Felsefe ve Bilimde Zaman
الزمان في الفلسفة والعلم
Türler
إهداء
مقدمة
1 - الزمان والمكان صدر المقولات
2 - تميز الزمان عن المكان
3 - متاهات إشكالية الزمان
4 - فض متاهات إشكالية الزمان
5 - الزمان اللاعقلاني
6 - الزمان العقلاني
إهداء
مقدمة
Bilinmeyen sayfa
1 - الزمان والمكان صدر المقولات
2 - تميز الزمان عن المكان
3 - متاهات إشكالية الزمان
4 - فض متاهات إشكالية الزمان
5 - الزمان اللاعقلاني
6 - الزمان العقلاني
الزمان في الفلسفة والعلم
الزمان في الفلسفة والعلم
تأليف
أ.د. يمنى طريف الخولي
Bilinmeyen sayfa
إهداء
إلى الأستاذ الدكتور: محمد عناني.
القيمة العليا في حياتنا الأكاديمية ...
وحياتنا الثقافية ... على السواء ...
قيمة تعلو على المكان ... وعلى الزمان.
ي. ط.
مقدمة
لا شيء البتة يهيمن على وعي الإنسان وعلى أحاسيسه، على عقله وعلى مشاعره معا مثل الزمان، وهذا منذ عصور الأساطير الألفية؛ حيث تترى أحداث الأسطورة عبر آلاف الأعوام الذهبية،
1
حتى عصرنا هذا الذي تجاوز المللي ثانية، والميكرو ثانية (واحد على مليون من الثانية) إلى النانو (واحد على بليون من الثانية)، البيكو والفمتو (واحد على مليون بليون) حتى الأتو (واحد على بليون بليون) وهي أصغر وحدة حاليا ولن تكون الأخيرة. وفي الوقت نفسه تمضي المحاولات العلمية الدءوبة لتقدير عمر الكون وكياناته، فتشتبك مع أحقاب تقدر ببلايين السنوات ... ثم يعلو على هذا وذاك إحساس الوجدان النابض بوقع الليالي ومضي الأعوام، والبحث التواق عن آفاق الأبدية السرمدية.
Bilinmeyen sayfa
فهل الزمان في كل هذا عملاق يستوعب الوجود والعقل جميعا، أم أنه ليس هناك شيء اسمه الزمان أصلا وأنه مجرد إطار تصوري ابتدعه عقل الإنسان لينظم إدراكه للأحداث؟
إذا عني القارئ الكريم بتحديد موقفه من هذا السؤال، فسوف تصحبه الصفحات القادمة في رحلة عبر أقطاب العقل البشري لترسيم معالم مفهوم الزمان، ربما بدا الفصل الأول الموجز فاتحة مباغتة إلى حد ما لأنه قصير جدا ومكثف وقد لا يبدو سهلا، ومع هذا فإن كل ما يقصده أن الزمان والمكان - وليس الوجود - هما الإطار العام والفكرة المبدئية التي تجعل هذا الكون منتظما قابلا للتعقل. ثم تتوالى الفصول بعده أكثر سلاسة وأقرب إلى القارئ العام لتوضح تميز الزمان عن المكان، ثم إمكانية تعقب مفهوم الزمان عبر تياري العقلانية واللاعقلانية ، وأن هذا التناول يستبعد الخلط بين الأبدية وبين اللاتناهي.
تبدأ الرحلة ببدايات الفلسفة اليونانية مرورا بالعصور الوسطى والتصورات الإسلامية والمسيحية على السواء، فيكون لقاء مع تيارات صوفية ثم حدسية ورومانتيكية ووجودية ... وبالطبع يستوقفنا بتفصيل أكثر من سواه الزمان العقلاني المقاس أو المقيس، منذ أرسطو وشارحه الأعظم ابن رشد حتى زمان نيوتن المطلق؛ لينتهي بنا المطاف مع مضامين لزمان آينشتاين النسبي.
