كان إبراهيم يخدش الأرض بمعوله حيث لا يصل إلى تربتها المحراث، وهو يخدش أذان الفجر والأطيار بأدوار من المواليا.
وكان الراهب الفلاح قد باشر الفلاحة، وثوبه الأسود، وقد شمره من الأمام يبدو كذنب الغراب من الوراء، وتبدو تحته سراويل زرقاء وجوارب بيضاء يقيها من الأرض حذاء ثقيل النعل مرأس الأطراف، وقلنسوته مسترخية بين كتفيه وليس على رأسه غير عرقية سوداء صغيرة. - جز الحشيش يا إبراهيم، جز الحشيش، وأرح صوتك، صباح مبارك يا ابني، أعط المواليا فرصة ساعة، نفرت الأطيار، نكدت البقر، تعال إلى هنا، اترك الزوايا تنقبها بعدئذ، تعال جز الحشيش. - بكرت اليوم يا معلمي. - لتنفر الأطيار وتكدر صفا الأسحار، أوقف لسانك، وحرك يديك، ها قد تعالت الشمس ذراعين فوق الجبل ولم نحرث بعد ثلمين. - لا خوف علينا يا معلمي، الجو صاف والنهار طويل، ولم يبق قدامنا للحراثة غير القليل.
وجاء إبراهيم يمشي الهوينا مشية البقر، ويهول بمنجله ويصيح: يا ظريف الطول يا سن الضحوك! - إذا كنت لا تشفق على صوتك يا إبراهيم فأشفق على البقر، فإن للبقر آذانا، تعال جز الحشيش واسكت، بحياة أبيك برحمة أجدادك أن تسكت، اسكت واشتغل.
وكبس الراهب على السكة برجله والمساس في يده كالرمح في يد فارس من فوارس الجاهلية وخطوته وقد هرولت البقر مذعورة تكاد تكون طول المساس. - آهو! آهو! الله معك «كحلا» الله معك، يمينك «كحلا» يمينك، آهو! عنها «أبلق» عنها - هذا الفدان لا ينفع يا إبراهيم، فقد خدع أبوك هذه المرة، «الأبلق» لا يستأهل علفه. - «الأبلق» يا معلمي زينة البقر، أحسن فدان في البلاد، صيته ملأ المرج وبيسان، ولما اشتريناه واستلمت أنا رسنه جعلت ابنة صاحبه تبكي وتقول: خلوا لي «الأبلق» أو خذوني معه، والله يا معلمي جرحت قلبي وسلبت عقلي. - لا تقدر أن تسلبك ما لا تملك يا إبراهيم. - والله يا معلمي وجهها مثل القمر وشعرها مثل الليل وجبينها مثل نجمة الصبح. وشرق إبراهيم بريقه وهز رأسه وشخص إلى السماء بعينيه، ثم قال وهو يقطع بمنجله قضيبا من البردي: حظي مثل شعرها يا معلمي، لو رضي أبي لسلمته رسن «الأبلق» وسلمتها رسني. - كنا بالأبلق صرنا بنجمة الصبح، لا حول ولا! لسانك يا إبراهيم يلزمه رسن، جز الحشيش يا ابني، ينبغي أن نطعم البقر. آهو! عنها! عنها «أبلق»، لعين هذا «الأبلق» لا أظنني أستطيع أن أفلح يومين عليه، هات الكمامة يا إبراهيم، كمه، كمه، أتخافه؟ يا لضيعة الطول، يا لضيعة العرض، خذه بقرنه ولا تخف، أمسكه بقرنه، يا لك من جبان، إليك عنه، رح غني للقمر وسلم رسنك لنجمة الصبح، طر شاربك ولا تحسن أن تكم الفدان. - وأخذ الراهب الكمامة منه ومر كفه على رقبة الفدان يملسها ويطايبه ثم كمه كما لو كان نعجة حولية، ومسح الزبد الذي تساقط على يده من شدقيه وعمد إلى المحراث والمساس يستأنف الحراثة.
وبعد برهة عاد إبراهيم وبيده المنجل وباقة من الحشيش يقول: نسيت أخبرك يا معلمي أننا في رجوعنا من بيسان حيث اشترينا «الأبلق» مررنا بالحمامات فلمحت هنالك الفتاة التي بعثتها مرة إلى بيتنا برسالة إلى أبي كانت جالسة في القهوة تشارب رجلا وتمازحه، فلما رأتني همست في أذنه كلمة ثم سألتني عنك.
فأوقف الراهب المحراث لساعته. - وماذا قلت لها؟ - قلت لها: إن معلمي في البيت بالغوير.
فاكفهر وجه الراهب. - خزاك الله! ومن كلفك بذلك؟ ألم أقل لك ولأبيك ولأمك: إنني أروم العزلة هنا، ألم أفرض السكوت عليكم إذا سئلتم عني؟ - وهل أكذب عليها؟ والرجل الذي كان يشاربها لحقني إلى الخارج وهمس في أذني قائلا: قل لمعلمك إذا جاء إلى قهوة الحمام أية ليلة كانت هذا الأسبوع يشاهد صديقا فيها ويسمع ما يسره. - وغير ذلك يا إبراهيم. - لا شيء يا معلمي. - رح إلى شغلك، رح إلى شغلك، وألجم لسانك.
واستأنف الراهب الحراثة وقد علا وجهه غيمة اضطراب يتخللها بريق الهواجس المحرقة.
وساعة الظهر جاء أبو إبراهيم يحمل إلى سيده الغداء، فحل عن الأبلق والكحلاء النير وربطهما أمام عرمة من الحشيش الأخضر.
ثم فرش عباءة في ظل شجرة عند ضفة الغدير جعلها خوانا وصف عليها الخبز والجبن والزيتون والبصل وبضع سمكات مشوية، فجلس الراهب بعد أن صلى صلاة الظهر وجلس حوله أبو إبراهيم وابنه يتناولون الغذاء، وكان سكوت إبراهيم أثناء الأكل مدهشا ومستحبا، فجعل يقلب نظره في ما على العباءة، فيتناول اللقمة تلو اللقمة والرغيف تلو الرغيف وهو يقرض ويزدرد ويرتشف ولا يميل ببصره يمينا أو شمالا. - بارك الله فيك يا إبراهيم، بارك الله فيك! أولم تعطش يا ابني؟ فهز إبراهيم رأسه واللقمة تملأ فمه، فقال أبوه: قم املأ الإبريق، لو كان يحسن الشغل كما يحسن الأكل. - والثرثرة يا أبا إبراهيم، أصلحه الله.
Bilinmeyen sayfa