مين قالك إني ما كنتش أم؟ أنا كنت أم من 18 سنة، كنت تلميذة في آخر سنة في ثانوي، فتحت عيني لقيت نفسي نايمة على مرتبة قديمة في أوده بلاط، ما كنش معايا محمود، كان في المصنع، بصيت جنبي لقيت طفل صغير قوي ومد إيده الصغيرة، صوابعه كانت صغيرة قوي، لكنها كانت تشبه صوابعي، ومديت إيدي عشان امسكه، بصيت لقيت إيده لفت حوالين صباعي ومسكته قوي قوي، حطيته في صدري وبصيت في وشه، وشه كان أسمر محمر، وعينيه كانت مدورة والنني كبير، وبيلمع، بيلمع، زي فص الألماز، كنت عاوزة محمود يرجع بسرعة من المصنع عشان يشوفه، لكن محمود ما رجعش، وسمعت من زمايله في المصنع إنه مات بالزرقا، كنت لسه صغيرة، سبعتاشر سنة، وهربانة من كل الناس، وهربانة من أبويا وأمي وكل الناس؛ كانوا عاوزين يمسكوني ويحطوني في القفص، لكن أنا هربت، أخدت شنطة هدومي الصغيرة وهربت في نص الليل وهم نايمين، ومشيت لوحدي في الشارع الطويل الضلمة. كانت الدنيا مطر وبرد والدنيا ضلمة، في لحظة خفت، ووقفت، وفكرت ادور وارجع، كان الطريق قدامي طويل وضلمة وفي كل ركن شبح واقف يتربص، وقفت في وسط الطريق وحركت قدمي عشان ادور وارجع، قلت لنفسي لحظتها: القفص أرحم، السجن برضه فيه أمان عن الدنيا الضلمة الواسعة، السجن له أربع حيطان تحميني وتخبيني. لكن ماقدرتش ارجع؛ كان فيه حاجة غريبة بتزقني لقدام، حاجة غريبة لا إرادية زي القدر، أبدا ما كانش القدر، أبدا ما كانش حاجة لا إرادية، ما حدش ضربني على إيدي وقالي اهربي، كنت ماشية على رجليه بإرادتي، كنت عارفة إني رايحة للأوده البلاط والمرتبة القديمة والشباك المكسور بتبص منه عنين الناس، وألسنة الناس وإيدين الناس حتنهش في زي حتة لحمة، لكن ما قدرتش ارجع، كان فيه حاجة بتزقني لقدام؛ حاجة أقوى من الإرادة، حاجة أقوى من الحب والجنس. في الليلة دي بالذات ما نمناش سوا، في الليلة دي بالذات ماكنتش عاوزة محمود، كنت عاوزة اهرب من القفص، قفص المجتمع المزيف، التقاليد المزيفة، والشرف المزيف، والحب المزيف، والكلام المزيف، والوجوه المزيفة، والزواق الكدب. كنت عاوزة اهرب واحرر نفسي، كانت أصعب لحظة في حياتي، دست عليها بقدمي ومشيت عليها ومشيت. كان ممكن في كل خطوة اقف وادور وارجع؛ أرجع لأبويا ولأمي ولبيتنا الدافي واتجوز ابن عمي زكريا تاجر الموبليات الغني وأجيب جهاز وعيال وأعيش زي الناس ما هما عايشين، لكن مارجعتش، كنت شايفة الطريق قدامي ضلمة وطويل وصعب لكن مارجعتش، دست على قدمي ومشيت، دست على أصعب لحظة ومشيت. فيه ناس ما تقدرش تدوس على اللحظة دي وتمشي، تفضل واقفة عندها، ماسكة فيها وخايفة، متبتة فيها وخايفة، يفضلوا أسرى اللحظة دي، اللحظة هي اللي تمسكهم وتأسرهم وتدوس عليهم ويفضلوا واقفين، الدنيا من حواليهم تمشي والزمن يمشي وهم واقفين في مكانهم عند اللحظة دي، دايساهم، حبساهم زي الفيران في القفص. دي اللحظة اللي حررتني، لا أبدا، ما كنش برضه هي دي، دي كانت تيجي نقطة تانية، لحظة بس، أول خطوة على الطريق، كانت نقطة البداية وبعد كده تيجي نقطة تانية، لحظة تانية وتالتة، خطوة ورا خطوة نقطة فوق نقطة، لغاية ما الدورق يتملي، طريق طويل، وكل لحظة فيه صعبة وطويلة زي الدهر، تخلي جدور الشعر تقف والشعر يشيب والعمر يتملي ويكبر وإن ما فاتش فيه كتير، عدد اللحظات