ونرجو أن يكون الإطار الذي رسمناه ضاما لجميع هذه العناصر وسواها في كل متآزر ومتكامل، له شيء من السداد، وبه شيء من الفائدة.
وعلى الله قصد السبيل ...
الفصل الأول
الزمان والمكان صدر المقولات
حين وضع المعلم الأول أرسطو القاطيغوريات
Categories, Katnyopia ، أو المقولات العشر التي هي أعم أجناس الوجود، جعلها أولا: الجوهر، ثم أعراضه التسعة: الكم، والكيف، والإضافة، والزمان، والمكان، والوضع، والحالة والفعل، والانفعال. إن أرسطو - بفلسفته المنصبة على الوجود، التي دعمت الفلسفة طوال العصور الوسطى ودعمتها هي كذلك - كان لا بد أن يجعل الجوهر «القائم بنفسه، والمتقوم بذاته، والمتعين بماهيته، والذي تقوم به الأعراض والكيفيات»،
1
Bilinmeyen sayfa
هو المقولة الأولى، فالوجود أو الكون واحدي؛ أي حقيقة واحدة لا تكثر فيها؛ أي جوهر كلي. وما نراه من اختلافات ليس إلا صفات تحمل على الجوهر، والمنطق هو الأورجانون
Organon
أو أداة الفكر لأحكام هذا الحمل؛ لذا كان المنطق قياسيا، حمليا، استنباطيا، وكل مقدماته ونتائجه قضايا مكونة من موضوع ومحمول.
وكانت فاتحة الحضارة الحديثة، وبدء طريق العقل الحديث في العصر الحديث، حين نقل ديكارت الفلسفة من محور الوجود إلى محور المعرفة، فأصبحت من رأسها إلى أخمص قدميها فلسفة منصبة على المعرفة وتدور حولها؛ مما هيأ المناخ الغربي لنشأة العلم الحديث ونموه. وقد كان هذا مرتهنا بالافتراق عن طريق أرسطو
2
ومنطقه وجوهره. وبتنامي بنية الحضارة الحديثة، وسيرها قدما في طريقها، كان الجوهر الأرسطي يتوارى ويضؤل شيئا فشيئا، حتى تلاشى نهائيا بنشأة المنطق الحديث على يد جورج بول
G. Boole (1815-1864) مؤسس جبر المنطق، وأبي المنطق الرياضي أو الرمزي.
وإذا كان المنطق الأرسطي هو منطق الحمل الذي لا يعرف إلا القضية الحملية ، فإن المنطق الرياضي الحديث هو منطق العلاقات، والقضية فيه قد تكون لزومية شرطية أو انفصالية أو عطفية أو تركيبية من هذا وذاك. والحق أن منطق العلاقات هذا يعد من أعظم إنجازات الفلسفة المعاصرة، فقد جعل من الممكن صياغة مشكلات قديمة بطريقة جديدة، وكان له دوره العظيم في إثراء الفكر الفلسفي المعاصر، وتطوير الرياضيات البحتة. والذي يهمنا الآن فيه أنه يتسق مع النظر إلى الكون على النحو الذي ينظر به العلم الحديث إلى الكون؛ أي: بوصفه ليس واحديا بحال، بل بوصفه تعدديا. وكل الفلسفات ذات الطابع العلمي والعقلاني لا بد أن تسلم الآن بالتعددية.
