فلبثت مترددة ثم رفعت رأسها تهزه إباء وامتناعا، فضحكت البنات، فتركها المدير يفحص غيرها حتى أنجز الفحص والانتقاء، فأفرد ستا من الطالبات غير المناسبات ولم تكن مريم الناصرية منهن، ثم كتب أسماء المختارات وخاطبهن قائلا: الأجرة ثلاثون فرنكا في الأسبوع، والتمرين الساعة العاشرة صباحا وسنبتدئ غدا، كن هنا في الوقت المعين.
لم تسر مريم كثيرا بهذا الفوز وما ملكتها منه الأحلام الجميلة، فجاءت في اليوم الثاني منقبضة النفس تباشر عملها، فتحققت بعد التمرين ما كانت تخشاه.
جاء المدير يقول: إلى العمل يا بنات، وطفق يجول في المسرح ويلوح بيديه؛ آمرا ناهيا، ناصحا معلما، ناقما صاخبا. - أنت يا جولي خطوتك صغيرة، وأنت برشاقة، برشاقة، إلى الأمام، يديكن كالأجنحة ترفرف، رأسكن إلى الشمال، نظركن إلى اليمين، امشي مشيا يا «فلسطين» ولا ترقصي سابرستي! امشي مشيا، مثل رفيقاتك، لاحظي من إلى يمينك ووافقي بحركات يدك حركات يدها، رأسك إلى الشمال، نظرك إلى اليمين، لا تحركي صدرك، برافوا «فلسطين» برافو، خطوة، خطوتان، ثلاثة، إلى اليمين جولي، إلى الشمال لويز، قفي، قفن كلكن، سابرستي! ليكن الصف مستقيما، حسن، حسن، راجعن ذلك.
فعادت البنات ست منهن إلى جهة الشمال خارج المسرح وست إلى جهة اليمين، ثم دخلن صفين على خط مستقيم فالتقت جولي بلويز ثم تقدمن صفين ثم افترقن، والمدير يعيد الأمثولة: خطوة خفيفة رشيقة، لا قصيرة ولا طويلة، حركي يديك يا «فلسطين»، ثبتي صدرك، رأسك إلى الشمال، نظرك إلى اليمين، صفا صفا، إلى الأمام قليلا، أنت، أنت، إلى الوراء.
وهذا هو الدور كله، تقف هؤلاء البنات في وسط المسرح وراء المغنية الشهيرة بينا تغني دورها وهن يطيبن برءوسهن وبأيديهن، ثم يجتمعن حولها ويدرن راقصات بل لاعبات كالبنات في الحقول في فصل الربيع، ثم يدخل اثنا عشر شابا فيرقصون حولهن، وكل شاب يذارع فتاة ويرجع بها إلى مؤخر المسرح بينا المغني والمغنية يغنيان معا دورهما المشهور.
ساعة من هذا التمرين، فعادت مريم إلى بيتها تقول: ثلاث خطوات على المسرح، وثلاث دورات حول المغنية، وساعة وقوف كالتمثال! أهذا ما سعيت من أجله؟ ورمت بنفسها على السرير أسيرة الهم بل طريدة الفشل، ولكنها لم تيأس، فعولت أن تجرب بادئة علها تتدرج سريعا.
وفي اليوم الرابع أوعز المدير إليهن أن يلبسن ثياب الرقص للتمرين الأخير، فدخلت البنات كل خمس منهن إلى غرفة صغيرة جدرانها مبطنة بصور الراقصات والممثلين مقصوصة من الجرائد والمجلات، وفيها بضع مرايا مكسرة، أمام كل واحدة منها رفرف عليه أصناف شتى من المساحيق والمعاجين والأدهان. - لماذا لا تخلعين ثيابك يا «فلسطين»؟ - «فلسطين» حبيبتي، أتقربك «صالومي» ألا تعرفينها؟ تلك التي قطعت رأس يوحنا المعمدان، ورأسك! أنت أجمل منها. - وما أبدع شعرها، وما أطوله، وما أجمل لونه ترالا لا! وحاولت الراقصة أن تحله فنفرت مريم منها. - اخلعي ثيابك لنتفرج على معاطفك وارتدي هذه السرابيل الحريرية، ولا تستحي. - لله من عينك، يا «فلسطين»، فيهن سحر المجدلية، دعيني أقبلهما. فتفلتت مريم منها حردة ناقمة، فتقدمت إليها راقصة أخرى تقول: اكشفي عن ساقك يا «فلسطين»؛ لنتفرج عليه، وجنبك، ترالا لا! - إليك عنها لا تمسيها، هي مطهرة، هي من الهيكل هيكل عشتروت. - الله! ورائحة شعرها كروائح الند والمسك والبخور. - حلي شعرك، حليه. - مريم المجدلية، ترالا لا! تعالي معي الليلة أجمعك بشاعر شعره مسترسل، ولحيته شقراء، وعيناه زرقاوان، شاعر يشبه المسيح، تعالي معي أيتها المجدلية أجمعك بسيدك.
وكانت مريم أثناء ذلك تخلع ثيابها والحنق من ذا التعذيب والتنكيد يملك نفسها، فتورمت أوداجها واحتدم الغيظ في ناظريها. - لله ما أدق مفصلها الكعبي! أين خلخالك يا «فلسطين»؟ - ولكن ساقها لا يناسبه، ساقها غليظ.
ومرت الفتاة يدها عليه فرفستها مريم وهي تلعن بالعربية أباها، فوقعت مستلقية على ظهرها فضجت الغرفة بالضحك والصياح، فقالت إحداهن: يحق «لصالومي» أن تقطع رأسك.
وقالت الأخرى: يحق «لفلسطين» أن تصلبك.
Bilinmeyen sayfa