إهداء
هذا سفر الذي هو: جعفر محمد مختار
هذا سفر الذي هو: محمد الناصر أحمد
هذا سفر التي هي: مليكة شول
هذا سفر الذي هو: ملوال
هذا سفر الذي هو: رياك ...
هذا سفر التي هي: ابنته الجميلة
هذا سفر التي هي: سلمى
سفر الخروج
إهداء
هذا سفر الذي هو: جعفر محمد مختار
هذا سفر الذي هو: محمد الناصر أحمد
هذا سفر التي هي: مليكة شول
هذا سفر الذي هو: ملوال
هذا سفر الذي هو: رياك ...
هذا سفر التي هي: ابنته الجميلة
هذا سفر التي هي: سلمى
سفر الخروج
زوج امرأة الرصاص وابنته الجميلة
زوج امرأة الرصاص وابنته الجميلة
تأليف
عبد العزيز بركة ساكن
أيها السيد المسيح.
بحق الجرح النازف في خاصرتك.
بحق قرنفلات دمك الزكي، عكر الليل على الجنود.
غارثيا لوركا
إهداء
ستخافون مثلي من لجب العسكر، ستمزقكم كلاب الحراسة وأسئلة الصبيات، ولن تنجوا إلا على راحة كفي.
إلى الشعراء:
الصادق الرضي، عاطف خيري وبابكر الوسيلة.
إلى:
شكيري توتوكوه ...
فالموت يا صديقي لا يعني أنك مت.
عبده بركه
هذا سفر الذي هو: جعفر محمد مختار
لم تدر مقدار الرعب الذي أصاب أباك، عندما هتفت في وجهه في ذلك الصباح منفعلة: أبي، لقد فقدت عذريتي بالأمس، فقدتها تماما.
وقبل أن يفيق من نوبة رعبه، أخذت تحكي التفاصيل، التفاصيل التي ما كان يسمعها، تذكر جعفرا، جعفر مختار، أشعل سيجارة، أطفأها.
قلت: لقد ذهبنا للرحلة، أمي مليكة أيضا كانت هناك، ذهبنا للرميلة، حدث ذلك بالأمس القريب، وكانت الرميلة كما هو معروف في مثل هذه الأيام - أيام العيد - مكتظة بالبشر من المدينة، والمدن المقاربة: رطانيون، أعراب، بجا، طلاب جامعيون في رحلات جماعية، مساطيل يدخنون البنقو تحت أشجار السنط، سكارى تفوح من أفواههم خمارات العرق، مستوحدون يبحثون عن الرفقة، بائعات الفول والتسالي والشاي، عمال وضباط المحلية يتحصلون ألف جنيه عن كل زائر، وخمسة آلاف جنيه عن كل عربة، عساكر الجيش المرابطون قرب الخزان على ضفاف البحيرة، يرفهون عن أنفسهم بمعاكسة البنات والنساء والداعرات، رجال الشرطة ، وخلق لا أول له ولا آخر، يأكلون ويشربون ويغنون ويرقصون، يلعبون الشطرنج على الرمال، يذبحون الخراف، يغتابون بعضهم بعضا، يصلون، يتناسلون في العشب، يتوقعون جعفرا، يشعلون النار، يتذكرون أيامهم الجميلة، يلعنون الحكومة، وكنت وزميلاتي نشوي لحما على النجيل تحت سنطات شائكات، وكنا كالعادة لا نفكر في شيء يفسدنا، لكننا نعلق على الأولاد والرجال وبعض البنات اللائي يتصرفن في الظاهر بعفة ونعلم ما يضمرن من خبث وفجور لئيم: على لبسهن، مشيهن، كلامهن، لبانهن، كعوبهن العالية، أوجههن المقشورة بالمساحيق والمراهم الكيماوية الحارقة، عطورهن، تصفيف شعورهن، نظراتهن، مناجاتهن، مصاحبتهن للأولاد، شذوذهن، أيديهن، سوقهن، وكيف يكن إذا اختلين بالأولاد الأشقياء، أسرهن، كنا ماكينات تعليق وضحك ولا شيء يعجبنا أبدا، وكنا ساحرات وجميلات، وكلنا نرتدي على الموضة الشائعة مناطيلنا الضيقة الساحرة، وبلوزات القطن ذات الأكمام القصيرة، التي تلتصق بصدورنا، تلك الملابس التي اشتريتها لي يا أبي قبل أسبوعين، إنها آخر صيحة في الموضة، لبستها رغم أنف رياك أخي، كنا أجمل البنات في الرميلة، كنا هادئات ولا نفكر في أمور ملتوية، حتى رجل الشجرة ما كان يخطر ببالي في تلك اللحظات، لكن حدث الأمر كما يلي: سمعنا جميعا نداء أحدهم، كان يقف على الشاطئ ويصيح بصوت أجش قوي قائلا: جعفر، جعفر محمد مختار، سوف يظهر على الجزيرة الآن، الآن سوف يظهر جعفر على الجزيرة، جعفر مختار، وفي لحظات قلائل تجمع كل الناس على الشاطئ المقابل للجزيرة، على الرمال البيضاء الباردة النقية الشهية، رمال الشاطئ، كل الناس، حتى بائعات التسالي والفول السوداني والشاي، كل شيء، الكلاب، والذباب، والأطيار، والبهائم، وحمير الأعراب الجربانة تفوح منها رائحة القطران، الجمال، أطيار الرهو، الأعراب، وقد جاءوا مهرولين من منازلهم التي تقع خلف الأشجار، أطفالهم خلفهم، نساؤهم خلف أطفالهم، في ثيابهن الزرقاء وأحذيتهن البلاستيكية القديمة، وعلى رءوسهن شعورهن، في بحيرة من الزيت والودك، كلابهن، كل شيء، وكل شخص، تجمعوا على طول الشاطئ المقابل للجزيرة، حيث أعلن أن جعفر مختار سيصل إليها بعد قليل، وهذا في ذاته، حدث يجب ألا يفوته أحد، فذهبنا وتدافعنا على رمال الشاطئ، لكن جعفرا لم يصل الجزيرة، وغابت الشمس، وكنا ننتظر قدوم جعفر، فأشعل الحطب للإضاءة وأتى بعض القرويين بفوانيس كيروسين، ووجه بعض السائقين كشافات عرباتهم نحو الجزيرة الصغيرة، كنا ننتظر جعفرا، وكان قربي أحدهم، لم أنتبه لوجوده، فكنت مثلي مثله، متشوقة لرؤية جعفر على الجزيرة الخضراء، لكنه تعمد أن يحتك بي، ثم تعمد أن يقرصني على فخذي، ثم تعمد أن يقول لي: إلى متى أظل أجري خلفك؟
عندها تعرفت عليه، كان أحد صعاليك المدينة المعروفين والمشتهرين بخداع الصبيات واللعب عليهن، ومعروف عنه أيضا أنه بذيء، وأنه لا يوق، لا ينقطع ولا ينغسل، قلت له: هيا نذهب بعيدا عن هؤلاء الناس.
وذهبنا يا أبي، اخترقنا غابة السنط الصغيرة، ذهبنا نحو بيوت الأعراب، كانت فارغة وأبوابها مشرعة، لقد ذهبوا على عجل لرؤية جعفر مختار، وتركوا كل شيء كما هو، قدور على النار، صيجان الكسرة تحتها الحطب، فوقها طرقات الكسرة تحترق، أطفال رضع على المراجيح، شيوخ مرضى على فراش الموت، طعام موضوع على المناضد، ملابس على طست الغسيل، كل شيء ترك كما هو، تجولنا بين حجراتهم، كنا نبحث عن حجرة بها سرير كبير، وملاءات نظيفة، ويا حبذا لو توافر لنا بعض العطر البلدي، وفعلا وجدنا حفرة دخان مشتعلة، وينطلق منها دخان الطلح عطرا وشهيا دافئا ومراودا، ربما جهزتها عروس وعندما سمعت نداء بأن جعفرا سوف يصل الجزيرة، تركتها موقدة، وذهبت حيث جعفر، خلعت ملابسي وجلست على حفرة الدخان، وقام هو بمساعدتي بالالتفاف بشملة الصوف الثقيلة، وأخذ ينتظرني إلى أن أنضج، كان كل شيء مدهشا في ذلك اليوم، وكل شيء ينتظر ظهور جعفر على تلك الجزيرة الخضراء الرائعة، لم تحدثني أمي مليكة شول مادنق عن الدخان، لماذا لم تقل لي: إنه شيء رائع زي دا، وإنه جميل، وإنه ساحر، وإنه شهي، وإنه يخترق المسام في جنون بهيج، وإنه يفتح المسام وينعش الجسد ويحرره من الموت، لم تقل لي يا أبي ذلك.
كان أبوك لا يسمع شيئا، لا يعي، تذكر جعفرا، أشعل سيجارة، أطفأها، قال في نفسه: إنك من جيل يجب أن يكون ورغم أنفه أيضا، قلت له: انتزعني من حفرة الدخان انتزاعا، وما كنت أرغب أن أفارقها أبدا، كان نداء أن جعفرا سوف يحضر بعد قليل على الجزيرة الخضراء، يبدو أكثر حماسا من قبل وأكثر تأكيدا، كان تصفيق الناس وصفيرهم قويا، ونداؤهم لجعفر أقوى، قالوا له: أين تهرب منا الليلة؟ نحن هنا ساهرون وستأتي وسنلعب معك وسنسألك.
في حجرة الأعراب، شممت رائحة جعفر، نعم جعفر مختار، وسمعت صوته، نعم صوت جعفر مختار، نعم يا أبي، عندها أحسست بالخجل، الخجل القاتل، الخجل الذي لم تعلمني إياه، لقد أحسست به لزجا ومرا كالسم، وعندها نظرت إلى صعلوك المدينة، كان خائفا مرعوبا كفأر في كف قط، كان يقف بعيدا عند الباب يرتجف، لم يمسسني هذا الجبان، أقسم لك يا أبي لم يمسسني بشيء لكنني رأيت الدم ولمسته، الدم المختلط بالسائل الأبيض اللزج، لقد رأيته يسيل من تحتي يا أبي، فعرفت أنني لم أعد عذراء، عندما يسيل الدم مختلطا بالسائل الأبيض اللزج، يا أبي.
هذا سفر الذي هو: محمد الناصر أحمد
مثل قطة منعمة أمك.
تمطيت، أشعلت سيجارة، أطفأتها، حدثت نفسك بأنها مسكينة مسالمة، حاولت أن تغفو قليلا، حاولت أن تقول عكس ذلك، أي أن نهديها كدلو الجلد الفارغ، وأنها متيمة بأشياء كثيرة، وما والدك من بينها. سألت ابنتك منى: ماذا قال لك رجل الشجرة؟
قالت وهي تحملق في عينيك كأنها تبحث فيهما عن التعبير المناسب: لن أقول لك الآن، ولن أقول لك غدا أيضا؛ لأنني أعلم أنك سألتني لا لكي تعرف ماذا قال رجل الشجرة لي، لكن لأنه ليس لديك ما تسأل عنه، في هذه اللحظة بالذات، أليس كذلك يا أبي؟
فقلت لها مستسلما: نعم، نعم يا منى، إذا كانت أمك حية، إذا ...
أيضا، لم تدر ماذا تريد أن تقول، هكذا تغيب عنك الأشياء، تخاصمك اللغة، حتى لغة البنوة، لغة الدم واللحم والسقف الواحد.
أجهشت بالبكاء.
قوي إيمانك بأنه ما عادت الأشياء كما تريد ، إنها المشيئة الضد، أن تلتهم التنين ناره، أن يجد المسيح نفسه يهوذا الأسخريوطي، أو بروتس، تذكرت جعفرا، جعفر مختار.
قلت لابنتك منى: تخيلينا الآن أنا وأنت في مقهى رفاعي - في ناصية الجامعة - نتفرس الطلاب، لم تخف اهتمامك بالذباب، وصفته وهو يتجمع على حافة كوب الشاي الفارغ، شبهت طنينه بأشياء شتى، منها ذكرى زوجتك الأولى نعمة بنت خالتك، تلك السيدة السمينة البيضاء. منها أيضا ... ومنها جعفر.
تعرف أنت تماما أن ابنتك منى تمتلك سحرا أنثويا طاغيا لا يستطيع الرجال معه صبرا. خلاسية جيداء يعانق ظهرها شعرها الأسود الكثيف في دلال وفوضوية، وتعرف أن جموح صدرها، دعج عينيها وغموض نظراتها، طريقة لبسها، كل ذلك يثير عواصف كانت موقوتة في الشباب، وأنه هنالك حتما من يقع في غرامها، لكنك ما كنت تدري حقيقة تفضيلات أبناء هذه الأزمنة، أو أطفال الريح - كما يسميهم جعفر - قالت لك وقد تماهت تماما في التخيل: ذلك المقعي تحت شجرة النيم.
كان متواضعا عاديا كصفقة العشر، فقيرا، وليس هنالك ما يميزه عن غيره، غير أنه يجلس تحت شجرة، يتمعن بعمق وخصوصية، الفراغ.
أما أنت؟
فما اخترت أمها مليكة شول مادنق، فتاة الدينكا الحسناء ذات الأرداف الخصبة، المشحونة بالأطفال والأناشيد، ما اخترتها من تحت شجرة باباي، أو رأيتها تنحني لتجني ثمار البافرا وهي تغرد بصوتها العذب فسحرتك فتزوجتها، لا، لكنك وأنت تمارس تفاهات الحياة وتجلو صدأ أحزانك وجدتها، فتاة على هامش الخمارة بالعشش، ما كانت مليكة شول مادنق سكرى، ولم تك بغيا، لكنها صبية على هامش الخمارة تقدم قداح المريسة، وكئوسها القرع للندماء، وما كانت أيضا طفلة خالية من التجارب بريئة كقوس قزح، فلقد قالت لك فيما بعد: بعد الأسر ونحن في الطريق إلى مدينة آمنة، كنا جميعا من النساء والصبايا، قتل الرجال أو فروا مع جيش الغابة، أو انضموا إلى جيش الحكومة، عندما أدركنا الليل ونحن في الطريق اقتسمنا الجند، كل خمسة من الجنود نصيبهم امرأة واحدة، إلا أنا، كنت صغيرة ولم أبلغ الحلم بعد، ولي جسد هزيل، ولم تنم لي أثداء، قال الضابط لي: أنت صغيرة، سآخذك معي إلى الخيمة، حتى لا يلتهمك الجند المسعورون.
وفي خيمته قال لي: أنت جميلة رغم صغر سنك، وستكونين امرأة ساحرة في المستقبل، وأنا سأتزوجك على شرط ألا تصرخي هذه الليلة! سأكون معك في غاية اللطف.
وأرتك مليكة خرقا مدمية، لا تزالين تحتفظين بها أنت في دولابك الخاص، تخبئينها عن أطفالك.
قالت ابنتك وهي تحملق في فراغات رجل الشجرة، البنيات يحببن الرجل الخاص، الخاص جدا، قالت: إنه فقير وما عنصري، وعنده قلب كبير، أتدري يا أبي إنه في إمكان أية بنت أن تحب الرجل الذي يحبها، فقط عليه أن يحبها بصدق، ورجل الشجرة هذا يحبني، يحبني بصدق. وابتسمت من عمق في نفسها بعيدا.
وأخذت تحكي لابنتك المراهقة كيف أنكما اصطحبتما رجل الشجرة المنعزل العادي إلى المنزل، بكامل خصوصيته وصدق مشاعره المتخيلة تجاه ابنتك منى، وأنك أخليت لهما البيت، وادعيت الذهاب إلى السوق لشراء البرتقال، وقلت إنك ستتأخر قليلا؛ لأنه سيقابلك في الطريق جعفر، وطلبت منها ألا تدع رجل الشجرة يدخل إلى غرفتها، وأن يظل مقعيا بالديوان، يجتر أحلامه ويغزل أناشيد الشجرة، وطلبت منها ألا تطل من النافذة لتعاكس المارة، ألا تحدث الأغراب بالتلفون أو تفكر في أمور ملتوية، لكنك أيضا لن تنكر كيف عدت وتخيلت أمامها بكل وقاحة وشوارعية، لكن بما أمكن من سعة أفق، كيف أنها أغوت رجل الشجرة.
وألفت حوارا ذكيا، انتهى بها عارية في فراش رجل الشجرة، لتطفئ جموح شبقها، تذكرت جعفرا، قلت لها: إن الرجل الحر يستطيع أن ينام جاريا، والمرأة الحرة تقدر وهي في ذروة البؤس والألم أن تبكي بعين واحدة، وبالأخرى تبحث عن نشوة حقة. قالت: إنه أنت، وإنه جعفر، جعفر مختار.
ثم أضافت: هل المرأة تحب الرجل أكثر مما هو يحبها؟
قالت أيضا: لكن أمي مليكة تحبك وتبكي إذا تأخرت خارج المنزل لمنتصف الليل، وأنت لا تهتم.
لكنك كعادتك تهرب من الأسئلة هروب الجندي الذكي من ميدان المعركة، وكم مرة تخفيت من أسئلة زوجتك مليكة ، عندما حاصرتك بحقائق مرة وأخرجت رأسك من الرمال، ما رأيك في الحرب؟
قل لي الآن: هل أنت مع جيش الحكومة أم مع جيش الغابة؟ عشرات السنين وأنا أسألك نفس السؤال.
فأخذت تحدثها عن الحب وأريتها ذكرك، حدثتها عن ابنيكما رياك ومنى، وقلت لها المستقبل فيما يقررانه، وحاولت أن تضاجعها، وعندما تذكرت أنها حائض حدثتها عن الزواج بفوضوية، وحصرته في نصيب الفرد من الدخل القومي وحرية اعتناق الأفكار، وعندما دخل عليكما فجأة ابنكما رياك وضبطك ورأسك في الرمال خوفا من أسئلة زوجتك الملحة، صرخت فيه: أنت سطحي وقشري وهش كرماد القصب.
تمطيت، أشعلت سيجارة، أطفأتها، تذكرت جعفرا، خرجت من المنزل، خرجت خلفك مليكة، خرج خلفك رياك، كنت لا تدري إلى أين أنت ذاهب، لكنه الإحساس القوي الذي دائما يراودك بأنه هنالك من ينتظرك، رجل لا تدري، امرأة لا تدري، قدر لا تدري أم شيطان! المهم أنه ينتظرك في مكان ما، بشوق ما، بقلق ما، بصبر ما، بشيء، وعندما تأخرت عليه أو لم تصله، زهج منك، وصرخ في انتظارك قائلا: صبرا ود الحرام.
فابتسمت في تفاهة نفاد صبر، وتخيلت أنك ناقشته في مسألة تخص ابنتك الجميلة منى، سكرتما معا، تذكرتما جعفرا، جعفر مختار، فمرت في خاطرك وأنت تقذف كئوس الخمر بعيدا في عمق حلقك أطياف شتى، أطياف لا تعرف لها اسما أو عنوانا، أطياف سوداء، سوداء كجسدك، كنت تبحث عن مليكة بين المسافات الصغيرة التي تفصل ذرات السواد عن بعضها البعض، تجدها نائمة تحلم بالعصافير، قرود الموز، أباب دير والأناناس، تقبلها، تنفلت من تفاهات أشواقك، تذوب في موتها، تفاهات حياتها الأبدية، تعيدك أغنيات الكأس إليك، كنتما متفائلين كقردين في شجرة باباي، تذكر أنه قال لك بوضوح: منى ابنتك شبقة هذه الجرو الصغير، وضحك كما لا يضحك المساطيل. في عمقك بينك وبين ضميرك، تعرف أنك رجل صالح، رجل تقي، تحفظ أسماء الله الحسنى، أسماء أطفال المدينة كلها وألقابهم، تكره الحرب، ولا تعرف كيف تستعمل سكينة المطبخ، لم تنم وفي رأسك سؤال مقموع، تصلي في غرفتك، ممددا على التراب، مثلك مثل رجال شتى يعتقدون أن الله لا يهتم بهم لتفاهتهم وضآلة وجودهم، أو لا أحديتهم، فأنت تقول عن نفسك: إنك لا أحد.
بصقت على الأرض، كانت مليكة تصرخ خلفك دائما: اسمعني يا محمد الناصر ومت، اسمعني ومت.
هذه الفتاة الدينكاوية الحسناء سوداء كقلب الأبنوس، أسنانها أقمار تائهة فيه، حدثتك عن خطيبها الأول قبل الخروج مباشرة، دووت منقار، وكيف أنها قضت معه جلسة الونسة: جاءنا وكنت أنتظره في كوخ هيأته لنا والدتي، وكالعادة كنت شبه عارية، وهو كذلك، تحدثنا كثيرا، تكلم أكثر من اللازم، ليظهر لي براعته في الحديث ومقدرته على الإقناع، وحدثني عن مواقف له تنم عن شجاعة لا نظير لها، وكرم ومروءة، وظل ساكنا ومؤدبا في شأن الجسد، حتى يظهر شهامته وعفته وتأدبه، لم يمسسني بلغة فاضحة، أو يحاول أن يطفئ في جمرا ملتهبا كان يحرقه.
وأنت أنت!
كنت حزينا وهادئا كتمثال من عفن الخبز، كان جعفر فيك، جعفر مختار، تذكرته عندما تكلم ابنك رياك بصوته الجهوري القوي، الذي حينما يتكلم كأنه يستعير طبولا مسحورة.
إذا لم تقف لن نمضي وراءك أكثر.
هذه الفتاة المخلوقة من ليل قدسي، الرشيقة كغزالة ترقص في الريح، كم أنت تحبها وتدللها! ما كانت تخبئ عنك شيئا، إلا ما يجب إخفاؤه، كوله جارتها الحسناء آمنة بك، كسؤالها الملح عن فحولتك، كقولها المباشر أو غير المباشر.
هل تهتم أنت بها؟
قلت لابنتك منى ذات مرة وأنت في قمة تناقضك: لو كانت أمك حية لما أضافت لك شيئا.
وقلت لها أيضا: إن الرجل يحب ثلاثة أشياء في فتاته ... ولم تقل لها ما هي هذه الأشياء الثلاثة، لكنها خمنت أحدها وقالته لنفسها: أن ترى أن أهم ما في هذا الكون هو الله؛ لأنه خلق زوجها، هذا المتفرد الذي يحبها، وأهم ما يجعل زوجها متفردا وعظيما ولا شبيه له في الأزواج هو حبه لها، أما الشيء الثاني، فلم تستطع منى تخيله، لكنها تخيلت الشيء الثالث وقالته لنفسها أيضا في سرية كاملة: أن تصبح طفلته المدللة وأمه المدللة.
وأنت دائما لا تدري كيف استطاعت ابنتك منى أن تتعلم الحكمة منك، أو من جعفر، جعفر مختار، وأنتما مثل كتابين مكتوبين بحبر مسحور، يعمي كل من يحاول أن يقرأه، تحدثت ابنتك منى عن البساطة وعن أقوالك المعقدة أحيانا، والساذجة جدا أحيانا أخرى، عن خالها مجوك وجمجمة جدها بدولاب أمها القديم المغلق منذ وفاتها، الدولاب الأسود المصنوع من قلب الأبنوس، جمجمة جدها ماجوك المجني عليه، مخترقة بطلقة بندقية، حدثتك عن خالها وقوله: إنه فتر من حرب جيش الحكومة، أو كما عبر عنه هو في رسالة سابقة: جيش أخي ملوال.
وأنت أنت.
لا تعرف، أتقف مع ماجوك، وهو الأخ الأصغر لزوجتك مليكة شول، وهو يحارب مع جيش الغابة، ضد جيش الحكومة، أم تقف مع ملوال، وهو الأخ الأكبر لزوجتك مليكة شول، وهو يحارب مع جيش الحكومة ضد جيش الغابة؟ أما مليكة فقد قالت لك بوضوح: أنا مع الاثنين، بنفس القلب، وبنفس الحب والحقد، قلبها في الغابة مصوبا جحيما أبديا ضد ماجوك، وهو يحلم بالأطفال والخريف، أما روحها فتحميه من رصاص جيش الحكومة، خاصة رشاشة أخيه، وقلبها جحيم مستعر ضد جيش الحكومة، طالما كانت هي أخت الاثنين، والأمر ليس كما يبدو لك من التعقد والحيرة؛ الله واحد، ولا نستطيع أن نقول: إنه يقف مع جيش الغابة وينصره، ويقف في ذات اللحظة وذات الصراع مع جيش ملوال وينصره؛ وذلك لأنني أحب الاثنين؛ لأنه حيثما وجد نصر، توجد هزيمة، أن ينتصر أخي يعني أن يهزم أخي، أن ينتصر الاثنان يعني أن يهزم الاثنان، فما أكبر الحزن! لكنك كما تعرف نفسك لا تقتنع بالإجابات السهلة والأسئلة المجانية؛ لذا أجبتها بابتسامة غامضة، وأنت تحدد لها بالدقة العلمية أنك لست المسئول، ولن يلومك أحد ولم يؤنبك ضمير؛ لأن ضميرك دائما في جانبك، أو كما يقول جعفر، جعفر مختار: ضمير الرجل الحر، ضمير مسالم ووديع.
منى قد تحتقر خيالاتك وجنونك وعبثك، وهذا لا يعني أنها غير معجبة بك، أو تحتقرك في شخصك، وحكاية رجل الشجرة ما كانت لتقنعها أو تشبع فيها شبقا، لولا أنها وجدت رجل شجرة في بيت الجيران القريب، ولدا مدللا، لا يعرف شيئا عن الآلية، ولا الخطر النووي، أو الأسطول السادس الأمريكي، لم يسمع به إطلاقا، أو يفهم في الاقتصاد، ولم يسمع عن كاتبة صينية تسمى كان شو، مثلما تثرثر أنت معها، لا يعرف لكنه يستطيع أن يحبها، أن يخليها تلحس شفاهه، وهي مسترخية مخدرة تحت صدره، قائلة في حلية رومانسية: أرجوك، أرجوك. صرخت زوجتك نعمة ابنة خالتك قائلة: ما كانت حياتك كلها نساء، لكنك تعشقهن، تحلم بهن كثيرا وتحب أن تردد قول جعفر، جعفر مختار: المرأة كالهواء، إذا حرمت نفسك منه اختنقت، كلما سنحت لك فرصة لقول ذلك، وترى من حق كل شخص أن يشبع حاجاته من الجنس الآخر، في حدود الممكن وفي إطار حريته، وما زلت تبحث لابنتك عن رجل حر يشبع جموح شهوتها، كما لو كان كل الرجال مثلك، تذكرت جعفرا، جعفر مختار، أشعلت سيجارة، أطفأتها، رأيته ذات مرة ينام معلقا على فرع شجرة لالوب، أيقظته، مشيتما إلى قرية عند حنية النهر، تجولتما بين الأكواخ الصغيرة القديمة الهشة، لعبتما مع شيخ عجوز السيجا، حكى لكما عن شباب في القرية بعقلية الأطفال وأجساد الشيوخ وقال: ربما نحن الآن في آخر الزمان، ضحك جعفر، جعفر مختار، وهو يؤكد له باختصار شديد أن ذلك في مصلحة الوطن في المدى البعيد، وحاول أن يشرح له ذلك بشكل أوضح، لكن الشيخ لم يعره انتباها؛ لأنه كان على وشك أن يهزم، كنت تجري في جدية ورعب نحو الذي ينتظرك، إلى الأمام، إلى الأمام، وكان صوت مليكة يتبعك هاتفا: اسمعني، اسمعني ومت.
أما ابنك رياك فعاد أدراجه إلى المنزل ونام، دائما ما كانت الطرق السهلة مقفلة أمام زوجتك مليكة، فلم تستطع يوم الكارثة أن تودع أمها، ولو بنظرة سريعة خاطفة، ولو بهمسة، أمها العجوز، ولم تستطع أن تقبل خد والدها الأعجف وعظامه البارزة، لم تتمكن من تلبية ندائه: اديني حقة التمباك.
لم تستطع أن تأخذ من جدتها العجوز ذات السن الواحدة آخر حكمة تخامر عقلها القديم، فكانت القذائف كالصواعق، والرصاص كالمطر تنشد موسيقى الرعب في سماء القرية الوادعة الجميلة النائمة على أحلام الغزلان والسناجب، المموسقة بتغريد الطيور وزقزقة العصافير. مليكة لم تسمع في حياتها أروع من زئير أسد الأبقار، وما كانت تتخيل أن هنالك صوتا أكثر رعبا وعنفا من زئير هذا الأسد الأحمر، جدها بونا لا يعلم أيضا أن في هذا العالم الذي يمتد من غابات ما بعد الغابات إلى بلاد العرب، يمكن أن يوجد صوت أقوى وأعنف من زئير أسد الأبقار الأحمر الغاضب في ليلة هادئة، وأنت تعرف جيدا أن مليكة شول انتزعت من ديار ما كانت تود مغادرتها، لتصبح في حضنك دافئة مباركة، ولو أنك تعرف جيدا خلفية الصراع في الجنوب كنت تقنع نفسك بأنها لا تنوي غير إرهابك، عندما كانت تريك جمجمة والدها الذي أرسلها لها ماجوك بعد حريق القرية، وهو يحمل حربته ويدخل الغابة، كنت تمشي نحو الذي ينتظرك، وأنت موقن أنه هنالك، في نهاية المسافة ينعس في انتظار طويل، أو يصرخ في وجهك الغائب: أيها الأبله!
ما كنت تدرك له وجها، جسدا أو علامة، وما كنت تستطيع أن تتخيله كشخص ما، أو شيء ما، لكن أقل ما يمكن أن تصفه به أنه كطنين ذبابة تحلق في وجهك، عميقا كحلم مليكة شول مادنق، يجلس على حجر بضفاف النهر، أو على ماء النهر، أو يطير كالغراب محلقا في السماء، أو يقبع في وكر كيمامة، أو يجلس في ركن قصي في سجن مظلم رطب على أذنيه غراب أسود يبتسم، أو قملة، أشعلت سيجارة، أطفأتها، سألت رجلا عجوزا له وجه قديم مهمل، قلت: هل رأيت يا شيخنا القديم، الجميل وأنت تجلس هنا، هل رأيت امرأة، امرأة مرت بهذا الطريق قبل عام؟ أو رأيت رجلا، هل رأيت شيئا ينتظرني؟ هل أنت تنتظرني؟
فابتسم الشيخ العجوز القديم بعينيه؛ لأنه ما كان بإمكانه فتح فمه ليريك أسنانه المتآكلة، وفمه ملآن باللالوب، وأخيرا عندما استطاع أن يبتلع حصاة ثلاث لالوبات، ويبصق واحدة، بالتالي يصبح فمه فارغا، قال لك: أنت حزين يا بني ...
ثم حشا فمه باللالوب مرة أخرى، واندس في شيخوخته، كنت تعرف إجابته مسبقا، لكنك فقط كنت تريد إثارة دهشته، أو كسب عواطفه، حقيقة أنك لا تدري، حقا لا تدري! لأنك لست في حاجة لإثارة دهشة هذا الرجل العجوز، النائمة في ضوء أيامه السوداء، لست في حاجة لكي توقظ دهشته، تلك الباردة الكسولة، من عهر وسنها، لكي تثبت لنفسك أنك موجود، وبإمكانك فعل شيء تجاه شيء ما، ولو مجرد إثارة دهشة! دهشة صغيرة خرفة، كما أنك لست محتاجا لعاطفة هذا الشيخ الهرم، الذي رغم قدم كتفيه وأدواته التناسلية ما زال يختلف إلى منزل جارته العانس ليحتسي وإياها فنجانا من القهوة بالقرنفل أو الهبهان، يخطر بباله أن يراودها عن نفسها، لكنه دائما ما يعدل عن رأيه في اللحظات الأخيرة الحاسمة، فيحدثها عن الرجال الإنجليز، حرب الصحراء الليبية أو مجاعة «سنة ستة» يقول لها كيف أنه كان فحلا تعشقه النساء، يسألها: هل لديك عشاء؟
يخرج وهو نعسان، ينام قرب معزاته وحماره المكادي، ليحلم بأطفاله الذين لا يدري وطنا لهم، لكنه لا يزال بإمكانه أن يتذكر هيئتهم وأسماءهم، فهم بنتان وولدان، وخامسهم كلبهم، وهو جرو، يذكر إلى الليلة كيف سرقه من أمه الشرسة، فأنت لست محتاجا إلى مثل هذه العاطفة الشائخة المعقدة والمرهقة من جراء تجوالها في البلاد بحثا عن لحمة تخصها؛ لأن مليكة شول مادنق أعطتك كل ما تمتلك من عاطفة، وما لا تملك أيضا، وباعترافك أنت وجعفر تأكد قولها.
قلب المرأة الجنوبية يمكنه أن يسع عشرة من الأفيال الأفريقية، وأن هذا القلب كله مملوء بالحب لرجل واحد ووطن واحد، تذكرت جعفرا، جعفر مختار.