وقد بلغت هذه التعددية ذروتها بفلسفة الذرية المنطقية
Logical Atomism
Bilinmeyen sayfa
مع أعظم فلاسفة العصر وصاحب الفضل الأول في تطوير المنطق الرياضي برتراند رسل
B. Russell (1873-1970) وتلميذه ورفيقه لودفيج فتجنشتين
L. Wittengstein (1889-1951).
والذرية المنطقية كانت بمثابة رد فعل لواحدية برادلي خصوصا والميتافيزيقيين عموما، كما كانت في الوقت نفسه انعكاسا لكشف العلم للطبيعة الذرية لكل شيء،
3
وخلاصتها أن العالم على النقيض تماما من فرضية الواحدية، كثرة متكثرة من الوقائع التي ترتبط بعلاقات. والواقعة
Fact
هي شيء معين له كيفية معينة، أو أشياء معينة ذات علاقات معينة، والواقعة ترسمها أو تصورها القضية الذرية، التي تعبر عن ذلك الشيء الواحد الكائن في آن معين من آنات الزمان، ونقطة معينة من نقاط المكان. أما إذا ارتبطت واقعتان أو أكثر، فإن القضية التي ترسمهما - أو ترسمها - هي القضية الجزيئية،
4
وهذه الذرية المنطقية شاعت في الفلسفة المعاصرة، واتخذها التيار التحليلي بأسره أساسا أنطولوجيا له، واتخذتها مذاهب أخرى متعددة، كبراجماتية وليم جيمس
Bilinmeyen sayfa
W. James (1842-1910) الذي جعل التعددية المتطرفة الرافضة جدا للواحدية هي هندسة بنائه الأنطولوجي، وكانت التجريبية الراديكالية أو الجذرية هي مادة هذا البناء. لقد قال جيمس ما كان يحتاج تماما إلى الصياغة المنطقية للتعددية التي نجدها في الذرية المنطقية، والغريب حقا أن جيمس، وهو عالم ذو باع كبير في الفسيولوجيا وعلم النفس، وفيلسوف من الطراز الأول، وقد اشتهر بعدائه الغريب للمنطق، حتى إنه قد قال عن برتراند رسل العظيم؛ لكونه منطقيا: تبا له من حمار!
5
وسواء أخذنا بالذرية المنطقية أو رفضناها، أو حتى رفضنا التيار التحليلي بأسره، وأيا كان الموقف من مسلمة التعددية المعاصرة وإطلاقها أو كبح جماحها، فالذي لا جدال فيه أن الجوهر الأرسطي الآن، من أية زاوية ومن أية وجهة للنظر قد انزاح تماما؛ فنستطيع إذن أن نعيد الأمور إلى نصابها، ونجعل المقولة الأولى، أو ما يتصدر أعم أجناس الوجود، ليس الجوهر، بل مقولتي الزمان والمكان.
إن الزمان والمكان هما القالب الذي صب فيه هذا الوجود جملة وتفصيلا، وانتظم بفضلهما على هيئة كوزموس
Cosmos ؛ أي: كون منتظم. والكوزموس أو الكون الذي تتعامل معه الفيزياء الحديثة هو المادة تتحرك عبر المكان خلال الزمان. والنظرية الفيزيائية العامة هي التي تحدد قوانين هذه الحركة؛ أي: حسابات الانتقال من نقطة إلى أخرى في المكان بسرعة معينة؛ أي: خلال مدة من لحظة إلى أخرى في المكان بسرعة معينة، أي: خلال مدة من لحظة إلى أخرى في الزمان. ونظرا لعمومية الفيزياء وشموليتها وتربعها على قمة نسق العلوم الإخبارية، فإن سائر أفرع العلم الأخرى - سواء الطبيعية أو الحيوية أو الإنسانية - تسلم بمسلمات الفيزياء؛ فعوالمها مجرد زوايا أكثر خصوصية في عام الفيزياء، الذي هو مادة متحركة في الزمان والمكان. ومن ثم، فإن الزمان والمكان صلب عالم العلم، أو الوجود الذي يتعامل معه العلم.
وحتى قبل نشأة العلم الحديث بقرون عدة، كانت الفلسفة قد صاغت نظريا ما هو معطى للحس المشترك، فذهبت إلى أن العالم الخارجي أو الكون كوزموس، سلسلة من الظواهر يستحيل منطقيا حدوث أيها خارج نطاق الزمان والمكان. وقديما أشار هيراقليطس إلى أنه لا وجود خارج إطارهما، حين قال: لا شيء في هذا العالم يستطيع أن يتجاوز مقاييسه، وهذه المقاييس هي الحدود المكانية والزمانية. أما الفيثاغورية فقد رأت أن «العالم قد وجد (أصلا) بفضل ما له من حدود زمانية مكانية.»
