والشمس بعيدة تهبط مسرعة علتها حمرة الغروب، وقد توجت السماء والأرض بذهبها، وبعثت للسائر قبلة الوداع. وحامد وحيد على هذا المستوى العظيم من الوجود تحده الآفاق ابتدأ يقربها الظلام منه ، وهو مشتت يفكر فيما لا يعرف: في أشياء وأشخاص وأشباح. في عوالم كثيرة فيها حركات وسكون، في موجودات لا يتصور ما هي، ولا يفهم مما فيها قليلا ولا كثيرا، وهو يسير والحيوان يتبعه يشد لجامه أحيانا، ويدق الأرض برجله أحيانا. فلما أفاق حامد لما حوله ورأى مقدم الليل استوى على ظهر الجواد من جديد واستحثه مرة، ثم ترك له العنان.
ولم يبق للنهار من أثر، والجو قطب جبينه، والسماء اختبأت تحت حجاب الليل المقدم، والبدر في وسطها يبعث بنظراته الوالهة إلى العالم التائه في تلك الساعة حين لا نهار ولا ليل ولا نور ولا ظلمة ولا شيء يمكن تمييزه. نظرات تسيل هياما وعشقا لولا قسوة قلب الكون لسال من أجلها أسى وحزنا.
ذهب حامد في أحلامه، ومد في بساطها ما يحيط به من الهدوء وما يبعث الهواء العذب إلى قلبه، وراح بنفسه سابحا على موجات النسيم إلى عالم غير محدود حيث نضيع بكلنا ولا نمسك منه بيدنا فتيلا.
هكذا قضى طريقه في أحلامه، حتى إذا ما وصل وقابله هواء القرية بما فيه من الخمول والكسل، وما يشغله من ضجة الناس، لم يلبث فيه إلا قليلا حتى تناول عشاءه، ثم انقلب راجعا إلى مزرعة القطن ذات طنبور البهائم، وفي يده قيثارته يتسلى بها إذا وجد الضيق إلى نفسه سبيلا.
وصل إليها فوجد عندها واحدا من فلاحيهم، وإلى جانبه صغير من أبناء المستأجرين الساهرين هم أيضا لسقي أقطانهم في الجانب الثاني من الترعة، وما لبث حامد أن جلس حتى قام هذا الصغير ميمما مزرعته وعلى كتفه بشته يتقي به برد الليل.
لكن فلاحهم متعهد بتابوت آخر غير الطنبور قريب منهم يسمع زنه، قد استعانوا به هذا الدور حتى ينتهوا من سقي القطن قبل البطالة ولا يضطر المالك لمرضاة المهندس بعد احتمال متاعبه، فمد حامد بساطا ينام فوقه حين يحوجه النوم، وسمح للفلاح أن يرقب التابوت وينظر في ترتيب الماء ويترك له الطنبور، وسيناديه ساعة يريد أن ينام.
والمزرعة كلها تموج بنور القمر ، والكون ساكن إلا من أحلام الليل. زن التوابيت وما يحيط بها من الحركة.
جلس حامد منفردا يحدق إلى ما حوله وما يحيط به، ينظر إلى الماء يسيل هادئا في الغدير، والنسيم العذب يحمله إلى خيالات حلوة، ويلبس كل شيء من الموجودات عنده شيئا من البهاء والجمال، والبدر في السماء يهديه تحيته، ولكن حامدا عنه لاه لا يلتفت، والفضاء أمامه هائل عظيم.
ثم بعد ساعة قضاها مطرقا تعاوده أحلامه رفع رأسه إلى البدر الذي لا يزال في عليائه محدقا إليه، فرنا له حامد طويلا يناجيه ويستعطفه ويسائله، والكوكب العاشق لا ينفك يرسل بنظراته الهائمة التي تبيت الخليقة تحتها والهة تشكو الجوى والوجد.
إيه ملك الليل وزينة السماء! يا مسعد الساهر يقلب في دجى الليل أحلامه، ويرجو في هدأة العوالم ما يسكن شجنه فلا يزداد إلا ألما. إيه يا ساهر الآباد تبسم للمحبين وتبعث من نظراتك العاشقة ما يزيدهم صبابة ووجدا، ومن قبلاتك الحلوة ما ينسيهم الكون هياما ولوعة. إيه يا صديق المنفرد وعزاء الوحيد المستوحش. لم أنت هكذا شاحب وسط ملكك العظيم! أضناك السهر؟ أم كدك الوجود والهوى؟
Bilinmeyen sayfa