صليت، حاولت أن تشرب شيئا باردا، أو ليكن صاليا كالجحيم، أشعلت سيجارة، أطفأتها، السماء كانت زرقاء، حاولت أن تحصي أكبر عدد من النجوم ممكن، ضحكت، تبولت تحت حائط هرم، تذكرت قصة قصيرة لكاتب يقول في المقدمة إنه حداثي، وإن طرائق كتابته تحتاج إلى ثقافة وسعة أفق وفهم لبعض مذاهب النقد الحديثة، بصقت. بصقت مرة أخرى، فكرت في العجوز الهرم القديم الجالس أمام منزله المهمل، وجهه القديم الجاف، شاربه الكث الأبيض، فكرت فيه وقلت في نفسك: لماذا لا يترك هذا الشيخ ما تبقى له من عمر قرب مربط حماره ويموت؟ لماذا يصر على الحياة؟ لكنك لم تسأل نفسك: لماذا تصر أنت على الحياة أيضا؟
لم تر ماجوك، لكن مليكة أرتك صورته، وأيضا الجمجمة التي أرسلها، جمجمة والده المثقوبة بطلق ناري التي هي الآن بدولاب مليكة شول مادنق، الأسود المغلق منذ وفاتها، وكنت تتخيله دائما ماسكا بجمجمة والده وهو يرقص رقصة شيطانية غاضبة، رقصة حرب حقيقية، هل يرعبك ماجوك؟ قلت لها: تخيلي أن بحرا من دماء السحالي يمر من هذه الناحية، دماء سحالي بارد لزج ونقي، تخيلي أن امرأة كانت تمر من هنا بهذا الطريق منذ مليون سنة، امرأة خصبة حرة، نقية كالخيال، امرأة كالقرنفل، تخيلي أن جيشا من الدهشة سكن هذا الطريق، جيشا سيفه أعور، تخيلي أن بئرا من العصافير ذات الأرياش الذهبية والغناء البنفسجي. عصافير ...
وغلبك الاسترسال في الاستعارة فأحسست بضآلتك وعقم روحك وقلت لها وأنت تبرد تدريجيا كريح شتوية: إن أحدهم ينتظرني في مكان ما، زمن ما، شجر ما، ينتظرني حاملا بندقية صيد آلية أو رشاشة توجه بالليزر أو حمامة مشوية، وفي فمها غصن زيتون ذابل. ربما ينتظرك وفي قلبه سلام حقيقي لست تدري، كنت بليدا كالنائم، تعبا كلحظة الحزن، قصيرا كالدهشة، سكيرا إذا، كنت تظن أن أمك تلك المرأة القصيرة البدينة الغنية الشحيحة هي السبب الأول والنهائي فيما أنت فيه على كل حال، قابضة على لا وعيك، محركة وعيك بشيطانية كما لو كنت بيدق شطرنج بين أناملها السمينة. أشعلت سيجارة، أطفأتها، حاولت مرات عديدة أن تتعلم التدخين لكنك حتى الآن لم تحدد موقفا سلبا كان أم إيجابا.
وأنت تجري نحو الذي ينتظرك. تتذكر جعفرا، جعفر مختار، تشعل سجائرك وتطفئها وتقول لنفسك كلاما أنت نفسك لا تفهمه، إلى أن أمسك بك رجلان، رجلان قويان بليدان، ولا تدري أن مليكة هي التي استأجرتهما، ألقياك على الأرض، سحباك سحبا كجوال الفحم إلى منزلك، ومليكة هي التي أوحت إليهما أن يربطاك، أنت تعي حقيقة أنك لست بالمجنون، ولا كنت تدعي الجنون في يوم ما، لكن في الغالب أن علاقتك بأمك هذه العلاقة المشوهة هي محصلة ما أنت فيه، هي لا تحبك ولا أحبتك في يوم من الأيام، حتى في أول نظرة ألقتها عليك وأنت طفل صغير، ترفس في الهواء كالجرو، وتتلوى ما أحست أنك ابنها، جرو لكلبة ضالة بالته في زقاق مظلم وواصلت جريها نحو الجيف المتقيحة، ولما لم تفق بعد أمك من آلام المخاض، صرخت في وجهك الصغير وعينيك المغمضتين: أنت غلطة العمر، ثم أخذت تنادي: أبعدوا عني هذا المسخ، أبعدوه.
وكأنها ما حبلت بك ستة أشهر ويومين، عانت فيك ما عانت، كأنها ما هيأت فراش أبوك في أمسية مثيرة، أغوته ببهاء الدلكة وعطر الصندل، أشعلت فيه نار الرغبة وهي تبدي له جموح جسدها في ضوء الشموع الناعسة، كأنها ما صرخت حين اشتعال لحظة اللذة في أعماقها وغور اشتهائها، كأنها ما نامت ليلتها تلك تحلم بك تكبر فيها، تنبت فيها، تحيا في دمها، أنت أيها المرفوض، ألم تقل لك: ما كان أحد من آبائك يرغب فيك ... كلهم كانوا ينشدون اللذة، فقط اللذة لا أكثر، إذا.
اذهب إليها واطلب منها أن تسامحك، أن تغفر لك خطيئة ميلادك، خطيئة أن تصر على الحياة وتظل باقيا إلى الآن، قل لها: أعيديني نطفة دافئة في صلب من تظنين أنه أبي، قل لها: ابصقي على وجهي ما يكفي من لعنات لكي أمسخ ذرة غبار فأهيم في فضاء لا نهائي، أو حدثها عن جعفر وأنت لا تدري ماذا يعني جعفر لأمك، جعفر مختار، لكنك لا تستطيع أن تقول لها شيئا ولا تقدر على مواجهتها بما تظن أنه الحقيقة، مدعيا أن لكل إنسان حريته الشخصية كاملة غير منقوصة، يكره من يشاء، يعز من يشاء، ولا يسأل إلا في حالة واحدة: إذا لم يكن حرا بقدر حريته، إذا كان عبدا في أعماقه، لكنك تحبها، تحبها جدا، وهذا حق شخصي لا تلام عليه، كما أنه من حقك الشخصي أن تطلق نعمة بنت خالتك؛ لأنها لم تسعك - أو على حد قولك - رغم أن أنها سمينة جدا، إلا أنها كانت أضيق من حلمي، وأنه أيضا من حقك الشخصي أن تتزوج مليكة شول مادنق، فتاة الدينكا الحسناء التي يسع قلبها عشرة من الأفيال وخرتيتا واحدا، ومن حقك الشخصي أن تتفاخر أمام الآخرين بأنه لا أب لك، أترى ما يقول الناس عنك في خلواتهم الخاصة، في مكاتبهم، مدارسهم، بيوتهم، في أفراحهم وأتراحهم؟ إنه رجل فاجر، وأيضا ابنته الجميلة، وعندما ينظرون إلى ابنك رياك يستعجبون قائلين: كيف لرماد أن ينجب جمرة؟
ولم تتمكن من إقناعهم بأن لكل رجل أخلاقه الخاصة النابعة من ذاته، من وعيه بالوجود ونظرته للعالم، وعيه بالعلاقة المعقدة لوحدات الزمن، وحدات المكان والإنسان، بفهمه لشفرات السلوك البشري من خلال ثقافته الحرة وامتلاكه لحريته بإرادته، إذا أنت ترى نفسك أكثر البشر صلاحا وتقوى، هل تريد أن تقول للآخرين قولك لابنتك منى: إن الداعرة امرأة فاضلة إذا كانت مقتنعة في حقيقة وعيها بأنها لا تمارس شيئا رذيلا أو نابيا، إذا لم تتناقض مع نفسها في فضيلة ما تفعل، هي إذا تؤسس لأخلاقها الخاصة جدا ويجب احترامها، هي إذا تؤسس لفضيلتها الإلهية، ويجب أن ينظر إليها كفيلسوف، إذا مثل الشعرة من العجين تنسل نقية من خطايا المجتمع؛ لأن خطاياه هي نتيجة نقضه لأخلاقه التي ارتضاها، أخلاقه التي أسسها، التي ليست أخلاقها، بالتالي ليست ملزمة بها، وبهذا الفهم يا محمد الناصر تصبح فيلسوفا صغيرا رعديدا لكنك بلا شك بك ما يكفي من الشجاعة لكي تصبح أول من يطبق نظريتك، وآخرهم أيضا؛ لأنه لا أحد يقبل أن يسمعك، لا أحد سوى ابنتك الجميلة منى، أشعلت سيجارة، أطفأتها، تكوم رماد السجائر أمامك.
تذكرت جعفرا، جعفر مختار، احتسيت قهوة مرة، قفزت إلى ذاكرتك آخر لحظة قضيتها مع مليكة، قبل موتها المفاجئ بالنسبة لك؛ لأنه أبدا لم يكن مفاجئا بالنسبة لمليكة ذاتها، أحسست بدفء صوتها المبحوح، وهي تهمس في أذنك: سأظل أشتاق إليك، سأظل أجري خلفك لأعيدك إلى المنزل، وأنت تجري بحثا عن الذي ينتظرك، سأظل أمطرك بالأسئلة، هل ستهرب من سؤالي أبدا بعد أن أموت؟
ولم تستطع أن ترد على همسها إلا بدمعات ساخنات قطرت من عينيك اللتين رأتا كثيرا من تصدعات الإنسان، عاصرتا مليونا من أعاصير الموت وعذابات الضحك والمسخرة، ثم انفجرت بالبكاء، مثل طفل جائع، ولم تتخيل نفسك أنه بإمكانك أن تبكي في يوم ما بهذا العمق، بهذه الحرية، أنت لم تحب في حياتك غير مليكة شول، فتاة الدينكا الحسناء، ذات الأرداف المملوءة بالأطفال والبافرا ولن تحب غيرها، حاولت أن تتذكر آخر لحظة حب قضيتها في فراشها، آخر قبلة، آخر همسة، آخر آخر، كان الرجلان قد أحكما وثاقك بحبل متين، قلت لهما: اتركاني، قالت لك مليكة: لا.
فتحدثت إلى ابنك رياك وابنتك منى بكل موضوعية فأفهمتهما حقيقة الإنسان أو الشيء الذي ينتظرك دائما في مكان ما، في زمان ما، قالت مليكة بشكل مؤكد: أنت موهوم ...
هي تفهمك أكثر من نفسك وتعرفك عندما تريد شيئا وتقول غيره، وعندما لا تريد شيئا وتبدو وكأنك تريد العالم كله، وأنت غامض بقدر وضوحك، مخبول بقدر عقلك، صغير بقدر كبرك، أنت قوي بقدر ضعفك، لكنك لست بشأن ما تعتقد أن تكون ولا بفهم ما تعتقد، ولست ضئيلا بما يجب لكي يتجاهلك الله. رأت منى في رجل الشجرة كثيرا ما كانت تفتقده فيك، وأهم ذلك الشجرة ذاتها.
أن تكون رجل شجرة؛ لأنك عندما التقيت مليكة لست أكثر من رجل حانة، أو ذلك الجالس قرب زجاجة العرق الزرقاء، هل تدري أن رجل الشجرة يفترش صدر ابنتك منى يوميا؟ نعم، أنت تعرف ذلك لكنك تتجاهله، مثلما تجاهلت حبوب الحبل المختفية التي كانت تخص مليكة، مثلما تجاهلت تساقط صدرها وارتخاء شفتيها وجفافهما وغيابها المتكرر عن المنزل، وكنت تختلق لها الأعذار، هل سافرت مع صديقتها في سياحة قصيرة؟ ربما تأخرت الليلة في الاستذكار، كم تبقى لامتحانات نهاية العام؟
وتحت باب الحرية الشخصية أيضا طالبت بالبحث عن الذي ينتظرك، صليت على عجل، قرأت سورة الكافرون.
تذكرت جعفرا، جعفر مختار، أشعلت سيجارة، أطفأتها، اعتذرت لك مليكة عما بدر منها من استئجار رجال أشداء لاصطيادك وربطك، قالت لك: لأننا نحبك ولا نريد أن تضيع، ثم أقرأتك جواب ملوال المرسل إليها من جبهة الحرب، ورأيت اسمك مكتوبا بخط ركيك لكنه واضح، يقرئك السلام والتحية ويقول لك: احتفظ بسلبيتك بشأن الحرب؛ لأنها ما أضحت حربا بين بشر، إنها حرب أشباح.
وكتب في موضع آخر: تعتبر الحرب بالنسبة لي انتهت، وما يحدث الآن هو مجرد قتال، قتال عنيف لا فهم له. وكتب أيضا بين قوسين كبيرين لأخته مليكة: إن الله مع الجانبين. هل كان يخاف على قلب أخته؟ استطعت أن تخفي ارتباكك ورماديتك وخوفك من عيني مليكة، سألك ابنك رياك عن أمور شتى، بشجاعة وصدق وصبر عظيمين، رغم أنك لا تزال تعتبره ولدا ساذجا بسيطا مندهشا بالظواهر، ولدا ورقيا ريحيا، منى يعجبها فيك أنك تحاول دائما أن تجد فهما للحياة خاصا بك، فهما لا يستطيع ابتلاعه غيرك وجعفر، يعجبها فيك ثقافتك، حريتك وسعيك المتواصل نحو نقطة أبعد عن مرمى البصر، تواضعك وأشياء أخرى تحبها لكنها لا تستطيع أن تقولها لك، وهي تراقبك عن كثب وأنت، وأنت تلاحظ بدقة انكسار جموح نهديها، نموها العقلي، خربشة أظافر الآخر على كتفها وظهرها، ذكاءها الاجتماعي ووعيها، تذكرت جعفر مختار، أشعلت سيجارة، أطفأتها، حاولت أن تقرأ القصة القصيرة ذات المقدمة التنديدية، لاحظت أن اللغة فيها باردة ومملة ومتعبة جدا، بصقت.
أنت تحب كتب الفلسفة والديانات، الباراسايكولوجي، تحب أن تجلس على شاطئ النهر وحيدا، تقرأ الكون من حولك، وتحاول ما أمكن أن تقرأه نفسك، منذ أن ماتت مليكة شول مادنق، سبعة أعوام وأنت لم تشته امرأة، حاولت مرة أن تعانق ضفائر سيدة عطرة، لكنك وجدت نفسك عاجزا عن فعل شيء، كنت باردا كفحم في مخزن رطب مهجور، تذكرت قول مليكة لك: لن تستطيع أن تتزوج امرأة بعدي.
قلت لها ضاحكا حينها: غير صحيح؛ لأن الرجل لا يهتم كثيرا بمسائل تبدو لكم معشر النساء مهمة، فالرجال يتزوجون ويتزوجون، وقد لا يذكرون نساءهم الأول.
في الحق أنت لا تؤمن بما تقول، ربما في ذاتك كنت تود أن تقول عكس ذلك، لكن مليكة الجميلة فهمت ما أردت أن تقوله بالضبط ولخصته لك في جملة واحدة. لأني أحبك يا مليكة، فأنا رجل أمامك أنت فقط، رجل لك أنت وحدك، حية كنت أو ميتة. أشعلت سيجارة، أطفأتها، أطرقت تفكر في خطاب الموازنة وإمكانية زيادة الدخل القومي بزيادة توظيف مدخلات الإنتاج وإيجاد حل سلمي للحرب أو إسقاط النظام القائم، بل إسقاط كل التاريخ، وإسقاطك أنت نفسك في نوم ثقيل مرعب. دخل إليك رجلان من الجيران، قال لك أحدهما: بالأمس مات رجل عجوز غريب، كان يجلس أمام بيت له قديم في الحي، ويظن البعض أنه والدك؟ قلت لهما: وهل أنا أبحث عن أب؟ قال أحدهما: إذا عرفنا لك أبا فربما استطعنا أن نستنطق البعض بأنهم شهدوا عقد قران أمك، بالتالي تصبح ابنا شرعيا. قال الآخر: مسألة مجاهرتك بأنه لا أب لك وافتخارك بذلك يسبب لنا ولكل الجيران مأزقا أخلاقيا، وأيضا لابنك الصالح رياك. فضحكت، حاولت أن تتبول، لكنك عدت من المرحاض كما ذهبت إليه.
قلت لهما وأنت لا تزال تتفجر ضحكا: إذا قدما لي التعازي، لقد كان أبي بالتأكيد رجلا صالحا أفنى عمره في حبه لكم.
ولا تدري لماذا ذهبت إلى والدتك في ذلك اليوم، حيث بادرتك قائلة وأنت تلج حجرتها: محمد الناصر، ماذا جاء بك؟
قلت لها وفي فمك ابتسامة صغيرة: لقد مات رجل عجوز غريب، كان يجلس أمام بيت له قديم في الحي، ويظنه البعض والدي. قالت ولم تبرح مرقدها بعد: أنت تبحث عن أب؟
فقلت لها: بل هم الذين يبحثون عن أب لي، يريدون شرعنتي، وإنهم يظنون أنفسهم موتى في مأزق أخلاقي!
إذا ينتظرونك لكي تبعثهم، أو على الأقل إخراجهم من هذا المأزق الأخلاقي، إذا اذهب وقل لهم : إن أباك هو الشيطان نفسه، الشيطان الذي يتبول في مناخيرهم كل ليلة وهم نيام، ويزني بنسائهم وبناتهم، ألم أقل لك ذلك من قبل؟ ماذا تريد مني؟ اذهب واسأل جعفرا، جعفر مختار، إذا شئت، ثم أضافت بكل برود: أنا حرة، لقد قالوا: إنك أيضا حر.
فقلت لها وتخنقك العبرات: هناك فرق دقيق جدا بين الحرية والعبودية، فالمسألة مسألة فهم ووعي، الحرية في العقل، العقل يا أمي!
قالت بنفس برودها: أعلمك جعفر هذه الحكمة؟ فعندما تركتك ليس بإمكانك فعل شيء سوى الصراخ وكثرة التبول!
أشعلت سيجارة، أطفأتها، تذكرت جعفرا، مثل هرة منعمة أمك، حادة الطبع ربما تعاني بطريقة أو بأخرى من مرض عقلي، ثرية، لا تهتم بشيء سوى نفسها، ونفسها فقط، وأنت ابن غير شرعي، ابن حرام، كما قال لك رجل صعلوك تشاجرت معه في خمارة في أيام المراهقة، المهم سفاحا أنجبتك من صلب رجل ربما التقيت أنت به في زمان ما أو في مكان ما، ولا ذنب لك في ذلك، ليست أمك هي المسئولة ولا حتى والدك، وأنت تختلق لهما الأعذار كعادتك، ولا تحب الخوض في هذا الشأن لأنه شأنهما وليس شأنك، فأنت وجدت بطريقة ما في هذا الكون، تحمل على كتفك مسئولية أن تحيا، وفلسفة أن تكون، ولا يهم بالنسبة لهذا الكون الكبير أن تكون ابنا شرعيا أو غير شرعي، قال لك جعفر، جعفر مختار: أنت تكره التحدث عن علاقة ميلادك، فأنت رجل حزين ومصدر حزنك عقلك، وما عليك إلا أن تعري نفسك أمام أفكارك، لتكون أكثر حرية وتجاوزا للأشياء، هذه الأشياء الصغيرة جدا والتافهة. لم تصدق نعمة زوجتك وابنة خالتك أن أحدهم ينتظرك وتحدثك قائلة: هذا الشهر كله دعنا نبحث عنه، فإذا لم نجده يجب عليك أن تعترف بسوء عقلك، ولا تقل لي مرة أخرى شيئا من هذا القبيل.
أحدهم ينتظرني، أحدهم يفعلني، أحدهم، أحدهم، أو تجري في الشوارع تبحث عن شبح لا وجود له في الواقع، سنمشي في كل الشوارع نبحث عنه. قلت لها: ربما يجيء بعد أن نغادر الشارع.
قالت: سنؤجر من يأتي خلفنا يبحث عنه حتى إذا جاء بعدنا وجده.
قلت: إذا جاء بعد هذا الأخير أيضا؟
قالت: سنستأجر من يأتي بعد الاثنين، إذا ماذا تقول؟
قلت: هب أنه وجده فكيف يعرف أن هذا الشيء هو الذي ينتظرني، الذي ينتظرني أنا بالذات؟ لأن من ينتظرني ربما كان شيئا مفاجئا، يوجد حيث لا يتوقع، وربما يوجد الآن بيننا، ربما يجلس خلف المنزل معطيا ظهره للحائط وهو يتبرز، أو يزرع بعض الفجل، ربما يقف الآن تحت الشمس يتقاطر من جبينه العرق في موقف الأتوبيس يتوقع قدومي بعد كل لحظة، وعندما أتأخر عن المجيء يلعنني في سره، أو يغني لحنا أجنبيا! ربما أكل الآن ما في جيبه من تسالي وآخر الأغاني الرخيصة التي بجعبته، وملت شفتاه الصفير، وأصبح فارغا كوجه رجل مغيب عن حقيقة الصراع اليومي والعلاقات أحيانا، كنت تظن أنه ينتظرك من أجل نفسه، لتجدد فيه قدمه وذكرياته، أيامه المخبأة خلف غيمة من الوهم، يريدك أن تؤسس له حياة جديدة مستقبلا حقيقيا بوعي حاضر، أو غير ما تعتقد! ربما كان نبيا مليئا بالأشياء الجميلة يحمل إليك بشارة وجودك، يجدد قدمك، يحررك أكثر ويزكيك أمام الريح، يصقل تجاربك، إنه على كل في انتظارك، قد يكون بعيدا جدا، بعيدا في آخر شبر من الكون، جالسا على كرسي يحتسي قهوة المساء، وحواليه بنيات حسان يعزفن القيثارة ويغنين له عنك وعن الحرب وابنتك الجميلة منى، تذكرت جعفرا، جعفر مختار، أشعلت سيجارة، أطفأتها، تمنيت لو كانت مليكة شول قربك الآن تضع الإفطار لابنيكما، وهي تغني ما لم تسمعه من أغنيات أهلها، في غابات المانجو والباباي، كنت ستسألها: لماذا لم أتمكن من الانفكاك منك، من شوقي إليك؟ وتخيلت ابتسامتها البسيطة المتواضعة العميقة، التي تظهر بياض أسنانها وورد شفتيها، وكيف أنها ستمتلئ بالنشوة النسوانية المثيرة، سألت رجلين جاءا من الحي وطلبا منك أن تقوم باستلام ما تركه الرجل العجوز؛ لأنك وريثه الوحيد.
من أين جاء هذا الرجل العجوز؟ ومن قال لكم إنه أبي؟ وكيف يوصي لي بممتلكاته وهو لم يرني في حياته؟
لكنك عندما أخذت تنقب حاجياته القديمة وجدت جواز سفر وبطاقة عسكرية بها اسم ربما شابه اسما قالت لك أمك يوما: إنه اسم أبيك، سكرت، حاولت أن تنام، تذكرت جعفرا، جعفر مختار.
هذا سفر التي هي: مليكة شول
طالما لم تتزوج البنت، يا ابنتي مليكة، طالما لم تتزوج البنت فإنها ستظل قلقة إلى أن تصطاد المحب، لكنها ستظل قلقة إلى أن يخطبها، لكنها ستظل قلقة إلى أن يتزوجها، من ثم يبدأ هو مشوار القلق نيابة عنها، وهذه هي مشيئة دينق الرب الواحد الكبير، هكذا تكلمت جدتك نياندنق: إن القلق امرأة وخلق دنق الرجل حمارا لحمل القلق عنها، لجامه الحب، عصاه الأطفال، كلما كثر الأطفال كلما كثرت العصا التي تنهال على ظهره ضربا دافعة إياه على السير قدما، وعلى ظهره امرأة أو القلق! وكلاهما واحد.
هكذا كانت تعلمك جدتك العجوز نياندق وتقول لك: غدا عندما يقع شاب في شباك جمالك ويعرف قيمتك، سيحمل عنك هذا القلق الذي يحرق قلبك الآن.
ولو أن القلق الذي كنت تعانين منه لم يكن أبدا في شأن مستقبلك أو في شأن الرجل، كان قلقا ينبع من غور قصي في ذاتك، فيك أصيل، وكأنه عضو خلقه الرب فيك، قلق لا فكاك منه، ومهما قوي ظهر الرجل حمار قلقك الذي ينتظر، فإنه لا يستطيع معه صبرا أبدا.
جدتك نياندنق ذات السنوات التسعين والسن الواحدة، مات في حضنها خمسة رجال، ولا تزال حية كساق المهوقني، قوية تزأر بصوتها الجهوري فتسمع القرية من الغابة إلى النهر، من التوج إلى شجرة النمور الثلاثة، ما بعد المستنقع الكبير أباب دير، قيل إنها كلما مات أحد أزواجها احتفظت بصوته، جدتك القاسية على نفسها، عاشقة الصبايا، زهور الموز، كما تسمي صبيات الدينكا الحسناوات، ذوات السوق الطويلة الملساء، سوق الزرافات، أعناقهن الجميلة المحلاة بالعاج والودع والخرز الملون، المجلوب من بلاد نيجيريا ويوغندا وأفريقيا الوسطى، المتوارث، البنيات الراقصات الرقيقات، بأذرعهن المرسلة كأغصان أشجار المانجو، كانت تجالسهن، تحكي لهن عن الماضي الغابر الجميل، عندما كانت تتحدث الأشجار والحيوانات مع البشر، وكانت الشمس والقمر والسماء جميعا تسكن الأرض، قبل أن يطردهم الرب أو ينفيهم بعيدا في الفضاء. وكانت تسقيهم العادات والتقاليد والقيم النبيلة في كئوس من الأحاجي والقصص، وأيضا الشعر المغنى. كانت نياندنق عرابهم، فما كنت أنت مليكة شول مادنق التي أنشأتك جدتك على إيقاع حكمة السلف، وعلم الأب الأكبر دينق، تحلمين في يوم ما بحياة مثل التي تعيشينها اليوم، حياة صاخبة بجنون زوجك محمد الناصر، حيث لا ثابت! وأنت التي كنت تهيئين لأن تصبحي زوجة دينكا مثالية، لدووت منغار، تقدسينه تحترمين زوجاته الأخريات، كاحترامك لأخواتك، تنجبين له كثيرا من البنات، ذوات السيقان القوية الطويلة، بعض الأولاد، تحلبين أبقاره، تصنعين له السمن والمريسة، عرق الموز في الأعياد والمناسبات الكبيرة، عند القيلولة، تنتفين شعر عانته بالرماد، تقشرين له قصب العنكوليب، إذا آب للفراش تستجيبين لغزله، مثل دجاجة خجلة تنزلقين من بين كتفيه الكبيرتين القويتين، ثم تستسلمين له طاعة، كلك رغبة وكلك تمنع، في هدوء القرية ووداعتها، موسيقاها الاحتفالية، مهرجانات أباب دير المقدسة، بين أشجار الباباي والمهوقني والمانجو تخلفين له أجيال الدينكا القادمة، تغزلين جلابيب الفجر بأغنيات الخلود، خلود الوطن كله، لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي سفنك، عندما أتى خبر الحرب مع رياح الخريف.
قال الشيوخ من بين أسنانهم القديمة الهرمة وهم يبصقون التمباك على الأرض: دعوه، فقد لا تؤكده الأمطار.
فنمتم في فراغات الطمأنينة، تطردون الخوف مع ريحكم خارج الجسد، وعندما عاد خبر الحرب مرة أخرى محمولا على قطرات المطر، باردا ومدهشا كالصقيع، قال الشيوخ وهم يضعون مرة أخرى عجين التمباك بين شفاههم الغليظة ولثتهم الحمراء: دعوه فقد لا تؤكده الأعشاب التي ستنبت عندما ترتوي الأرض.
لكن!
ما إن رفعت الشجيرات الصغيرة وعشيبات الخريف رءوسها من صدر التراب، حتى فرقعت السماء بمدافع الهاون والراجمات، ولو أن الماجوك الكبير أكد.
لا يمكن أن ينزل الشيطان بقريتنا، فقد خصنا الرب دينق بالأمن والسلام، إلا أن الشيطان الآن يتبول على رءوسكم حمما وشظايا من الحديد والنار لا عهد لكم بها فتدهشكم ولما تفيقون من دهشتكم بعد تشردكم ولما ترجعون من تشردكم بعد، تقتلكم، وحتى الماجوك الكبير الذي بإمكانه أن يتنبأ بكل حوادث التاريخ التي سوف تحدث منذ ميلاده إلى موته، الذي تنبأ بهجرة الأفيال إلى بلاد بعيدة، وموت أسود الأبقار، وأيضا استطاع أن يعرف قبل وقت كاف من موت رث الشلك، بأن رجلا عظيما سيسقط كما يأفل النجم، فاليوم يفاجأ مفاجأة كاملة ببول الشيطان المتدفق من السماء حمما وشظايا، على مراقد أطفاله، مربط الأبقار، بول من النار ولم يدر هل يحمي أطفاله، أم يحمي أبقاره، أم يحمي نساءه، أم يحمي بنيه، أم يحمي جيرانه، أم يحمي رعيته، أم يحمي نفسه، وكيف؟
بأي تميمة؟ بأي طوطم؟ بأي دعاء؟ أو بأي رقصة؟
فقد تميمم، تطوطم، تدعى، أيضا رقص قبل أن تسقط على رأسه الأصلع القديم قذيفة هاون فتمزقه إربا إربا، مليكة شول ما كنت تصدقين أن رب العرب جيرانكم، سيسري بهم في لياليكم المقمرة، إلى أروقتكم الصغيرة البريئة فيحرقونها، وهم يصرخون بكلام لا تعرفونه: الله أكبر، الله أكبر.
عندما عرفت معناه بعد أعوام سألت نفسك في براءة سلحفاة، هل نحن كفار؟ مثلنا مثل الشياطين وأرواح الظلام، يرمي بنا في الحياة القادمة في النار! سألت أيضا زوجك محمدا الناصر: لماذا حرقت القرية وقتل الماجوك، لكنه كالعادة أجابك بقبلة عميقة، امتص فيها شفتيك، كأنه يود ابتلاعهما، لقد كنت تقدرين موقف أخيك ملوال، أخوك الأكبر عندما انضم لجيش الحكومة في 1982 من أجل وحدة الوطن، من أجل أن تنام عصافير غابات المانجو في الجنوب، من أجل شتلات البرتقال في الغرب، من أجل أن يرعى بعيرا بين أشجار الأراك في الشرق، من أجل أن تنضج ثمار الباباي، لكي يفطر بها الأطفال، الأطفال السمر وهم يقبلون الشمس غدا، غدا القريب من أجل تمرة في الشمال، تمرة يتقاسمها أطفال الخلاوي وهم يرتلون سلام الله، كان يرى - هذه وجهة نظره - أن لا سبيل إلى الوطن الآمن إلا من خلال الجيش المركزي، جيش الحكومة! وهذا نفس ما كان يراه أخوك الأصغر ماجوك، الذي انضم إلى جيش الغابة، من حقك أن تسألي محمدا الناصر، أو جعفرا سؤالك لنفسك: لماذا يحارب جيش الحكومة باسم الله والدين؟ هل أخي ملوال - وهو يؤمن بالماجوك وكجوره - الآن يحارب مع جيش الحكومة، هل هو يحارب باسم الدين أيضا، بأي دين؟ أم هو يحارب باسم الماجوك، كيف؟ هب أن ملوال قتل في هذه الحرب، أيدخل الجنة، أم يدخل النار؟ هل يموت شهيدا أم يموت كافرا؟ إذا ضد من يحارب ماجوك؟ إذا ضد من يحارب ملوال؟ ضد من يقف الله؟ مع من يقف؟ وأنتما تعرفان أن أخي ماجوك الذي بجيش الغابة هو المسلم الوحيد بالأسرة كلها، لكنك يا مليكة يا امرأة الرصاص والبافرا لا تجدين من يستمع لصرخات سؤالك غير رأس واحدة، مدفونة بالرمال، رأس محمد الناصر أحمد، زوجك، أما جعفر مختار نفسه فإنه دائما ما يؤكد لك أن أطلقي علي الرصاص، ولا تسأليني سؤالا لا إجابة له، تذكرت جعفرا، جعفر مختار، قلت لنفسك: جعفر يعرف كل شيء، لكنه لا يفرط في سبيله لأحد، كان صوت محمد الناصر يأتيك من داخل مكتبته: الشاي، الشاي يا مليكة.