6
والخلاصة إذن أنهما إطار الوجود الذي عهدناه.
والأمر كذلك تماما على مستوى المعرفة، فهي أيضا لا تتم إلا في إطار الزمان والمكان. والمقصود بطبيعة الحال المعرفة بهذا الكون، أو على الأقل بظواهره، وهي التي تعهدت الفلسفة برؤاها ومبادئها ومسلماتها ومناهجها، حتى تسلمها العلم الحديث إبان نشأته في القرن السادس عشر وهي مهيأة لتنام وتعملق ما كان يخطر على بال.
إن الزمان والمكان كما أشار إيمانويل كانط
Bilinmeyen sayfa
I. Kant (1724-1804) إطاران مفطوران في صلب العقل الإنساني الذي يقوم بعملية المعرفة، شكلان قبليان للحساسية، يتم وفقا لهما ترتيب معطيات هذه الحساسية ومضمون خبرة الإنسان بالعالم الخارجي، أو تجربته الخارجية. فالزمان والمكان إذن صورتان قبليتان أو شرطان للمعرفة، مثلما هما - كما رأينا - إطاران للوجود.
والمعرفة والوجود - أو الإبستمولوجيا والأنطولوجيا - هما في خاتمة المطاف المحوران النهائيان اللذان لا بد أن يدور حول أحدهما أي جهد للعقل البشري. أما القيمة - الأكسيولوجيا - المحور الفلسفي الثالث والأخير، فمحض تقاطع بين المحورين الأولين، وتمثيل لعلاقة الذات العارفة بهذا الوجود ورؤيتها له وإسقاطاتها عليه.
من هنا كان الزمان والمكان بوتقة لمطلق قدر الإنسان، مطلق حدود عالمه وآفاق عقله. ويرى صمويل ألكسندر
S. Alexander (1859-1937) أنهما الأصل الهائل أو الحقيقة المبدئية التي نشأ عنها العالم، هيولى أولى أو جوهر أصلي أو خامة
صدرت عنها كل الوجودات بالانبثاق، فعن الزمان والمكان انبثقت أولا المادة، وبالتدريج انبثقت الحياة، ثم الوعي، وأخيرا الألوهية، بل إنهما يظلان أيضا ماهية الموجودات بعد انبثاقها عنهما، فتظل كل الأشياء مثل مصدرها زمانية مكانية،
7
ونجد أرنست كاسيرر
E. Cassirer (1874-1945) بفلسفته للأشكال الرمزية يعرف الإنسان بأنه حيوان رامز، فالرمز - لديه - هو الحد الفاصل لإنسانية الإنسان، وهو المفسر لجميع فعالياته؛ كالأسطورة، والدين، والأخلاق، والبناء الاجتماعي، أو السياسي، والفن، والفكر، والعلم ... إلخ. وكل هذه الفعاليات المتباينة يصهرها في بوتقة الإنسانية اشتراكها في شيء واحد؛ هو صلتها بالزمان والمكان. وأكثر من هذا يوضح كاسيرر أن الزمان والمكان في الفكر الأسطوري لم يكونا محض شكلين فارغين أو خالصين، بل كانا يعدان القوتين العظميين اللتين تحكمان كل شيء وتصرفان حياتنا الفانية وحياة الآلهة أيضا وتحددانها.
8 •••
من هذا التصور الأسطوري يتضح أنه إذا كنا قد أزحنا الجوهر الأرسطي وجعلنا الزمان والمكان في صدر المقولات والفكرتين الأوليتين، فإن هذا ليس كشفا حديثا، بل هو مجرد وضع الأصبع عليهما، أو بلورة ناصعة لما هو كائن منذ أن كان الإنسان، وفلسفة أرسطو ذاتها عنيت عناية بالغة بالزمان والمكان.
Bilinmeyen sayfa
إن تقولب كل وجود في قالب ما من الزمان والمكان هو بؤرة من بؤر الوعي الإنساني في كل مستوياته: من الحس المشترك إلى التفكير العلمي إلى الفكر الفلسفي.
