كانت الشوارع مزدحمة بالناس، يرتدون الملابس الجديدة، صودف أن جاء عيد الأضحى مع عيد الميلاد، عيد مولد المسيح عيسى ابن مريم، وعيد التضحية بالكبش ليذبح بدلا من إسماعيل أو إسحق، أبوهما النبي إبراهيم، يلبي رغبة سارة زوجته أم إسحق، يلقي بهاجر زوجته الأخرى أم إسماعيل في العراء، يتلقى الأمر بذبح ابنه إسماعيل طاعة لله حسب ما جاء بالقرآن، أو ذبح ابنه إسحق حسب ما جاء في التوراة، لا يعرف أحد من من الابنين يذبح؟ الأب إبراهيم أيضا لا يعرف أو ربما يعرف؛ لأن القرآن لم يكن نزل بعد في عصر النبي إبراهيم، وإلا كان عليه أن يذبح ابنيه الاثنين، تنفيذا لأمر الله في كتابية الكريمين، التوراة والقرآن، أرسلهما الله مع كتابه الثالث الإنجيل، هدى ونورا للعالمين.
كان الصباح مظلما ملبدا بالغيوم، والسحابة السوداء تزحف كعادتها فوق سماء القاهرة، تتنافس أجراس الكنائس في دويها مع مكبرات الصوت فوق الجوامع، يفرقع أولاد العائلات بمب العيد، يزهون بملابسهم الجديدة أمام أطفال الشوارع، يدبون بأحذيتهم الجلدية المتينة على الأسفلت، يسخرون من الطفل اليتيم الأعرج، يقذفونه بالطوب، يجري هاربا منهم، يطاردونه حتى يسقط على الأرض، يتراقصون ويهللون: العجل وقع هاتوا السكين.
صودف أن فتاة محجبة مسلمة كانت تمشي، اصطدم بها في الزحام فتى قبطي، اعتذر لها ومضي في طريقه، لكن رجلا مسلما أوقفه وصفعه على وجهه، رد الفتى الصفعة بصفعة مماثلة، بدأ العراك وحدثت المذبحة، حرقت كنيسة الحي ومات شباب من الأقباط والمسلمين.
تلقى البوليس أمرا بعدم التدخل، حتى يبيد الفريقان أحدهما الآخر، ثم جاءت العربات المصفحة، والمطافئ، حوطت الكنيسة والجامع، اعتقلت رجالا ونساء وشبابا وبعض أطفال الشوارع، تكدسوا داخل العربات البوكس مثل قطع السردين، انطلقت بهم مع الصفارات إلى حيث لا يعلم أحد.
قبل أن تخرج في الصباح أعدت بدور الدامهيري حقيبتها، لونها أزرق رمادي، تجرها على عجلات، وضعت في الحقيبة ما تحتاج إليه في رحلتها الطويلة، قبل ذلك جلست بجوار الحقيبة الفارغة على طرف السرير تفكر، ماذا تأخذ معها؟ عيناها تدوران من حولها، تتأمل غرفة النوم، دولاب الملابس الكبير من الخشب الزان منقوش برسوم وزخارف، ستائر حريرية شفافة فوق النافذة لونها أزرق فاتح سماوي، السرير العريض رقدت فيه إلى جوار زوجها منذ ليلة الزفاف الليلة وراء الليلة، السنة وراء السنة، ثلاثين، أربعين، مائة عام، أكثر من مائة عام مرت منذ الولادة حتى الموت. كم مرة ولدت وماتت، ثم ولدت وماتت؟! فوق الشماعة بجوار الدولاب ترى البيجاما الحريرية الرمادية، خلعها زوجها في الصباح قبل أن يخرج إلى مكتبه في الجريدة. اتخذت البيجاما شكل جسده، مترهلة مثل عضلاته، تتثنى وتهتز قليلا مع حركة الأرض والهواء، السروال يتدلى مفتوحا أعلى الفخذين أسفل البطن، الأزرار مفكوكة تطل منها قطعة اللحم، مترنحة منكمشة بحجم الفأر الصغير.
