فهتف زوجها قائلا دون أن يدرك معنى الشاعر: أحسنت أحسنت! ولكن الخوخ أحسن، وبالأخص إذا كان لونه كلون الورد.
وقال المطران: الشاعر يا ست هند يدعو على كل ما تشتهيه نفسه ولا تناله.
فأجابته على الفور: عسى أن تنال نفسك كل ما تشتهيه فتدعو للناس ولا تدعو عليهم - تفضلوا.
ونهضت فنهض الكل وخرجوا إلى فناء الدار، فراح يوسف أفندي يحلج بين القائمقام والمطران ويمازحهما ضاحكا، والراهب وزوجته يتخافتان ويتهامسان. - إشاعات، إشاعات. - ولكن القرائن تدل على صحتها، فقد أحب القس جبرائيل أم الفتاة حبا شديدا عجيبا شاع أمره في الدير وفي البلد، وقد وصته عند موتها بابنتها مريم، مريم من الأسرة المباركة يا ست هند. - هس، لا تفضحنا، متى يصدر أمر الرئيس العام بنقله إلى لبنان؟ - لا أدري، في إمكانك أنت أن تعجلي ذلك، ثم وقف عند الباب يستعطفها ويضغط على يدها. - لا، لا، لا تجئ غدا ولا بعد غد، الإثنين القادم بعد القداس، فتبع الرئيس الست هندا وهو يفرك يديه مستبشرا مطمئنا. - ها ها ها! هذا يا سيدنا من أغرب ما سمعت، ولكن هندا لا تصدق هذه الأخبار؛ لأنها محبة ومخلصة لزوجها، وهي تظن كل النساء مثلها.
فسمعت زوجته الجملة الأخيرة، فقالت ضاحكة: مثلي أنا؟ لا سمح الله. وجاءت إذ ذاك مريم بصينية من الفضة كبيرة في وسطها قنينتان من المشروب الإفرنجي، الواحد أخضر اللون والثاني ذهبي تحيط بهما أقداح صغيرة دقيقة مستطيلة شبيهة بزهر الزنبق، وإلى جنب كل قدح فنجان من القهوة في ظرف فضي مخرم جميل، فمشت الست هند مع الخادمة تسكب لكل ضيف اختياره. - أمشروب النعنع سيدنا أم «البندكتين»؟ - لا أحب ما يصنعه الرهبان في هذه الأيام.
فملأت قدحا من السيال الأخضر وقدمته إليه، فتناوله منها باليمنى وأخذ يدها بيسراه فقبلها قائلا: يد الكريمات أحرى بالتقبيل من أيدينا.
فقالت الست هند ضاحكة: قبلتك تجلب السعد، سأخسرك الليلة فلسك الأخير. وأنت يا محترم، أمشروب الرهبان تريد؟ - لا يا ست هند، من لطمك على خدك الأيمن ... ونحن نقتفي أثر سيادته مهما بالغ بالتقريع.
فأجابته على الفور: خباثة منك هذه، أنت تحب النعنع وتكره «البندكتين». - برافو برافو. - وأنت يا سعادة القائمقام. - اعفيني من الأخضر والأصفر واسمحي لي بفنجان من القهوة، ثم سكبت لنفسها كأسا ورفعته قائلة: وأنا أشرب «البندكتين» استميح من سيادتكم عذرا؛ لأنني أحب الرهبان.
فقال المطران: ونحن نحب ما تحبين يا ست هند. - سبق السيف العذل.
جاءت عندئذ ظريفة بالأراكيل، فوضعتها بإشارة من سيدتها في الغرفة المجاورة لردهة الاستقبال؛ أي غرفة القمار، وبعد أن شرب السادة القهوة امتثلوا أمرها ودخلوا يلبون دعوة «البوكر»، فجلس رئيس الدير إلى يمين الست هند والقائمقام إلى شمالها والمطران أمامها، فعدت الحجارة وأعطت منها بمائتي غرش إلى كل من الجلوس، وافتتحت الجلسة بغاية الرصانة والخشوع وكأنها تفتتح بالصلاة اجتماع «أخوات مريم» في الكنيسة.
Bilinmeyen sayfa