مقابل باب الشارع قاعة هي كل ما في البيت من نوعها، وعن يسارها فرن صغير جاء تحت حنية السلم الذي يصعد إلى السطح لا انحناء فيه، ويصل به الإنسان إلى غرفة من الطوف، إلى جانبها صندوق من الطوف أيضا يخزنون فيه ما عندهم من القمح أو الشعير أو الذرة التي على كيزانها، وأمامها بقية سطح القاعة مكشوف ينامون فوقه أيام الصيف حين لا يكون عندهم حصاد في المزارع.
تناولت طعام العشاء مع أهلها، وبقيت معهم حتى إذا حلكت ظلمة الليل وفرغ الناس من صلاة العشاء ولم يبق إلا أن يناموا تمطت إلى جانب أختها وأخيها على حصير قديم، وفردت عليهم جميعا فوطة من القطن، ونام أبوها إلى الجانب الآخر من القاعة، ولم يكن بأسرع من أن ذهبوا جميعا في نعاسهم إلا هي، فقد بقيت في وسط تلك الظلمة تفتح عيونها وتقفلها وتستعيد أمام ذاكرتها المتعبة حوادث النهار، كما تجيء بخيالات الأيام القديمة الماضية فينساب في سواد القاعة وجوه كثيرة مختلفة تسبب لها حزنا وفرحا، وسرورا وألما. ويتعاقب ذلك سريعا، فتنتقل من اليأس إلى الأمل، ومن الرجاء إلى القنوط في كل نبضة من نبضات قلبها. أليس أبوها النائم إلى جنبها ممن يرجون أن يكمل شقاؤها؟ فأين مزية العيش؟ وأي معنى للحياة بعد هذا؟.. أولا يصح أن تكذب الإشاعة ويصبح الغد بشيرا بعد أن كان في مصبحه بالأمس ناعق السوء؟.. كلا!.. ما الغد بخير من الأمس، وما تلك إلا علالة اليائس يريد أن يسلي بها حزنه.. وليكن ذلك، وليشأ أبوها وكل الناس، أفليس في قولها: لا أريد - ما يحسم كل مشكل؟
إنها لا تريد؛ وفي ذلك الكفاية.
هي لا توافق على ما يطلبون منها، وقولها هو القول الأخير. هل في الزواج إجبار وإرغام؟!
في تلك الساعة تصورت نفسها وهي ترفض ورأسها في السماء، ويد الله ويد الحكومة مع يدها فوق قوة هؤلاء المتحكمين، ثم خذلان جماعة العريس ورجوعهم على أعقابهم، فتعلو الجمع الذي يجيء معهم سحابة الهم، ويسكت الوجود، ويقف الهواء، وتنزل من السماء تغطي البسيطة كسف الليل، ثم ينسى الكون نفسه ساعة من زمان يذهل فيها الناس والأشياء.. وبعد ذلك يطلع القمر وتتحرك الريح ويهب العالم من سباته فتبعث عليه زهور الحقول عطرها الطيب يملأ الجو ما بين الأرض والسماء، وتسري السعادة إلى كل الوجود، فترسم على الثغور ابتسامتها الطيبة الذيذة. ولكن.. أبوها! أبوها! أفلا يغطي وجهه خجلا إن عقته ابنته التي أحب طول حياته؟ وعبرة أمها أفلا تنهمل أمام الحاضرات من نساء البلد ويتقطع قلبها أن تكون ابنتها مثل الشذوذ والخروج عن أمر أبيها؟. ويلاه من موقفها ساعتئذ وهي ما بين قائلة: «عيب يا زينب .. عيب يا ختي»! وشامتة في تلك العائلة الناعمة في فقرها، وناظرة لها بعين الازدراء والإهانة. وهل تحتمل ذلك وقتئذ، وما عرفته من قبل، ولا استطاع أن يواجهها به أحد؟!..