ثم فاجأك كعادته: أريدك الآن! في هذا الآن بالذات. - هل جننت؟ - لماذا لا تذهبين معي للفراش؟
قرأت من ذاكرتك خطاب ملوال، وأنت بين ذراعيه توقفت كثيرا عند عبارته: أنت تعرفين يا مليكة أنني ما أزال في دين دينق، ومعي في الجيش الأرب، وهم مسلمون والأغلبية، ومعنا مسيحيون وهم من قبائل النوبة والجنوب أيضا، لكن ما يحدث في هذه الحرب حيرني يا مليكة أختي، أهي حرب للمسلمين ضد جيش الغابة؟ أهي للمسلمين ضد المسيحيين؟ أهي حرب للمسلمين والمسيحيين ضد المسلمين والمسيحيين؟ أهي حرب ضد الغابة، ضد الصحراء؟ أهي حرب سياسية؟ أهي حرب؟
حقيقة أنا محتار يا أختي مليكة، إن هذه الحرب غير مفهومة إطلاقا، أنا خائف، خوف لا أفهمه أيضا، فاجأته وهو في ذروة نشوته: ما هو رأيك في الحرب؟
فضمك بشدة إلى صدره، أصدر مواء باهتا، عرق قليلا ، قبلك، كان القذف عنيفا وقويا، قعقعة الرشاشات لا تزال تضج في رأسك، تراخت ذراعاه، ثم نام.
عندما رأيته أول مرة قرب زجاجة العرق، في تلك الأمسية، ما كنت تصدقين حتى ولو همست في أذنك عرافة قائلة: ذلك الرجل ذو البشرة الصفراء النحيف، بشعره الكث، المبعثر، نظراته القلقة، سيجارته المطفأة دائما، سيكون زوجك، وستنجبين له بعد سنة من الزواج رياك، ثم بعد عامين آخرين ابنة خلاسية جموحة أجمل من جداتها كلهن، شماليات كن أو جنوبيات، فاجأك قائلا: هل تتزوجيني يا مليكة؟
قلت بعفوية: لا، لا ...
قال لك وقد فاجأه عنف رفضك: لماذا؟ هل أنا قبيح إلى هذه الدرجة؟
قلت كالمنومة لكن بصدق كبير: لا، لا.
أنت عرب ونحن دينكا.
نحن دينق وأنت محمد.
نحن جنوب وأنت شمال.
ضحك، ما زلت تتذكرين تلك الضحكة التي زعزعت إيمانك بكل ما تعلمته من جدتك ذات السن الواحدة والأعوام التسعين، نياندنق، ضحكته التي تخافين منها وتعشقينها، في ذات اللحظة، تهربين منه خلف بيوت الخيش والطين اللبن وأكواخ الصفيح، وتسلمينه مفاتيح لذتك، في ذات الوقت الذي ما كنت تدرين فيه هل الذي أمامك الشيطان أم هو الملاك؟ أم مجرد ضحكة، ضحكة دمرت كل الثابت والمعروف المعطى البديهي والمؤمن به؟ ضحكة شردت بلادة طمأنينتك وغربتك للأبد، أولا كان الاختلاف: أين وكيف يتم عقد القران؟ في الكنيسة أم في الجامع، أم عند الكجوري الذي هو راعي القبيلة بالمدينة؟ وكان رأيك واضحا: أنا لا أذهب إلى الكنيسة ولا إلى المأذون، أنا ديني هو دينق.
لكنه كان ذكيا وخبيثا في ذات اللحظة، عندما أقنعك بأنه سيتزوجك مرتين: عند كبار قبيلتكم وشيوخكم والكجوريين، ولو أنه أضاف: لكنني لا أستطيع أن آتيك ولو ببقرة واحدة، فأنا فقير، لا أملك ديكا، ثم قال إنه سيتزوجك مرة أخرى عند المأذون زواجا إسلاميا بشريعة محمد، فقبلت، قبل أقاربك الفكرة مؤكدين أنهم لا يتنازلون عن الأبقار، يعتبرونها دينا في عنق محمد الناصر وفي عنق أبنائه من بعده إلى حين يتم دفعها.
فقال مبتسما: لا بأس أن يدفع الأحفاد نصيبهم من مهر جدتهم مليكة، هذا غاية العدل، في الحق يا مليكة شول مادنق، كنت ستوافقين على الزواج من محمد الناصر بدون قيد أو شرط لأنه لا وقت لديك للعقيدة، العادات والطقوس، فقد كنت فقيرة مشردة، لاجئة، تعلمت في هذا الواقع أن بلدا غير بلدك، امش فيه عريان.
لا تنكرين أيضا، حبك الجنوني له، حتى إنه عندما قال لك: أنا لا أعرف لي أبا، وأمي امرأة غنية ومجنونة تكرهني، ربما أنا أحبها ولا ألومها على شيء، لا أعرف عن حياتها شيئا غير الهوامش، لم تتمكني من فهم قوله، أو ما كنت في حاجة لفهم ما يقول، طالما لا يوجد شيء يمنعه من الزواج بك، عندما قال لك: أنا متزوج من امرأة سمينة بيضاء البشرة، أمها أخت أمي.
قلت له: الدينكا أيضا مزواجون، سأحترمها كأخت لي كبيرة، كما علمتني نياندنق سأطيع أوامرها، وسأخدمها، إلا أنه عندما فاجأك ذات يوم قائلا: لقد طلقت اليوم نعمة زوجتي.
لا تنكرين فرحتك الكبيرة حينها، التي لا تحدها حدود الأخلاق أو التربية والتقاليد، فرحتك التي تهدمت تحت مناكبها كلمات نياندنق، وآلاف الحكم التي تمجد امرأة الزوج الكبيرة، قلت في نفسك: الآن، الآن أمتلك رجلا كاملا، رجلا لي وحدي، ثم قلت وبعينيك غنج حلو: هل ستتزوج امرأة أخرى؟
قال مسالما كحمل يشتم عشبة برية غريبة: أنت المرأة التي كنت أبحث عنها في النساء، حتى في نعمة نفسها.
ثم حدثك عن جعفر، جعفر مختار، عن مدن كثيرة زارها، وجعفر في الشرق والغرب والشمال، أيضا في الجنة، قال لك: لا يعرف أحد عمر جعفر بالضبط، لكنه يقول إن عمره يتجدد بشكل مستمر إذا التقى امرأة جميلة أحس في قرارة نفسه أنه كان يبحث عنها، وعمره يتساقط بشكل مستمر إذا اكتشف أن المرأة الجميلة التي التقى بها قبل قليل كانت المرأة الزيف، المرأة التي كان يهرب منها، فقلت له بكبرياء وغرور: إذا عمرك سيتجدد الآن؟
قال مندهشا: أحقا ما تقولين؟
حدثك عن بلد لا نساء فيها، عن بلد كلها رجال، عن رجال ينجبون الأطفال، نساء لا يلدن، وقال لك: هذه بلاد لا يحلم بها جعفر مختار، فتأكد لك أنه قد نعس، وحكى لك عن أشياء مما اعتبرتها فيما بعد كراماته، وما يدل على أنه رجل صالح، قام، تبول، اكتفى بشبح ابتسامة وهو يقول لك: ماذا يعجبك في؟ قلت له: الإنسان، قال لك: أتدري ماذا يعجبني فيك؟ قلت وأنت تضحكين من أعماقك: أعرف.
لكنك فيما بعد وددت لو أنك قلت له: لا أدري.
حدثني بما يعجبك في، ربما كان ما يعجبه فيك أمرا مخالفا لما في رأسك، هل كنت تعرفين أن هنالك شيئا بعينه يجذبه إليك؟ كانت جدتك نياندنق تقول لك دائما: رجل الدينكا يحب المرأة ذات الساقين الطويلتين والأذرع الفروع اللينة، والعنق الطويل لأنها ستنجب له أولادا أقوياء، لهم قامات مديدة كأشجار المهوقني، أقوياء يصرعون أقوى الثيران، بقبضات أيديهم.
أشعل سيجارة، أطفأها، صلى المغرب، ذهبتما لسينما القصر حيث شاهدتما فيلم الشبح الأمريكي، قال لك: جعفر رجل جميل، إنسان سيحبك كثيرا؛ لأنه بلا شك يعرف عنك الكثير.
لكني لم أره من قبل ولم يرني.
هذا ما يؤكد أنه يعرفك، فكلما كان عنك بعيدا هو قريب منك، بصورة لا تتصورينها، أنا أعرفه جيدا؛ لذا أجهله جدا؛ لأنه صديقي فهو أغرب الناس عندي!
عندما بدأت تفهمينه صمت قليلا، ثم توضأ فصلى صلاة العشاء، كالعادة تناول النشا الذي أعددته له من الذرة والعسل، ثم أخذ يصلي مرة أخرى، بعد أن فرغ من صلاته الأخيرة بدأ برنامج تعليمك أصول الدين الإسلامي، كعادته كان حرا وهو يقول لك: ليس واجبا عليك أن تدخلي الإسلام، أنا أعلمك من أجل ألا تجهلي شيئا مهما في حياتنا اليومية في هذا البلد، أما معرفتي أنا بكجوركم لا يلزمني الإيمان بها واعتناقها، كنت تجلسين أمامه كتلميذة نجيبة تحب معلمها وترهبه في الوقت نفسه، عندما سألته عن دين الأولاد؟ قال: دعيهم يكبرون أولا، يثقفون أنفسهم، ثم يختارون دينهم أو ديانتهم، نحن أنجبنا أجسادهم، والله هو الروح، وهو الجسد أيضا وله شأنهما، فلن نقيد أحدا بخياراتنا، دينهم لهم هم، ملكهم وهم ملك الله، ثم أضاف: إن احترامنا لأنفسنا يحتم علينا احترامهم، ثم قال لك ذات يوم: هل تتحرجين إذا حدثتنا منى عن فتاها رجل الشجرة؟
ونادى ابنته منى، جلست قربه بأدب محاولة جذب فستانها القصير لأسفل بعض الشيء، وكان بوجهها قناع أبيض من كريم لا تعرفانه، له رائحة قريبة جدا من رائحة الكبريت، وكانت نفاذة وكريهة فسألها: ماذا بوجهك، هل هو كبريت؟
قالت في دلال: إنه خلطة من كريمات كثيرة، من بينها الكبريت وبعض مراهم العيون والفيتامين. - إذا ما فائدتهما؟
قالت بصراحتها المعهودة: كل البنات يفعلن ذلك، إنه يجعل الوجه أبيض وناعما وشجعني على ذلك رجل الشجرة، رجل الشجرة نفسه، نعم يا أبي؛ لأنه أكد لي أن جمالي سيتضاعف إذا فعلت ذلك، وأنه سيحبني أكثر. - وهل ستواصلين في ذلك؟
قالت وفي فمها ابتسامة صغيرة: لست أدري، دعني أرى النتائج ولو أن رائحته التي تشبه الفساء تشعرني بالغثيان.
فقلت لها أنت: ماذا لو كانت بشرتك سوداء تماما كبشرتي هذه، هل كنت ستغسلين وجهك بحامض الكبريتيك؟
وحاولت أن تنصحيها بعدم فعل هذا، إلا أنه قال لك: دعيها، ولو أن لونها أصلا في تناسق تام مع ملامحها، وأنها جميلة من غير كريمات، إلا أنه شأنها، والوجه وجهها، دعيها لتتعلم من التجربة، ليس من حقنا حرمان أحد فرصة أن يجرب، أن يكتشف الأشياء بنفسه، وليس أيضا من حقنا أن نسألها: ماذا عن يديها ورجليها؟ ماذا عن بقية جسدها أو من اشترى لها الكريمات؟
ضحكت ابنتك الجميلة وهي تقول: أنا أشكرك يا أبي، ولو أنك تحاول أن تسألني، إلا أنك سألتني الآن، وأنت تعرف معظم الإجابات، فقط أريد أن أقول لك: إن رجل الشجرة الذي اشترى لي هذه الكريمات، ولو أنني أعرف أنك لا تمانع في شرائها لي، إلا أن رجل الشجرة طلب مني ألا آخذ منك ثمنها، وأنه أبسط ما يقدمه لي من هدية هذا الكريم العفن، وإكراما له أنا أستخدمه الآن.
حينما ثرت أنت واتهمت محمدا الناصر وجعفرا بأنهما أفسدا منى، أفسداها تماما، وقلت له بشكل قاطع: ليس للأطفال حرية، فهم لا يعون شيئا ولا تجارب لهم، ولا يفهمون ولا يعرفون ما يضرهم ويصلحهم، وأننا مسئولون عنهم، لكن رد عليك بكل ثقة: لذا دعينا نعطيهم الفرصة للمعرفة، والتجربة هي سبيل المعرفة، ليس الكلام وليس الضرب، كما أن منى لم تعد طفلة، ولا حتى رياك طفلا، تذكرت جعفرا، جعفر مختار، وكنت بحجرة النوم عندما كان هو وزوجك يلعبان الشطرنج بالصالون، بين الحين والآخر تسمعين غناءهما، كان غناء حلوا، ولم تسمعي به من قبل، قلت لنفسك: ربما ألفه جعفر ولحنه محمد الناصر، لكن في الحقيقة لم يؤلفه ولم يلحنه الاثنان، لكن رجلا راعيا بقرب النهر، هو الذي قام بتأليفه وتلحينه أيضا، وسرقه منه جعفر وأتى به إلى محمد الناصر، ولو أن محمدا الناصر رفض غناء اللحن في بادئ الأمر، مدعيا بعدم شرعيته لأنه مسروق، إلا أن جعفرا أقنعه بأن الراعي نفسه قام بسرقته من أغنامه، قام جعفر بتحليل نغمات اللحن ورجعها إلى أصولها التي لم تكن سوى ثغاء ونباح ونهيق حماره العجوز الأزرق، مضافا إليه حفيف الريح وزقزقة ود أبرق، واقتنع محمد الناصر وغنى اللحن، ثم أخذا في الرقص، وأيضا ما كان محمد الناصر يريد أن يؤدي رقصا مسروقا، لكن جعفرا حلل له الرقصة، أعاد حركاتها إلى أصولها الأولى، ولم تكن سوى بصبصة ذيل كلب الراعي، ونوس غصن كان يظلله دائما، ورفسات حماره بالجوز في الهواء، عندما يشبع من ثمار شجرة المسكيت، واقتنع محمد الناصر ورقص، ثم أخذا في إنشاد الكلمات شعرا، وأيضا ما كان محمد الناصر يريد أن ينشد شعرا مسروقا، لكن جعفرا أقنعه بالإنشاد، بعد أن قام بتحليل الكلمات وبنية النص، وردهما إلى أصولهما من الطير والقرآن والماء، تذكرت جعفرا مرة أخرى، كان الوقت منتصف الليل عندما استيقظت على إحساس بأن ماء رجل قد قذف فيك، وكان محمد الناصر نائما يشخر بانتظام، فتأكد لك أن ذلك من فعائل جعفر، وقلت لنفسك لا بد أنه الآن يستمني في بيته؛ لأنك تدركين أن جعفرا إذا استمنى على صورة سيدة ما، فإن ماءه سيدركها أينما كانت، فأيقظت محمدا الناصر، وأريته ماء جعفر الذي ما زال يسيل منك، فضحك وهو يقول: خائن، سأنتقم منه غدا.
ثم نام ليعود إلى شخيره بعد لحظات وجيزة، كنت تعرفين أي نوع من الانتقام سيطبقه محمد الناصر على جعفر، لا شيء، فقط سيجبر محمد الناصر جعفرا على غناء أغنية هابطة ورقص إيقاعها المستهلك، ثم يذهبان إلى شاطئ النهر ليلتقيا بالراعي العجوز وأغنامه وولد ابنته المشاغب الكسول، أو يلعبان الشطرنج وهما يغنيان لحنا مسروقا آخر، لقد كان جهدك عظيما يا مليكة شول في أن تجعلي من ابنتك منى سيدة مجتمع فاضلة، مربية تربية قبلية محافظة، كنت تودين أن تخلقي منها سيدة دينكاوية في ملامح شمالية، إلا أنها كانت دائما منجرفة خلف والدها محمد الناصر، بجنون فعلي، إنها تحبه وترى فيه مثلها الأعلى، ولا ترى فيك غير سيدة قديمة من بقايا عصور ما قبل التاريخ، ولو أنها تحبك أيضا لكن أبدا لم يقنعها أسلوبك في الحياة، ذلك الأسلوب المحافظ. قلت لمحمد الناصر: ما هو رأيك في الحرب؟
دفن وجهه بين نهديك يشمم عبقك الأنثوي القوي وهو يقول لك بصوت طائش ويتحسس بأنامله الخرزات المنظومة حول خصرك: إن الله مع الجانبين، إنه على كل شيء قدير.
لكنك أيضا لم ترحمي ضعفه، فقصصت عليه قصة الجدي وأسد الأبقار الجائع، التي حكتها لك جدتك نياندنق، كان أسد الأبقار العجوز يعاني من جوع مستطير لازمه ثلاثة أيام بلياليها الباردة الطويلة، فكان تعبا ومرهقا ليس لديه أي مقدرة لمطاردة فرائسه، بل هو نفسه قد يصبح فريسة لحيوان جبان، مثل الضبع، إذا علم بأن لا قدرة للأسد العجوز، فدعا الأسد العجوز ربه أن يرزقه مأكلا، أثناء ما هو يجرجر أقدامه بين شجيرات الغابة، إذا به يرى جديا جريحا تحت شجرة، فعندما نظر الأسد إلى الجدي، حاول الجدي أن يهرب، لكنه لم يستطع لأن قائمتيه الخلفيتين مكسورتان، فدعا ربه دعاء سريعا بأن ينقذه من الأسد العجوز الجائع، ثم سألت جدتك: تخيلي ماذا ستكون نهاية القصة؟ ولا تتسرعي في الحكم، متبعة العاطفة.
قلت: لا أعرف كيف تكون النهاية.
قالت لك وهي تبتسم ما أمكن: هذا ليس بامتحان للرب، لكن إما أن يكفر به الأسد إذا تمكن الجدي من الهرب، رغم جرحه وقائمتيه المكسورتين، وإما أن يكفر الجدي إذا تمكن الأسد العجوز من التهامه رغم دعواته الصادقة النابعة من رعب حقيقي ومؤكد، إذا بقدر كفر الأول يكون إيمان الآخر، قال لك محمد الناصر: أرجوك لا تسأليني مرة أخرى، وإلا سأعتبر سؤالك لي عن الحرب ليس سوى دعوى صريحة لمطارحتك الفراش، وهذا يتنافى مع تقليديتك ومحاولتك أن تظلي امرأة خجولة، هل اتفقنا على ذلك؟ فقلت له بإصرار: لا.
قال: فلنعتبر ذلك إعلانا للحرب من جانب واحد، وإعلانا للحب من جانب آخر، فأعدك بأنني لن أكسر بندقيتك، وأرجوك ألا تقتلي حمائمي. لم تهمتي كثيرا بقوله، أو لم يحرك فيك قوله ساكنا، واعتبرت أن ذلك ليس إلا أسلوبا جديدا للهرب ودفن الرأس في الرمال. طلقة جيم ثلاثة طائشة جرحت ماجوك في رأسه وكادت أن ترسله إلى سلفه، في حياتهم الأخرى تحت الأرض، إلا أن أرواحهم المباركة دفعت به مرة أخرى نحو الحياة الدنيا فعاش، لكنه ظل طريح الفراش لشهرين بمستشفى الميدان المتنقل تحت قعقعة الرشاشات، قذائف الهاون، ورعب الصمت الموقوت.
وعندما أرسل إليك طالبا أن تزوريه بالميدان؛ لأنه يريد رؤيتك أنت بالذات قبل أن يموت لم تذهبي، فكنت خائفة من أن تتهمي بالتخابر مع جيش الغابة، وأيضا تخافين الموت، وأشياء أخرى مخبأة فيك مدفونة في عمق سحيق، وما أكثر ما هو مدفون في صدرك الناهد يا مليكة شول مادنق، حسناء الدينكا!
كان دائما ما يحكي لك عن جعفر، وفي الحق أنت لا تعرفين جعفرا جيدا، وما هو جعفر بالنسبة لمحمد الناصر، هل هو صديقه أم هو أخوه، أم هو أبوه، أم ابنه؟ من ابن من؟ من منهما أكبر عمرا؟ لأن لا أحد بإمكانه تقدير عمر جعفر، مجرد تقدير، غير أن جميع الناس يتفقون على أنه ليس طفلا، وليس مراهقا، كما أنه ليس عجوزا هرما، قد بلغ من الكبر عتيا، لكنك كنت متأكدة بما لا يدع مجالا للشك، أن محمدا الناصر زوجك، هو تلميذ وفي لجعفر، ولو أنه قال لك ذات مرة: أنا تلميذه وأيضا أستاذه!
الساعة تشير إلى الواحدة صباحا، ولا أثر لرياك، فما كانت من عاداته أن يتأخر لهذه الساعة من الليل، فكنت قلقة بشأنه، ولو أن محمدا الناصر كان يقول لك: البلد آمن، ولا يوجد آكلو لحوم البشر بالمدينة، وحتى إذا وجدوا فإن ابنك رياك ليس من النوع الذي يؤكل هكذا بسهولة، كقطعة موز مقشرة، فقد يكون في صالة للهو، أو مع أصحابه يغازلون النساء.
فقلت له نافية: أنت لا تعرف رياك جيدا، فإنه في الآونة الأخيرة أصبح أكثر أبناء الحي استقامة، يكفي أنه يؤدي صلواته كلها في الجامع.
قال لك ضاحكا: الآن يبدو أنك أصبحت مسلمة، أليس كذلك؟
فقلت له: ألم تعلماني أنت وجعفر أن أقيس كل فرد بسبيله التي ارتضاها، وأخلاقه التي أسسها لنفسه؟
إنه يشبه خاله ماجوك في تدينه، وأيضا في ملامحه، كما هي في صورته التي أرسلها لك مؤخرا من يوغندا، حقيقة إنه دائما ما يذكرني بخاله، أخي ماجوك.
قال لك مداعبا: أخاف أن يهرب للغابة هو الآخر. - لا أظن.
أما رياك فيميل إلى أفكار تنادي بها الحكومة، لقد حدثني بذلك هو نفسه، فإنه لا يرى في خاله ماجوك سوى رجل خان وطنه. - أحقا ما تقولين؟
ولم يقل شيئا آخر في شأن رياك، وفضل أن يقول لك إنه - أي محمد الناصر - حاول أن يتعلم تدخين السجائر، لكن لسوء حظه - أو لحسن حظه - فشل في أن يجذب نفسا واحدا إلى داخل رئتيه، ولو أن جيبه لم يفرغ من علبة السجائر المملوءة، وإن كانت سيجاراتها جميعا مشعلة ومطفأة، أشعل سيجارة، أطفأها، تذكر جعفرا، جعفر مختار، قال وكأنه تذكر شيئا مهما: أذكر أنني وجعفرا كنا نسير بشوارع المدينة، عندما لفت انتباهنا - كما لفت انتباه الجميع - رجل وسيم جدا، يصطحب امرأة في غاية القبح والدمامة، يمسكها من يدها ضاغطا على أناملها الغليظة، بحنان فائق واضعا على شفتيه ابتسامة ساحرة، فقال لي جعفر: انظر هذا أكثر رجل أناني في العالم.
قلت مندهشا: إلا أنه أكثر الناس تضحية، ألم تلحظ تلك المرأة القبيحة التي رغم وسامته يصطحبها غامرا إياها بحنانه وإنسانيته وابتسامته، قال جعفر وفي فمه نصف ابتسامة: إنه ليس وسيما، هذا هو السبب الذي جعله يمسك بهذه المرأة الدميمة، إنه يريد أن يبدو وسيما لا أكثر، خذ عنه هذه المرأة وانظر إليه فإنك لن تجده أكثر وسامة من قرد الطلح! - لكن لم نجرؤ على أخذها منه، له جسم رياضي قوي، كان في ريعان شبابه، مما جعلنا نخمن أنه يجيد الكاراتيه وفنونا قتالية أخرى.
قلت له: هل تقصد أن ابننا رياك تبنى آراء الحكومة للتحسين من صورته هو؟
فقال لك ناكرا: هذا حدث لنا بالفعل بالأمس القريب أنا وجعفر حقيقة، حاصرته بالسؤال: إذا ما هي المناسبة التي دفعتك لقول هذا؟
قال مبتسما: فقط كنت أود أن أحجيك، أحجيك لا أكثر، ألا تحبين الأحجيات؟
حياتكم الخاصة لغز محير لدى جميع سكان الحي، بل المدينة جميعا، حتى جيرانكم الأقربين لا يعلمون علم اليقين في مسألة ما تخصكم، حتى إبراهيم عبد الله ضابط الجيش جاركم الذي ما داخلتكم أسرة من المدينة كما داخلتكم أسرته، خاصة ابنه عبد الله، الذي اكتشفت مؤخرا أنه رجل الشجرة الحقيقي، حتى هو لا يعرف عن أسرتكم شيئا مؤكدا، ولا عن منى التي يحبها، غير القشور: أسماءكم، أبوابكم ونوافذكم، ألوانكم، ملامح وجوهكم، ملابسكم، لكن اللباب فهو مجهول وعصي الاستدراك، أنتم ثرثرة النساء في الأفراح والمستشفيات والمواصلات العامة: ما دينهم؟ منى مسيحية، منى لا دينية، مليكة شول مادنق تعبد الكجور، محمد الناصر مسلم لكنه زنديق، إذا كان هنالك خليفة مسلم لشنقه كما شنق الحلاج والأستاذ محمود محمد طه، أما رياك، كانوا يقولون عنه يهودي، وذلك قبل انقلابه الأخير، الذي أسماه أهل الحي بعده ب: الإمام رياك رياك ، نفس الأشخاص الذين حاولوا من قبل تزوير أب لزوجك محمد الناصر، حاولوا تزوير أب لابنك رياك؛ لأنهم يرون أن محمدا الناصر الزنديق لا يصلح كأب لرياك التقي، فأسموه رياك رياك، ثم حاولوا تغيير اسم رياك إلى اسم عربي، لكن رياك أقنعهم أن اسمه هو اسم عربي، وهو مشتق من كلمة ريا التي تعني رائحة، والكاف ضمير، إذا ترجمة اسمه هي عبيرك أو عطرك، فأخذوا ينادونه: رياك رياك، بدلا من رياك محمد الناصر، حتى تستريح ضمائرهم ويخرجون من مأزق أخلاقي آخر دفعهم رياك إليه بسلوكه الديني القويم، وفهمه السياسي الذي يتماشى والخط الحكومي العام، قال البعض عنك: مليكة شول جاسوسة، وليس كما يعرف أن محمدا الناصر التقطك من حانة بالعشش، كنت حينها تقدمين كئوس المريسة للندماء. - لا. - لكنك كنت جاسوسة تعملين لحساب جيش الغابة، تسكنين بقشلاق الجيش، تنامين في استراحة ضباط الجيش، وسكنات رجال الاستخبارات الحربية، يضاجعون جسدك، وأنت تناكحين أفكارهم، وذاكرتهم وأدراجهم، ومع مائهم يدفعون إليك بالخطط العسكرية، وترحلين لتفعلي العكس، في معسكرات جيش الغابة، فعلت ذلك عند حصار مدن توريت، والناصر، وجوبا، فكنت سببا في إبادة كتائب بأكملها من جيش الحكومة.
فعلت ذلك في حامية فارينق، وكنت سببا في سقوطها في أيدي جيش الغابة، ومرة أخرى في نملي. - كذب كذب! - وأنت يا مليكة شول مادنق، أيتها الدينكاوية الفارعة الطول كزرافة، ممتلئة الردفين بأطفال خلاسيين، أيتها الزنجية الحسناء، ليس بقلبك الذي يسع عشرة من الأفيال الأفريقية غير دينق، ثمار البافرا، والباباي، أباب دير، و...
محمد الناصر.
بقلبك الوطن، هذه البلاد الكبيرة، المخيفة.
بعد تلك اللحظة الحاسمة، لحظة سماعك انفجار القذائف في ساحات البيوت، في التوج واللواك، في الأكواخ الصغيرة المبنية من أحطاب التك والخيزران، في أوعية السمن وخمارات العجين، بيت الماجوك الكبير، في رأسه الأصلع القديم المشحون بالقيم والمثل والحكم، المشحون بجمال الإنسانية، في صحاف اللبن، في قرع المريسة والكنومورو، في صدور الأطفال الصغيرة البريئة، في قلوبهم، في تلك اللحظة هربت، هربت ومن تبقى من المجزرة إلى أمكم الغابة، لكن ما كان بوسع أمكم التي استبيحت هي الأخرى في تلك الليلة، ما كان بوسعها أن تحميكم، فقد زيفت مخابئها، خيرانها وأعشابها المتشابكة، إلى كمائن لاصطيادكم، وفعلا وأنتم تهربون نحو خور الخرتيت الآمن، إذ تدخلونه فقد دخلتم مصيدة جيش الحكومة، فنقلتم في شاحنات كبيرة نحو مدن قيل لكم: إنها آمنة، بالشمال حيث رأيت لأول مرة مساحة لا يحدها البصر من الأرض الرملية الصفراء، لا نبات فيها غير عيدان شوكية لها أشكال مخيفة، وعرفت أنها تسمى الصحراء، وشاهدت غابات من البرتقال والموز والمانجو محاطة بأسوار من السلك الشائك، سألت؟ قيل لك: إنها جناين.
وعندما سألت: لماذا محاطة بهذه الأسلاك، ألا توجد بها أفيال وزرافات قد تؤذيها هذه الأسلاك الشوكية؟ فقيل لك: هنا لا حيوانات، حتى القرود لا توجد، وإذا وجدت فإنها تباع للزينة والتسلية، نعم يا مليكة شول، هذه البلاد التي استقبلتك باغتصابك وأنت لم تبلغي الحلم بعد، هذه البلاد الغريبة، هي أيضا امتداد لوطنك، امتداد لما بعد الغابات والأفيال والزرافات، امتداد لما بعد الدينكا والشلك والنوير واللكويا، امتداد لما بعد جون وتابان وأكول وتريزا وشول وأشول ودينق، امتداد لما بعد التوج واللواك وأباب دير، ليست هذه هي المرة الأولى التي ترين فيها العرب، ولو أنها المرة الأولى التي هم فيها بهذه الأعداد الكبيرة، والسحنات المختلفة المتباينة الغريبة، فقد رأيت في السابق المندوكرو، وهم يعملون بالتجارة، وكان يعمل في خدمتهم أخوك ماجوك، وهم الذين أدخلوه في دينهم الإسلام، وكانوا يسكنون بالمدينة الكبيرة، وهم طيبون ومسالمون ويحبون الناس ولا يؤذون نملة، يصلون ويشربون عرق الموز وعرق الطعمية، يأكلونه باشتهاء، ويدخلون في دينهم من أراد، ولقد حدثك ماجوك عن دينهم فقال: دينهم فيه محبة ولا فرق بين مندوكرو وأي مواطن آخر، لكنهم يقولون: إن شرب المريسة والعرق حرام، ويصومون أياما كثيرة في السنة، وهذه أصعب الأشياء في دينهم، وليس هنالك ما يفوقها صعوبة غير الطهارة، ولو أنهم كانوا يتزوجون منكم ويزوجونكم بناتهم، إلا أن الأمر في هذه المدن الجديدة مختلف، فهنا أنت مواطنة من الدرجة السادسة ولا يمكن أن يتزوجك مواطن محترم له مكانة ما، ويستحيل أن يرضى أحد سكان هذه المدن إعطاء ابنته كزوجة لأحد أبنائكم مهما علا شأنه عندكم، ولو كان ابن ملك الدينكا، أو حتى ولو كان الماجوك نفسه، أو كان ثريا يمتلك مراحات من الأبقار لا تعد، ولو استحم ببول عشر من الثيران وخضب رأسه به، هنا لا يساوي شيئا.
قلت: ولو اتبع دينهم ولبس جلابيبهم وقرأ مدارسهم وعرف معرفتهم، وتطهر كما فعل أخي ماجوك؟
قيل لك: حتى ولو قشر جلده.
وعرفت أيضا أن بعض المتطرفين منهم يسمونكم علانية: عبيدا.
حقيقة أحسست حينها بالمرارة، مرارة الاغتصاب.
فقلت إذا: كيف يصبح هذا المكان الغريب امتدادا لبلدي؟
مليكة شول مادنق، لقد رأيت بأم عينيك أتم - ابن زعيم قبيلتكم مشار - رأيته يعمل خادما في المنازل، يغسل الملابس لرجال مثله ويكويها، بل يكنس الأرض وغرف النوم لنسائهم، يقشر البصل، يغسل ملابسهم الداخلية، ثم ينام في المخزن مع الكلب والفئران.
أتم، الذي ما حلب في بلادكم بقرة لأطفاله، ما قشر قصبة عنكوليب لنفسه!
رأيت ثم رأيت.
ثم وجدت فجأة منفذا للفرح في هذا العالم الجديد، عالم العرب، فأنت الآن تجيدين لغتهم، كتابة وقراءة، تحفظين سورا بكاملها من كتابهم القرآن الكريم.