عيناها تتسعان في ذهول، عقلها عاجز عن الفهم، هذه القطعة الصغيرة من اللحم قامت عليها الدنيا والآخرة، تأسست فوقها الدول والأديان، حملها التاريخ فوق رأسه وسار بها منذ الأزل وإلى الأبد، هذه القطعة من اللحم أدخلت النساء سجن العبودية، أهانت الرجال وأذلتهم، جعلت الشيخ العجوز يغتصب طفلة صغيرة، والمؤمن الصالح يفقد ثلثي عقله إن هاجت، هذه القطعة من اللحم، حرمت ثلاثة ملايين طفل في بلد واحد من حقوق الإنسان. ولدوا في الشوارع، عاشوا في الشوارع، وماتوا في الشوارع. هذا الفأر الصغير المنكمش بين الفخذين حكم على ملايين البنات بالموت قبل الأوان، سلب منهن الفرح والبهجة، سرق منهن الابتسامة والأمل وحلم الطفولة، هذا الفأر الصغير يتوهم الحياة بعد الموت، يبلع حبوب الفياغرا تحت سحابات الظلمة، والوهم بالبعث في حياة أخرى.
فوق السروال الحريري بقعة لونها أصفر، لها رائحة البول أو قطرة الدم، باقية ربما منذ استئصال الخصية، أو ذلك السائل الأصفر الباهت اللون، المشبع بالحوينات المنوية، أطلق عليه الذكور اسم ماء الحياة، له رائحة الموت أو حامض أوكسيد الكبريتيك، تلك الرائحة المنفرة النفاذة، تعجز أنوف النساء عن شمها من شدة الحب أو السعادة الموهومة.
كانت بدور الدامهيري تتلقى الحب والرائحة أملا في الحرية، يتلاقى الحب والحرية داخل جسدها في مركز واحد، في بؤرة واحدة تعلو فيها اللذة والألم إلى القمة، تعيش وتموت في لحظة واحدة خاطفة، ثم تنقشع الغشاوة، تشد جفونها لتفتح عينيها على الحزن والحقيقة.
الحقيبة المفتوحة إلى جوارها، تضع فيها ثوبها القديم من القطن الأبيض، كانت ترتديه يوم سارت في المظاهرة الكبيرة، فوقه من الخلف بقعة دم قديمة بعد لحظة الحب السريعة، لحظة واحدة سريعة تساوي العمر، لحظة واحدة حقيقية نسفت الحقيقة، حملتها إلى الموت، مبقعة بالدم فوق الثوب من الخلف، من الأمام بقعة أخرى فوق صدرها، حين مد لها ذراعه مبللة بالدم، يسري اللون الأحمر فوق فانلته البيضاء، مدت ذراعها وأمسكت طفلتها المولودة فوق الرصيف، وضعتها في الحقيبة إلى جوار ثوبها القطني، مدت ذراعها وأمسكت الدوسيه الأصفر في الدرج، وضعت الرواية الطويلة في الحقيبة، رزمة من الأوراق المكتوبة وغير المكتوبة، لا تعرف عددها، مبللة بالعرق والتعب والأرق، وقطرات دموع جفت، وتجمدت على شكل حروف سوداء متعرجة، تشبه حروف الأطفال في المدرسة الابتدائية، قشعريرة تسري من الأوراق إلى أصابعها، إلى ذراعيها، إلى جسدها كله، رائحة الحبر في أنفها تشبه رائحة الموت، رائحة فراش الزوجية. - هل يحس الإنسان بالموت قبل أن يموت؟
تطل بدرية من بين الأوراق تسألها، عيناها ثابتتان في عينيها. كانت بدرية تتحدث معها طوال الوقت، على مدى سنين العمر، صوتها يملأ البيت، وجودها يملأ الكون، يؤنسها، يخفف عنها الوحدة والصمت، تتخاصمان وتتصالحان، تتخاصمان وتتصالحان، لا غنى لإحداهما عن الأخرى، والصمت في كل أنحاء البيت، لمحت بدور بعض السطور المكتوبة في الرواية بخط بدرية، حروفها الكبيرة المستقيمة تشبه خطوط الأستاذات الكبيرات. - الحزن حين يأتي لا تعرفه، لا نتوقعه يا بدور. لا نحس به حزنا، بل وجعا في الصدر، تحت الضلوع، وألما دفينا تحت عظام الرأس، نلوم أنفسنا على إثم لم نفعله، كلمات لم نكتبها، حروف لم ننطقها، خفقة قلب لم ندركها، الحزن أشد من الموت، بعد أن تعود من أي مأتم، وإن كان مأتم الأب أو الأم، أو من هو أعز منهما، تصحو في اليوم التالي لنشرب الشاي، نتناول فطورنا كالمعتاد، نقرأ الصحف والأخبار والمجلات، نذهب إلى المكتب أو العمل، نعود إلى البيت، تعود إلينا الأحلام في الليل، نمارس الجنس كالمعتاد، كما نمارس السير على القدمين كالمعتاد، كالمعتاد.
Bilinmeyen sayfa