وكان يعطي أولاده من وقته الكثير، ويذهب معهم إلى حديقة الحيوان وإلى حديقة مينا هاوس، وكنا نصطحب معنا «أمين أباظة» ابن عمي وكان في سن دسوقي، ونعتبره ابنا ثانيا لنا، وكان له مربية دميمة، فلما وصلنا إلى مينا هاوس لم يستطع ثروت أن يصبر وطلب والدة أمين وهي ابنة خاله وقال لها: حرام عليك، أهذا منظر تأتين به إلى منزلك؟ أهذا منظر ترسلينه لي في نزهة مع الأولاد؟! أهذا وجه يكون إلى جانب ابنك أمين طوال الوقت؟! حرام عليك والله، وأغلق الهاتف وعاد إلينا وقد شفى غليله. و«أمين أباظة» ولد وحجمه أكبر بثلاثة أضعاف من حجم الطفل العادي حتى إنهم ألبسوه قميصا من الأمام وقميصا من الخلف حتى يغطي جسمه، وفي يوم ذهب ثروت لزيارة ابنة خاله والدة أمين وأخذ يعلق على سمنة ابنها، ويمزح معها حتى راودها القلق، وشرب ثروت معها القهوة وخرج، ولما خرج عادت المربية إلى فنجان القهوة وأخذت قليلا منه ورسمت رسومات على جبين أمين، وكان يشاع أن هذه الرسومات تمنع الحسد، وتصادف أن عاد ثروت إلى الحجرة، ورأى ما حدث؛ فقال لابنة خاله: هذه القهوة قهوتي أنا، فقالت ضاحكة إن عينيك ملونتان، ويقال إن العيون الملونة عيون حاسدة. وضحك معها ولم يمس الطفل بسوء ولم يحسد إنما زادت سمنته.
وأمين أباظة أصبح الآن شابا رشيقا ووسيما، عمل في البنك الأهلي والبنك المصري الخليجي، ولفت الأنظار إليه لكفاءته ولذكائه، ثم دخل مجال القطن، وما إن مرت فترة وجيزة إلا وقد ألم بدخائله وعرف أسراره؛ وأصبح يرأس مؤتمرات القطن في الشرق والغرب.
وعودا إلى اهتمام ثروت بالأولاد وخروجه معهم إلى الأماكن التي يعرف أنها تدخل السرور على قلوبهم، كان البحر هاما جدا عنده، ولا يعترف باليوم الذي يمنعه طارئ من الذهاب إلى «الشاطئ»، ولكن قبل الذهاب إلى البحر ومن الساعة العاشرة صباحا وحتى الثانية عشرة ظهرا كان عنده موعد مقدس وهو الذهاب إلى قهوة بترو للقاء الأستاذ الكبير نجيب محفوظ والأستاذ الكبير توفيق الحكيم، ويبقى معهم إلى أن أمر عليه أنا والأولاد ونذهب معا إلى البحر، وعند ذهاب أمينة ودسوقي ليخبرا أباهما أن ميعاد البلاج قد حان يصمم توفيق بك الحكيم على أن يشربا كوكاكولا على حسابه ثم يقول لهما: ميعادنا الصيف القادم فأنا لا أدفع لكما الكوكاكولا إلا مرة في السنة. ثم نذهب معا إلى المنتزه حيث نجد في البحر الدكتور الدمرداش أحمد وهو صديق ذواقة، يأخذهما الحديث في الأدب والشعر والسياسة إلى أن يحين موعد العودة إلى المنزل.
وفي البحر كان يلتف حوله شباب الأسرة وهم جميعا في المرحلة الثانوية والإعدادية، وكان يكلمهم عن طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وعبد الرحمن الشرقاوي، فسألته إحدى الفتيات قائلة: «ومن هو عبد الرحمن الشرقاوي؟» أجاب: «اغربي عن وجهي واتركينا الآن حالا.» فذهلت الفتاة، ولكن طاهر أباظة وهو من المداومين على هذه الندوة الشبابية قال لها: «اخرجي من البحر الآن وعودي بعد قليل.» وعندما كان يكلمهم عن السياسة والسياسيين تكلم عن تشرشل فسأله طاهر أباظة: «ومن هو تشرشيل؟» فكان رده عليه بمثل ما رد على الفتاة منذ قليل. وعلى رغم ذلك كان هؤلاء الشباب يتمتعون بهذه الندوات اليومية التي تعقد في عرض البحر، وكان يشجع الأولاد على القراءة، وكان رأيه أن يقرأ الأولاد في كل شيء وفي أي موضوع حتى لو لم يكن مناسبا لسنهم؛ فقد كان رأيه أن يقرءوا فحسب، ولا أمل من أن أقول إن هذا لم يكن من رأيي.