أنت التي حينما سمعت لأول مرة بعضهم يتحدث لبعضهم قلت لنفسك: إنهم لا يعرفون الكلام.
وبدأت في الحق تؤسسين لموتك، موت طويل وعميق، موت كله سلام، تزوجت محمدا الناصر، أنجبت رياك، ثم منى، فتمازجت في دمك ريح الجنوب والشمال، لكن هذا لم يغير شيئا في نظرة المدينة إليك، ويكفي موقف جارك ضابط الجيش إبراهيم عبد الله في مسألة زواج رياك من ابنته ياسمين، وموقف نفس الرجل من مسألة زواج ابنه عبد الله من ابنتك الجميلة منى، لكن جعفرا أكد لك قائلا: الإحساس والشعور بالمواطنة حق لا يعطيك إليه الآخرون، إنه مثل الحرية والعبودية، أنت التي تحققين شرط مواطنتك وحرية ذاتك، وأنت التي تفرضين هذه الشروط على الآخر، الحرية والمواطنة تنبع من الذات، من غور عميق في النفس، أبدا لا يستطيع أحد أن يوحد وجهات نظر الآخرين تجاهه، لكنه بلا شك يستطيع أن يوطن نفسه، فارضا حريته على الآخرين مع اختلاف وجهات نظرهم، فأنت في نظرهم خادم، وهم في نظرك ليس أكثر من جلابة.
وأنتم جميعا في نظر محمد الناصر: مصارعون خارج الحلبة، وأبطال خارج النص.
أنتم في نظر محمد الناصر: شماليون وجنوبيون، تحتاجون لجحيم يصهر عظامكم في عظامكم، ولحمكم في لحمكم، ثم يستحيل هذا الجحيم غولا رحيما عطوفا كالأم، ليبذركم مرة أخرى في طول البلاد الكبيرة وعرضها، يبذركم كأشجار الباباي، ذكر وأنثى.
مليكة شول مادنق!
تجدين نفسك بين الحين والآخر كغزالة بين رصاصتين: رصاصة أمامك في الغابة، رصاصة خلفك في جيش الحكومة، أيتها انطلقت أصابت قلبك الكبير.
تخفين هذه الأحزان عن زوجك محمد الناصر، وتظهرين له في وجهك مسرة، هي في الأصل صرخة لجراح في غور روحك عصية.
هي في الأصل حريق لغابات المهوقني، القرود الجميلة، الخراتيت الكسولة والبافرا.
هي في الأصل صدى ضد طلقة اخترقت جمجمة أبيك شول وأنهت تسعين عاما من حياة جدتك ذات السن الواحدة.
هي في الأصل دخان حريق قريتكم الوادعة في حضن الغابات.
هي في الأصل موت لأباب دير، للتوج، للثيران الخاصة، للونسة، لحفلات البلوغ، لرقصة الثور، لغناء شاب يريد الزواج، لمجالس شيوخ القبائل وحواراتهم الذكية.
هي في الأصل: موت لفتاة تزين نحرها بالخرز البهيج لتستقطب فتاها للفراش، موت للفراش المهيأ.
هي في الأصل موت لأطفال يلعبون تحت ضوء القمر في الغابة المجاورة، وعندما جاعوا اقتنصوا الأرانب البرية، أو لحسوا عسل القنطور، هي موت لعسل القنطور الأسود، موت للقنطور، ابتسامة.
هي في الأصل لحظة تؤرخ لترح قادم، فرح عميق.
هي في الأصل وعد الله بالسلام الدائم في قلبك، هي موت للسلام الدائم في قلبك أيتها المرأة السوداء الجميلة، قلب الآبنوس ذات العنق العاجي المزين بالصدف والخرز الملون، ذات الأرداف الخصبة، المليئة بالأطفال الخلاسيين واللذة الموقوتة، يا امرأة الرصاصتين، لك الله.
لك فيل من القبلات.
ولك أيضا محمد الناصر الذي عندما قالوا له: إن زوجتك جاسوسة قال وهو يشعل سيجارة، فأطفأها، ويتذكر بين الحين والآخر جعفرا، جعفر مختار: إنها قضيتها، ولها أن تحارب بما شاءت، ومن حقها أن تتحمل نتيجة التزامها هي إذ ترى نفسها بطلة، ترونها خائنة!
فليس من حقكم أن تحكموا على الآخرين انطلاقا من ثوابت أخلاقكم الخاصة وفهمكم السياسي، طالما كانت ليست أخلاقها وليس فهمها.
وكنت في ذلك الحين تضعين الكسرة لأبنائك وتثابرين على الاطلاع والكتابة.
كنت في الحق مشغولة بالغناء والرصاص، عن الغناء والرصاص، كنت مشغولة بصبحك الآتي عن ليلك الحاضر، وعن ليلك الحاضر بصبحك الآتي، وأنت محتارة في أمرك، هل عندما تفكرين في ماجوك تخونين ملوال؟ وهل عندما تفكرين في الاثنين معا تخونين الحكومة؟ وعندما لا تفكرين في أحد هل تخونين الله؟
تذكرت جعفرا، جعفر مختار، أحسست بحاجة للصلاة - أية صلاة كانت - صنعت لنفسك كوبا من القهوة المرة، تركته مليئا ونمت.
هذا سفر الذي هو: ملوال
من خندق واحد قاتلتم، يد ليد، طلقة لطلقة، قلب لقلب، فما ذنبك إذا وقعتم في كمين نصبه لكم جيش الغابة فخسرتم المعركة؟ وما ذنبك إذا قفز نمر على عنق قائد الكتيبة من على شجرة تبلدي فأرداه قتيلا، ما ذنبك؟ وما ذنب الشجرة؟
لاحظت أنت ورفاقك حركة غير عادية في وسط جنود كتيبتك من جنود المليشيا الملحقين، ثم تشكلت عبر همسات ووسوسات حركة عملية عبرت عن كرهها لكم بالشتائم، ثم وجهت إليكم الاتهامات مباشرة: من منكم أيها الجنوبيون الخونة باع أسرار الكتيبة وخططها للمتمردين؟
من بين أفراد الكتيبة كنتم عشرين جنديا من الجنوب، من الدينكا، من الشلك، من النوير، من اللكويا، ومن الباريا، من بينكم ثلاثة مسلمون، عشرة مسيحيون، وسبع ديانات أفريقية، قال قائلك: ليس فينا خائن أو جاسوس، فلقد حاربنا معكم عشرات المعارك، منذ هطول الأمطار في العام الماضي، وإلى هطول الأمطار في هذا العام، مات منا من مات، عبد الله شول، توج مادنق، دنق لوال، بيتر سعيد، خرتيت، أشول وورل، وغيرهم كثير، كثير، أنتم تعرفون ذلك بالتفصيل، وفي هذه المعركة الأخيرة قتل الرجل الطيب أبونا: أيوم لادو لادو، واختطف المتمردون سامسون آرنستو جوبا، ووجدتموه كما وجدناه معكم مذبوحا على القنطرة قرب النهر، فكيف نكون نحن الخونة؟ أنخون أنفسنا؟!
قالوا: أحدكم جاسوس على الأقل، وكلكم متمردون، تحاربون معنا وقلوبكم هنالك في الغابة، كالذئاب المستأنسة!
وجردتم من أسلحتكم وربطتم تحت شجرة تبلدي عملاقة، التي قفز منها النمر والتهم وجه قائد الكتيبة، ثم أمطرتم بوابل من الرصاص، مطر من الجحيم، ثم حرقتم والشجرة، شجرة التبلدي العملاقة، وكنت قد كتبت من قبل إلى أختك مليكة شول مادنق ما قاله لك جعفر يوما ما، عندما التقيت به في ميدان المعركة ولا تدري من أين أتى وكيف: نفس البندقية التي تطلق النار إلى الأمام، هي نفسها التي تطلق النار إلى الوراء، وبالجنب أيضا فانتبه، عسى أن ترتد رصاصات بندقيتك إلى صدرك، فأنت رجل ميت طالما كنت تمسك بالبندقية، هيا ألقها ونم، وحينها قلت لأختك في خطابك: إن ما قاله جعفر يخيفني، جعلني أتفحص بندقيتي عشرين مرة قبل أن أطلق رصاصها.
لكنك أيضا لم تفهم جعفرا جيدا، فإذا كنت قد فهمته حقا لهربت إلى حبيبتك أببا الحبشية أينما وجدت، اختبأت بين نهديها الدافئين، لكنك رجل بائس، رجل حزين، بائس، كنت وأنت تنضم لجيش الحكومة لتدافع عن وحدة الوطن من الغابة للصحراء، هل حقا أنك التحقت بالجيش لكي تدافع عن وحدة الوطن من الغابة للصحراء؟ هل حقا كنت تفهم ما هي وحدة الوطن؟
هل كنت حقا تفهم ما هو الوطن؟
بل هل كنت تدري أن الوطن يمتد غابات ما بعد الغابات إلى صحاري ما بعد الصحاري والعرب؟
ألم يحدثك قلبك أن وحدة الوطن والتراب لا تعني أحيانا أكثر من الحفاظ على حياة النظام الحاكم؟
ألم يقل لك جعفر: إن وحدة التراب قد تعني أن يضاجع رجل امرأتين في آن واحد، وبنفس العاطفة والتشوق، لكنه لا يصل إلى نشوته أبدا؟ لكنك لا تفهم في الخبائث والسياسة، ولا أيضا في الدين، كنت في 1982 في قمة بؤسك وقمل إبطيك، كنت جائعا مشردا بالمدينة الكبيرة، وكان بإمكانك أن تفعل كما فعل دووت تابان، ولا يكلفك أن تحصل على المال جهد ما، فقط ما عليك إلا أن ترتدي الجلابية، وكل يوم جمعة تصلي في أحد الجوامع، وبعد الصلاة تشهر إسلامك، فتنهال عليك الجنيهات من المسلمين ذوي القلوب الرحيمة وهم يذرفون الدمع، وفي الجمعة القادمة تصلي في مسجد آخر وبعد الصلاة تفعل، وهكذا، تسافر إلى المدن المجاورة والضواحي، القرى البعيدة جدا، أينما تصلي جمعة تشهدك مشهرا إسلامك، ثم تفعل كما يفعل جوون تابان: يا كنيسة الرب، اللي في القلب في القلب.
وطالما لم تكن مسيحيا في يوم ما فستحور القول إلى: يا كجور الرب اللي في القلب في القلب.
ففي نهاية الأمر القلب واحد، والرب واحد، وأنت أنت، وهذه البلاد الكبيرة هي أمك الحقيقية، لكنك رفضت أن تفعل فعل جوون تابان، لسبب واحد بسيط، هو - كما قلت لجوون - إذا ذهبت للجامع سيخنقني الكجور بالليل وأموت، نحن كجورنا صعب.
وكان بإمكانك أن تعمل ببيع السجائر في أماكن تجمع السيارات وعند بوابات المصالح العامة والشركات، وكان بإمكانك العمل كخادم في المنازل تغسل الأطباق، والملابس وتكويها وتقوم بكنس الغرف، كان بإمكانك ... كان بإمكانك. لكنك فجأة تجد نفسك أمام القيادة العامة للقوات المسلحة طالبا تجنيدك في المشاة، قائلا لنفسك: المرتبات مجدية والعسكري محترم ومهاب وله مكانة اجتماعية، فلن يستوقفني رجل الشرطة لأن لا بطاقة شخصية لي، ولن أحمل في الكشة. تذكرت جعفرا، جعفر مختار، كان يقول لك وأنت تحمل رياك الطفل الرضيع بين كفيك: هناك رجلان؛ رجل حر، ورجل عبد، الحر من يبحث عن سبيله ويجدها، العبد من لا يبحث عن سبيله ولا يجدها.
كنتما تتمشيان بين أزقة المدينة، أنت وجعفر، ثم التقيتما صدفة بمحمد الناصر، وكان قلقا، وهو يتلفت مهلوعا بحثا عن الذي ينتظره، حينما رآكما صاح فيكما هاتفا: هل كنتما في انتظاري هنا؟
قلت له: لا بالتأكيد.
قال: إذا اذهبا معي إلى النهر.
قال جعفر: أنا لا أستطيع أن أذهب معك إلى أي مكان كان .
وقلت له أنت أيضا ذلك.
وفي اللحظة التي هم فيها بمغادرتكم إذا برجل أنيق يمشي قربكم، وحوله عشرة من الشبان، وكان واضحا أنهم من طبقة فقيرة، ويعملون بالأشغال اليدوية، وأن حظهم من التعليم متواضع، أما هو فكان مظهره يوحي بعكس ذلك تماما، قلت أنت لجعفر: انظر، هذا الرجل المتواضع، تواضع العلماء.
فضحك وقال إنه أكثر الناس تكبرا وافتراء وجهلا.
ثم شرح لك محمد الناصر بالتفصيل الحقيقة التي يرمي إليها جعفر في قوله، فتعجبت، وتبولت واقفا تحت عامود النور، ثم مشيت مع محمد الناصر إلى النهر.
قالوا لك في الكتيبة: أنت هنا للدفاع عن وحدة التراب.
وفي الحقيقة هذه هي المرة الأولى التي تسمع فيها كلمة وحدة التراب، ولم تفهم ماذا تعني هذه الكلمة إلا عندما استلمت بندقيتك الكلاشنكوف رقم 33400، ثم شحنت والآخرون على متن طائرة حربية، توجهت بكم إلى غابة هي مسقط رأسك، لكن ما الذي جعلك تصر على حمل السلاح وقد علمت أن بندقيتك لن تطلق النار إلا للوراء، للوراء جدا، للوراء الجميل، الذي هو أنت! تذكرت جعفرا، جعفر مختار، ولو ...
إلا أنك لم تتوقف لحظة لتفهم جعفرا، فكنت أول المتقدمين للمعركة تلو المعركة وآخر العائدين منها، أعواما قضيتها ما بين الرصاصة والرصاصة مطيعا للأوامر العليا، ما تحدث قلبك بأمور ملتوية، حقيقة كنت تغامر أحيانا ببعض المال تختلف إلى بعض الداعرات، في أيام السلم تستمني في الميدان، مثلك مثل بقية الجنود، وليس أكثر من ثلاث مرات سرقت لحظات حب مع زوجة صديقك ماكير، تلك المرأة اللعوب.
كنت أميا يوميا لا تفهم حقيقة الصراع السياسي والحضاري والديني بين الجنوب والشمال، وكنت لا تدري ماذا يعني أن يقبل قطب سياسي بالحكم الكونفدرالي، ويرفض قطب آخر، وكنت دائما ما تعجز أيضا عن معرفة الفرق ما بين الحرب والجهاد؟ وكثيرا ما يدهشك تصرف أفراد المليشيات المحلقين بكتيبتكم وهتافهم، هم نفس الأفراد الذين أمطروا قلبك بالرصاص، وهم يهتفون: الله أكبر، تختلط في رأسهم المفاهيم بالحلم، بابتسامة مليكة شول مادنق، بحكمة جعفر وغموض محمد الناصر أحمد، تختلط الغابة بالمجروس والنملة بحذاء جند سليمان، والصحراء بالعشب والنيل والتمر هندي، وثمار البافرا بصراخ الجرحى ودماء الملغومين وأنانيتهم، وصفير الراجمات بنداء البوم الليلي، وصوت أببا بالطين والخرتيت، الصبيات بالبافرا، والليل الطويل بالوطن الممتد من غابات ما بعد الغابات إلى صحاري ما بعد الصحاري، والذئاب المفترسة بالبلاد الكبيرة، بالنخيل، بالبهجة، بالحزن العميق الحلو، بالفجر، بنباح كلاب الحراسة، بالنصر والهزيمة والفراش بالفراش.
بالنحلة الجميلة، بالموت، بالله، بالله ... بالله، السلام الحي المميت.
لم، لم تسأل نفسك: أهي حرب دينية؟
حرب سياسية؟
لم يكن في رأسك معنى للسياسة سوى ما قاله لك الضابط المحاضر: خداع ونفاق ولصوصية.
إذا، إذا كانت حربا سياسية، فمع من أنت تحارب؟ ومن أجل ماذا؟
إذا، إذا كانت حربا دينية، فمع من أنت تحارب؟ ومن أجل ماذا؟
إذا ضد من؟ لصالح من؟
في الحق إنك لم تكلف نفسك عناء هذه الأسئلة، فكنت أول المتقدمين في القتال وآخر العائدين، إذا!
كنت مثل مليكة شول، كنت تؤسس لموتك، كنت مشغولا بموتك عن موتك، مشغولا بالرصاصة عن الرصاصة، لم تجد الوقت الكافي لكي تتخذ زوجة، بيتا أو ولدا يحمل اسمك، لقد كنت مشغولا حقا بشئون موتك، مكتفيا بالعلاقات السريعة مع الداعرات واللاجئات ونساء الطريق، لكن أببا كانت أبقاهن في حياتك أثرا، بغض النظر عن النهاية التي آلت إليها العلاقة، إلا أنك وجدت فيها نفسك، نفسك المشردة ما بين الغابة والنهر.
إذا لم لم تر هذه الرصاصات الغادرة جمال قلبك قبل أن تخترقه؟ فكنت غريبا وبائسا حيران، وأنت تموت مندهشا كطريق مهجور أضيء فجأة ثم أطفئ.
عاد محمد الناصر في ساعة متأخرة من الليل، وبدخوله الصالون وجد ابنته منى الجميلة جالسة وحدها، تشاهد الفيديو وعلى وجهها قناع من الخليط العفن الذي بدأت تظهر على وجهها مفاعيله، حيث أصبحت هامتها وأقواس خديها أكثر بياضا من بقية وجهها، خاصة الشفاه وتحتها قليلا ومحاجر العين، كما أنه جعل وجهها يبدو أكثر نعومة ورقة، رغم عدد ألوانه، ولو أن لون وجهها الأصلي كان حلوا في صفار المانجو البلدي؛ لذا كان يحلو لك أن تناديها: مندكورو شكل منجة.
فبادرت والدها متسائلة: ما رأيك في وجهي؟
قال وهو يحاول أن يعرف ما هو الفيلم الذي جعلها ساهرة إلى هذه الساعة من الليل: إنه كوجه هندي أحمر في احتفال الحصاد كله ألوان.
فقالت له لائمة في رقة: حرام عليك يا بابا، بدلا من أن تشجعني؟
قال ضاحكا: هل وجه الهندي في احتفال الحصاد قبيح؟
لا تنس أنه احتفال بمناسبة الحصاد.
قالت له: أنت تعني المعنى البعيد، وهذا هو أقرب المعاني فحسب، لكنه غير مجرى الحديث.
قائلا: من الذي أتى بهذا الفيلم العجيب؟
قالت له: رياك. - وما الذي يعجبه في الحرب، والحرب بالذات؟
قالت: قال إنه ربما رأى خاله فيه، فهو مصور من ميدان المعركة. - من من أخواله؟
قالت: ملوال، فكما ترى أن الفيلم حكومي.
وكانت لا تدري منى ابنة أختك مليكة، أنك في هذه اللحظات روحا تهيم بين الأسلاف في الحياة الأخرى، وفعلا رأتك وكنت تحمل رشاشة بيدك اليمنى ترفعها في الهواء محييا الكاميرا، أقسمت أنها سمعت صوتك ضمن الهاتفين: الله أكبر، وأعادت اللقطة مرارا وتكرارا بحضور محمد الناصر، ثم بحضور رياك أيضا الذي أكد أنه لا يستبعد دخولك في الإسلام؛ لأنك جندي في حرب مقدسة ضد الكافرين، خاصة أن بصحبتك المجاهدين والدعاة الذين لا يكلون ولا يملون من إلقاء المحاضرات والخطب الدينية، والدعوة للصراط المستقيم هي: ديدنهم.
وقال لأخته منى: كل الناس تجاهد في سبيل إعلاء كلمة الله، إلا أبوك هذا وجعفر، فقالت له وبفمها ابتسامة: وما رأيك في أنا؟
قال وهو يحملق في عينيها: شأنك شأن ابنة الشيطان.
قالت مبتسمة: وما رأيك في حاج صالح الشجيرة، الرجل التقي صاحب الخلوة التي بجانب زريبة المواشي، فهو أيضا لا يعترف بأن المشاركة في الحرب في الجنوب جهادا في سبيل الله؟
قال وقد تضايق من سؤالها: إنه صوفي مخرف.
قالت: ما رأيك في خالي ماجوك وهو مسلم ملتزم، ويحارب الآن بجانب جيش الغابة؟
قال: أنا لا أعرف ما بقلب العابد ، لكنه قد خدع أو قد يكون منافقا، أو أضله الشيطان، من يدري؟
عندما استيقظ محمد الناصر من نومه كان مرهقا وتعبا؛ لأنه لم ينم غير ساعتين، خرج من الحمام، أشعل سيجارة، أطفأها، تذكر جعفرا، جعفر مختار.
ارتدى ملابسه على عجل، نظر إلى الساعة، قال في نفسه: ساعتان قبل ميعاد العمل، صلى، خرج، ما ذهب إلى المصلحة، لكنه سلك أول طريق إلى اليمين، ثم أول طريق إلى جهة اليمين، ثم أول طريق تقع إلى يمينه، وهكذا تاه في دوامة من الطرق المتجهة إلى جهة اليمين، دوامة في البحث عمن ينتظره، دوامة الوهم الحقيقية.
كان يمشي بخطى سريعة خفيفة، كأنه محمول على بساط الريح، وكلما وجد طريقا مشرعة إلى يمينه سلكها، إلى أن وجد نفسه أمام القيادة العامة للجيش، نفس المكان الذي تجندت فيه أنت قبل أعوام مضت، قال لنفسه: سأسأل في مكتب المتابعة عن ملوال، فسألهم عنك: رقيب أول ملوال شول مادنق رقم 199091 المشاة، الكتيبة 19660.
كانت مليكة تغسل الأطباق وهي تراقب بين الفينة والأخرى، بصلا يحمر على الزيت، منى تشعر بتقلصات في الرحم، تبتلع قرص دواء، تبدي ضجرها وهي تستبدل منشفة دم الحيض بأخرى، كانت تود أن تحكي حلما لوالدتها لكنها غيرت رأيها في اللحظات الأخيرة، حينما طلبت منها مليكة أختك أن تعتني بحلة البصل، أو تغسل أواني الطعام، قالت منى إنها تعبانة ومرهقة ومريضة، كانت مليكة تود أن تحكي لابنتها حلما، لكنها تراجعت في اللحظات الأخيرة لأن شكوى منى أجهضت شهيتها للحكي، كما أن ظهور محمد الناصر الفجائي عند المطبخ - وهو أشعث أغبر - كان مثبطا مساعدا، فإذا تجاوزنا الحلم والحيض وجعفرا، جعفر مختار!
وجد محمد الناصر اسمك مكتوبا وغيرك في لوحة الشهداء، التي دله إليها رجل الاستقبال، وعلق عليكم بحبر أحمر مؤثر بأنكم ما بخلتم بدمائكم الغالية من أجل وحدة التراب، وأن لكم الجنة، وأن الرصاصات الخائنة الغادرة التي أصابت أفئدتكم الطاهرة، سيثأر لكم منها إخوة لكم ساهرون، ورقيتم جميعا إلى رتبة ملازم أول.
هكذا أغلق ملفك، وكأن الله لم يخلقك بعد، وكأنك ما زلت كلمة في الغيب تبحث عن معنى، معنى بسيط وسهل.
مليكة أختك كانت قلقة جدا من أجلك؛ لأن حلمها كان يخصك، فتذكرت جعفرا، كان وجه ابنتها قد بدأ ينتظم لونا واحدا هو أكثر إشراقا من لونها الأول، لكنه كان غريبا؛ لأن عنقها الذي يحمل لون بشرتها الأساسي بدا مسودا بعض الشيء، قالت لرياك: اذهب للقيادة العامة، مكتب المتابعة، اسأل عن خالك ملوال، رغم أن رياك كان مشغولا بأمور شتى، إلا أنه لم يمانع في الذهاب، فكان برا بوالدته بالذات فلا يعصي لها أمرا.
وأضافت: لأن أخباره انقطعت عنا، حتى الخطابات التي كان يرسلها لنا كلما وجد من يمليه إياها لم تعد تصلنا، في عودتك من الجامعة اغش مكتب المتابعة، لا تنس.
في تلك اللحظة هطلت أول قطرة من مطر الموسم الجديد، بعد أن ظلت السماء تحبل لأسبوع كامل بالسحب السوداء الثقيلة والبرق، انفجرت بالريح الممطرة، كانت حبات المطر الكبيرة الدافئة تغسل بقايا رمادك، من بين وريقات الأعشاب وشقوق الأرض لتأخذها إلى مستنقعات أباب دير النائمة منذ آلاف السنين، ترضع الحيوانات والناس ماء الحياة، تشحن السماء بالسحب، ترسلها بالريح إلى البلاد البعيدة، وكان ما تبقى من صبية في القرى الجائعة الحزينة الميتة يجرون تحت السماء الممطرة وهم ينشدون.
وما زالت جدات لك شائخات أخطأتهن الرصاصات والشظايا، يذكرن أبناءهن الذين ولدوا في خريف ما، في مثل هذه الأيام مع نزول المطر الأول ويحسبن أعمارهن وأعمار أحفادهن بعدد ما مر عليهن من مطر، وعندما تمر السيول أمام عتبات بيوتهن يذكرن أبناءهن الميتين الذين ستحمل إليهم هذه المياه المتدفقة المهاجرة في عمق الأرض في الحياة النائية أخبار ذويهم، أصدقائهم، بلادهم، الحرب وانتصارات الأشباح وهزائم الريح، وستخبرهم بعدد شجيرات البافرا واليام التي أنبتتها الأرض، وتحكي لهم كيف إذا دخل الجنود قرية أحرقوها وجعلوا أعزة أهلها أذلاء، فإنهم - أي أبناءهم وأسلافهم - بلا شك مستيقظون، قلقون وهم ينتظرون أخبار الأهل والأحفاد.
إذا سيحمل لك رمادك أخبار مليكة شول مادنق وأحوال أخوك ماجوك بغاباته ، سألت مليكة أختك زوجها، وهو يبحث عن مقعد بالمطبخ قرب ابنته الجميلة، التي كانت تمطره بالأسئلة عن أسباب الدورة الشهرية عند المرأة، ولماذا لا تبدأ بعد الزواج؟ سألته مليكة قائلة: حلمت بملوال، ألا تعرف شيئا عن أخباره؟
قال وقد بدا عليه الإرهاق أثقل: أريد قهوة مرة، تذكرت جعفرا، تبولت، حدثها عنه، أنساها كثيرا من أسئلتها الملحة، قال: إن جعفرا علمه ثلاثة أشياء أساسية، وهو علم جعفرا ثلاثة أشياء غير أساسية، ثم أضاف هامسا في أذنها أنه يريدها الآن، في هذا الآن بالذات، قالت مندهشة: البنت، البنت بالبيت، ورياك سيعود من الجامعة، وأنت تعب وأغبر وأنا مشغولة بطبخ الغداء.
ضحك، أشعل سيجارة، أطفأها، حاول أن يتذكر جعفرا، حاول أن لا يتذكره، حاول أن يتذكر أمه، حاول ألا يتذكرك وأنت مكتوب تحت اسمك بأن لك الجنة، حاول أن يتذكر الذي ينتظره، حاول أن لا يتذكره، حاول أن يتبول، حاول ألا ينهض من مكانه وألا يقول لابنته منى: إن رجل الشجرة العنصري، أعرفه جيدا.
حاول أن يقول لابنته منى: رجل الشجرة ما عنصري، لكن أبوه هو العنصري المتسخ بفكر الشارع.
قال لأختك مليكة حبيبته: إذا أريد أن أفعل شيئا، أي شيء، ساعديني أرجوك، قالت له مبتسمة: نم.
قال وبه حرقة النار: النوم ليس فعلا لشيء.
قالت: إذا غن، ولو لحنا مسروقا من خمارة بالعشش.
قال مبتسما ابتسامة مرهقة: هذا قد يبدو معقولا، لكن لماذا ترفضين الذهاب معي للفراش؟
قالت وقد أنهكها الحديث: أنت دائما تجاوب الأسئلة بأسلوب معقد وتسأل بأسلوب أكثر تعقيدا.
مر العام كله، ورياك ووالده محمد الناصر يخفيان خبر موتك عن مليكة، لكل أسبابه الخاصة جدا لكنهما يتفقان على نقطة واحدة على الأقل، وهي خوف أن تموت أختك من صدمة المفاجأة، فهي مصابة بالسكر، ويحكى عنك عندما سمعت أول مرة أنها مصابة بهذا المرض قلت: ما الذي جعل مليكة تصاب بمرض السكري؟ وقد عشت في الجنوب منذ الميلاد، إلى أن غدوت رجلا، لم أسمع مرة واحدة أن أحدهم مريض بالقلب أو السكر أو السرطان، إلى آخر هذه الأمراض الغريبة، فردت إليك منى قائلة: ربما مات الناس - وكثير منهم في الجنوب - بهذه الأمراض، ولا أحد يدري أنهم مصابون بها.
قلت: نحن نعالج بالرماد والكجور وبعض الأعشاب، أحيانا الرقص، إذا أهي علاج هذه الأمراض؟
قال لك رياك: وعندما يموت المريض تقولون ببساطة: إن الأسلاف أحبوه، أرادوا أن يكون قربهم!
كان ذلك في آخر إجازة قضيتها في الخرطوم، وهي الفترة التي التقيت فيها أببا، أقنعتها أن تذهب معك إلى حيث مقر وحدتك العسكرية، وعدتها بالزواج إذا هي وافقت، فقبلت، لكنك - وهذا هو طبعك - قلق كالنائم على حبل الغسيل، لا تطمئن على حال، بعد شهر كامل أقامته معك في قطية بقشلاق الوحدة، سألتك ذات مساء أن تفي بوعدك، فسكرت جيدا، وعدت إلى البيت منتصف الليل فأيقظتها، وقلت لها: لا أريد أن أسمع بموضوع الزواج مرة أخرى، سأذبحك إذا نطقت بهذه الكلمة.
قالت لك: إذا، كدا.
لكنها لم تظهر غضبها أكثر، كعادة المرأة الحبشية، صبورة، لكنها لا تنسى، فذات مساء حملت ما تقوى على حمله واختفت، ولم ترها بعد ذلك أبدا.
قالت لك أببا وهي تخبز كسرتها الحبشية ذات فرح وحلم: نستطيع أن نزرع معا في بلدنا أو نبقى في الحدود بين بلدنا وبلدكم، فلا فائدة في الجيش يا ملوال، الجيش قاتل أو مقتول، والقاتل مقتول يا ملوال.
فقلت لها: أنا لا أجيد أي عمل آخر، لم أمسك منجلا في حياتي، فقط أعرف رعي الأبقار، والآن تعلمت إطلاق الرصاص، أما الأبقار فليس عندي منها غير الذكريات، فقد أكلتها الوحوش من جيوش الغابة وجيش الحكومة، ابتلعها الرصاص واللغم، أما الرصاص فهو الخيار الأخير، ما تبقى أمامي هو الرصاص.
إذا كنت تؤسس لموتك، أتذكر؟ قبل أعوام كثيرة وكنت تسير وجعفر ومحمد الناصر في الطريق إلى انتصار طائش، إذ مر أمامكم موكب حاشد كبير يهتف ممجدا الحرب والانتصارات المتتالية، مناديا بالموت للخائنين والساكتين، وذوي الآراء المخالفة للطرح العام والمعارضين، فضحكتم كثيرا والموكب يقترب ليحاصركم من كل صوب وجهة، فقال جعفر: احملاني على كتفيكما، وسأهتف هتافا قويا يمجد الحرب والتماسيح، يمجد البندقية، فحملتماه وما هي إلا هتافات قليلة من جعفر، هتافات قوية ونافعة حركت حماسيات الموكب وجعلته يغلي كالمرجل حتى أخذه الهاتفون المتحمسون الناشطون على رءوسهم وصعدوا به على ظهر شاحنة عالية وعلقوا على جيب سترته ميكروفون وهم يرددون هتافاته خلفه، حتى إذا ذابوا في نشوة الهتاف أسكرهم الحماس، انتصب جعفر ما أمكن على رءوسهم، أخرج ذكره عن طريق فتحة بنطلونه الأمامية، كان ذكرا أسود طويلا ومنتفخا بالدماء والبول، بسم الله، أخذ يتبول على رءوس الهاتفين المنتشين وهو يهتف بقوة أكثر: تحيا الحروب، تحيا تحيا، تحيا الحروب.
فيندفع البول أمامه عشرات الأمتار مطرا على الرءوس.
قالوا: إن بوله كان عفنا حارقا، ولا يمكن غسله إلا بالدماء.