دي هي اللي بتعمل العمر مش عدد السنين. لحظة ورا لحظة بالتدريج، لحظة ورا لحظة بالتدريج زي المية على النار تسخن شوية شوية وبعدين تيجي لحظة تغلي وما تبقاش ميه؛ تبقى بخار، كذلك الإنسان لحظة تتراكم على لحظة على لحظة تراكم كمي بالتدريج، وبعدين تيجي لحظة يتغير النوع، يفتح الواحد عينه يحس إنه بقى واحد تاني، إنسان جديد، غير الأولاني، يفتح دراعاته ويحس إنه يقدر يحضن الهوا والسما والدنيا والناس، يحس إنه يقدر يحضن كل الناس، يفتح دراعاته عن آخرها ويحس إنه مالك الدنيا، مالك كل لحظة في عمره، مالك كل حتة في نفسه، مالك نفسه ومالك جسمه ومالك عضلات وشه، يقدر يفتح بقه ويضحك ويقهقه بصوت عالي، يقدر يفتح بقه ويقول اللي هو عاوزه. صوت يخرج لوحده طبيعي بدون مجهود ويقول: فيه زرقا، أيوه فيه زرقا. شوف أنا بقولها سهلة ازاي؟ سهلة علي، طبيعية زي الهوا ما بيدخل جوه الصدر ويطلع. ازاي كانت صعبة عليك؟! ازاي ما قدرتش تقولها؟ ازاي؟!
د. فهيم :
ما قدرتش أقولها يا نادرة؛ كانت صعبة علي، أصعب حاجة قابلتها في حياتي، أصعب حاجة.
نادرة :
لأنك ما عشتش لحظة أصعب منها، لأنك ما مشتش في الطريق الصعب. مش كل واحد يقدر يمشي فيه، فيه ناس بتاخد الطريق السهل القصير، بتبقى مستعجلة تزق غيرها وتبقى عاوزة توصل، عاوزة تنجح، عاوزة، عاوزة، عاوزة ... العوزان النهم، أنا عاوز أنا أريد، أنا أريد ... الإرادة الجشعة السريعة. المسألة مش إرادة بس، المسألة مش أنا أريد، المسألة مش أنا عاوز، فيه ناس بتعوز تاكل وغيرها يجوع، فيه ناس إرادتها حديد؛ تقتل عشان تملا بطنها وغيرها يجوع. المسألة أكبر من الإرادة واللاإرادة، وأصعب من الإرادة أو اللاإرادة. المسألة ازاي الإنسان يمشي في الطريق الصعب لحظة ورا لحظة ورا لحظة ويحرر نفسه، يحرر نفسه من جوه ذاته ويخليها تخرج بره جسمه وتحس غيره، يحررها من «الأنا» ويحس غيره زي ما تحس جسمه! ويبقى في الوقت ده يعوز غيره ياكل زي ما بياكل، يبقى ممكن يقتل عشان غيره ياكل زي ما هو بياكل. من أربع سنين بس مريت باللحظة دي؛ كان عندي نوبتشية حوادث في المصنع وخرجت راجعة بيتي قبل الفجر بشوية صغيرين، كانت الدنيا شتا ومطر ومالقتش حاجة اركبها فمشيت. وأنا بعدي كوبري عباس شفت حاجة صغيرة ملفوفة ومحطوطة على الرصيف، وقفت وبصيت شفت إيد صغيرة وصوابعها صغيرة، مديت إيدي بصيت لقيت الصوابع الصغيرة بتلف حوالين صباعي وتمسكه قوي قوي، حطيته في صدري وبصيت في وشه، وشه كان أسمر ومحمر وعينه كانت مدورة والنني كبير وبيلمع، بيلمع زي فص الألماز. حسيت إنه ابني، أنا اللي ولدته اتولد من صلبي أنا، ولدته فين أو إمتى معرفشي! لكن أنا اللي ولدته، عمرك ما جالك الإحساس ده؟ عمرك ما وقفت العربية بتاعتك على كوبري عباس وبصيت؟ لو كنت وقفت مرة لو كنت بصيت مرة يمكن كنت عرفت، يمكن كنت عرفت إن كل الأطفال بيتولدوا شكل بعض، كل الناس بيتولدوا زي بعض، لكن بعد كده بيختلفوا؛ ينقسموا نوعين: نوع بيدور على الطريق الصعب ويمشي فيه ويعرف الألم ونوع يدور على الطريق السهل ويهرب من الألم وما يعرفوش. الألم ده هو الإنسان، نفس الإنسان، القوة، الروح، الإله اللي جوه الإنسان، هو الفرق بين إنسان وإنسان، فرق رفيع وشفاف، أحيانا ما ينشافش ويفوت علينا، يفوت زي الشعرة في العجين بتفوت.
