نورت يا قطن النيل، يا حلاوة عليك يا جميل ...
بلادي بلادي لك حبي وفؤادي ...
عيونهم يكسوها البريق، تنقشع السحابة السوداء. تذوب طبقة الدموع المتجمدة، تطل المقلتان السوداوان تلمعان مثل النجمة في السماء، تدب الأقدام فوق الأرض بإيقاع اللحن، يرقصون ويغنون ويعزفون الألحان. أقدام وسيقان أطفال كبروا، استطالت عظامهم وطالت، أولاد وبنات، التأمت جروحهم والكدمات والكساح والعرج، أحزان القلب والوجع. تقودهم زينة بنت زينات على البيانو، منذ طفولتها تحفظ اللحن عن ظهر قلب، تحلم به في الليل، تسري إليها كلمات الأغنية وهي نائمة. يشتغل عقلها في اليقظة والحلم، ترى البريق في عيني أمها زينات وأبله مريم وزميلاتها في المدرسة، ترمقها صديقتها مجيدة الخرتيتي بعينين ضيقتين، يملؤهما الحسد والإعجاب، نظرة واحدة مزدوجة، تحبها وتكرهها، تدافع عنها أمام البنات، تكتب اسمها زينة بنت زنى في المرحاض. في عمودها في مجلة النهضة تقلد أباها زكريا الخرتيتي، تمسك العصا من المنتصف، تردد عبارته: خير الأمور الوسط، في منتصف الحبل المشدود تقف بين اليسار واليمين، بين الحكومة والمعارضة، بين العلم والإيمان، بين المدح والقدح، تحت اسم النقد الأدبي، الاتزان والموضوعية، الحياد والترفع عن الأحزاب، ترفع شعار الاستقلال والحرية.
جاء إلى الحفل أحمد الدامهيري ابن عم أمها بدور. أصبح يحمل لقب فضيلة الشيخ، يرفع شعار الإسلام هو الحل، أعوانه في المجموعة تحت الأرض ينادونه الأمير، يرتفع صوته في الإذاعات تحت الأضواء، ينخفض صوته في الاجتماعات السرية، رأسه مربع الشكل صغير الحجم، ذقنه مربع كان حليقا، ثم نبتت له لحية سوداء كثيفة، جبهته كانت ملساء ناعمة، ثم نمت فوقها زبيبة سوداء، أصابعه البضة القصيرة الناعمة تشبه أصابع أبيه وعمه وجده، يمسك بها السبحة في النهار، وكأس الخمر أول الليل، يداعب بها أجساد الباغيات قبل الفجر، يخاف العفاريت في الظلمة والصراصير والخنافس والفئران. تعود الشجاعة إليه مع قدوم النهار، يرتدي العمامة حول رأسه أو الطاقية المخرمة، الجلباب الأبيض الواسع الطويل، أو البدلة من الصوف الإنجليزي في الاجتماعات الرسمية مع الوزراء أو السفراء، مع الرؤساء أو زعماء الأحزاب. لا تفارق أصابعه السبحة الصفراء، تتحرك حباتها الناعمة مع تمتمات صوته الخافت، يتلو الآيات المقدسات، أحاديث الرسول والمرسلين، أقوال الأولياء، الأسلاف الصالحين، يبسمل ويحوقل ويمسح جبينه بكفه الصغيرة السمينة.
سقطت عيناه عليها وهي ترقص وتغني، جسمها ممشوق طويل كالغزال الشارد، ساقاها رشيقتان مسحوبتان إلى فخذين مشدودتي العضلات مثل فخذي النمر. ذكورة جامحة تذوب في أنوثة ناعمة، نهداها فوق صدرها يهتزان مع اللحن والإيقاع، كرتان صغيرتان من المطاط الصلب تحت الثوب الأبيض من القطن، لكل كرة منها بوز مدبب يشبه الإبرة، تخرق الإبرة عينه، تخرم الحدقة بوحشية الذكور في الغابة، كالجواد المتمرد الجامح، ليس لها صاحب، لا يملكها أحد. تحرك ذراعيها وساقيها في الهواء، تقفز في الفضاء، تنثني مثل غصن ناعم حديث الولادة، صوتها ينطلق دون حواجز، دون قيود الأرض أو السماء، مقلتاها الكبيرتان الزرقاوان تشعان وهجا، شعلة سوداء زرقاء لا تخاف نار جهنم الحمراء.