قالوا ولم تر ذلك بأم عينيك، لكن أخبرك به محمد الناصر فيما بعد: إن كل من أصابته ولو قطرة واحدة من بول جعفر، مسخ، فإذا كان شماليا مسخ إلى نفس جنسه ذكرا كان أم أنثى جنوبي، وإذا كان من الجنوب مسخ إلى شمالي، وقال لك محمد الناصر: إنه كان يعرف رجلا من الشمال أصفر البشرة، ناعم الشعر، قصيرا وممتلئا بالشحم، فعندما أصابته قطرات من بول جعفر، تحول إلى رجل طويل أسود البشرة شعره قرقدي ناشف، وحتى لسانه أصبح لا يستطيع نطق الكثير من الكلمات العربية واعتنق الدين المسيحي، فهل الفرق بين الجنوبي والشمالي قطرة بول؟
قالت لك أببا: ستبلعك الحرب.
غضبت، حطمت الدولاب الفارغ، أطلقت طلقتين في الهواء، وعندما ذهبت مليكة أختك بنفسها إلى القيادة العامة، مكتب المتابعة، دلها مكتب الاستقبال إلى لوحة الشهداء، استشهد قبل عام، قال لها جندي سمين كان يبحث في اللوحة عن أسماء رفاق له، قدموا لها شهادة تفيد وتؤكد: إنك عشت شجاعا ومت شجاعا في دفاعك عن الأرض والعقيدة، لكنها رفضت أن تأخذها قائلة: لكنه مات، فماذا تفيد الشهادة؟
قالوا: فخر لأبنائه.
قالت: ليس له أبناء.
قالوا: إن له مكافأة أيضا.
قالت وقد رفضت أن تأخذها: لكنه مات فماذا تفيد المكافأة؟
قالوا: عون لأبنائه.
إذا ما ماتت مليكة أختك فجأة، كما اعتقد زوجها وبنتها وولدها، لكنها منذ أن كانت طفلة في السادسة عشرة، كانت تؤسس لموتها وهي تكتم صرخاتها عندما اغتصبها الضابط أملا في الزواج منها.
كانت تؤسس لموتها عندما كان يضاجعها أبناء عمومتها الجنوبيون في العشش.
كانت تؤسس لموتها وهي تستعطفهم أن لا يفعلوا ذلك بوحشية، مليكة شول مادنق أختك، ومثلما تحيك العنكبوت خيوطها كانت تبني شبكة عدمها الخاصة بدقة وصبر، تزوجت من الناصر، أنجبت رياك.
كانت تؤسس لموتها، أنجبت منى.
كانت تؤسس لموتها، أجهضت ثلاث مرات ثم استخدمت عقاقير منع الحمل أيضا.
كانت تؤسس لموتها لدرجة أنها عندما كانت تغني بقايا ما بذاكرتها من أغاني القبيلة التي تغنى في مواسم الأعياد واحتفالاتهم الجنائزية وأفراحهم كانت تلتقط الكلمات الصغيرة الواهنات الموغلة في القدم، الكائنة في خبايا أزقة الذاكرة.
وهي تؤسس لموتها عندما يختلط في لسانها لحن الأغاني الجنائزية بالألحان الفرحة الرقصة.
كانت تؤسس لموتها وهي تحلم بسرب الغزلان الذهبية تهرب أمام ثلاثة نمور رقطاء، ثم تشتبك النمور في معركة مع قرود التقل الشرسة، وما استطاعت العاصفة الممطرة المرعدة أن تفضها.
كانت تؤسس لموتها وهي تبكي محتضنة جمجمة أبيها المثقوبة وتتذكر حكمة جدتها نيان دينق ذات السن الواحدة: إذا لم تبك البنت أمام أبيها وزوجها وربها، فإنها لن تبكي إلا في نار الحياة الأخرى، مليكة شول مادنق، أختك الصغيرة، أيها المقتول ملوال، برصاصات من قاتلت معهم خندقا بخندق، يدا بيد، قلبا بقلب، طلقة بطلقة، وموتا لموت، أصدقاء الانسحاب والتقدم والكأس ورغيف الخبز، والمرأة، تلك البنت الجميلة، ذات العنق العاجي، البنت التي أحبت الحياة مثلما يعشق النيل ماءه، أو كما يتشبث القرد بشجرته الأخيرة تشبثت بالحياة، إلا أن ميلادها كان أول طوبة في قلعة موتها، قلعة موتها الخالدة.
ماتت مليكة موتا كابوسيا طويلا، موتا مرسوما بفنية وبراعة، موتا دقيقا أنهى أطول احتضار لإنسان، ثمانية وثلاثون عاما من الاحتضار، احتضار غني بالمفاجآت والأسئلة، غني بالموت، غني بالابتسام.
غني بجعفر!
كان محمد الناصر في مدينة بعيدة، في أقصى الشمال، مبعوثا من قبل المصلحة في مهمة عاجلة، وكان في اجتماع مع نفر من المهندسين يناقشون إمكانية قيام مشروع للطاقة، قوامه المخلفات الآدمية، حينما نهض محمد الناصر فجأة من كرسيه قائلا: سأحدثكم عن جعفر، جعفر مختار.
وطالما كان هو مدير الجلسة وكبير مستشاري الطاقة المنتدب، قال له الجميع: حدثنا؛ فربما أفادتهم تجارب جعفر في الإتيان بمصادر للطاقة أرخص أجود، ظنا منهم أن جعفرا عالم أو خبير في هذا المجال. قال: جعفر، جعفر مختار، ثم استأذنهم في أنه يريد العودة لمنزله الآن في هذا الآن بالذات؛ لأن هنالك ما ينتظره.
أتدري يا ملوال، إنه في هذه اللحظة بالذات ماتت أختك مليكة شول مادنق، ولو أن روحها انتظرت مجيء محمد الناصر، إلا أنها ماتت كثيرا، ماتت جدا، أختك مليكة شول مادنق تجول بشوارع المدينة، تسكع في المقاهي والمطاعم الشعبية والأندية الكسولة السطحية، والأزقة، كان قلقا مزحوما بالأفكار والبؤس، لا يريد أن يصل إلى المنزل، تذكر جعفرا، جعفر مختار.
كان يريد أن يلتقي الذي ينتظره، بأي ثمن وأينما كان، مختبئا بأكشاك السجائر، يضاحك الباعة الجنوبيين، بين طلاب المدارس يشتري ساندويتشات الإفطار، والحلوى، نائما تحت أشجار النيم قرب المحطة، متجولا في شوارع الله الفسيحة، يقتل الوقت في المواخير، يضاجع امرأة رخيصة سكرانة، أو يحتسي عرق البلح، في النادي يلعب الورق وهو ينظر الفينة والأخرى لساعته، يلعنه في سره أو يمل الانتظار في الجامع، يؤم المصلين لصلاة العشاء.
هكذا أطلق ساقيه في الدروب، سائبة مشاويره، كماء متسرب من جدول قديم، وجد نفسه عند باب المستشفى العام، دخل، اتجه يمينا، في أول ممر اتجه يمينا نحو أول غرفة فلقي ابنه رياك، ابتدأه متسائلا: هل كنت تنتظرني هنا؟
قال له رياك: ألا تعلم أن أمي مريضة جدا؟
قالت له مليكة أختك كلمتها المحفورة عميقا في غور نفسه: سأظل أشتاق إليك.
ثم ماتت تلك الدينكاوية الحسناء. ها هي الريح الخيرة يا ملوال تأتي بالسحابات الحبلى بماء الحياة الدافئة، مرة أخرى بألحان الصبايا الحالمين، تنزل لتشربها الأرض العطشى فتجري السيول أمام عتبات البيوت، فتحمل لك أخبار الجدات، الأصدقاء، أشجار التك، أسود الأبقار، المدن الساقطة، تحمل إليك كسرة أببا حبيبتك، وهي في المدن البعيدة تنتظر مجيئك، حاملا منجلا بدلا من البندقية، وأنت الآن في الحياة الأخرى تجالس أختك الجميلة الصبية السوداء، ربما لا تتذكران جعفرا، جعفر مختار.
ربما لا تشتاقان لمحمد الناصر في حياتكما تلك، لكن بلا شك ستحمل إليكم مياه السيول أن في المدن الحية مدن الحروب رجلا يصلي دائما من أجلكم، يصلي دائما.
هذا سفر الذي هو: رياك ...
جئت ملتحيا غريبا، متفائلا بما تحمل، وعندما سألك والدك محمد الناصر: أين كنت؟
قلت مزهوا: في معسكر المجاهدين!
ولو أن المفاجأة لم تكن مفاجأة تامة بالنسبة لوالدك إلا أنه ذهل ذهولا كاملا، فتذكر جعفرا، جعفر مختار.
أحس بأكلان في خصيتيه، تململ قليلا، حاول أن يحك موضع الأكلان، حاول أن يأخذ نفسا طويلا من الهواء، ممتدا لنصف الساعة، حاول أن يستشعر رطوبة الجو، وأن يغمض عينيه لثوان ثم يفتحهما للأبد، حاول أن يتذكر ما إذا كان قد صلى صلاة العشاء ليلة البارحة، أم أنه تأخر في انتظار جعفر بين أشجار المسكيت الخضراء قرب النهر، حاول أن يغني، حاول أن يبكي، حاول أن يسمع نداء عصفور ود أبرق خلف النافذة على شجرة الأركويت، حاول أن يعطس لكنه أشعل سيجارة ثم أطفأها، ونظر إلى ساعته ولم يرها، فقال في نفسه: لا بد أن تتزوج هذه البنت، فلقد كبرت منى بما يكفي لكي تنجب أطفالا، أطفالا في جمال العصافير، ليروا جعفرا قبل أن يبتلعه الدهر، فمن يعرف ماذا سيحدث غدا؟ فمن يعرف أين سيكون جعفر غدا؟ بل من يعرف أين يكون في هذه الآن، هذه الآن بالذات؟
ثم سأل وبصوته برود غريب: من أجل من تجاهد؟
قلت بسرعة: من أجل الدين.
فناولك فنجانا من قهوته المرة فلم تستطع بلعها، أعدتها إليه.
سألك بعد أن حدثك عن أشعار جعفر الخمسة: أتعرف الفرق بين شرح سيد قطب للقرآن وأبي الأعلى المودودي؟
قلت: لا.
سألك: هل سمعت بنظرية الانفجار الكبير لجيمس هوكنج؟
قلت: لا.
فسألك: أتعرف زرادشت ودينه، ولماذا وضعه البعض ضمن الأنبياء؟ - لا.
فسألك: هل تدري أن كلمة آمين هي من اللغة العبرية وتعني نعم؟
قلت: يقولون ذلك.
فسألك: هل قرأت كتاب وحيد الدين خان «نحو مدخل علمي للقرآن»؟
قلت له: لكني قرأت كتاب مصطفى محمود «التفسير العلمي للقرآن» وهو كتاب جيد.
قال ضاحكا: ماذا تقول؟
ثم ضحك مرة أخرى، ثم حاول أن يشعل سيجارة أو يتذكر جعفرا، لكنه سألك: أتدري ما هو رأي أبي حنيفة في الخمر؟
سألك: أتدري من أجل من مات محمود محمد طه؟
سألك، سألك، سألك، قال: هل يستطيع الأعمى أن يختار سبيله من بين ثلاث سبل، ولو كانت متباينة، وواضحة؟ الاختيار ليس للعميان لكن للمبصرين، للأحرار، والأحرار هم العارفون، أنت عبد يا ولدي، أنت عبد للسائد والمعروف والبديهي، أنت عبد لخطب الجمعة وخطاب الرئيس وبرامج الراديو والتلفزيون الموجهة، أنت عبد لخطيب الندوة السياسية وافتتاحية الجرائد الحكومية والميكروفون، أنت عبد صغير كبيضة ذبابة في بياتها الشتوي!
فقلت له وقد خنقتك العبرات: الدين في خطر يا أبي!
كيف بقي هذه القرون الطويلة؟ هل بقي لأن الحكام كانوا يحمونه؟ إذا من عذب الإمام مالك وشله؟ إذا من قتل الإمام أحمد بن حنبل؟ وشيخ الإسلام ابن تيمية، من قتله؟ ومن قتل الإمام وموسى الصدر؟ من شنق الحسين بن منصور الحلاج؟ ومحمود محمد طه؟ إذا من قتل حسن البنا؟ ومن يا بني قتل شيكيري توتو كوه؟
يا ولدي رياك، اسمع ما قاله لك جعفر: إن دين الحاكمين هو البقاء في كرسي العرش، وربهم هو أيضا المال، اقرأ، فكر، ابحث، أجهد عقلك، قارن، تعثر في سبلك الخاصة، لكنك اخترت الطرق السهلة، الفكر الرخيص، فكر كلمة العدد، أسفا عليك!
حكى لك والدك عن جعفر مختار ثم سألك: أين ستبدأ جهادك؟ هل ستفتح أمريكا؟ أم الفلبين أولا؟ هل ستفتح القاهرة أم تغزو جزر القمر؟
لكنك أبدا لا تقل لي سأقاتل في الجنوب، لا ، فإذا قلت ذلك ستقتلني، ستقتلني يا بني رياك، ستقتلني من الضحك!
وبقدر ما كنت مقتنعا برأيك لم تسمع كلمة مما قال أبوك محمد الناصر، فكنت ترى فيه رجلا فاسقا خارجا عن تعاليم الدين ومضلا، لكنك لا تستطيع أن تنكر أنك كنت ترى نفسك حقيرا ضئيلا أمام ثقافته ومعرفته، ولم تستطع للحظة واحدة إثبات ذاتك أمامه، ولو أنك كنت مؤمنا إيمانا تاما بأنه على خطأ، فكان دائما ما يحطمك صارخا: أنت سطحي، أنت قشري هش كرماد القصب!
وتعرف أنه كان بين الحين والآخر يدفعك ويحثك لكي تعرف، ويقول لك: الإنسان العارف هو الإنسان الحر، أما الجاهل فهو عبد للسائد والمعروف، عبد للبديهي، كان يقول لك: اقرأ، غامر، افشل، وحاول ... لكنه لم يعطك يوما كتابا قائلا لك: اقرأ هذا.
لكنه لم يدفعك لشخص قائلا لك تعلم منه، إنه ما كان يشكلك كما شكل هو، يريدك أن تبني نفسك بمشيئتك ولو أنه كان يعلم أنه بذلك يغامر بمستقبلك إلا أنه يؤمن بالحرية، حرية الفرد في المعرفة والاختيار.
قال لك يوما ما: هل تريد مساعدة ما مني؟
قلت صادقا: عفوك ... فقط، أرجو ألا تغضبك الطرق التي اخترت، فكما أنت حر في نفسك أنا حر في نفسي، وهذا ما علمتنا إياه وعلمنا جعفر أيضا، جعفر مختار.
قال مبتسما: طالما قلت ذلك فإنك حتما ستنتصر، ولا يعني أنك ستصبح مثلي أو مثل جعفر، بل قد تكون عكسنا تماما وتكون حرا وعارفا، فما عليك إلا أن تستفتي نفسك ولا تتبع طرائق الآخرين في التفكير.
صمت قليلا ثم أضاف: جعفر نفسه قد بدأ متعثرا، بدأ زاحفا على بطنه وفي فمه جرح غائر، وبرأسه شيطان رجيم.
دخلت أختك الحجرة فجأة وكانت جميلة وبوجهها نعومة فائقة، فدهشت لمرآك وذقنك الصغيرة فقالت ضاحكة: إنها تشبه ذقن بوب مارلي، إنها موضة قديمة.
ثم سألتك قائلة: أين اختبأت كل هذه الأشهر، هل كنت في مغامرة؟ أنا أحب المغامرات، لم لا تصطحبني معك؟ حتى ياسمين إبراهيم لا تدري أين أنت، وسألتني عنك وداد بنت كلية الهندسة كثيرا، فأين كنت؟
شرب والدك قهوته المرة، أشعل سيجارة، أطفأها، تذكر جعفرا، قام تمشى في الحجرة، ابتسم، قال لك: أرجوك ألا تغيب كثيرا من البيت، وكن نفسك، كن نفسك ولا تتهيب الطريق، أنا عاف منك وأحبك جدا.
قالت منى وقد أثارها المشهد والرومانسية: أهو مسافر؟
حقيقة كنت محتارا ولم تفهم موقف والدك، أهو معك؟ أهو عليك؟ لكنك أحسست بطمأنينة بالغة، نظر إلى ساعته، قال إن أحدهم ينتظره، الساعة تشير إلى التاسعة والثلث مساء، قال لمنى: تخيلي أننا في هذا الآن - هذا الآن بالذات - نقف أمامه وجها لوجه؟
قالت أختك منى وهي تضع حقيبة كتب الجامعة على مقعد كان بقربها: سأسأله، لماذا لم يستطع أن يجدك إلا اليوم؟
ثم سألت والدك: أين تعرفت عليه أول مرة؟
قال مبتسما: وجدته مع جعفر قرب النهر، يلعبان مع السلاحف المائية، وقد وعدني بأن نتقابل مرة أخرى، لا أدري لماذا يريد أن يقابلني، وأنا لا أدري لماذا أصر على أن أجده؟ أقابله وأراه، ألم تره؟ نعم لقد كانا يلعبان مع السلاحف المائية عندما جئت إلى الشاطئ هو وجعفر، ورأيت جعفرا، وكان فرحا ومبتهجا، وعندما سألته عما سره؟ حدثني عنه وقال لي: إنه ذهب بعيدا خلف السلاحف المائية وقال لك انتظره أو ابحث عنه، وهو بدوره سينتظرك أو يبحث عنك؛ لأنكما لا بد أن تتقابلا، فلم أسأل جعفرا أي سؤال ملح عنه، لا عن جنسه أو نوعه أو حتى كيف يتكلم؟ أيومئ برأسه أو بذيله، أو يتحدث بلسانه، أو أنه يرقص كلماته مثل زوربا اليوناني؟
خرج والدك، كان رجلا نشطا خفيفا كالريح، يمشي فتخاله يرقص في العاصفة، أخذت تحادث أختك منى في شئون شتى، تذكرتما جعفرا، جعفر مختار، قلت لأختك: جعفر هو أساس ما نحن فيه من ألم، وله دور خطير فيما يجري الآن، قالت لك خائفة: لا، لا تتحدث عن جعفر بهذا الأسلوب، إنه يحبنا.
قال في حزن: أنا لا أنكر حبه لنا، ولا أنكر أنني أحبه أيضا، لكن هذا ما أحس به ! قالت لك: تخيل حال والدنا محمد الناصر إذا لم يكن في حياته جعفر؟
فقلت لها جادا: كان سيصبح رجلا بريئا عاديا وديعا، ولوفر علينا ما نحن فيه من هم، حيرة، وأسئلة، ومأساة.
ثم حذرت أختك من عذاب يوم القيامة، وأيضا حذرتها من الإعجاب بوالدك، وقلت لها: إنه سيضيعك، وأكدت لها أن والدك أفسدته المعرفة، وإنه عرف أكثر مما يجب، نضح أكثر مما يجب، وضربت لها مثلا ثمرة الباباي، إذا أسرفت في النضج أكلها الطير أو تعفنت وسقطت على الأرض، طعاما للديدان والنمل، وكادت أن تقول لك: وتقصد جعفر مختار أيضا؟
إلا أنك قلت لها: أنا أعترف بأنني لا أعرف جعفرا جيدا، إنه معنا كل يوم وكل لحظة يلعب معنا الشطرنج، وكثيرا ما أقرأني القرآن، إلا أنني دائما ما أحس بأنني لا أعرفه كأنما كان هنالك جعفر آخر لا نراه، وجعفر مجسد أمامنا نعايشه، نؤاكله ونشاربه.
قالت لك ضاحكة: أحس أن جعفرا الذي نعرفه ليس هو الذي نعرفه.
ثم تغير مجرى الحديث فجأة إلى مبدئه وقلت لها: لماذا لا تواظبين على الصلاة؟ إنها لا تكلفك شيئا.
قالت لك: أنت دائما لا تكف عن الوعظ، مرة عن وجهي، مرة عن علاقتي بعبد الله، مرة عن السهر ومرة عن جعفر، مرة، مرة، ثم تشاجرتما، تشاجرتما كالعادة.
سافرت، سافرت إلى مدينة بعيدة، محاولا نسيان أيامك السابقات، تجاربك الماضية، أن تنسي جعفرا، جعفر مختار، محمدا الناصر، منى، وحتى مليكة أمك الجميلة فتاة الدينكا الذكية، كنت تحاول جاهدا نسيانها، فقط كنت تفكر في حبك الجديد: الله.
رسول الله محمد.
الإسلام.
ولا تستطيع أن تقول إنك كنت ممتلئا بذلك الجمال الإلهي الصوفي العميق، ولا تنكر أنك حاولت أن تعيد النظر في مسألة فهمك للجهاد، لولا أن فكرة أن والدك أثر فيك وقفت دونك وأي فهم أو فعل إيجابي، كنت في صراعك مع ذاتك تحارب في المقام الأول ما يمكن أن يعبر عن وجهة نظر والدك، أو أن يخلق منك محمد ناصر آخر، وكخروج نهائي من جلد أبيك فكرت جادا في تغيير اسم والدك نهائيا: رياك محمد، رياك جاك، رياك رياك.
وربما الفكرة التي أعطاك إياها الأشخاص الذين حاولوا تزييف أب لوالدك ورد اسمك إلى أصول عربية، أو تغييره كلية هي التي أخذت تمتد وتسيطر عليك، وتوقفت كثيرا عند الاسم الذي أصلته أنت، أسموك به، رياك، رياك.
قلت لنفسك: ما مصلحة هؤلاء في أن يكون أبي شخصا آخر غير محمد الناصر؟ وما مصلحتهم في أن يكون اسمي عربيا؟ بل ما مصلحتهم في أن يكون هنالك أب محدد لأبي؟ وأيضا سألت نفسك سؤالين قويين كالجرانيت، لكنك عندما عجزت في إيجاد إجابة مناسبة لهما صليت ركعتين وطلبت من ربك أن يجنبك شر الأسئلة.
قال أبوك محمد الناصر لأمك مليكة شول مادنق: كانت ابنة خالتي نعمة زوجة غير ذكية؛ لأن الزوجة الذكية - كما يقول جعفر - هي التي تحتفظ بزوجها إلى حين أن يتوفاه الله، وليس إلى أن يتوفاها الله هي؛ لأن الزوجة الذكية أيضا لا تموت قبل زوجها؛ لأن زوجها دائما في حاجة إليها حتى بعد موته، فإنه يحتاج إلى من يبكيه بدموع فيها اشتهاء حقيقي وخصوصية، ونعمة لم تستطع أن تبقيني في شباكها لأنها لم تستطع أن تفهمني وأن تعي جنوني الخاص جدا، جنوني الذي يجعل دمي حلوا وهو يسري في شراييني لترقص عليه الأحلام وهي تخامر الأسى، تخامر سحليات الروح.
إذا ما كانت ستبكيني بدموع كلها اشتهاء، هي امرأة ليست لها مقدرة على الحلم، مثل الولد رياك تماما، تريد واقعا جاهزا ومعطى.
فحاولت أمك أن تقارن بينك وبين نعمة لكنها لم تجد أوجها للشبه غير تلك التي في مخيلة أبيك محمد الناصر، في وهم خوفه عليك، وخوفه منك!
كان يقول لها عنك: إنه مثل الصرصور الذي لا يمكنه أن يرى أبعد من قرني استشعاره صرصور صغير وباهت.
ثم سألها سؤالا لم تستطع أن تسمعه لأن أنامله كانت تعبث بزغب ناعم في عنقها الطويل الرشيق، محركة صمت اشتهائها في أقبيته النائمة فأحست بحاجتها إليه، حاجة ماسة وملحة، وكانت تخافه أن ينهض فجأة هاتفا: أحدهم ينتظرني.
لذا عبرت عن رغبتها في سؤال تقليدي تعرف كيف يجاوب عليه أبوك: ما رأيك في الحرب بالجنوب؟
مثل تلك الاشتهاءات كنت وأختك ثمرة لها، فأبناء العاطفة الأصلية هم الأجمل والأبقى لأنهم عصارة اللذة، وخطاب الوجود الصريح والأكثر عمقا، أو كما قال جعفر مختار.
السماء مسحبة بطيئة، مياه النهر ثقيلة كأنها الزيت، أشجار السيسبان العجوز تخشخش مرحة عندما تقبلها الريح الصيفية، الجنوب غربية.
الريح الخيرة أبدا، فترسل ثمارها الذهبية المتطاولة إلى الأرض ليتقاسمها معزة، وحملان، وطفل الراعي طفل صغير أعجف، رجل عجوز هو الراعي النائم تحت شجرة لالوب وارفة، عليها يمامتان تتناشدان مرح القيلولة، وقربه على الأرض عصفور ود أبرق بين رياش ظهره، ريشة شديدة السواد، يحجل نحو عشوشاي تظهر عدم الاكتراث به، وأيضا عدم الرغبة، صفرت الريح وهي تتخلل أشجار الشاطئ، تنسل ما بين صخوره الرمادية القديمة وتعبث بذرات الرمال الذهبية الناعمة كزغب أميرة مراهقة، يحاول طفل الراعي الأغبش ذو الشعر المنكوش أن يرضع المعزة لكنها تبعده عن ثدييها بنطحة قوية تلقيه على ظهره، فتنطلق من بين فخذيه ضرطة لها صوت الريح عندما تمر بين أشواك السيسبان الجافة، يتململ الراعي العجوز كما لو أنه يستيقظ، لكن شخيره تعالى بقوة، ينهض الطفل، يمسك المعزة من وسطها ويعضها بغضب في أذنيها، تتألم المعزة في صمت، جعفر يمد رجليه، يغرقهما في ماء النهر الساكن، يفكر بشكل جاد.
والدك ينظر بعيدا إلى الضفة الأخرى يراقب سربا من الأطيار، أطيار الرهو وهي تلتقط الأسماك الصغيرة، بين أصابعه سيجارة مطفأة، قال جعفر فجأة: رياك.
فتحدث والدك كثيرا عنك، دافع عن موقفك، أكد على مبدأ الاختلاف وحرية الاعتقاد، ثم دافع عنك جعفر بكلمة واحدة قائلا: من حقه.
هدأت الريح، حاول الطفل رضاعة المعزة مرة أخرى فنطحته، التقط كل ثمار السيسبان، أطعمها للحملين ونفسه، حارما منها المعزة التي وقفت بعيدا تحملق في الحملين وهما يكرمشان ثمار السيسبان بلذة، كانت مندهشة وحانقة، تحدث والدك عن الإعصار القادم حتما، وعن أجيال منفعلة متفائلة لكنها جاهلة وسطحية، شديدة العاطفة لكنها ستغير الكثير في هذه البلاد وتهيئ الوطن لثورة فعلية تقتلعهم أول ما تقتلع؛ لأنهم بتفاهتهم وعجالتهم سينضجون كل أمراض المجتمع ويضعونها على السطح عارية يفوح منها عفن يدل عليها، فيقول المسيح: من ثمارهم تعرفونهم، إذا ...
سيرمي بهم وبسطحيتهم في جحيم المسافة، أي ما بين غاياتهم ووسائلهم، ما بين اندفاعهم العاطفي غير المؤسس وحركة الواقع الفعلية، ما بين جهلهم ووعيهم الغائب.
ضحك جعفر، تثاءب، ثم خلع ملابسه ورمى بنفسه في النهر، فزعت أطيار الرهو في الضفة الأخرى، طار بعضها لكنها حالما عادت مرة أخرى لتلتقط المسكيتات الصغيرة وهي تصيح: كعو، كعو، كعو، استيقظ الراعي النائم، نادى الولد الصغير بصوت عذب رقيق: نور الله، نور الله.
كان نور الله يحرم المعزة ويأكل السيسبانات الذهبية، حينما سمع نداء الراعي بصق ما بفمه من ثمرة، وجرى ملبيا النداء، أيضا ظهر كلب الراعي من مكان ما، فسبق الطفل لتلبية النداء هازا ذيله بمرح. فطارت اليمامتان بعيدا في عمق السماء، ثم حلقتا على النهر، أما ود أبرق وعشوشاي فطارا إلى شجرة سيسبان قريبة يرقبان الموقف عن كثب، سأل الراعي الطفل: أين بقية الأغنام؟
فأشار الطفل إلى النهر، قال الراعي: آتي بها.
فجرى الطفل وخلفه الكلب نحو النهر بين الأشجار قافزا على شجيرات المحريب والسنسنات ذات الزهيرات الصفراء، وعلى الصخور القديمة والرمادية على الرمال الذهبية المفترشة عليها، كزغب أنثى، أميرة مراهقة.
هش الراعي على الحملين والمعزة بعصاه كما كان يفعل موسى عليه السلام، فتساقط العلف ليتخطفه الحملان والمعزة، فتكرمشه بلذة وامتنان، قال والدك لجعفر الذي كان يسبح مستمتعا بمياه النهر الدافئة: ستمطر.
قال جعفر وهو يشير لأطيار الرهو الهادئة المطمئنة على الشط المقابل: ليس قبل ساعة، انظر لهدوء الأطيار.
غطس جعفر عميقا في جوف النهر، خرجت خلفه مئات الفقاقيع وهي تبق، قبل أن تظهر على السطح قطعة من الخراء كبيرة سوداء توقفت قليلا وكأنها تتفحص الاتجاهات ثم دارت حول نفسها مع دوامة صغيرة، ثم سبحت في بطء شمالا في خيلاء مع تيار النهر الواهن، ضحك والدك، ضحك طفل مختبئ وكلبه بين شجيرات المحريب، أشعل سيجارة، أطفأها، نظر إلى ساعته، فكر في قبلة سريعة على فم مليكة شول مادنق، خرج جعفر من الماء، هز رأسه كخروف هطلت على صوفه أمطار، سأل والدك: كم عام مضت منذ وفاة مليكة شول؟
ثم عاد مرة أخرى للماء، ثم عاريا كما خرج آدم من الجنة خرج، صغيرا مبتلا كسحلية فقست لتوها من البيضة، كانت أسنانه بيضاء وبكفه الصغيرة سمكة تصارع من أجل الفكاك.
قال مبتسما: شلباية!
تفحصها والدك ثم رمى بها في النهر، ضحكا معا في آن واحد، بلع الطفل ريقه من بين المحريبات، تعانقا، غنى لحنا كان جعفر قد سرقه من ذات الطفل وذات الكلب وذات الراعي وذات الأغنام وذات الريح وود أبرق واليمامات، والموج والرهو، والسيسبانات، وضرطة الطفل وذات الراعي والشخير، اتسعت عينا الطفل دهشة، وهز الكلب ذيله القصير، أخرج والدك من بين ملابسه الملقاة على رمل الشاطئ زجاجة صغيرة بها خمر، حاول ألا يشرب منها شيئا، حاول ألا يعيدها، حاول أن لا يلقيها في النهر، صب كأسا ابتلعها في جرعة واحدة، خلع والدك ملابسه الداخلية، فكر لحظة في مليكة أمك، فكر فيك، أشعل سيجارة أطفأها، رمى بنفسه في النهر، سبح بعيدا عبر النهر نحو الشط الآخر، فطارت أسراب الرهو في بطن السماء المسحبة، اختفت تماما، رقد على رمال الشاطئ الذهبية الباردة، تذكر جعفرا، جعفر مختار، بنى بيتا صغيرا من الرمل، نظر إلى جعفر في الشط الآخر والذي كان يغني وهو يصطاد الأسماك الصغيرة اللامعة بكف ويعيدها بالأخرى إلى الماء مبتهجا كطفل في روضة، يغني والدك، يعلو صوت جعفر بنفس الأغنية التي يغنيها أبوك بشطه، لبس جعفر ملابسه، هرب طفل الراعي الصغير وكلبه إلى أجمة من أشجار السيسبان المتشابكة فاقدا الأمل في السميكات الصغيرة التي كان جعفر يصطادها ويعيدها لمائها مرة أخرى.
ذهب جعفر بعيدا، مخلفا وراءه في ماء النهر عجينة خراء سوداء كبيرة تدور مع الدوامة، تقرضها أسماك البلطي وهي تتجه شمالا، شمالا في خيلاء ، لقد فهمت فلسفة والدك وهو يحاول أن يفهمك، إنك تافه لأنك أغضبته عندما صفعت أختك منى في وجهها؛ لأنها تأخرت خارج المنزل لوقت متأخر من الليل، وعندما سألتها أجابتك: عليك بنفسك فحسب!
قال لك: لا أحد يسوى شيئا ولا أنت ولا خطايا منى، تقواك أنت أيضا لا تسوى شيئا، ولا كلمة جعفر، كان يتحدث كالهامس رغم أن صوته كان ملء الغرفة كلها، انظر. هذا الكون الشاسع الممتد.
انظر لضآلة درب التبانة مقارنة به.