د. فهيم (بصوت متأثر) :
أنا فعلا يا نادرة عمري ما عرفت الألم، كنت باجي لغاية عنده واهرب. حياتي كلها كانت سهلة، أبويا علمني وصرف عليا في كلية الطب، كنت ارجع ألاقي عشاي جاهز وسريري جاهز وأودتي نضيفة، كان عندي كل حاجة، عمري ما عرفت يعني إيه واحد يجوع، وبقيت دكتور وأستاذ طب. ما عرفش كل حاجة كانت سهلة ازاي؛ عشان كده كان متهيأ لي إن كل حاجة سهلة والدنيا مافيهاش ألم. حتى لما كنت بسأل العيان وأقوله فين الألم يا ابويا؟ ويشاور على صدره أو بطنه، أحط إيدي على جسمه وما احسش بالألم. وأنا صغير لما كانوا يغرزوا في دراعي حقنة التطعيم كنت اصرخ من الألم، وفضلت طول عمري اكره آخد الحقن. أصعب ألم شفته في جسمي هو إبرة التطعيم، لكن لما كنت أغرز الحقنة في دراع العيان ويشد إيده أستغرب ليه بيشدها، وأقول له ما تشدش إيدك وخليك شجاع وخليك راجل، مع إني كنت عارف بعقلي كطبيب ازاي الجسم يتألم، لكن ما كنتش عارف بإحساسي يعني إيه ألم، العقل سهل يعرف ويتملي معلومات عن أكبر المعضلات اللي في الدنيا والعلوم، سهل إن العقل يتعلم، لكن الإحساس! أصعب حاجة إن الإحساس يتعلم. ذنبي إيه يا نادرة؟ ذنبي إنه ظروفي كانت سهلة وكويسة؟ ذنبي إيه؟
نادرة :
كنت لازم تقلق وتدور، كنت لازم تقلق وتحس بنقص، اللي عمره ما اتألم ويكون إنسان لازم يحس إنه صغير ووحيد وقلقان، لازم يحس إن حياته ناقصة وحاجة في حياته ناقصاه، حاجة في حياته ضايعة ومش لاقيها، حاجة مهمة خالص مش لاقيها، ما يحسش طعم الأكل ولا الشرب ولا النوم ولا الجنس وكل حاجة تبقى من غير طعم زي المية الفاترة. فيه ناس تعيش وتسكت وترضى بالعيشة الناقصة وتقول أدي احنا عايشين، وفيه ناس تقلق وتدور على الحاجة الضايعة، وتفضل تلف وتدور وتدور زي الأسد المحبوس جوه القفص، يفضل يدور ويدور ويدور، يفضل حاسس إنه وحيد، وإن حواليه سور بيعزله عن غيره، سور تخين وهو جواه وحيد محبوس مخنوق. يفضل يدور ويموت وهو بيدور عن إنه يقعد جوه القفص. فيه ناس تموت وهي تدور عن إنها تفضل وحيدة محبوسة لوحدها جوه «الأنا» لكن إذا ما ماتتش، إذا قدرت تكسر الباب وتخرج برة «الأنا» حتلاقي أغلى حاجة في الدنيا؛ حتلاقي نفسها.
د. فهيم (يقترب من نادرة في حب) :
Bilinmeyen sayfa