في المقعد إلى جواره كانت تجلس صفاء الظبي صديقة ابنة عمه بدور. ترمقه بعينيها، يكاد يشبه زوجها الإسلامي السابق، تكاد تقرأ أفكاره، تلتقط الرعشة في أصابعه الممسكة بالسبحة، تنفذ عيناها إلى أحشائه، نظرتها حادة كشفرة الموس، تحلق شعر لحيته وشاربه، تجتز شعر العانة الأسود لنرى ما تحته. خبرتها بالرجال كبيرة، يختلفون في الآراء والأفكار، يتعددون في المذاهب والأحزاب، يتشدقون بشعارات اليمين أو اليسار أو الوسط، يتبارزون كالديوك في الإذاعات وفوق الشاشات، يذهبون إلى الجامع دون وضوء، يقفون وراء الرئيس أو الوزير، في الصف الثاني أو الثالث أو الرابع أو ربما الأول. يسمعون عظام الركبتين تطقطق عند الركوع أو السجود، أو صوت الأمعاء المتضخمة بالحسد والإعجاب، تتقلص مع الحركة وضغط الدم، يفلت الهواء المضغوط في الأحشاء الدفينة، يخرج من بين الأليتين بصوت خافت ناعم، يشبه الشخير المكتوم في النوم، أو حفيف قدم حافية تمشي على أطراف أصابعها في الليل.
يسبح خيال صفاء الظبي في الزمن، يعود بها إلى زوجها السابق. قبل الزواج قال لها: أنا معجب بكتاباتك يا صافي، يدللها باسم صافي مثل صديقتها بدور. كانت مثل زميلاتها الأستاذات المثقفات أو الكاتبات الناقدات، تزهو بعقلها. إن تغزل رجل بشفتيها أو نهديها ترمقه بنظرة حادة. - أنا لست جسدا يا أستاذ، أنا عقل يفكر، أنا كاتبة مرموقة، هل قرأت كتابي في النقد الأدبي؟ ألا تقرأ مقالاتي في الصحف؟
تضحك صافي ضحكتها المجلجلة، يرتج جسدها السمين القصير. أصبحت تلف رأسها بالطرحة البيضاء، تصد عن مفاتنها عيون الرجال، عاهدت زوجها على الإخلاص، أقسم لها على المصحف أنه لن يلمس امرأة غيرها.
كانت صفاء الظبي تتأهب لتأليف كتاب في النقد المسرحي أو السينمائي، قال لها زوجها: اكتبي عن حقوق المرأة في الإسلام، نقد مسرحي إيه؟ ده كلام فارغ يا صافي، مافيش في بلدنا مسرح وسينما ولا أدب ولا ثقافة. كله كلام فارغ منقول عن الكتب في الغرب، الفن عندنا خلاعة ومجون. اكتبي في الإسلام يا صافي، الإسلام هو الحل لكل مشاكلنا.
تأهبت صافي لتأليف الكتاب، جمعت المراجع والدراسات السابقة، وضعت الفهرس وعناوين الفصول، أصبح عنوان الكتاب: «المرأة في الإسلام». كتبته بالخط النسخي العريض فوق الدوسيه الأخضر، تنكفئ فوق الأوراق تكتب، تسهر الليل في مكتبها داخل غرفتها حتى يغلبها النوم، تغلق الدوسيه، تتمطى قليلا ثم تسير إلى غرفة النوم حيث السرير العريض، يشاركها فيه زوجها. قبل أن يضمها الفراش تدخل الحمام، تغسل التراب والتعب.
Bilinmeyen sayfa