انظر لضآلة المجرة الشمسية مقارنة بدرب التبانة.
ضآلة الأرض مقارنة بضآلة مجرتك.
ضآلة قارتك مقارنة بضآلة أرضك.
ضآلة وطنك مقارنة بضآلة قارتك.
ضآلة مدينتك مقارنة بضآلة وطنك.
ضآلة قريتك مقارنة بضآلة مدينتك.
ضآلة بيتك مقارنة بضآلة قريتك.
ضآلة مخدعك مقارنة بضآلة حجرتك.
ضآلة جسدك مقارنة بضآلة مخدعك.
ضآلة قلبك مقارنة بضآلة حلمك.
بالمقارنة بملايين المجرات!
فماذا تسوى أنت؟
ماذا تسوى خطايا منى؟
وكان يريد أن يقول لك بمعنى أقرب: ماذا يهم أن يقولوا عني صغير تافه ابن حرام زنديق جعفري؟ ماذا يزن هذا بالنسبة لخلق الله غير المتناهي؟
بالنسبة لفراغ الموجود الشاسع، قصة الخلق، بالنسبة لله، حيث لا يحيط به خيال؟ بالنسبة للانفجار الكبير؟ ملايين الشموس وذرات الغبار المشعة، بلايين الشهب والنيازك، بلايين البشر والحيوانات والفيروسات والبكتريا، قناطير وأطنان، بل محيطات الخراء الآدمي، أو يقول بأسلوب ألطف: ألا تحس بأنك بك من الغرور الكثير المخجل عندما تظن نفسك وكل البشر بأنك اهتمام الله؟
وكان والدك يهمس في وجه المجرات: ماذا يعني أن تعشقني مليكة شول مادنق، وكلما ورطتني بأسئلتها ضاجعتها فنامت، ماذا يعني هذا؟ هكذا.
كانت الهوة شاسعة بينك وبين أبيك محمد الناصر، كان ينزع الإجابة من الصخر وأنت تلحسها من صحائف مذهبة، تلحسها كالعسل، كان يشكل الأسئلة من النار ثم يضمها لصدره إلى أن تنضجه بلهيبها، أما أنت فكلما غازلتك الأسئلة أخفيت وجهك في الإجابات الجاهزة المعطاة، شتان ما بين لا ونعم!
شتان شتان ما بين لا ولا، إذا، ما بين لا ولا، ونعم ونعم.
شتان ما بين أن تغرق في النهر وأن ترقص على طوق النجاة.
شتان ما بين أن تغني وأن تكون أنت الأغنية.
نظر إلى ساعته، أشعل سيجارة، أطفأها، تذكر جعفرا، قال لمليكة شول مادنق أمك الجميلة: دعيني أحدثك عن روزا لكسمبورج أو نازك الملائكة.
لكنه عندما تحدث حكى لها عن طفلة جميلة لها أم أدمنت الحزن، أقمت في خلوتك في مدائنك النائية تبحث عن سلام دائم وتام عبثا، عبثا، كنت بين نارين: الحقيقة ونار الجهل، لكنك أبدا ما كنت بين الله والشيطان، فكان الله دائما في قلبك، وكما يقول جعفر: إذا أنت في أول الطريق أول الأسئلة، هكذا، تبدأ أشجار الأسئلة الكبرى في النمو، تبدأ من الله وتتجه نحو الشيطان؛ لأن السؤال كما يقول جعفر: انطلاق مقدس من اليقين المتخيل إلى الشك والإجابة، كما يقول والدك محمد الناصر: هي عودة أخرى نحو اليقين الحقيقي.
ولن تنكر أنك آمنت أنه ليس غير الأحرار يمكنهم المشي في ظلمات المسافة المرة المقدسة، وهم يتغنون مثل زرادشت، أو يرقصون مثل شيفا، أو يعشقون مثل محمد الرسول، هكذا تتذكر والدك، وكلما حاولت الخروج من جلبابه وجدت نفسك تغوص في ثناياها تريد أن تكون نفسك رياك رياك، أو كما أسماك البعض: رياك العربي.
لكنك حتى الآن لم تتحصل على المعرفة التي تحررك من ذاتك ووالدك ومن الكون كله، لا تحرر - كما يقول جعفر - من غير معرفة، والمعرفة لا تأتي إلا لمن يبحث عنها، ابحث عنها، تذكرت جعفرا، جعفر مختار.
نظرت عبر النافذة، الشارع بارد خال من المارة، وأيضا الكلاب الضالة والقطط، بعيدا في المنحنى رأيت نسرا شائخا يحجل عابرا الطريق نحو جيفة لقط، بصقت، تخللت أصابعك المرتعشة لحيتك الصغيرة السوداء، بالباب طرقات تصلك واهنة، علا صوت المؤذن، توضأت، أقمت الصلاة، قرأت سورة الفاتحة ثم أخذت تتلو:
قل يا أيها الكافرون ، تشككت في ترتيبك لآيات السورة، أعدت تلاوتها، صمت طويلا، قرأتها مرة أخرى، توقفت حيث الآية الأولى، كبرت، انحنيت، أحسست بيقين خرافي يغمر نفسك، أحسست بأهميتك كإنسان يقف الآن أمام ربه، أكملت صلاتك، تذكرت والدك وهو يحدثك عن ضآلة الأشياء وفقره أمام ضخامة الكون، لا تنكر أنك معجب بأسلوبه الذكي في توصيل آرائه، وأنت كنت لا تؤمن بآرائه وتعتبرها خروجا عن الدين، علا الطرق على بابك، قلت لنفسك: من أين لي بالسيف المبصر؟
فتحت الباب، وجدت رجلين تعرفهما جيدا، تختلف معهما جيدا، تصارعهما جيدا، وتحبهما جيدا أيضا، سألك جعفر: هل مر بهذا الطريق الذي يمر أمام كوخك ولد خلاسي اسمه رياك؟ كدت أن تقول له: إنه أنا ...
منذ عام وأنت تجمع الأطفال ونساء الحي في خلوتك لتعلمهم أسرار القرآن، وأيضا لتتعلم منهم؛ لأن جعفرا قال لك: كن تلميذا لما حولك تصبح أستاذا لما حولك.
عاشرت في غربتك خلقا مختلفا أجناسه وألوانه وسبل حياته، تعلمت لغات محلية وأسرارا، ديانات لم تسمع بها من قبل، جالست الداعرات في الخمارات والبيوت الخاصة، عاشرت قوما متدينين متسامحين وقوما متدينين متعصبين، وقوما لا دين لهم ولهم الأخلاق السامية، جعت جوعا حقا، فسرقت لتأكل، وبعت حذاءك لتشرب وشحذت الناس لقمة خبز، خنت، تشردت، إذا دخلتك مدرسة الحياة أذابت فيك ألوانها جميعا وكنت بين الحين والآخر تجد وقتا ولو صغيرا لتقرأ كتابا، أو لتقف أمام شجرة تتأمل خلق الله، إذا كنت تبحث عن المعرفة، فتعلمت من براءة الأطفال سر نفاق الآباء وتشوههم، وتعلمت من قصف الرعود سر رقة ألحان جعفر المسروقة، وتعلمت من خجل الصبيات سر كتابة كان شو المعقدة، ولماذا ألحت عليك داعرتان بالعشق؟ نعم، لقد أصبحت تلميذا نجيبا لما حولك، فكنت تشرح للقرويين بغربتك قول علي بن أبي طالب: القرآن حمال أوجه.
تقول لهم: حاولوا أن تعرفوا جعفرا أكثر وأكثر؛ لأن هذا الرجل القصير ذا الابتسامة نصف المنجزة يمتلك الكثير من أجلكم، تحدثهم عن العلاقة بين الرقص الأوكراني وانهيار الاتحاد السوفيتي.
تسألهم: ما معنى أن يقول الحلاج: ما في الجبة إلا الله!
تناجي ربك ليل نهار بأن يلهمك معنى مناسبا لقول علي بن أبي طالب: ما اغتنى غني إلا بإفقار فقير.
كنت تقول لهم : حل مشكلة الجنوب أن تلبس الجنوبيات الثوب، وأن تلبس الشماليات اللاوي، لكن أيضا إذا اتفقن على ثوب به إغراء، الثوب وشعرية اللاوي، أيضا ستحل المشكلة.
عام وأنت تبحث بصدق وإخلاص عنك، تبحث عنك في الآخرين والأشجار وعصافير الود أبرق، تنحت بأظافرك صخرتك الملساء الصلدة، لكي تتجاوز والدك، ثم تتجاوز نفسك وتمضي قدما، تعيد صياغة الأشياء، ومثل مليكة شول مادنق أمك تؤسس لموت خاص بك، خاص بك شخصيا، موت يليق بلحيتك الصغيرة السوداء وطيور الكلج كلج المغردة على أشجار حديقتك الصغيرة، يليق بطرق الشوك والبرتقال، هكذا، ولأن الأشجار تموت واقفة، يموت موتك كالأشجار، يوم أن زارك جعفر ومحمد الناصر خرج أبوك ولم يعد، فخرجتما للبحث عنه، وجدتماه في فلاة بعيد القرية، كان يحمل معولا ويحفر به الأرض في حماس منقطع النظير وإصرار فأخذت أنت منه المعول، لكنه واصل الحفر بأظافره وهو يرجوكما أن تتركاه وشأنه، فقلت له أنت مشفقا: لا يمكنك أن تجد الذي ينتظرك بهذا الأسلوب، رفقا بنفسك.
قال لك جعفر: دعه، فالرجل الحر يعرف ما يريد، فلا نظلمه.
أعدت إليه المعول وأخذت وجعفر ترقبانه عن كثب وهو يحفر بكل جهد وهمة وبين وقت وآخر ينادي: ماء باردا، قليلا من الجلوكوز، قليلا من ملح الطعام بالجلوكوز، غن لي يا جعفر، غن لي يوم تبولت على الهاتفين، حدثني عن تلاميذك يا رياك، تلاميذك الذين هم أساتذتك!
إلى أن انتصب أخيرا، نتنفس الصعداء، كان وجهه غارقا في العرق وبفمه ابتسامة كاملة مستديرة ودافئة، بيديه حجر مسطح مربع في حجم الصحيفة اليومية، مده إلى جعفر الذي نفض عنه التراب ثم أخذا يتفحصانه بدقة وصبر وهما يتبادلان بعض العبارات من وقت لآخر، وجئت أنت ورأيت، كان منحوتا على الحجر بلغة غريبة ومتداخلة، وبه رسومات لأشياء لم ترها في يوم ما، أو لربما دفن في هذا المكان رجل حاولت أن تعرف، قال جعفر: ربما كانت هنا مدينة أثرية قديمة، لربما تشهتني امرأة، امرأة عديدة.
ثم قام جعفر، نقش عدة كلمات في مساحة خالية من الحجر ، وكذاك فعل والدك، ثم تبولا على الحجر بولا كثيرا، ضحكا، أشعل والدك سيجارة، أطفأها، أعاد الحجر إلى حفرته.
أهالا عليه التراب وهما يغنيان غناء غريبا يضحكان ويتقاذفان بالتراب والحصى كطفلين شقيين.
هذا سفر التي هي: ابنته الجميلة
تذكرت قول جعفر لك: المجتمع الحر هو الذي يوحد رؤية الرب والشيطان!
عندما قلت ذلك لعبد الله إبراهيم، قال لك ضاحكا: تعلمين يا منى بأني لا أفهم كلمات هذا الرجل القصير الوسيم، أنا فقط معجب بابتسامته النصف، وطريقة مشيه، وأحيانا عندما أسمعه يغني مع والدك، أحس برعب، رعب حقيقي يغزو قلبي، ثم أضاف في تعجب سائلا: أين بالله لقي والدك هذا الشخص؟
قلت له: بل أين وجد هذا الشخص أبي؟
هذا هو السؤال الحقيقي، الذي يبحث عن إجابة، إجابة حقيقية.
قال لك: لقد تحدثت مع والدي بشأن الزواج، ولو أنه اعترض في بادئ الأمر بسبب أمك مليكة مرة، ومرة أخرى بسبب نسب أبيك، إلا أن أمي استطاعت أن تقنعه بأنك جميلة ولا ذنب لك، وأقول لك حقيقة أن أمي معجبة بشعرك، ولونك، ودائما ما تقول لي: «لقد اخترت امرأة حرة، أحر من أمها، امرأة بنت عرب!»
ثم ألمح بأمور ما أصبحت تهمك، ليس لأنك كبرت، نضجت، وتجاوزت وهم المراهقة، لا.
لكن فهم أن يكون لك رجل خاص تجاوزته، ليس كحاجة امرأة، لا، لكن كحالة مفردة لها خصوصيتها، خصوصية هي في الأصل تأسيس لموتك، مثلك مثل مليكة، مثل ماجوك.
كانت لك التجارب الثرة مع الجنس الآخر، بكل مستويات الإعجاب، العلاقة، همسات الأصابع البريئة العطشى لاكتشاف ما بقبو الآخر، انتهاء بإشباع الفراش الكامل، ثم تكرار الممارسة، ثم تكرار التكرار، ضجرها، ثم ما عاد الجنس يمثل لديك هاجسا، هكذا انفك جنونك من أسره، وكانت التجربة مرة باستثناء علاقتك مع رجل الشجرة، عبد الله إبراهيم عبد الله، وذلك لأسباب لا تدركين كنهها، كنت تخوضين معركة ذات فهم مقدس من جانبك، وفهم قسري لا يتعدى ممارسة الجنس من الجانب الآخر، ولا أظنك تنسين ليلة أن سمعت أحد أصدقائك يقول عنك: إنها إباحية!
ثم تحدث بأسلوب وقح عن وقت قضاه معك في منزل صديق لكما، تذكرت حينها قول والدك: أطفال الريح هؤلاء عبيد لا أكثر، ولا تكفي حريتك وحدها في العلاقة، وإلا كانت نوعا من الدعارة وسوء السمعة، إذا! كيف استطاع أبوك أن يوحد رؤية الرب والشيطان؟
كيف استطاع جعفر؟
كيف لم تستطع أمك؟
كيف لم تستطيعي أنت؟
وهل استطاع رياك؟
كيف استطاع جعفر أن يوحد رؤية الرب والشيطان؟
سألك عبد الله إبراهيم: ما هي رؤية الرب؟ وما هي رؤية الشيطان؟
بل ما هو جعفر، جعفر مختار.
حينما جلس قربك جعفر في تلك الليلة، ليلة الحلم الواقع تلك بالجبل كان بعريه شيء خاص، شيء أكثر حرية مما لقنك إياه بطرائقه السرية، شيء كهطول الأمطار في فبراير، أو أكثر إدهاشا، شيء كلا شيء، غير شيئيته ذاتها، وكنت تظنينه سيقوم بعد لحيظة أو أخرى بملامسة جسدك العاري، أو يحاول أن يفكر في ملامسته، فلقد كنت مهيأة لحالة من الرفض كاملة، وكنت تعرفين أنه رجل حر كحلم نورس لفنجستون، أيضا، كنت تدركين تمرحل حريتك، لكن الأمر دائما كما يقول والدك أكثر تعقيدا مما نظن، وكما يقول جعفر أكثر بساطة مما نتوقع، الأمر دائما كرصد نمو زهرة، كرصد ذبولها، كزهرة، لا أحد بإمكانه التنبؤ بسلوك جعفر؛ لأنه لا أحد يعرف جعفرا غير جعفر ذاته، ولا أحد لا يعرف جعفرا غير الذين يعرفونه معرفة حقة، وأنت تدركين ذلك تماما؛ لذا كنت تنتظرين اللحظة التالية بتشوق تام، ما بعد؟ ما بعد؟ هكذا كان يردد عريك، وصمت الترقب: ما ... بع ... د؟
الجسد أم اللغة؟
فحاول جعفر ألا ...
وحاولت أنت أن ...
لا تدري منى متى أول مرة اختلفتما فيها بالرأي، مع عبد الله، ربما يوم أن اشتركتما في مسابقة في بحث تموله منظمة تطوعية بالمنطقة، كان البحث عن الحرب، قال عبد الله: إنها مؤامرة ضد الوطن؛ لأن وراء جيش الغابة إسرائيل وهيئة الكنائس الدولية وأظافر أمريكا، قلت أنت: إن وراء جيش الحكومة إيران والعراق والصين وأمريكا، فاختلفتما وقمت بتمزيق البحث، وقام هو بحرق مزق الأوراق، وتلك هي اللحظة التي أحس فيها بعاطفة جياشة تجاهك، وأحسست أنت بالحب نحوه، لحظة احتراق الأوراق البيضاء بنار الاختلاف، أحسست بسريان الحب في قلبك كدبيب نملة تحمل حبة ذرة بين فكيها تهبط قصبة، تصعد قصبة، تهبط قصبة، تصعد قصبة، في الطريق إلى البيت - حيث إنكما جيران - كنتما تتقاذفان بألفاظ ليست بذيئة، لكنها أيضا ليست طيبة، وتضحكان.
إذا لقد اكتشفتما فجأة مخابئ منسية في ذات كل منكما، مخابئ للفرحة والتآلف، لم تعلما بوجودها هنالك منذ زمن، منذ أن كنتما طفلا وطفلة تلعبان في الطريق بالحصى وعلب الصلصة الفارغة، تلعبان عريسا وعروسا وأطباء وممرضين، بوليس وحرامية، أنتما الآن شخصان مختلفان وغريبان عن بعضكما البعض، هكذا كان إحساسك في لحظة أن اكتشفت أنك تحبينه، أيضا كان إحساسه، وكنت تحملقين في وجهه كأنك ترينه للمرة الأولى، تحاولين التعرف عليه من جديد، وما كان الأمر يبدو غريبا، إذ فاجأته قائلة: ما هو اسمك يا هذا؟ من أين أنت؟
إذا، لحظة احتراق الأوراق البيضاء بنار الاختلاف هي لحظة الميلاد الثانية، إذا، كيف أصبح هو رجل الشجرة غير العنصري، ووالده هو إبراهيم ضابط الجيش ذلك العنصري؟!
وهو الولد اليومي الانطباعي الذي ليس له علم إلا ما علمه أبوه، بل كيف صار رجل الشجرة؟
في لحظة كان جعفر فيها بعيدا على شاطئ النهر، يصادق الرعاة نهارا، ويغازل الجنات بالليل، وكان والدك يمشط الطرقات بحثا عن الذي ينتظره، وأمك مليكة شول مادنق خلف سور من الحجارة والرمل تنعم بدفء الأرض، وحتى رياك - سادن الأخلاق والمثل - كان في غفلة تامة، عندما قادتك قدماك ورجل الشجرة ذات مساء إلى الحدائق المجاورة، حدائق البرتقال، وأنت الآن لا تحبين أن يذكر كيف سلمته نفسك؛ لأن تفاصيل ذلك لا تخصك وحدك، ولا تحبين أن يذكر كيف كان منفعلا وخائفا وهو يفك أزرار بلوزتك الكبيرة، وأيضا كيف كانت أنامله غارقة في عرق بارد، ونظراته خجولة رغم الشبق المتوحش الذي أعطى عينيه حمرة الأفوربيا، وهو يرفع عن فخذيك جيبة الجينز ليكومها على صدرك، ويحملق برعب جنسي في عريك مندهشا، كيف لا تقاومين؟ كيف لا ترفض أفخاذك الشحمة ثائرة متمنعة، وتمسك أناملك بالجيبة محاولة إبقاءها حرسا على السيد الجسد، حرسا مسالما من القطن!
كيف لا تقولين له: ابتعد عني، دعني هذا عيب ... هذا حرام ... كيف تدعين جسدك يتوهج في عينيه تحت ضوء القمر هكذا، سهلا ورائعا وطاغيا، أيضا لا تحبين أن يذكر أنه أخذ يرضع ثدييك كما الطفل الجائع ثم ... ثم عضك، عضك بكل قسوة، إلى أن دوت منك صرخة مزقت حجب الليلة المقمرة الساكنة بين أفرع شجيرات البرتقال ونواره الأبيض الذي تطن حوله النحلات، في ذلك الوقت، في ذلك الوقت بالذات - آن تألمك - شعر برغبة الفعل، بلذة معالجة المرفوض المؤلم الممتنع، إلا أنك رفسته بقدميك بعيدا قائلة في ألم: حرام عليك ... أنت قاس!
واشتعلت غضبا، واشتعل هو بدافع الفعل، في الحق افتقدت أنت الرغبة تماما في الاستسلام الحلو المغبط، الذي حتما كان سيقودك إلى الاستشعار بلذة المفاعلة والاستمتاع بالفعل لحظة بلحظة، إلى حين بلوغ النشوة لاكتمالها المقدس التام في ذاته، لحظة استسلام الروح لسلطان الجسد، تذكرت جعفرا، جعفر مختار، قلت لعبد الله، رجل الشجرة: سنعود للبيت، قال وتخنقه العبرة: يستحيل، يستحيل!
اعتذر، أكد، أصر، قال، تمسكت، تباكى، تلامس، تذكر، تقاوم، ثم استسلم لإرادتك بالعودة للبيت، إذا كان هذا هو اللقاء الأول لك مع عبد الله إبراهيم، وفشله هو الذي أبقى علاقتكما إلى اليوم، وفشله هو الذي قاده لطلب يدك من والدك، وفشله هو الذي مكنه من إقناع والده، فإما أنت أو لا امرأة أخرى، إذا، كان فشل الفعل هو السبب للفعل المرتقب، في المستقبل، إذا، فشل الفعل هو نجاح الفعل، وأنت لا تدركين ذلك أبدا - ولن تدركيه - ولا حتى رجل الشجرة يدركه، لكن جعفرا أحس به، وقاله لوالدك، وذلك حين إصرار رجل الشجرة بالزواج منك، قال جعفر لأبيك: إنه فشل في حبها.
وما كان يعلم رجل الشجرة أن هذا الجسد المحروم منه هو مستباح لرجل شجرة آخر بكل طواعية واستسلام ورغبة، بذات سهولة غابة البرتقال التي لم تتبعه، وعندما كادت ... افتقدها.
أخوك رياك المتصوف يعشق ياسمين إبراهيم أخت رجل الشجرة الصغرى، وهي تعشقه، لكن والدها يقول: إن رياك عبد أسود كالفحم، ولا يمكن أن يزوجه ياسمين إبراهيم ابنته، فإذا تجاوزنا ذلك كله، أنت معجبة بوالدك محمد الناصر، بوعي أو دون وعي، متبنية لأفكاره ومواقفه كلها، دون ما استثناء، معجبة بمقدرته في أن يكون حرا، وأن يضع أحلام الحرية من كوابيس الآخرين، ما كنت تفهمين أن حريته تقف عند حدود الممارسة الشخصية كنتيجة للفهم الواعي للعلاقات: العلم والتجربة، لا.
لكنه كان أيضا يسهب في القول عن حرية أن تحفر بئرا، وقيد أن تدفنها، حرية أن تمشي ورجل طوال الطريق من الشلالات إلى الميناء النهري الصغير، تمران بالهضاب الصغيرة المسكونة بالأفاعي والسلاحف القديمة الباردة، أن تقبليه وأنتما تنزلان إلى النهر مرة أخرى إذا أمكن ذلك، أن تلاعبا قردا أو سلحفاة صغيرة لونها لون الحجر، زوجا من الإوز البري، أن تتسلق الرمال البلورية البيضاء. أن تتذكرا جعفرا، جعفر مختار بحرية، أن تخرجا في مظاهرة تطالبان بقفل الطريق التي تشق الغابة، فتلوثها وتقتل الغزلان والسناجب، لكن شريطة أن تشاركا في صنع الطريق البديل، إذا كان والدك حرا حرية مشروطة بحدود الحرية ذاتها، كان حرا كفراشة ترمي بنفسها في اللهب محاولة الالتحام بسر الضوء، أو التلاشي في الذات المشعة، معجبة به وأنت تتبعين تعاليمه وتحسين إحباطاته، وعندما يحس أنك فهمت حريته فهما خاطئا كان يهتف صارخا: ما تفعلينه دعارة وليس حرية شخصية.
ثم يسألك بوضوح: هل الآخر حر؟
وما كنت تمتلكين إجابة لسؤاله، كان والدك حرا في قيد ما يوحي به عقله إليه، وتؤكده نفسه أو جعفر، سيان الأمر، كان وجعفر بالصالون حينما أطل والدك عبر النافذة ليرى المارة يذهبون في كل الاتجاهات، جماعات وفرادى، قال لجعفر سائلا: أين يذهب هؤلاء الناس في كل الاتجاهات يمشون؟ أين يذهبون كل يوم، كل ساعة، الآن، في هذا الآن بالذات؟
قال له جعفر: دعنا نتبعهم وحتما سنكتشف مذهبهم.
ارتديا جلبابين نظيفين، وضع كل منهما على رأسه عمامة، وحملا عصيهما بعد أن انتعلا مراكيبهما، خرجا، توقفا للحظات في منتصف الشارع العام، إلى أن مر رجل شاب يحمل حقيبة يد، يبدو أنه قد جاء من سفر شاسع لتوه، قال جعفر: أنا سأتبع هذا.
وبقي والدك، وما هي إلا لحظات قصيرات حتى قدمت امرأتان، إحداهن سيدة متزوجة، وعرف والدك ذلك برؤيته لحناء قدمها، أما الأخرى فكانت فتاة بعد المراهقة تقريبا بعام أو أقل، تسيران في الاتجاه المضاد لمسار رجل جعفر ذي حقيبة اليد، فقال والدك في نفسه: أنا سأتبعها لأعرف أين يذهب المارة، وحينها سألتقي بجعفر، وإن ذهب هو للاتجاه المضاد سنلتقي عند مذهب المارة.
ومضى خلفهما بزمن ومسافة قصيرين.
قال لك والدك: كنت أتجاهل تصرفك ليس لأجلك، لكن من أجل نفسي وحريتي أنا الذاتية، من أجل معرفتي ووعيي، من أجل عشرات السنين التي قضيتها أعلم نفسي الأسماء، فما كنت آخذا ما أعطيتك إياه من حرية بيدي اليمنى، ما كنت آخذه باليد اليسرى، لكن قال لك: يا بنتي منى، الحرية من غير وعي ومعرفة عبودية، هي العبودية بعينها.
ناقشك جعفر في أمور شتى، منها الدين، اكتشفت فجأة أنك لم تفكري في أمره بجدية، ولو أنك بين الحين والآخر تجدين نفسك تفكرين في الحريات السياسية والمدنية والشخصية وحظر التجوال.
قال لك جعفر: الدين سبيل خيرة.
وابتسم نصف ابتسامة قبل أن يلحق بوالدك في الصالون، كان عبد الله دائما ما يلاحقك بمسألة الزواج، يعجبه فيك جمالك فقط، الذي لم يعطه الفرصة للتفكير في محاسن فيك أخرى، وكان أبوه يحذره في بادئ الأمر منك قائلا: احذر خضراء الدمن!
وكان يعرف أن معنى خضراء الدمن هي الحسناء في منبت السوء، تماما كما يرى والده فيك، لكن فشل فشلا ذريعا في أن يوجه عاطفته نحو فتاة أخرى أجمل منك؛ لأنه وكما اقتنع والده أخيرا، لا توجد فتاة أجمل منك، أو بالأحرى لم تقع عيناه على أجمل، أخواته ولا صبيات أعمامه ولا غادات المدينة كلها ، كنت الجميلة بدون منازع، وأنت تعرفين ذلك؛ لذا ما كنت تتعجلين للزواج؛ لأنه حتما سيأتي من يتزوجك يوما ما، أو كما يقول والدك: في آن ما.
لكن أيضا ملاحقته لك كانت تملؤك بالشعور بالرضا، وتشبع فيك غرور الأنثى، غرور أنك مرغوبة، أنك محور تفكير ومحور اهتمام، وأنك جميلة، وأنك مغرية وجذابة، وأنك ساحرة، وأنك إنسان لا يتكرر، وأنك ... وأنك، تملؤك زهوا وجمالا، كنت تحبينه، لكن من موقف القوي، وكان يعشقك لكن من موقف الضعيف، وهو يعي ذلك جيدا ويقدره، عكس موقف أخيك رياك الذي كان هو الجانب الضعيف في العلاقة، وياسمين هي الجانب القوي، وما ذنبه؟ إلا لأنه كان أسود كقلب الأبنوس، في لون أمه مليكة شول، وكما يقولون: الولد خال، فهو نسخة من خاله ملوال، في الطول والشفاه الغليظة والأذرع الطويلة القوية، والصوت الجهوري، حتى في تعصبه الديني وفي مشيته، إذا، لقد كان وسيما بمقاييس الغابة، لكن من يقنع والد ياسمين بذلك؟ من يستطيع أن يؤكد له بأن هذا الولد الذي تراه قبيحا هو أيضا وسيم! الذي تراه عبدا هو أيضا حر! الذي قد لا تراه أبدا هو أيضا موجود، تضامنا مع أخيك رياك قلت بينك ونفسك: إذا لم تتزوج ياسمين رياك لن أتزوج عبد الله إبراهيم.
ثم اتفقت مع ياسمين على هذه الرؤية التي أكدت لك: رغم أن أمي وأبي يرفضان هذه الزيجة إلا أنها ستتم، إنهما لا يزالان يحتفظان بعقلية الماضي، عقلية جدهما بائع الرقيق بأعالي النيل، ثم أخبرتك عن نسب والدها ووالدتها الذي ينتهي بالباشا الشهير بتجارة الرقيق في أزمنة الاستعمار التركي للبلاد الكبيرة، فتذكرتما جعفرا، جعفر مختار، وقلت لها: لن يستطيع أحد أن يسلبنا انتماءنا للبلاد الكبيرة، ثم أضافت: لكن ما يحيرني حقا هو: كيف توافق أمك ويوافقك أبوك على زواجي من عبد الله، ويرفضان زواج رياك منك؟ فالدينكاوية مليكة شول مادنق، أمنا أنا وهو، ومحمد الناصر الذي لا أب له، هو أبي وأبوه!
فقالت لك ببراءة وصدق: أنت تعرفين أن الأمر في هذه الناحية يختلف كثيرا، فعندما قصصت لوالدك ذلك ضحك كثيرا، أشعل سيجارة، أطفأها، قال لجعفر، جعفر مختار: دعنا نذهب للنهر، للراعي، لطفله، للأغنام وأشجار المسكيت.
كان الراعي العجوز عجوزا، وطفله النزق نزقا، وأغنامه الفرحة تثغو وتعر، وكلبه يجري وراء الأرانب والفئران الكبيرة ينبح مبتهجا بشمس الصباح، ثم يقترب من سيده الراعي محييا إياه، مبصبصا بذيله، وكأنه يشكره على هذا الصباح الجديد، هذا اليوم الذي وهبه إياه، وبينما كانا يقتربان من طفل الراعي الذي كان يجري نحو النهر وخلفه حملان، إذ ناداهما الراعي العجوز قائلا: اشربا معي القهوة.
فجلسا قربه تحت شجرة لالوب، سأله جعفر: أين بيتك؟ لأنا نراك ليل نهار قرب النهر، أو تحت هذه الشجرة، شجرة اللالوب.
قال مبتسما وهو يعالج البن على المقلاة: بيتي هذه الشجرة، وهذه المخلاة.
سأله والدك مندهشا: أين ملابسك وحقائبك وأشياؤك؟
فأشار للمزمار والمخلاة ومواعين القهوة، قال: هذا كل ما أمتلك من معدات وأشياء، أما ملابسي فعلى جسدي، وتلك هي عصاي أتوكأ عليها، وأهش بها على غنمي!
فسأله جعفر مبتسما: ومن هذا الطفل؟
قال: إنه ابن بنتي عائشة، وهي تعيش بالمدينة، لكنه أحب الإقامة معي، إنه مثل الأرنب البري، يعشق المحريب والمسكيت، ومثل الورل يرضع الأغنام والنعاج، وكالبلطي يحب الماء.
بعد أن شربوا القهوة جميعا، أخذ الراعي مزماره واصطحبهما للنهر، وهنالك ساعداه على غسل فراء نعاجه وخرافه، ولعب الأربعة لعبة التمساح والفريسة، وكانوا يقومون برمي طفل الراعي بعيدا في الماء، أو يغطسان به لقاع النهر، أو يورطانه في دوامه ويتركانه لكي يتصرف، فدائما ما كان يعود ظافرا للشط، وهو يضحك في فوضوية، قال جعفر للراعي: علمنا العزف على الناي.
قال بشكل نهائي: لا أستطيع.
قال والدك: إذا كيف تعزف أنت؟
قال مبتسما: هكذا ومنذ صغري وجدت نفسي أمسك بالمزمار، أنفخ فيه فيخرج ما تسمعونه من ألحان، أتعجبكم ألحاني؟
ثم أضاف: خذوه وانفخوا في، جربوا، ربما عزفتم لحنا ما.