وإن قبلت فماذا؟ تعسها الكبير وشقاؤها الدائم. لكن لم؟ ألم تزوج غيرها من قبل راضية أو غاضبة حتى انقضت أيام الصغرنة والخلاف مع زوجها اتفقا وصارا أحلى من العسل، وانتفى من بينهما كل نزاع وشقاق، وقام كل منهما بدوره في الحياة يشتغل هو في الغيط نهاره، وتعمل هي ما من شأنه أن يعمل في الدار، وترضع الأولاد متى كان لهما أولاد، وتذهب له بالفطوره كل نهار، وتعاونه في عمله كلما احتاج الأمر إلى معونة. وتنصرم هكذا الأيام والشهور والسنون وينقضي العمر؟ فما حزنها هذا الذي تمنت معه الموت؟
وما أجدر «حسن» في الحقيقة بحبها! أليس هو ذلك الفتى الطيب النفس الجاد في عمله، الممدوح بين إخوانه، المحبوب من كل الناس لما هو عليه من جمال العشرة، وما يلوح عليه من مخايل الشهامة، وأنه بقامته المتوسطة ولونه الشديد السمرة وعيونه الحادة الغائرة لأشبه الناس بشجعان الزمن القديم عنترة وأبي زيد. بل إن من يراه ويرى تشيعه للهلالية حتى لتحمله ربابة الشاعر على الجنون بهؤلاء الغزاة الأبطال، وتمنى رجوع عهدهم عهد العزة والتجوال تحت حمى السيف، وتفضيله ذلك على ما مهر فيه بالوراثة عن آبائه وأجداده من الحرث والزرع والسقي وتعهد الأرض - ليظنه من أبناء أولئك الغابرين أجدر به أن يغزو ويفتح. لكن وا أسفاه! فقد قضي عليه بالأسر والأشغال الشاقة، وما تلك المهنة التي يعيش منها ملايين من بني وطنه إلا أشغال شاقة أخرى: بها الأسير المستعبد من الحر العزيز وتلك الخطى البطيئة يقضي فيها الفلاح طول نهاره وراء ثوره تحت حر الشمس يلفح الهجير وجهه ولا يتأفف، يصب الله عليه النار من أعلى السماء فيلقاها صامتا صاغرا يروح ويرجع، ويرجع ويروح، وراء محراثه، أو يحني ظهره الساعات الطويلة في نكش الأرض، أو يسوخ إلى أفخاذه في تلويحها، ويعمل غدا ما عمله اليوم ، وبعد غد ما يعمله في الغد، وإن انتقل فمن شقاء إلى شقاء. ويرجع في المساء - إن رجع - إلى بيته مهدود القوى منهوكا لاغبا، فيطعم زقوما وعلقما، ثم يرتمي على مهاد ليس أقل خشونة من الأرض التي تنام عليها الدواب، وقل أن يجد دثاره، ويحيط به في قاعته الضيقة عن يمينه ويساره وفوق رأسه وتحت رجليه الكثيرون من نتاجه وأهله، ومن فوقهم سقف منخفض تكاد تصل إليه أيديهم وهم نيام إلى أن تفرج عنهم أيام الصيف، فتنبذهم قاعتهم بالعراء. هل هذا كله إلا ذلة شر ذلة؟ ولكنه في ذلك ككل إخوته العمال على ظهر البسيطة. والمصيبة إن تعم تهن. وتقادم العهد يعطي الفاسد طعما تألفه الأجيال أبا عن جد، ويكسو الكذب رداء الحق، والخضوع والخنوع لباس الطاعة والطيبة.
ذلك حسن فما ذنبه عندها؟
لم يكن له بالأمس ذنب. لكنه اليوم - وهو يريد أن يعجل بنزعها من يدي إبراهيم، ويدس بذلك السم في حياتها - هو أبغض الناس إلى نفسها.. نعم، هو أبغضهم اليوم إليها.. إنها الآن تكرهه من كل قلبها، ولا تريد أن ترى وجهه.. ألأن أباه غني ينغص على الناس حياتهم؟!.. كلا لا حياة إلا في أحضان إبراهيم.
نعم، في أحضان إبراهيم السعادة.. سعادة لا حدود لها..
Bilinmeyen sayfa