والليل يتقدم ونور القمر يتجلى رويدا رويدا على السكة والكون يزيد سكونا وصمتا.
وصلا إلى ترعة في الطريق امتدت فوقها قنطرة، وعلى جانب القنطرة مصلى محاط بالطوف، فسألها إن كانت تنتظره حتى يغسل يديه مما عليهما من أثر الغبار، وأن تريح نفسها قليلا فتجلس حتى ينتهي.. فكانت أطوع له من يده، وبقيت ثابتة تنظر إلى السماء وتحدد نظراتها نحو القمر، كأنما تريد أن تفهم ما يكنه ذلك الساهر من الآباد البعيدة، وما ينم عنه ذلك الوجه الشاحب، وراحت بخيالها في العالم غير المحدود حيث يظهر كل شيء أمامنا تحيط به سحب شفافة نلهو بها عما تحويه. وما كانت لتفهم أكثر من أي إنسان معنى ما يجول بنفسها، ولا لتعرف غاية خيالاتها، بل هي تجول في عالم واسع تسري فيه أشباح لا تميزها ولا تسمع فيه حسيسا.
وانتهى حامد من عمله، وقام فوجد زينب في تيهائها تضرب في بيداء أحلامها، فمن غير حركة تنبهها وببطء شديد جلس إلى جانبها، ولف ذراعه حول خصرها، ووضع قبلة على خدها، ثم ضمها إليه وسألها من جديد: أنت مالك يا زينب؟
ولكن زينب اليوم ليست زينب القديمة. ليست هي تلك الطفلة الحلوة تحس في كل شيء بلذة الحياة، وتبعث لمن يسألها هذا السؤال نظرات العطف والثقة. ليست الفتاة العذراء تدفع من يضمها بيديها لترجع إليه وتعانقه من جديد. ليست البكر الحيية ناعسة الطرف، ثم المعطية نفسها لمحب يريد أن تكون معه في عالم سعيد غير عالمنا!.. ولكنها الزوج المحملة بالمسئولية الناظرة إلى الحياة بعين اليأس المتألم.. هي المرأة المحسة بواجبها نحو رجل ائتمنها..
تخلصت من يده، وبنظرة باردة دعته أن يسيرا معا في طريقهما، فالوقت ممس وهي لا تحب كذلك أن يراهما في مكانهما أحد.
فتنهد حامد وقال: انت يا زينب نسيتيني ونسيت أيامنا اللي فاتت؟ - لا، ما نسيتش. لكن أنا اتجوزت. هه. الأيام اللي فاتت فاتت! يالله نروح.
ثم تنهدت من أعماق قلبها تنهدا طويلا، وقامت، فسارا معا حتى افترقا عند مدخل القرية، وقد لزما السكوت طول الطريق.
فلما وجدت نفسها منفردة عاودها الأسف على الأيام الماضية، أيام كانت بنتا لا تعرف المسئولية التي تنوء بحملها. أيام كانت ترى في ابتسامة حامد سعادة لا تعادلها سعادة، وتحس كأنه يحمل لها معه هناء يملأ به قلبها كلما قدم عليها آتيا من البلد.
كذلك ألا تقضي عليها واجبات الزوجية ألا تكلم إبراهيم إلا كما تكلم كل أجنبي عنها؟ ألا تضطرها أن تنساه من قلبها؟ وألا تجعل لوجوده من أثر في حياتها؟ ولكن أنى لها ذلك وما ذكرته إلا أخذها الشوق إلى عوالم تتوه فيها بين آمال وآلام؟!.. ما كانت تحسب الزواج من قبل فظيعا إلى هذا الحد لمن يريد أن يقوم بواجبه.
والبدر في السماء يبعث من نافذة الغرفة اللجة الفضية تنطرح على الحصيرة، وزينب محدقة إليه وهو ران لها، عراه الشحوب ويصب من رفعته نظرته الرقيقة العذبة إلى قلب الوالهة المسكينة.
Bilinmeyen sayfa