فأخذه جعفر ونفخ فيه لكنه لم يصدر سوى صوت واحد عاطل ومزعج، وكذلك فعل أبوك، نفخ.
قال له جعفر: إذا عقابا لك لأنك لا تعرف كيف تعلمنا العزف، سنحكي لك عن الحرب، سنحدثك عن الجنوب، عن الموت، وسنقول لك كيف يموت الأطفال والغزلان والذئاب في الغابة والمدينة والقرية بالألغام، بالجوع، بالقذائف، بجرائم الحرب.
وقالا له كل شيء عن الحرب، قال وقد ظهر على وجهه القديم الحزن والإرهاق: أين هو الجنوب؟ أهو بعيد من هنا؟
قال له والدك شارحا: إنه وراء، وراء، وراء الغابات الوراء النهر.
قال الرجل مندهشا: إذا أهو مسيرة عام كامل بالحمار؟ أم عامين؟
قال: كيف ذهبتم إلى هناك وعرفتم هذا؟ لا بد أن ذلك كلفكم الكثير؟
قال: كيف إذا جاء الجنوبيون إلى هنا؟ منذ عشرات ومئات السنين؟
قال الراعي العجوز: سكنت في شبابي بالمشاريع الزراعية في قطية واحدة مع شخص من الجنوب، كان طيبا ويغني دائما بالرطانة غناء رقيقا وحلوا، ولو أنني لا أعرفه، وكان أيضا يتكلم بالرطانة؛ لذا لم أستطع أن أعرف منه كم يبعد الجنوب من هنا، ولماذا جاء؟ وكيف؟
صمت للحظات، ثم سأل والدك وجعفر فجأة: لكن من الذي يقتلهم؟
حدثهم: في موسم الأمطار يصنع قطية صغيرة من نبات المحريب وعيدان المسكيت وبعض الأعشاب والطين، فهي تقيه العاصفة والمطر، وأيضا هوام الخريف، أما في الشتاء فيتغطى بشملة من صوف الأغنام ووبر حماره، تقيه البرد، ويفترش دائما برشه القديم المصنوع من السعف سريرا ولحافا له ولطفله.
قال الراعي: كان ولده يسبح بعيدا نحو الشط الآخر وخلفه يسبح كلبه، ابنتي اسمها عائشة، عائشة سعيد، هل تعرفانها؟
قال جعفر ووالدك في لحظة واحدة: نعم، كل المدينة تعرفها، إنها المغنية الماشطة وراسمة الحناء التي تعلم العروس الرقص، وهي أيضا الخاطبة، وهي التي تقوم بتنظيف بشرة العروس من الشعيرات الزائدة بالحلوى، وهي التي تدلكهن، وهي بائعة الدلكة وصانعتها، وهي الوداعية، وهي الراملة، وهي العرافة قارئة الكف، وهي صاحبة الزار، وهي الطهارة، هي الداية، ابنتك عائشة هي كل الحياة السرية للنساء.
تخطبهن، تزوجهن، تنظفهن، تقدمهن لأزواجهن في ليلة الدخلة بعد أن تعلمهن كيف يمانعن، ثم يستسلمن، كيف يغتسلن ، يحلبن، يلدن.
وعندما يمتن أيضا، عائشة محمد سعيد هي التي تغسلهن وتقدمهن للملائكة طاهرات.
قال محمد الناصر - أبوك - مؤكدا: في الحقيقة لا يمكن أن ينجب عائشة غيرك.
ابتسم الراعي العجوز وهو يضع مزماره المخلد بين شفتيه القديمتين ويعزف لحنا عجوزا دافئا، قال بعد أن أنهى آخر أنغامه: تعلمت هذا اللحن من ريح الخريف حين هطول الخرسان المرعد وتصايح الأغنام في خوف.
قال جعفر: لقد لاحظت ذلك، لكن للكلب أيضا دورا لم تذكره.
قال ضاحكا: بالتأكيد أنينه كان واضحا في اللحن، فهو أيضا يخاف البرق.
فسرق أبوك هذا اللحن أيضا، وغناه جعفر فيما بعد، ثم اتخذا ركنا قصيا تحدثا فيه عن حال الأسرة، فقال محمد الناصر أبوك: منى ابنتي تشعر بغربة قاتلة، إنها تحس بأنها دائما وحيدة، فقدان أمها شيء لا يطاق، وهي التي تحتاج إليها دائما.
ثم قال: رياك أيضا هو الآخر يشكو من كونه يعامل في كثير من الأحايين كمواطن من الدرجة الخامسة في وطنه، وهو غالبا ما يصنف مواطني البلاد الكبيرة كالآتي: شماليون، نساء شماليات، غرابة، نساء غرابيات، جنوبيون، نساء جنوبيات.
فقال جعفر ضاحكا: يحتاج ابنك رياك لأمور أخرى لكي يدرك وعيه، فلقد علمته أكثر من حين أن إحساسه بالمواطنة ليس هبة يعطيها إليه الآخرون، ليس منا، لكنه إحساس ينبع من ذاته الواعية بحقيقة الصراع، ماذا يعني شمالي؟ وماذا يعني جنوبي؟ كلهم، كلهم غزلان وفئران هذه البلاد الكبيرة. حاول أن يقول له: الجميع أطيار لها ريش مختلف ألوانه، ولها هيكل واحد، وقلب واحد.
قال أبوك: ابني رياك يحتاج كما قلت لأمور أخرى، أمور جيدة، يجب عليه أن يتجاوز محنة ياسمين إبراهيم، محنة رفض والديها، محنة إرثهم من السياط وزرائب الآدميين، عادا للراعي، سألاه: هل أنت سعيد حقا بخلائك هذا؟ قال: فقط لو تزوجت ابنتي عائشة.
فنظرا معا في آن واحد للطفل الصغير الذي يلعب في الشاطئ الآخر مع أطيار الرهو والسلاحف القديمة الباردة الذي غطس في جوف النهر!
كنت فرحة جدا بفكرة الرحلة، الرحلة الطويلة في نواحي البلاد الكبيرة، وكان والدك قد اقترحها كبرنامج للمعرفة والترفيه في إجازة نصف العام، وكان المقترح واحدا من ثلاثة أمكنة: الجبل في أقصى غرب البلاد الكبيرة، أو البحر في أقصى شرق البلاد الكبيرة، أو النيل في أقصى شمال البلاد الكبيرة، فاخترت الجبل؛ لأنك تتشوقين دائما لزيارة غرب البلاد، بتعدد ثقافاته واختلاف مدنه وطبيعته، خاصة الجبل، فكل ما سمعته كان يحفزك للذهاب، النوافير الطبيعية والمياه الحارة، البحيرات العالية في القمة، الأنهر الصغيرة دائمة الجريان، غابات برتقال اليوسفي والمانجو، والباباي والموز والأناناس والعنب، الأطيار الجميلة المهاجرة والعصافير والزرازير، الحيوانات المتوحشة والجو المعتدل.
فقلت لوالدك: الجبل، فقط الجبل، أما رياك فقد تحفظ في بادئ الأمر قائلا: إن هنالك أشياء أهم من الترفيه يجب عليه أن يقوم بأدائها، إلا أن جعفرا حثه على الذهاب؛ لأن للسفر فوائد، فهو عبادة طالما كانت من ورائه أشياء خيرة ترجى، وأكد له: الدرس الذي يمكنك أخذه من السفر لا تجده في آلاف الكتب، ثم ألمح إليه بأن السفر سيساعده في تخطي محنة ياسمين.
تبادلت قيادة العربة مع والدك، أما رياك فقد انتبذ ركنا بالعربة وغط في نوم عميق، ثلاثة أيام وأنتم تخلفون وراءكم المدن الناعسة القديمة، تغرقونها بالأتربة والذهاب، وأنتم تمضون غربا، غربا.
وبعد تعب وإرهاق استنفد كل طاقاتكم وجدتم أنفسكم أمام مدينة جبلية ساحرة ذات شلالات معلقة في قمة الجبل، غارقة في ضباب كثيف فتبدو مياهها كما لو كانت منزلة من صدر السماء، أو مجلوبة من أثداء السحابات الرمادية السابحة في سماوات الله تظل غابات المانجو والبرتقال، وهي تغازل فتيات الريف الجميلات وهن يجنين اليوسفي، أو يردن الماء، أو يلعبن الحجلة، فكنت في دهشة، تسألين والدك سؤالا تعرفين إجابته تماما: هل هذه أيضا بلادنا؟
فطرتم تحت شجرة المانجو، شربتم قهوة عند كهف قديم.
قالت لكم صبية: نزل هنا أبو زيد الهلالي، بينما أخذت تحكي لكم عن صراع دار في هذه الأمكنة بين أبي زيد الهلالي وأخيه أحمد المعقور، تهادى إلى مسامعكم صوت مزمار يأتي من موقع ما من الجبل .
قال والدك لكما: فلنذهب إلى عمكما جعفر، جعفر مختار، نسمع منه بعض ما استطاع أن يسرقه من الراعي العجوز من الألحان، كاد أن يغمى عليك أنت ورياك، صرختما في وقت واحد: جعفر، ما الذي جاء به إلى هنا؟ ألم نتركه خلفنا في المدينة الكبيرة؟ قال أبوك محمد الناصر ضاحكا: طرق كثيرة تؤدي إلى هذا المكان، بل كل الطرق.
أشعل سيجارة، أطفأها، قال إنه فنان يتعلم الأشياء بسهولة ويسر، إذا صعبت عليه سرقها، حدثكم جعفر برحلته إلى هنا، وإنه كان في انتظاركم لساعات كثيرة، وإنه تحايل على الانتظار بالناي، فعزف لكم لحنا جميلا، قال تعلمه من ود أبرق حط بنافذته ذات صباح، وطائر كلج كلج اعتاد أن يرك في الظهيرة على غصن شجيرة قشطه بفناء داره.
قال: إن صوت الطائرين ولدا في إحساسا أبويا، إحساسا عظيما بالقلب، أمطرتما جعفرا بالأسئلة، الأسئلة الملحة التي كانت تدور بذهنيكما، أنت وأخيك رياك، أسئلة معقدة متداخلة، وأخرى سهلة بسيطة ساذجة، وقد أجابكم عنها بنصف ابتسامة وسعة أفق وصدر، حتى الأسئلة الخاصة جدا التي لا تخص أحدا غيرك، كسؤالك له عن كيفية أداء العادة السرية والتبول في آن واحد، وهو يهتف على أكتاف المتظاهرين الممجدين للحرب والانتصارات، وسأله رياك عن آلام الرأس التي تصيبه كلما تحدث معه في شأن خاص، فأجابه وفي فمه ابتسامة كاملة، وحدثه عن رجل سيأتي في آخر أزمنة وبداية أزمنة أخرى، رجل تقي وشاعر، يعرف لغات كل الأشياء، يعرف أسماءها، ويعرف أيضا كيف تموت، سألته عن أمه، عن زوجته وأبيه، سألته عن أخته، عن أحلامه وبنيه، سألته عن نفسه، عن بيته، وعن أبيك، أبيك أنت محمد الناصر، فأجابك: غنى، ثم نام.
وعندما ذهبت أنت ورياك إلى حجرتكما حاولتما استعادة إجاباته الواضحة الجريئة الخطيرة، فما وجدتما في ذهنيكما غير الفراغ، الفراغ، تنام في برودته أسئلتكما دائخة مستسلمة حزينة وباردة، ولا شيء إطلاقا من إجاباته، وكأنه ما فتح فمه الصغير وتكلم، هذا هو جعفر، لا تعرفان عنه شيئا، ويعرفكما، فدخلكما الرعب وأنتما تسألان بعضكما البعض مندهشين: ما اسم أمه؟ ما اسم أبيه، أخته، زوجته، بيته؟ ما اسم جدته؟ بل ماذا كان يقول لنا عن آلام الرأس، عن الاستمناء، وكنت تدركين بشكل أو بآخر إدراكا تاما في ذاته متناهيا أنه في يوم ما كان كل الناس يعرفون جعفرا، يعرفون كل شيء عنه، كل تفاصيل حياته وأسراره، ولم يكن مجهولا أبدا لديهم، لكن الآن، وكما يقول والدك في هذا الآن بالذات، ما عاد أحد يعرف عن حياته شيئا، غير اسمه جعفر، جعفر مختار، وما عدا أباك محمدا الناصر، فهو الشخص الوحيد الذي يدرك جعفرا؛ لأن والدك كما يقول جعفر ذاته عرف ...
والمعرفة، كما يقول والدك: رؤية.
والرؤية كما يقول جعفر: إدراك.
والإدراك كما يقول والدك: يقين، لا شك فيه.
في صباح جميل بالجبل الجميل، وبينما كنتم أنت ورياك وجعفر ومحمد الناصر والدك، تتناولون طعام الإفطار، كان جعفر يتحدث عن علم البحار والبارانويا وتاريخ قبائل الفور والنوبة والإيكو والماساي عن حضارات سادت حول هذا الجبل، سادت ثم بادت، عن عدد الذكور في أيام حكم علي دينار، عن أمراض النبات وعلم الجينات، عن نوعية الصخور وعمرها، وما تحتويه من معادن وجدواها الاقتصادية وإمكانية تعدينها ذاتيا، ثم قال بكل ثقة: هذا الجبل سيصبح عاصمة للبلاد الكبيرة في يوم ما.
قال والدك: بإمكاننا أيضا في المستقبل صناعة العرق من البرتقال وتصديره إلى أوروبا.
ثم سألك فجأة جعفر سؤالا مباغتا: هل ستتزوجين عبد الله إبراهيم؟ ثم سألك أيضا: هل استطاعت امرأة اليوم أن تتجاوز الرجل، أقصد هل عرفت أنها امرأة؟
ثم أضاف والدك شارحا قصد جعفر: هل يمكنها القبول بحريتها، الحرية المطلقة؟
قلت مبتسمة: الرجل مرحلة ممتعة، وليس على المرأة عبورها أو تجاوزها، لكن عليها الغرق في هذه المرحلة، في الرجل.
اقترح رياك الذهاب إلى البحيرة، اقترحت أنت الذهاب أولا إلى سوق المدينة؛ لأنك نسيت أن تحضري معك شيشتك التي ستدخنينها، وأدوات التجميل، منذ عامين أو أكثر، أي قبيل وفاة أمك بسنة وشهرين، لكن والدك أكد لك أن هذه المدينة ليست سوى قرية كبيرة، ولا تستخدم فتياتها أي نوع من أدوات التجميل، لكنك أصررت على الذهاب والبحث عن صيدلية، وفعلا ذهبت، وكانت بالمدينة صيدلية واحدة فقط، وتماما كما قال والدك لم تجد بها غير زيت الزيتون وزيت الحبة السوداء وكريم للشعر قديم، ونصحك الصيدلاني بالذهاب إلى المدينة الكبيرة، وهي تبعد زهاء الساعتين، قال لك والدك: ماذا إذا لم تستخدمي هذا الخليط العفن في خلال هذا الأسبوع؟
قلت له: ألا ترى كيف تأثرت بشرة وجهي خلال هذه الأيام الثلاثة، إنها ستسود، وربما ستظهر عليها بعض البثور القبيحة.
قال لك والدك: إذا، لقد رهنت نفسك للمرض.
قلت: ماذا أفعل وكل البنات يتجملن؟
عندما عرضت المشكلة لجعفر قام بإحضار بعض اللبن الرائب والليمون وعصارة نبتة الصبار، وخلط الجميع بنسب محددة، وقال لك: استخدمي هذا، إنه كريم الطبيعة.
كانت البحيرة رائعة، فهي محاطة من إحدى جوانبها بالجبل وصخوره العشب النامي بينها، وبالجانب الآخر غابات البرتقال واليوسفي، وعندما أردت السباحة قال لك رياك: من الأحسن أن تذهبي بعيدا خلف تلك الأشجار، مشيرا لشجيرات عرديب تبعد عنكم كثيرا، أو ...
فقلت له مقاطعة: لماذا؟ أريد أن أستحم معكم وأسبح هنا، فإذا لم تشأ أنت اذهب خلف شجيرات العرديب.
وعندما سمع والدك الحوار تدخل قائلا: إذا تعال معي، اسبح أنت وجعفر هنا وأنا وهي سنسبح خلف العرديب.
قال جعفر ضاحكا وهو داخل ماء البحيرة: إذا، طالما كنت يا رياك تخشى من عيني فأنا الذي يذهب خلف العرديب وابقوا أنتم.
قال رياك: حتى أنا وأبي لا يجب أن تستحم منى عارية، أو حتى بأي شكل آخر أمامنا، هذا عيب وسلوك غير مسئول.
قال والدك ثائرا: أليس هذا جعفرا؟ فلتسبح قربنا كما شاءت، فلتسبح معنا، اذهب أنت خلف العرديب أو خلف ما تشاء.
لكن جعفرا همس في أذن والدك فغطسا لزمن داخل البحيرة، ثم خرجا من الماء، ارتديا ملابسهما وغادرا، وهما يتحدثان دون انقطاع، وبقيت أنت ورياك، وبدون استشارة أحدهم خلعت ملابسك وبقيت بملابس السباحة، ثم قفزت في البحيرة، فوقف رياك مندهشا للحظات، ثم قفز هو الآخر في الماء، وأخذتما تلعبان لعبة التمساح والفريسة، قال لك رياك: كنت فقط أريد أن أدخل أبي وجعفر في موقف أخلاقي.
ثم قال: فلنذهب.
قلت وأنت ترتدين ملابسك: إلى أين؟ - نحو غروب الشمس، أن نكتشف العالم من حولنا، ربما وجدنا مخدع الشمس، ثم سألك وهو يشير بعيدا نحو غابات المانجو والبرتقال: أتدرين ماذا يوجد بعد غابات المانجو والبرتقال تلك؟
قلت: توجد غابات المانجو والبرتقال! - وخلف غابات المانجو والبرتقال، الخلف غابات المانجو والبرتقال؟
قلت بحماس: غابات المانجو والبرتقال!
قال وما زال يشير نحو البعيد: وخلف غابات المانجو والبرتقال، الخلف غابات المانجو والبرتقال، البعد غابات المانجو والبرتقال؟
قلت وكنت متأكدة مما تقولين: يوجد جعفر مختار، يغرس شتلة مانجو، أو يجني ثمرة برتقال، أو يعاشق فتاة قروية، أو يسرق الألحان من حفيف أشجار المانجو والبرتقال، أو ينتظر محمدا الناصر، لا فرق.
نعسة وتعبانة؛ لذا عندما استلقيت على السرير، غرقت في نوم عميق، ولا تدرين إلى هذا الآن، أكنت في حلم أم في صحيان، لا تدرين عندما جلس قربك جعفر، جعفر مختار.
كان رياك يغط في نوم عميق، والحجرة مضاءة بحلمية، وتهب نسمات رقيقة عبر النافذة المطلة على الفناء الواسع المزروع بشجيرات اليوسفي واللارنج، بيديه أوراق كثيرة مكتوب عليها بلغة تشبه أشجار اللعوت، كما بدت لك عيناه الصغيرتان تشعان بأشياء غريبة ومعان غير مدركة، لم يتحدث، لكنه بطريقة أو بأخرى كان يلقنك علما عظيما ولو أنه غير مفهوم لديك، على فمه الصغير ابتسامة، بل نصف ابتسامة دائمة، كان قصيرا نحيفا أصفر البشرة، وسيما له أسنان بيضاء دقيقة ووجه قليل، ملامحه ذكية، به براءة أطفال، وجدية العلماء، به طهارة الأنبياء وخبث الصعاليك، تمدد على السرير قربك، قلب أوراقه، قلت له: ماذا لو أن روح أمي ملكية شول مادنق الآن هنا، بهذه الحجرة؟ اكتشفت فجأة أنك عارية كالريح، لا يغلف جسدك غير الهواء، لكنه على ما يبدو لم يهتم بذلك، وكنت تعلمين علم اليقين بأنه إذا استمنى جعفر ذاتيا على خيال امرأة ما - أي امرأة - واستطاع أن يستحضر في مخيلته نهديها وساقيها وشفتيها وصوتها أيضا، فإنها ستحس به أينما كانت، تحس بشيئه ولو كانت في حضرة شيء زوجها، وتظل تقاوم الفكاك منه في حالة كابوسية تامة، وتحاول الصراخ لكنها لا تستطيع إلا بعد أن يدرك جعفر، جعفر مختار، ذروة نشوته، وتتدافع أشياؤه كالنوافير فيها؛ إذا ليس جعفر في حاجة لعريك.
أخذ يقلب أوراقه، يتفحصها بعمق وهو يلقنك معرفته، اكتشف أيضا عريك فجأة، ارتبك قليلا، أخفى نصف ابتسامته في النصف الآخر، قلت له: لا يمكنني أن أفهمك.
أضاف نصف ابتسامة للنصف الآخر وهو يتفحص آخر ورقة بيده، نهض وعلى فمه ابتسامة كاملة مؤكدة، أخذ يتفرس الأوراق على جسدك العاري، مكفرا إياه من أنامل القدم إلى شعر رأسك، هل كنت عارية حقا؟ لا تدرين، حدث نفسه قليلا، وخرج.
سافرتم جميعا إلى منطقة جبلية، ثم عدتم لترحلوا مرة أخرى، راجعين إلى المدينة الكبرى، عاصمة البلاد الكبيرة، حيث الضجر والنميمة، حيث السؤال، حيث ...
ياسمين إبراهيم، جارتك الصديقة، كانت في نفس عمرك، أو تكبرك ببعض الأشهر، إلا أنها كانت تحمل إليك مشاكلها الأسرية الصغيرة التافهة، وبتجاربك - تجاربك أكبر منك ومن طفولتك ومعرفتك، التي أنضجتك مبكرا - كنت تقدمين إليها ما تحتاجه من حزن، حزن أصيل يدفع عجلة الوجود أمامها، عجلة الوجود الصدئة، ويفتح لها نافذة على إمكان الفرح، مسرة تكيفها لتتجاوز بحار آلامها، قلت لها: لا عليك، فالعنصرية القبلية تحتاج لزمن صعب آت، زمن من الانصهار واللهب، فدعينا نفكر في مشكلة الآن، فليست المسألة مسألة لون؛ لأنهم لا يتزاوجون والحلب والأعراب والفقراء أيضا، قلت لها: لست أدري، لكنك كنت تعلمين جيدا أن جعفرا بإمكانه التحدث في مائة محاضرة بمائة لغة مختلفة وأسلوب، عن مسألة العنصرية القبلية وربطها بذكاء بكثير من الأغاني الشائعة في تاريخ الغناء الإنساني، ويستطيع أيضا أن يضحك ملء فمه عليكم جميعا، يتبول في وجوهكم ويمضي في المسافة.
هذا سفر التي هي: سلمى
كتبت سلمى لمحمد الناصر عندما ألح علي المعرفة: إذا، طالما أردت ذلك فإنك لن تنجو من الحقيقة، أرجو أن تلتهمك الحقيقة أو تقصيك عن نفسك، فلا تموت فيها، ولا تحيا، إذا سأقول لك: إنني كنت أعرف جعفرا منذ أن كنت صبية في أيام مراهقتي الأولى، وكان هو طفلا رضيعا جاءت به سيدة من ضواحي المدينة، وكنا جميعا نعرف اسمه، ولا ندرك اسمه، وكنا نعرف أهله، ولا ندرك أهله، وكنا نراه وما نحس أن الذي نرى هو جعفر! كان دائما ما ينزلق من بين أصابع ذاكرتنا كما انزلقت أنت من تحتي، إذا، لا تحدثني عن جعفر!
وأؤكد لك يا محمد الناصر أنك عندما بزرت في نطفة دافئة من رجل لا أستطيع أن أتذكر من ملامحه شيئا، فقد رجوت الله ألا يخلقك في رحمي، إذا ما كنت أريدك أن تأتي أبدا سهلا بلذة مسروقة يصعب الوعي بها، وأيضا الرجل الذي قذف بك في، هو الآخر ما كان يرغب فيك، فقد كانت منتهى غايته هي اللذة، لا يريد أكثر من ذلك، لذة سهلة كتلك التي ينشدها جندي مغرب من داعرة سوقية بائسة، والحق لم أكن داعرة إطلاقا، فقد كنت صبية لأسرة محافظة، عريقة في تقاليدها، وأيضا لن أخاطبك عن ذلك أيضا؛ لأنني أعلم أنك لا تهتم كثيرا بمسائل «العراقة» والتقليد، ومثلك ابنتك الجميلة الدينكاوية الساحرة، قابلتها في صيف مضى، عام بالضبط، إني أعترف أنها شيء لم نعتد عليه، ولم يعتد عليه أحد في هذه البلاد الكبيرة، شيء متفرد في غرابته وعاداته في ذات الوقت، أنا نفسي لم أعتد على مثل هذا النوع من الإنسان البسيط المعقد! إنها بلا شك صنيعتك وجعفر، صنيع خبث مشترك ووسخ لا كابح له.
قلت لها: احترمي شيئا من عاداتنا ولو يسيرا!
فضحكت كثيرا ثم قالت: اخرجوا أنتم قليلا من جحوركم الرطبة، ثم مضت في طريقها ومعها صبيات جميلات، يمشين كما تتراقص أغصان البان، الأبنوس، أقدامهن ترسم على تراب الظهيرة تاريخا قادما متمردا، يبدو لمن ينظر إليه من على بعد كاف كأنه عاصفة من الرماد، قد لا نفهم شيئا عنهن، لكنا أيضا قد لا نحيا لكي نتمكن من استيعابهن بشكل مريح، هل كذبت عليك عندما قلت لك: إنك نتاج لذة مسروقة؟ هل كنت قاسية معك؟ طالما أردت أنت الحقيقة فلتحرقك الحقيقة، وتقصيك عن نفسك، فلا تموت فيها، ولا تحيا، تزوجت أباك الأول قبل ثلاث سنوات من التقائي بوالدك، أو ما يمكن افتراض أنه والدك، تزوجته كما يتزوج الناس في ذلك الزمان وتزوجته وكفى؛ لأن المرأة خلقت للرجل، أي رجل، لا يهم من! هكذا تعلمنا من جداتنا وأمهاتنا، كما لم تتعلم ابنتك من الشيطان، أبوك الأول رجل فارع كالسيال، أصفر البشرة، كثير الصلاة، ولا أعني بكثرة صلاته أنه كان يصلي كثيرا، لا، لكنه كان يصلي اليوم كله ويصوم أربعة أيام في الأسبوع، رجل لا يختلف اثنان في كونه من رجال الجنة، لكن به عيب واحد، وهو أنه عاجز عن فعل مشبع لرغبات صبية جموح في السابعة عشرة من عمرها، هنا في الحياة الدنيا، في الأرض، ذات صباح بعد سنتين من المعاشرة الفاشلة، قلت له: أريد الطلاق!
قال وقد أوقف تمتمة - لا شك في قدسيتها - فجأة ثم صمت للحظات كأنه يريد أن يستعيد صوت تمتماته المنعكسة على جدران الفراغ: طلقانة.
وواصل تمتمته المقدسة بكل هدوء وبرودة أعصاب كالمنوم، لست أدري لماذا كنت أبكي بحرقة وأنا ألملم حاجياتي من بيته استعدادا للرحيل لبيت أبي، أهي كانت صرخات السعادة ودموعها، أم كانت صرخات هي إحساس المذلة التي تحسها المرأة عادة حين وقوع الطلاق؟
حقيقة لست أدري، فقط أعرف أنني كنت أبكي بصدق تام ووعي مر، قالت أمي التي كانت تعرف تفاصيل الحزن: ربنا يعطيك رجلا!
أما أبي فزمجر وهاج لكنه بكلمة من أمي - قالتها له في خلوة من الآخرين ومني - التزم الصمت، الصمت الشبيه بموت الأفاعي، كانت الساعة الكبيرة تشير إلى الخامسة إلا ربعا عندما استيقظت على وقع أقدام كانت تنتظم البيت كله، في البدء كانت هادئة وحذرة ثم صخبت، ثم علا صوت «صباح الصغيرة» وهي تتشاجر و«ضحى»، انتهرتهما أمي فاطمة، حينها نهضت من السرير، وتوجهت مباشرة إلى المرحاض.
كانت تغمرني سعادة بالغة، وفي عمقي تتلاقح الأغنيات مع ذكريات شتى وجعفر، ذلك الصبي القصير ذو البشرة الصفراء، الذي يقفز دائما إلى مخيلتي كلما وجد فسحة من التناغم الروحي، لقد التقيت به كثيرا جدا، وعرفته كثيرا جدا، كيف؟ لست أدري، لكن ليس لقاء جسديا كما يتخيل إليك، أو تحاول أن تظن، لكن لقاء من صنف لا تسهل تسميته بكلمة واحدة، لكن ربما فسرته قصة أو دل عليه مشوار طويل جدا.
كان فرق العمر بيني وجعفر محمد مختار ثلاثة عشر عاما، أنا أكبره، وهو نفس فرق العمر بيني وبين أبيك الثاني، إذا أمكن أن نطلق لذلك الرجل هذا اللقب المقدس، لعله يصدف أن يكون هو والدك الفعلي، وهو أيضا نفس فرق العمر بينك ومليكة شول مادنق الدينكاوية، إذا ليس جعفر هو والدك، جعفر مختار، وربما أيضا أبوك الثاني ليس هو والدك بالضبط، ولا حتى الشيطان الذي كنت أخاله جديرا بأبوتك، في العام الثالث من طلاقي من أبيك الأول، وحينما كنت وبعض الصديقات نحاول اقتناص لذة سهلة بمشاركة بعض الأصدقاء الذين نلتقي بهم عرضا، في حفلات الأعراس أو في باصات النقل العام، أو حتى في حديقة عامة، التقيت بأبيك الثاني، والحق أقول لك: إنني لم أغرم به إطلاقا، ولو أنه ما كان يفتقر الوسامة، إلا أن المرأة دائما ما تحتاج لأشياء أخرى في الرجل لجانب وسامته.
كنت ونايلة وسوسن نتمشى عند الشاطئ حينما رأيته جالسا وبيده كتاب كبير، بينما هو يحملق في النهر أو الشط الآخر، لست أدري، جلسنا بالقرب منه، وما كنا قد تعمدنا ذلك لكنه حدث عرضا، أو رتبته أقدار خارجة عما نعيه من إدراك للأشياء، طلبت منه نايلة أن يدعها تتفحص الكتاب، فابتسم وهو يلقي به في كفها المبسوطة أمامه، ليست لنايلة في حقيقة الأمر أي اهتمامات أدبية، وليست لي أنا أيضا مثل هذه الاهتمامات، ولا سوسن، ولم نقرأ في حياتنا غير روايات بوليسية مترجمة عن الإنجليزية أو الفرنسية، وبعض الروايات السهلة التي يكتبها إحسان عبد القدوس أو يترجمها خليل حنا تادروس، وهي تتميز - كما تعرف أنت - بالطابع الجنسي المكشوف، ولا أظن أن لذلك علاقة بالأدب، كما أكد لي فيما بعد أبوك الثاني.
ألقيت نظرة سريعة على عنوان الكتاب الذي كتب بحبر ذهبي، وبخط متداخل أو «مشخبط» كما علقت سوسن، استطعنا قراءته بصعوبة «كليلة ودمنة»، فهمست نايلة في أذني: إنها قصة حب مثل ليلى وغيث، أو تاجوج وأوهاج، فأسرعنا في تقليب صفحاته علنا نجد بها بعض الصور المثيرة التي تمثل العاشقين في أوضاع مختلفة، كما في روايات إحسان عبد القدوس، لكن لسوء الحظ، ولخيبة أملنا لم نجد غير رسومات لحيوانات بخطوط ميتة باردة، كما لو رسمها أعشى سكران، أو طفل متخلف عقليا، أسد وحمار وثعلب، ضبع وقرد، جرذ وغراب وحمامة، إلى آخر الرسومات التي لم تعجب أية واحدة منا، قالت لي نايلة هامسة: إنه كتاب أطفال.
أضافت سوسن: أول مرة في حياتي أرى رجلا في عمره يقرأ كتاب أطفال، ثم أضافت بشكل حاسم: إنه مجنون، ضحك ثلاثتنا في وقت واحد، مما جعله ينتبه ويحملق فينا بعينين مندهشتين كبيرتين، مما أكد لنا أنه مصاب بمس، وتأكد ذلك أكثر عندما ابتدرنا سائلا: لا بد أن قصة الغيلم والقرد قد أعجبتكن؟!
قلت له وبدون تفكير: بالتأكيد.