وكبرت الأولاد بعد مشوار طويل في الدراسة ودخلت أمينة كلية الآداب قسم لغة فرنسية وكانت تنجح بأعجوبة؛ فهي لا تفتح كتابا إلا قبل الامتحانات بشهر واحد. وفي «الليسانس» حدث نفس الشيء ولما ظهرت النتيجة كلم عميد الكلية أباها وقال له مبروك أمينة نجحت، ففرح ثروت في أول رد فعل ثم طلب العميد ثانية ليتأكد منه، وأعاد العميد نفس الكلام، وما كان من ثروت إلا أن أخذ سيارته وتوجه إلى كلية الآداب ولم يهدأ إلا عندما رأى اسمها مع الناجحين.
وبعد التخرج عملت في المصرف العربي الدولي وانتعشت حالتها المالية هناك، ولكنها لم تجد نفسها في البنوك؛ فاستقالت. وأرسلها والدها إلى الأستاذ الكبير موسى صبري في الأخبار، فذهب معها بنفسه إلى مكتب الأستاذ الكبير رشدي صالح وعملت معه في مجلة آخر ساعة سنة كاملة، وكتبت تحقيقا عن العوامات وساكنيها، وعن المدبح. ولما علم الأستاذ رشدي صالح عن موضوع المدبح قال لها: يجب أن تكتبي عن الزهور وعن جمال الطبيعة وليس عن المدبح. وكلم موسى صبري أباها وقال له ابنتك لطيفة وجميلة ولكنها «روشتني» لأنها سريعة الخاطر، سريعة الكلام، سريعة الحركة، وحينما عدت إلى منزلي قلت لزوجتي ابنة ثروت أباظة «روشتني». واستقالت أيضا من آخر ساعة وعملت في الإذاعة في قسم مراقبة الأفلام، ثم انتقلت إلى قسم الترجمة في القناة الفضائية تترجم من العربية إلى الفرنسية التي تملك ناصيتها، ثم فكرت أن تفتح مستشفى صغيرا لإيواء الكلاب الضالة وحمايتهم من الأطفال الذين دأبوا على رميهم بالطوب ولا أحد يدري السبب، فهذه الحيوانات أرواح خلقها الله يجب أن تعامل بإنسانية، في حين نرى الطفل الأجنبي يمسح بيده على ظهر الكلب ويربت على رأسه في حب وحنان. وهي تأخذ هذه الكلاب وتعالجهم وتطعمهم وتجد كثيرا من الناس يقولون لها: لماذا لا يكون هذا المستشفى للأطفال؟ فتقول: إن الأطفال يجدون الحضانات المدفوعة وغير المدفوعة، ولكن لا أحد يفكر في هذه الحيوانات المعذبة من سوء المعاملة، وقد جمعت سورا من القرآن الكريم، وأحاديث عن النبي
صلى الله عليه وسلم
يحث فيها على الرفق بالحيوان لتقنع بها من يعارضونها، ويساندها في ذلك الكاتب الكبير أحمد بهجت والدكتور صلاح عبد الستار الأستاذ في جامعة السويس.
تزوجت أمينة من رجل الأعمال رءوف مشرفي وهو رجل غاية في الرقة والأدب والرقي، يجمع بين الثقافة العربية والفرنسية والإنجليزية واستقر بها الأمر في حياة زوجية هادئة.
لابنتي أمينة صديقات فرنسيات يعملن بالتدريس، وهن على دراية واسعة بالحركة الأدبية عندنا، فقد قرأن لنجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ومحمود تيمور وثروت أباظة، ودائما يقلن لها: إن الشعب الفرنسي يقدر الأدباء ويعتبرهم أرقى البشر ويصنع لهم هالة من التقديس، ويتعجبن كيف أن أمينة لا تتباهى بما أعطاها الله؟! فلها أب كاتب معروف، هيأ لها مقابلة نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وكبار الكتاب.
Bilinmeyen sayfa