وهمت أن تنهض من سريرها فلم تستطع، هاج الهذيان سعالها، وأنهكت الحمى قواها.
وجاء يومئذ النطاسي الإفرنجي يعودها، فوجدها في تلك الحال فوصف لها الحمامات الباردة.
ثم جاء الطبيب السوري فوصف الكينا، وقال مستعيذا بالله: الحمامات الباردة تجهز عليها، تجهز عليها، هي نوبة حمى يا خواجا عارف وستزول غدا أو بعد غد إن شاء الله.
الفصل السادس والعشرون
وفي لبنان دواء للنفوس شاف، ودواء للأبدان، على ربوة بنية الأديم زاهرة الجوانب، بين قمم تحتها خضراء، يعطر الصنوبر هواؤها، وقمم فوقها بيضاء، ثلجها لا يزول، في بيت هنالك تحيط الكروم به والغابات، ويشاهد من إحدى شرفتيه الوادي ومن الأخرى البحر، أقامت مريم وابنها وأبوها ثلاثة أشهر مباركة، زاهرة أيامها، صافية لياليها.
وكلما وقفت في الشرفة تنظر إلى البحر بعيدا، وقد بدا في الأفق الغربي كسجف أزرق غامق متدل من السماء اللازوردية، والبواخر والقوارب كالطيور رسمت عليه والسوسن، كانت تجول المطامع والنزعات في صدرها جولات فتسمعها صوتا يردد هاتفا: البحر، فالسفر، فالحرية، فالجهاد، فالإقبال، فالمجد!
وكلما وقفت في الشرفة الأخرى تنظر إلى الوادي العميق القرار، المظلم الجوانب والأسرار، الكثير الأكناف والأخطار، كان يخيل إليها أن بينها وبين تلك المطامع والرغبات وهدة مثل هذه الوهدة عظيمة مخيفة، فيستحوذ الكرب عليها.
ولكن صوت القصب هنالك على تلك الربوة في الجانب الآخر من الوادي صوت مؤنس سماوي إلهي، ينعش قلبها، ويطرب نفسها، فيبعث فيها كامن عزمها، ويحيي الجميل من أحلامها، صوت القصب في المساء المهيب، إنما هو حنين الجبال إلى الجبال، والعشاق فيها إلى العشاق، بل هو حنين القلوب في سجونها، حنين صغار الطير في وكناتها، حنين النفس إلى سرب من النفوس مثلها تنضم إليه فتبسط جناحيها ناشطة جذلة راغبة تقاسم أخواتها السراء في الجهاد والضراء، صوت القصب يناديها، وبينها وبينه وهدة عميقة مخيفة مظلمة، صوت القصب في ذاك الجبل بعيدا، صوت القصب وراء البحار في أسواق باريس.
وفي ذات ليلة من ليالي الخريف بينا كانت وأباها ينصتان إلى حنينه المحزن المطرب المهيج، والقمر وقد أحيطت به الغيوم البيضاء يفرش ظلالها للأحلام وأرباب الأحلام على المروج وبين الصخور وحول الينابيع، نظرت مريم إلى أبيها وخاطبته قائلة:والآن وقد شفيت يا أبي علي أن أعود إلى بيتي، إلى بيت نفسي، إلى بيت قلبي، إلى بيت آمالي وأميالي، ولكن عارفا يجيئنا الأسبوع القادم ليعيدني إلى بيته، هيهات، هيهات! أبي، حبيبي، ولي قلبي، لقد شفيت بفضل الله وفضل هذه الجبال المقدسة، فسأكشف الستار إذن عن مكنونات صدري، أبي، إن في قلبي ما لا أستطيع أن أشارك به إنسانا، ولا يمكنني أن أحب رجلا إلا إذا محضته حبي، وقد كنت أظن أن القس جبرائيل يزدلف إلي ويخادعني، ولكنه علمني ألا أخادع ولا أحابي، حقي أن أعمل بما يوحيه إلي ضميري، بما يطالبني به فؤادي، بما يفرضه علي محض حبي، هذا حق، ولقد طالما قال القس جبرائيل: إنما الحق فوق السعادة، فإذا أقمت وزوجي وفي قلبي ما لا أستطيع أن أشاركه به، في قلبي ما يمسكه الحب عنه، أكون مخادعة، خائنة، ناهيك ببؤسي وغمي، وببؤسه من جراء ذلك وغمه، فلا سعادة في مثل ذا العمل ولا حق، أحلف بالله يا أبي إني إذا أقمت وإياه لا يقيم وإياه قلبي، ولا جزء صغير منه، وما الفرق بين البغي والزوجة التي تهب زوجها جسدها وتمسك عنه قلبها، بل هناك فرق عظيم يظهر في الخداع والخيانة والنفاق، وعندي أن الامرأة التي تقيم وزوجها على هذه الحال إنما هي أشر البواغي وأخبثهن.
لقد تمم القس جبرائيل قصده بي، ليهنأ بذلك، والآن قد أبعدني الله منه أبوح لك بسري؛ بل بسبب حزني وغمي لما كنت في طبريا، فقد كنت أشعر وأنا في ظل القس جبرائيل أنني آلة صماء يعالجني كيف شاء، لا رغبة لي ولا رأي، ولا عزم، ولا إرادة، كنت أشعر أنني عائشة مائتة، أفرغت نفسي من فضائل الحياة كلها فملأها نفوذه علي كربا وحزنا وغما، وأما الآن فأنت رفيقي، أنت أبي، أنت ولي قلبي، وأنت أيضا معذب في شئونك، تجاذبك الحرية ويجاذبك الأسر، إذا أقمت في هذه البلاد فإما أن تنبذ الثوب وإما أن تعيش منبوذا، وفي كل حال تعيش مغموما محزونا مدحورا مذموما.
Bilinmeyen sayfa