قال: إنها فلسفة عميقة، هنا فجأة شعرنا ثلاثتنا بتفاهة صلبة تتثاءب في داخلنا، فكلمة فلسفة أعادتنا إلى مواقع نخشاها: أولا؛ لأننا لا نفهم معناها، وهي عندنا ليست سوى كلمة غامضة تدل على أشياء عظيمة كبيرة غير مستدركة، وأمور متعلقة بالثقافة والجامعة، إذا قالت نايلة: كنا سطحيين، لا بد أن الأسود والكلاب والحمير هذه تعني أشياء أخرى.
فضحكنا مرة أخرى ونحن نعيد إليه كتابه الغريب، قال: أنتن جامعيات؟
قالت نايلة لسوسن: قولي له.
فأجبته أنا باختصار: لا.
قال: إذا، في مشوار للترفيه؟
قلت له: الجو في البيت خانق جدا.
قال لي وهو يركز نظره في وجهي: هل رأيتك من قبل؟
قلت لأبيك الثاني: لا أظن، أو ربما ...
اعلم يا بني محمد الناصر أن جعفرا لم يحدثك عن حقيقة علاقتي بأبيك الثاني، ولا حتى علاقتي به، واعرف أنه ربما يكون قد همس الشيطان في أذنك قائلا: ربما تكون أنت الابن الشرعي لجعفر، والابن غير الشرعي لأحمد، والابن الشرعي وغير الشرعي أيضا للشيطان!
قال لي أبوك الثاني مراوغا: المهم في الأمر، أنا سعيد جدا بلقائك.
قلت مغمغمة: ونحن أيضا سعداء بذلك.
قال ثم قال: أنا أعمل موظفا بفندق صحاري.
ثم أضاف وبسرعة: هل ستقومن بزيارتي في الفندق أثناء وقت العمل؟
قالت نائلة: لسنا ندري بالضبط، لكن دع الدعوة مفتوحة.
قالت سوسن: أما أنا فمسافرة غدا للبلد.
قلت أنا، وبشكل محدد جدا: غدا سأزورك في الصباح.
وبذا انتهى كل شيء على ما أظن بشأن ميلادك.
مررت بعد أبيك الثاني بآباء لك شتى، آباء من جنسيات مختلفة، عادات مختلفة، واهتمامات أيضا متباينة، فقط كان بهم قاسم مشترك واحد، وهو: أنهم لا يرغبون فيك، وكأنما كنت نائمة طوال أعوام عمري الماضية، وفجأة أيقظني أبوك الثاني من هذا السبات الطويل، دق أجراس الحياة في، ممزوجة بإيقاع الخطيئة، الخطيئة الكبرى، خطيئة أن أنجبتك أنت، لا أدري لم لم أكن أحس وأنا ألتقي بأب لك تلو الأب، أنني أفعل شيئا مشينا إلا عندما أحسست بك تتحرك في، في سكون ظلمات أحشائي، فانتبهت، أنا لست مثلك أخون روحي بأن أجد مبررا مقنعا لجرائمي، ولا أسمي الأشياء بغير أسمائها، فالخطيئة هي الخطيئة، والفاحشة هي الفاحشة، كان الندم في يستفحل يوما بعد يوم، وأشجار الخطيئة تمد أشواكها العنيدة في فراغات روحي، وأنا أذكرها لآبائك جميعا - بمن فيهم الشيطان - يوما بعد يوم، وبعد كل خطيئة، وكلما أحسست بك كرهتك أكثر، وكلما كرهتك أكثر كرهتك أكثر! ثم قال لي جعفر: ماذا لو عرف والدك، هل سيموت كمدا؟ ألا تضعين اعتبارا لذلك؟ كان جعفر يصغرني بثلاثة عشر عاما، وأيضا كان يكبرني بسبعين سنة، وسبعين بحرا وجبلا، وسبعين من أمور أخرى. كان عارفا وخبيثا، بينما كنت وجعفر تتمشيان على الشاطئ، شاطئ النهر في صباح ما، إذا بأبيك الثاني يجلس على شاطئه وبيده كتاب، يتفحص الشاطئ الآخر أو النهر، لا أدري، أو يصطاد البنيات بطرائقه الخبيثة، لا أدري فمنذ أن افترقنا ذات حوار ساخن بشأن غيرته من آبائك الآخرين، لم نلتق، ومرت على ذلك شهور، قال له جعفر: سلام.
ثم تخطيناه وعيناه الكبيرتان جاحظتان في غيرة ورعب حقيقيين، قال لي جعفر، جعفر مختار، فجأة: لماذا لا أتزوجك؟
قلت مقاطعة: من؟ أنت؟!
قال مبتسما: لا، لا كما تتوقعين، لكن من أجل الذي فيك، وكما تعرفين أنا وأنت لسنا دائما رجلا وامرأة، وسنظل غريبين من هذه الناحية، وقريبين من ناحية أخرى مهمة، أقول لك أيضا: إن والدك يعرف أنك سافح. هل تعلمين أنه يكرهك جدا؟ أتعرفين ذلك؟!
قلت مستسلمة: أعرف، أعرف.
قال: أتعرفين أنه كان يحبك حبا قويا؟
قلت: لا تحدثني يا جعفر عن الماضي، تزوجني وافعل بي ما شئت، أنا رهن إشارتك.
إذا ما كنت تعرف أن جعفرا قد تزوجني زواجا شرعيا بمأذون وفاتحة وطقوسه الأخرى، وأنه أسكنني بهذه المدينة، بعيدا عن أسرتي وأقاربي والآخرين، ولم تكن تعرف أن جعفر مختار هو الذي فتح في وجهي آفاق الثروة والمال، وهو أيضا لم يكن يوما ما أبا من آبائك، وما شارك آباءك الكثر أبوتك، هكذا ألقي عليك الحقيقة، فلتأكلك الحقيقة، فهل كنت أنت الحاجز ما بيني والطهر، ما بيني وقلب أبي، أم كنت انتباهي للخطيئة؟ هل هذا هو ما دفعني على كرهك، أم هو دواء الحبشي؟ قال جعفر: ليس هذا هو السبب الوحيد، لكن هنالك أسباب شتى، أهمها: قال ذلك وفي فمه نصف ابتسامة مؤكدا أن أهمها أنه لم يكن أبا لك؟! لا أدري كيف تحصل جعفر على هذه الحقيقة المشوهة؟ أولا قلت لنفسي ودون تردد: يجب أن أجهض.
وفعلا شرعت في ذلك، استعنت بطبيب من الأحباش، فسقاني محلولا أصفر كريه الرائحة، ثم سقاني مرة أخرى محلولا أصفر كريه الرائحة، ثم سقاني مرة أخرى مشروبا أصفر كريه الرائحة، ولم أجهض، فابتسم الحبشي وقال: هذا أول جنين في الدنيا لم يسقطه هذا المحلول الأصفر!
أدخل يده في، ألعب أصابعه قليلا ثم قال بكل ثقة: غدا سيسقط، غدا الفجر عندما يصيح أول ديك.
وعندما عدت إليه بعد أسبوع بأكمله بادرني سائلا: هل تخلصت؟
قلت: ليس بعد.
فوضع كفتيه على رأسه قائلا: من الذي أحبلك؟
قلت: رجال كثيرون.
قال: لا بد أن يكون واحدا منهم فقط.
قلت: لقد كانوا في أزمنة متقاربة، فكل واحد منهم أحبلني قليلا قليلا إلى أن تكون هذا الجنين.
قال ضاحكا مستسلما: هل من بينهم الشيطان؟
قلت: زوجي هو جعفر.
قال: من هو جعفر؟
قلت: جعفر مختار.
قال: من هو جعفر مختار؟
قلت: الذي لم يكن أبا لهذا الجنين.
فسقاني محلولا أصفر كريه الرائحة، كاد أن يقتلني المحلول الحبشي الأصفر كريه الرائحة، فالتهبت بشرتي مخرجة دمامل صفراء كبيرة، لها رائحة المرحاض، قال لي جعفر: إنك تتحررين من عفنك، تتجهين نحو نقائك الكامل، قال لي: ربما كان هذا الحبشي هو إبليس نفسه. أتدري؟
إلى اليوم السابع قبل ميلادك كنت أبحث عمن يجهضك، أبدا ما كنت أرغب فيك، ولا كان آباؤك يهدفونك، ولكي لا أجحف في حقك إجحافا كاملا أقول حقيقة، وهي أنني كنت أحيانا أحس بسعادة، سعادة مرة وأنا أتحسسك تعبث في، تنمو في داخلي، تقاوم المحاليل والعقاقير وأنامل الحبشي، لقد كنت تصارعني صراعا خفيا جبارا لا هوادة فيه، وكنت أستعذب هذا الصراع، وقلت بيني وبين نفسي: يوما ما سأنتصر عليه، سأهزمه، فلقد هزمني الآن، عندما أحسست بآلام المخاض في الشهر السادس قلت: ها قد استسلم أخيرا، لكن كانت خيبة أملي كبير جدا عندما سمعت صراخك فأفزعتني حينها، حقا، وانتصرت علي بشكل حاسم، أصابتني أنا هستيرية، وأخذت أصرخ في جنون: خذوا عني هذا، لا أريد أن أراه، خذوه ...!
ولم أرضعك إطلاقا ولو مرة واحدة، إذا لم تكسب أنت المعركة تماما كما كنت أظن، إن هنالك حلبات للصراع أخرى، وحلبات معارك جانبية لكنها أيضا حاسمة، حملك جعفر لمرضعة استأجرها ولم أرك منذ ذلك الحين إلى أن بلغت الثالثة من عمرك، رأيتك صدفة مع جعفر والمرأة الحاضنة، ثم رأيتك مرة أخرى وأنت في السادسة، أتى بك جعفر للبيت، قبل أن يقودك إلى المدرسة، ثم رأيتك في التاسعة وأنت تتشاجر مع أحد التلاميذ، وقد ألقى بك على الأرض وأخذ يعضك بأسنانه، وحينها كنت في طريقي إلى الورشة لتصليح فرامل سيارتي، فوجدتني أندفع نحوك، أرفع عنك التلميذ الذي كان يكبرك سنا وحجما، أنفض عنك التراب ثم أتركك وأذهب إلى سبيلي، فمن أين أتت هذه العاطفة الفجائية نحوك؟ لست أدري، لكن جعفرا قال لي فيما بعد: «الكلبة، حتى الكلبة تحرس نطفتها.»
فتخاصمنا لزمن لا أعرف مقداره، ثم تصالحنا، صرنا أصدقاء مرة أخرى، هل كنت تعرف أن بإمكان جعفر مختار أن يصير أحد آبائك؟
أكنت ترغب في ذلك؟
إذا أنت لا تعرف شيئا عن جعفر، لقد تعرفت عليه وأنا في مراهقتي الأولى، وكان هو طفلا صغيرا هزيلا أتت به سيدة، فكيف اختصر جعفر مختار المسافة ما بيني وبينك، وبينك وبينه، ثم ما بينك وبينك، هكذا ألقي عليك الحقيقة، فهل تميتك الحقيقة أم تقصيك عن نفسك، فلا تموت فيها ولا تحيا؟
سفر الخروج
كان إبراهيم عبد الله يتحدث بثقة وقوة عن العلاقة الأزلية المقدسة بين الرجل والمرأة، قبل أن يطلب منك رسميا يد ابنتك منى لولده عبد الله إبراهيم، فأشعلت سيجارة، أطفأتها، تذكرت جعفرا، جعفر مختار، قلت له: أم منى هي أم رياك، دينكاوية سوداء كقلب الأبنوس، طويلة كزرافة استوائية، وأنا والدها، والد رياك، وزوج مليكة شول مادنق، وأنت تعرف أنه لا أحد يعرف لي أبا، فهل توافق على هذه الزيجة؟
فهز كتفه بشيء من الزهو وهو يقول: المرأة على دين خليلها و...
فقاطعته قائلا: أتعرف ابني رياك؟
قال: نعم، فهو ...
فقاطعته أيضا: إنه يحب ابنتك ياسمين، ويريد الزواج منها.
وقبل أن يرد دخل جعفر، جعفر مختار، وكنتما بالصالون تجلسان على مقعد كبير واحد، قرب قرب، جلس بينكما، بعد أن كان جعفر يود أن يقول شيئا، شيئا خاصا جدا ومهما، إلا أنه آثر الصمت، الصمت الموقوت. قال إبراهيم: إذا تريدون استبدال ابنتكم منى ببنتي ياسمين؟
فقلت له ضاحكا: بل العكس، نريد استبدال ابنك عبد الله بابننا رياك.
قال وهو ينظر بعيدا: سأستشير أمها وأعمامها، وسأفكر، وخرج.
قال لك جعفر: أنا متعب، مرهق، نعس أريد أن أنام.
فما إن هيأت منى له مرقدا حتى ذهب في نوم عميق، ثم علا شخيره كالطاحونة، فسألتك ابنتك منى: أليس لجعفر ...؟
فقاطعتها قائلا بتأكد تام: بل له يا منى، له بالتأكيد.
حينها أيقنت ابنتك منى بأنك أيضا جعفر، في مدائن أخرى، مدائن بعيدة عن أخيلتها وأحلامها، يسأل عنك الأطفال آباءهم، هل لمحمد الناصر؟ فيقاطعونهم قائلين: بل له، له بالتأكيد، حينها يوقن الأبناء بأن آباءهم، أيضا محمد ناصر في مدائن أخرى، مدائن بعيدة عن أخيلتهم وأحلامهم، يسأل عنهم الأطفال آباءهم، هل ل ...؟ فيجيبونهم مؤكدين: له، له بالتأكيد، حدثتك ابنتك منى ذات مرة، لقد حلمت بجعفر مختار ذات نوم أو يقظة لست أدري، كان عاريا، أو كنت عارية، وكان يقلب أوراقه جالسا في السرير قربي، ومثلما فعل جعفر من قبل أجبتها بكل صدق وحكمة، لكنها ما إن غادرت بخطوة واحدة غادرتها إجاباتك وبقيت في ذهنها فقط أسئلتها باردة، لزجة، تتكوم فوق بعضها، تحلم نيابة عن بعضها، تتثاءب ثم تغط في نوم بليد، قالت: ماذا لو مات جعفر؟
إنه دائما ما يموت، انظري إلى شجرة البان تلك، التي زرعتها أمك مليكة شول مادنق، وسط المنزل، أطول الأشجار ساقا. أزكاها عطرا.
فإذا قطعت تلك الشجرة وأنت نائمة أخذت أحطابها بعيدا ونظفت مكانها من الأوراق، وعندما استيقظت ذهبت لحوض المياه الكائن تحتها لتغسلي وجهك، إذا سيحدث، قالت لك: سأفتقدها.
قلت لها: إذا تحسين بوجودها.
قال: فراغ وجودها.
قالت: إذا تقصد يا أبي أنها دائما موجودة بهيئة ما.
قال: ربما أقوى وأشمخ.
ثم أخبرتها أن مليكة شول مادنق - أمها - كانت تعرف مقصدك عندما تتحدث عن شيء وأنت تريد غيره، وقد لا تدري الشيئين، ما تتحدث عنه وما تريده أيضا، ضحكت، أضاءت أسنانك البيضاء ظلام فمك، أشعلت سيجارة، أطفأتها ، تمشيت قليلا، نظرت عبر النافذة، كان بالشارع شحاذ أعمى يستبصر الطريق، ينشد أبياتا من الشعر، يستبكي بها قلوب الناس الطيبين، ظهره قوس من الطمي، برأسه عمامة ممزقة سوداء، وسطها تظهر طاقيته الخضراء، خضراء، بيده اليمنى مسبحة من اللالوب تهتز بإيقاع أبيات الشعر، ينتعل رمل الطريق، جميلة عيناه الجاحظتان، خرجت متعجلا من المنزل ومشيت خلفه كالمنوم، كان مشيه بطيئا: متفاعلن، متفا، علن، مت، فا، علن، متفاعلن، وكنت في بادئ الأمر تجري خلفه، فعلن، فعلن، فعلن، فعلن، إلى أن قربت به، فثقلت خطواتك: متفاعلن، متفاعلن، مت، فا، عل، ن، كان يمشي على أنغام بحر منشودته التي يستبكي بها الناس، ويستبكيك، فطفت خلفه كل شوارع المدينة، أزقتها، بيوت محسنيها، بنوكها ودواوينها الحكومية، وعندما اتجه خارج المدينة قاصدا الصحراء سألت نفسك ثلاث أسئلة قبل أن تواصل مشيك نحوه، جلست تحت شجرة عجوز شامخة تبحث عن إجابة مناسبة ومرضية مقنعة لأسئلتك، أشعلت سيجارة، أطفأتها، تبولت تحت الشجرة، ضايقتك عفونة خرائك، تفيأت شجرة أخرى غيرها، علك تلهم إجابة ممكنة سريعة، إلى أن غابت الشمس. وما تبقى من ضوئها تلتهمه ببطء جيوش الظلمات التي هي امتداد لظلال منازل المدينة وأشجارها الخضراء، امتداد لظلك، وعندما أجبت على سؤالك الأول كانت النجوم قد ظهرت في قبة السماء تغازل الفراغ وترسل ضوءها للأكوان البعيدة، خطوت خلفه حتى لا يضيع أثره منك، فعلن، فعلن، فعلن، فعلن، ف، ع، لن، فعلن، سريعا خطوت ...
ولما لم يعد يفصلك عنه غير مترين جلست على صخرة ملساء، تبحث عن إجابة تنجيك من سؤالك الثاني لنفسك، تذكرت جعفرا، جعفر مختار، أول مرة تشهد موقفا جنسيا حقيقيا لجعفر، كان ذلك في نهاية الخريف الماضي، أكتوبر، الفاتح من أكتوبر، الأعشاب النائمة الخضراء تفترش الأرض الكسولة، وأطيار القطا، عام مضى، في ليلة ليست مثل هذه الليلة، تتجولون في مناطق مفتوحة، أي لا تحدها سوى بقايا سحب الخريف البيضاء المتباعدة، التي تخبئ القمر المكتمل للحظات قلائل، ثم تطلقه ينشد ضوءه للحظات أخريات، شمالا الغابات، جنوبا أيضا الغابات، شرقا المدينة ساهرة ، غربا الصحراء، وبينما كنتما تتحدثان عن منسوب مياه النيل وحرب المياه القادمة حتما، أو سعر الماء كما يحب أن يقول جعفر، سعر الماء القادم حتما، إذا بمخلوق غريب لم يره أي منكما في حياته من قبل، حتى جعفر نفسه دهش لرؤيته، كان مخلوقا ضخما يمشي نحوكما، ضحك جعفر وهو يقول: الأشياء تأتي إلينا، هل نخاف نحن الأشياء؟
فقلت أنت معلقا: أمر مضحك حقا، تخيل نفسك تؤكل، أو تمزقك الأشياء!
بكى جعفر من الضحك، ولم يعد من نوبته إلا عندما قارب الشيء أن يلتصق بكما، وملأت أنفيكما رائحة له قوية وغريبة، لم تستطيعا في حينها وصفها بالطيبة أم بالنتنة، وعلى ضوء القمر تبينتما ملامحه، وهو يحملق بعينيه الكبيرتين في وجهيكما، فمه أقرب إلى فم القرد منه إلى الإنسان، وكان مسالما أكثر مما يوحي به شكله، وتوحي به ضخامته وأذرعه الطويلة القوية، المنتهية بأصابع ذات مخالب حادة وقوية، وعندما قاربكما جدا، مد قوائمه على الرمال، ورقد في سلام تام، قال لك جعفر: هل رأيت مثل هذا الشيء من قبل؟ قلت: لا.
لكنه يشبه أشياء كثيرة رأيتها.
قال جعفر: إذا طالما كان محافظا على هدوئه دعنا نتفحصه جيدا ونتبين أسراره عن قرب.
فأخرج جعفر من جيبه أداة القياس وقاس طوله، أطرافه، ارتفاع أنفه، ذراعيه وزاوية إبطيه، فكانت كالآتي:
طوله 1,50 متر.
أذرعه 1,00 متر.
قوائمه الخلفية 1,20 متر.
نصف قطر عينيه 0,6 سم.
المسافة ما بين عنقه وملتقى الفخذين 1,05 متر.
وفجأة قال جعفر وهو يحملق في وجهك: إنها أنثى! أتعلم، إنه يصعب التفرقة ما بين الإناث؟
فهيأ جعفر نفسه للأنثى، وجدت الإجابة الممكنة للسؤال الثاني، نهضت من مكانك وجريت نحو الرجل العجوز، كان قد قطع مسافة كبيرة متوغلا في عمق المكان، حتى إذا لم يفصلك عنه سوى قدم واحد جلست على صخرة أخرى تفتش عن إجابة لسؤالك الأخير، لكن ما أسرع أن وجدت الإجابة فحزنت، حزنت جدا، حزنت ... جدا، كدت أن تبكي بكاء حقيقيا لا تشوبه شائبة، فأصبحت بغير ما تتوقع بين فكرتين: (أ)
أن تحمله على كتفك إلى حيث يشاء، إذا كان حقيقة يشاء مكانا بعينه. (ب)
أن تهرب بأسرع ما يمكن إلى منزلك، وتتأكد من أن النائم في بيتك هو جعفر، جعفر مختار.
وبينما تستفتي نفسك بشأن الخيارين، توغل الليل في أزمنته الظلماء الساكنة، في بومة وطيور السقدة، في عواء ذئابه، ضحكات نسائه وبكاء أطفالهن مع الليل، توغل شيخك في مسافاته، ولم يعد يرى منه سوى نقطة ضوء بيضاء، تكبر كلما ابتعد، تكبر، تكبر إلى أن انفجر أخيرا قمرا فضيا، تلاشى بين أقمار الله ونام في حضن المجرات الباردة، بكيت في نفسك وأنت تتخيل في نفس اللحظة كيف أن الرجال يقتلون بعضهم البعض في غابات الجنوب فيجوع الأطفال، فيأكلون الأطفال، تذكرت ماجوك، كل ما تبقى من أسرة مليكة شول مادنق، فأخذت تبحث في الأفق على شيخك القمري، فأشعلت سيجارة، أطفأتها، تيممت برمل المسافة، كبرت، قرأت سورة الفاتحة، ثم
ما يعلم جنود ربك إلا هو ، كنت بالصالون تقرأ أشعار جعفر الخمسة حينما دخل إليك رياك في صحبة أخته منى، قصائده التي كتبها في ثلاثين عاما، طلبت منهما أن يستمعا إليك تقرأ الأسفار الخمسة المشهورات لجعفر، جعفر مختار، قالت لك منى: لقد قرأنا من قبل قصيدته الأولى، قرأها لنا معلم الرياضيات عندما كنا في الصف الثالث الثانوي.
قال لك رياك: لقد استمعت من قبل إلى قصيدته الأخيرة، قرأها علي إمام ...
سأقرأ الآن عليكما القصائد الخمس في مرة واحدة.
وكنت تعلم جيدا أن قراءة القصائد الخمس دفعة واحدة بغير تتابع عملية مرهقة للعقل، ولو، إلا أنك لم تقرأها قصيدة قصيدة، لكنك قرأت الأشعار الخمسة في قصيدة واحدة، وهي في الحقيقة أقصر من قصيدتين بقليل، ونتيجة لهذا التكثيف أصيب أبناؤك بالأحاسيس التالية: رياك كان يغمره إحساس واحد، إحساس طاغ بأنه مقذوف به بعيدا في عمق سحيق لا غور له.
منى يمكن تشخيص حالتها وهي تستمع للأشعار الخمسة في قصيدة واحدة أقل بقليل من قصيدتين، يمكن أن توصف بحالة بحار يركب البحر لأول مرة، إحساس بالمغامرة، بالخوف، بالثورة، بدوار البحر ، حتى إذا قرأت آخر كلمة من القصيدة هي عبارة عن قوسين فارغين ( ) عادا لوعيهما، ثم أخذا يتقيئان كما لو بلعا أسطولا من الذبابات المتقيحات، لا تلومهما، أيضا لا تلوم جعفرا، أو نفسك لأنك كثفت القصائد الخمس في قصيدة واحدة قصيرة، وقرأتها بطريقة جعفرية لا تخلو من الخبث والمؤامرة، ولؤم القطط، ولأن جعفرا يستطيع أن يمتلك اللحظة امتلاكا كاملا مجردا إياها بذكاء واقتدار من فعالية المحيط وتأثيراته المتباينة، خاصة عندما يكتب حرفا من قصائده الخمس، وبيتا كاملا فيما يقل من عام، فإنه ينعى نفسه محررا إياها من قوة الجسد والمادة إلى أن تصبح: لا طعم، لا رائحة، لا أحد، لا ارتباطات إنسانية، أو حيوانية، أو شيئية أخرى، إذا قصيدة جعفر تنفي روحه، روحه ذاتها وكمالها، وكنت تعرف عن جعفر أنه ينكر قصائده بمجرد الانتهاء من كتابتها، ينكرها ثلاث مرات متتابعة، فهل كان جعفر شاعرا، أم كان حالة قصيدية من هلام الكلام واللغة؟ فما كان لصبية مثل منى، أو صبي كرياك أن يحددا لجعفر إطارا يعرفانه به، أو يستمعان إليه، أو يريانه، أو قل يغطسانه، وأنت لا تريد أن تقول لهما الحقيقة المطلقة في شأنه، لكنك تحاول أن تحررهما تدريجيا إلى أن تكتمل حريتهما، ويستطيعان حينها أن يقولا للشخص، حينها: جعفر هو! دون أن يشعرا بغثيان أو دوار بحر، ولا حتى صداع خفيف، مثل الذي يصيب رياك كلما التقى جعفرا، أو ناقشه، فالمسألة مسألة حرية، أو كما كان يؤكد جعفر مختار، إعادة صياغة وتأكد، للموجود المعطى، أي تثمين للمجان وتبخيس النفيس.
جاءك مرة أخرى عبد الله ووالده إبراهيم أيضا، ومن وجهيهما عرفت أنهما فرغا لتوهما من مشاجرة أو مشاحنة ساخنة، فتحدثت مع الولد متجاهلا الوالد، ليس لأن الأب أضاع فرصة أن يكون إنسانا فعليا، وقضى العمر في تفاهات الأكل والشرب والنكاح. لا، لكن لأنه بكل خبث وبلادة ضيع الفرصة على أبنائه؛ لذا لم تحترمه وأنت تعرف أنه لا يحترمك؛ لأنك ابن حرام - على حسب تعبيره - ولولا شغف ابنه بابنتك، وإلحاح الابن بالزواج ، لما وطئت قدمه عتبة بيتك، قال لك بعد صمت طويل: ماذا بشأن البنت؟
أيضا قلت موجها حديثك لعبد الله وأنت تضيء ظلمات، في الحق هي في ذهنك أنت، عصية.
حدثته عن أنثروبولوجيا الذكاء، تكلمت عن الذكاء الاجتماعي للدنكا، وقدراتهم الخطيرة على العمل الجماعي النملي، والحس النملي أيضا تجاه الآخر - حيا أو ميتا - رقي التعامل الإنساني، علاقات الحب، الزواج، الميلاد، الممات، طبيعة الجنوب وحلم الجنوبي وظمئه، الأخطار، الأنهر، آبار البترول غير المعروفة لغير حركة الأرض السرية، عن السماء والأشجار، أباب دير، الأفيال، المستنقعات، وغنيت لهم أغنية الصيد الوفير، قلت لهم: قلب المرأة الجنوبية يسع مئات من الأفيال الأفريقية، وكل هذا القلب مليء بالحب لرجل واحد، ووطن واحد، حدثتهم عن نعومة فخذيها السوداوين، وامتلائهما بالأطفال والأناشيد واللذة، عن زغب عنقها ومقدرتها غير المتناهية على خلق نشوة جنسية خاصة بها هي وحدها، وقلت لهم كيف كانت تقبلك في ذات الآن الذي تفكر فيه، في طول الطفل الذي ستلده، سعة عينيه، ذكائه، ومقدرته على الجري ألفي متر دون أن تزداد دقات قلبه دقة واحدة، وعن رأيه في الحرب بالجنوب، هل سيقف مع جيوش الحكومة كأخيه رياك، أم يقف مع جيش الغابة كخاله ماجوك، أم أنه يكون رأيا ضد الحرب بشكل حاسم ونهائي مثلي أنا أبيه، ومثل جعفر، جعفر مختار، قلت لهم: تستطيع مليكة شول مادنق أن تنجب عشرة أطفال دفعة واحدة، وتدير دولة، وبإمكانها أيضا أن تتذكر لعبتها المحبوبة بين أنقاض قريتها المحترقة، حدثتهم كيف في إمكان مليكة شول مادنق أن تنيم طفلها الرضيع وهي تغني له أغاني الحرب، وتحكي له عن مذبحة أطفال قريتها وشيوخها، وعن رحيل الأفيال والزرافات والنمور بعيدا إلى بلاد أخرى آمنة، وعن جفاف أباب دير، قلت أيضا: من غير مليكة يمكنها أن تنجب مثل طفلتك الجميلة منى؟ أو شخصا متناقضا كرياك؟
قلت: ماتت مليكة وفي ردفيها أجمل الأطفال، وفي خاطرها مشوار، في عينيها وطن، وفي قلبها رصاصة، قلت: كانت ترى أن الله يقف مع الجانبين في ذات المعركة، وذات الموقف، قلت: في مليكة رقة الغزلان وذكاء النمور، خصوبة أباب دير وشراسة اللبوءة.
ثم قلت قبل أن تشعل سيجارة، وتطفئها: بمليكة شول مادنق امرأتان، مريم العذراء ومريم المجدلية، ولا تنكر أنك تميزت من الغيظ عندما قال لك إبراهيم: نحن نريد منى، وليس مليكة شول، من هي مليكة شول؟
أهي زوجتك الجنوبية، أم اسم ابنتك برطانة زوجتك؟
تذكرت جعفرا، جعفر مختار، عندما كانت منى صغيرة، كان جعفر يأخذها من كتفيها الصغيرين ويقذف بها بعيدا في الهواء، يتلقاها، ثم مرة أخرى يقذف بها مرة أخرى، وكانت تضحك من قلبها وقد أعجبتها اللعبة، وكان يقول لك: أبناء الريح هؤلاء في غاية الجمال، إنهم أجمل منا جميعا، لكن من يأتي بعدهم هم أيضا أجمل منهم! وعيبهم الوحيد هو أنهم لا يعيشون حياتهم بجدية، إنهم يخافون الحرية، حريتهم الذاتية، قلت لإبراهيم مستنكرا: ما هو عملك؟
وكنت تعرف أنه يعمل بالجيش برتبة عميد، وتعرف بالتفصيل متى تجند ونمرته العسكرية، مرتبه، علاواته، وكل صغيرة وكبيرة عن أسرته. سألته أيضا: هل كنت عربيدا سكيرا وداعرا عندما كنت في جوبا؟
سألته: كم جرائم الحرب التي ارتكبتها؟
كم طفلا ذبحت؟
فغضب غضبا شديدا وهتف في وجه ابنه: أترى، أي امرأة تريد أن تربطنا بها، أي أهل؟
وهم بالخروج وكنت باردا كالثلج، ودخل جعفر فجأة، حياه وفي فمه ابتسامة، ثم خاطبه قائلا: لا تغضب يا سيادة الجنرال، لا تغضب، اجلس.
فجلس وجلس ابنه أيضا، قال له جعفر: هل ابنتك ياسمين بخير؟
قال بهدوء: بخير، إذا لا بأس أن تصبح زوجة لرياك في الخميس القادم.
قال بهدوء وأدب: كما تشاء.
قال جعفر: وغدا أيضا سنرسل لكم منى زوجا لابنك عبد الله؟
قال بهدوء وبراءة: كما تشاء.
ثم سأله جعفر عن أحواله وأحوال أسرته وأحزان زوجته، وما إذا كانت لا تزال تحس بآلام في المهبل إذا غاب عنها يومين.
ثم سأله إن كان قد غير رأيه في الحرب القائل بأن مشكلة الجنوب والشمال لا تحل إلا بإبادة كل الجنوبيين وغاباتهم، وحيواناتهم، وتجفيف المستنقعات ، حتى تتفرغ الحكومة للتنمية واستخراج البترول.
ثم قال لهما جعفر، جعفر مختار: تغديا معنا، لقد أحضرت بعض أسماك البلطي قبل لحيظات من النهر، ثم قال جعفر لإبراهيم: حدثنا عن الحرب، عن خطط الحكومة المستقبلية وتوقعاتك لمجريات الحرب في الخريف القادم، وهل هنالك حقا خريف قادم؟
قال إبراهيم، الجندي القديم، قال وقد اعتدل في جلسته وبدا وجهه غريبا وشديد السواد: سأحدثكم، سأحدثكم عن كل هذا، بحديثي عن رجل واحد، رجل قابلته اسمه جعفر، جعفر مختار.
ثم حاول أن يتذكر ملامحه أو أي شيء عنه، لكنه لم يستطع.
خشم القربة
1 / 2 / 1997م
Bilinmeyen sayfa