جلس زكريا الخرتيتي في مقعده المعتاد إلى مائدة الفطور، يرشف القهوة ويقرأ عموده في الجريدة، كان العمود موجودا لكن أقصر مما كان، اسمه الكبير أصبح مكتوبا بالبنط الصغير، لم تظهر صورته داخل البرواز فوق رأس العمود.
اهتزت الأرض من تحت قدميه، اهتزت السماء، كأنما سقطت الأعمدة التي تحمل السماء معلقة في الهواء، كما جاء في كتب الله: أيمكن أن تتهاوى الأعمدة وتسقط السماء من فوق الأرض؟ أيمكن أن تقوم القيامة وينهض الموتى من القبور، ويموت الأحياء في الشوارع والبيوت؟ أيمكن أن تسقط الحكومة ويتهاوى العرش من تحت أليتي فرعون؟ أيمكن أن يأتي حاكم جديد أو إله جديد يرتدي بدل الكرافاتة حول عنقه عمامة وزبيبة سوداء فوق جبينه، وسبحة صفراء بين أصابعه، يحمل السيف بيده اليمنى بدل المسدس، وفي يده اليسرى يحمل كتاب الله بدل الدستور؟ هل أصبحت مصر مثل أفغانستان يحكمها الطالبان؟
هب زكريا الخرتيتي من النوم، فرك عينه بيديه، رأى عموده في الجريدة كما كان، طويلا رشيقا على يمين الصفحة، صورته داخل البرواز بحجمها القديم، كل شيء كما كان، والسماء مرفوعة فوق أعمدتها في الهواء.
لكن المقعد أمامه كان خاليا، أين راحت زوجته بدور؟ ربما هي في الحمام، أو في غرفة مكتبها تكتب الرواية، أو ربما ذهبت إلى الجامعة، أو إلى صديقتها صافي، أو إلى ابنتها مجيدة. فوق غلاف مجلة النهضة رأى صورة ابنته مجيدة الخرتيتي تلف رأسها بحجاب أبيض، عنوان مقالها داخل الترويسة مع كبار الصحفيين: «المرأة في الإسلام» بقلم الكاتبة الكبيرة مجيدة الخرتيتي.
أصبحت ابنته كاتبة إسلامية، صدر قرار من الرئاسة بمنحها مقعدا بالتعيين في المجلس الأعلى المنتخب للصحافة. كان التعيين والانتخاب في المجالس العليا شيئا واحدا، يصدران بقرار الواحد الأحد غير المكتوب، أو المكتوب بالحبر السري مثل قائمة الموت، وقائمة الصالحين من أصحاب الجنة، والكافرين من أتباع الشيطان الرجيم، وحواء والحية الرقطاء. الأسماء في قائمة الموت كانت منشورة، بالبنط الأسود الصغير، في صفحة الحوادث والجرائم، أربعة وأربعون اسما من الخارجين على الدين والنظام العام، أربع نساء وأربعون رجلا، مثل الأربعين حراميا، يحللون الحرام، ويحرمون الحلال، يستحقون الموت حسب أمر الله والأمير.
وقع بصره على اسم زينة بنت زينات، تحت الاسم صورة لها وهي طفلة تجوب الشوارع، شعرها كثيف أسود منكوش، نافر في رأسها كالأسلاك، تحتضن العود كأنما تحتضن إبليس، تغني وترقص، فمها مفتوح على آخره حتى اللهاة داخل الحلق، قدماها حافيتان تدب بهما على الأرض، وجهها طويل نحيف شاحب يشبه وجوه الموتى، أو وجوه المشبوهات في دور البغاء والبغي.
أشاح بوجهه بعيدا عن صورتها، المقلتان الكبيرتان في عينيها متوهجتان بنار سوداء زرقاء، ترتجف أحشاؤه حين تثبت المقلتان في عينيه، يطردهما بيده ورأسه وذراعيه وساقيه. يريد أن يفقأ هاتين العينين، أن يسحق هذا الجسد النحيف بين يديه، أن يغرز أظفاره في اللحم حتى العظم، في ذاكرته كابوس يشبه الحلم، حادث أليم وقع خارج الوعي، نفذ الألم تحت الضلوع، تحت جدار صدره وبطنه، أسفل البطن، إلى غدة الشيطان تحت شعر العانة، في صلاته كل يوم يطلب من الله المغفرة، في زيارته للحرمين الشريفين طاف حول الكعبة، قبل الحجر الأسود بشفتيه، رجم إبليس بيديه، عاد من الحج مغسولا من الآثام، نظيفا مولودا من جديد، يغفر الله كل الذنوب إلا أن يشرك به، وهو من المؤمنين الموحدين، ليس من المشركين الكفار، الذين يقولون إن المسيح هو الله، ابن الله، ينامون على صوت الموسيقى والرقص واللهو، ليس على صوت تراتيل القرآن الكريم.
أسفل صفحة الحوادث والجرائم كان خبر صغير، مع صورة لصحفي اسمه محمد أحمد، شعره منكوش يشبه المجانين، فوق خده الأيسر ضربة سكين مثل المجرمين، عيناه نصف مغلقتين، غائب عن الوعي.
تم تحويل الصحفي محمد أحمد إلى النيابة، بتهمة ازدراء الأديان والخروج على النظام العام وشريعة الله. هذا الصحفي المغمور يسعى نحو الشهرة عن طريق المعارضة، له صلات مشبوهة بالغرب، يتردد كثيرا على دور اللهو والرقص والغناء، نشر مقالا في جريدة الثورة المعارضة، جريدة غير شرعية، لم تحصل على تصريح من المجلس الأعلى بالدولة، صدر القرار من المجلس الأعلى بالبرلمان بإغلاقها، ومصادرة أعدادها الأخيرة، وتحويل أموالها إلى الجمعية الإسلامية للخير والبر والتقوى، وإطعام المساكين واليتامى، وإقامة موائد الرحمن في شهر رمضان.
في غرفة تحت الأرض كان الشاب محمد جالسا، على كرسي خشبي صغير ليس له ظهر، مرتديا الفانلة واللباس، الجرح العميق فوق خده الأيسر ينزف دما أحمر، من حوله عدد من الرجال، يحملون كرابيج تتلوى في أيديهم كالثعابين، عيونهم شاخصة نحو رئيسهم، يحمل لقب المحقق أو القاضي أو الأمير، بدرجة وزير أو نائب محكمة أو رئيس، يدوي صوته قويا ضخما فخما، يتناقض مع جسمه القصير السمين، أصابعه البضة الناعمة تمسك المقال المقصوص من الجورنال: اسمك الثلاثي؟ - محمد محمد أحمد. - مسلم؟ - أيوه. - موحد بالله؟ - أيوه. - المقال ده بقلمك؟ - أيوه.
Bilinmeyen sayfa