " أنطياخوس " ملك الروم، واستنجد عليه فلم يكن لمحب أمه به طاقه، فخرج عنها مع أمه، فأسرهما أنطياخوس، وعذبهما، واستصفى أموالهما، وشرع في هدم ما جددت أشمونيت من بناء حلب. فقيل له إن الذي يفعله ليس من عادة الملوك، فكف عن هدمها، وتوعد من يسكن بحلب، فصار الناس إلى غيرها. وعاد إلى أنطاكية فاستحدث بها أبنية لنفسه. فلذلك يزعم قوم أن أنطاكية من بنائه، وليس الأمر كذلك، وإنما له فيها مثل ما لبطلميوس الأريب من التتميم. ويقال: إن أشمونيت وهي حلب تجاوزت عمارتها ما رسمه الأريب، حتى صارت العمارة إلى جميع الجوانب. وقيل: إن أشمونيت نصبت حواليها مائة آلف نصبة من الزيتون، ومن التين مائة آلف نصبة وغير ذلك من الأشجار الجبلية الشامية. ولم يبق بحلب موضع يتسب إلى أشمونيت غير العين المعروفة بأشمونيت. وماتت أشمونيت وولدها في أسر أنطياخوس تحت العقاب. وقيل هو الذي بنى قنسرين، وأجرى الماء إليها في قناة من عين المباركة. وقيل: بناها غيره. وعرف أنطياخوس ببطلميوس الرابع. وقيل: إن أشمونيت حال محاربتها أنطياخوس أتتها نجدة من مصر، فهزمته فصار إلى الشرق فمات. ثم ملك حلب بعد أشمونيت أبطلميوس ابيفانيس " وهو قائد العسكر، وفي زمانه اشترت اليهود منه موضع القلعة المعروفة اليوم بقلعة الشريف فتحصنوا بها، وكانوا يعينون الملك في القتال ويحملون له الأموال. ثم ملك بعده بطلميوس فيلوبطر، وهلك انطياخوس في أيامه.

1 / 11