وفي كل عهوده، منذ العصر الأسطوري الذي يتسم باضطراب خط الزمان والمكان؛ حيث تقع حوادث الأسطورة في إطار زماني غير منطقي، وتنتقل عبر أمكنة لا يمكن تصور الانتقال بينها، وحتى عصر النسبية بمتصلها الزماني-المكاني (أو الزمكاني) الذي يبلغ درجة مبهرة في تعيينهما بدقة متناهية تنطبق على الكوكب وهو يتحرك في السماء، كما تنطبق على الإلكترون وهو يتحرك حول نواة الذرة.
الفصل الثاني
تميز الزمان عن المكان
انتهينا إلى أن الزمان والمكان متقاطعان بوصفهما إطارا للوجود، خصوصا لعالم الظواهر فيه - كما أسماه كانط - وبوصفهما شرطا قبليا للمعرفة به. إنهما بلا شك مترابطان، وقد كان جان بياجيه
J. Piaget
يملك حيثياته الفلسفية والعلمية والسيكولوجية حين طابق بينهما بواسطة الحركة المكانية والسرعة الزمانية، اللتين هما وجهان لعملة واحدة، بل لعلهما اسمان لمسمى واحد. ومن ثم قال بياجيه إن الزمان مكان متحرك والمكان زمان ثابت.
إنهما بالنسبة للتفكير العقلاني والعلمي، وعلى أخص الخصوص بالنسبة للفيزياء لا ينفصلان البتة؛ فقياس الظواهر يتم بالاعتماد عليهما معا، وكلاهما نظام ضخم من العلاقات، وبتشابكهما معا يحويان الأنظمة الأخرى جميعا «الزمان وحدة والمكان وحدة، وكل نطاق أو حيز معين جزء من المكان، وكل أجزاء المكان ترتبط معا في وحدة، تماما كما أن كل مدة معينة جزء من الزمان، وكل أجزاء الزمان ترتبط معا في وحدة.»
1
ولعلهما من زاوية ما للنظر - خصوصا إذا كانت العقلانية والعلمية - يبدوان متماثلين ويثيران مشكلات واحدة، حتى إن الطوبولوجيا
Bilinmeyen sayfa
Topology
مثلا، وهي العلم الذي قام لدراسة أخص خصائص المكان من حيث هو مكان؛ أي: العلاقات المكانية المختلفة؛ كعلاقة الجزء بالكل، وعلاقات الاندماج والانفصال والاتصال، التي تعطينا الشكل الثابت للمكان، الذي لا يتغير بتغير المسافات والمساحات والأحجام - هذا العلم قد ماثله بحث في طوبولوجيا الزمان - كما سنرى. وخير مثال فلسفي يوضح كيف أنهما قد يثيران مشكلات واحدة، ويوضح أيضا كيف أنهما إطار لا مخرج منه للوجود وللمعرفة هو التساؤل الشهير: إذا كان للزمان بداية ونهاية، فما الذي يوجد قبله وبعده؟ إذ يماثله ذلك التساؤل: إذا كان للمكان بداية ونهاية، فما الذي يوجد قبل المكان وبعده؟ والمثال هنا الأقرب إلى التفكير العلمي هو هذا التساؤل: هل يمكن أن يوجد زمان خال تماما؟ ومن ثم هل يمكن التفكير في زمان بمعزل تام عن أية أحداث؟ ويماثله مباشرة تساؤل عن تصور مكان خال تماما. وهذه المشكلة تبناها أمير علماء العلم الحديث إسحاق نيوتن في بحثه عن الزمان والمكان المطلقين، فقد أشار في مقدمة كتابه العظيم «مبادئ الفلسفة الطبيعية» (سنة 1687)، إلى أن التفكير العادي لا يتناول الزمان والمكان والحركة إلا من حيث علاقتهما بالأشياء المحسوسة، وأنه لا بد من نبذ هذه الطريقة لكي نخرج من معلوماتنا الحسية بتجريد، يمثل أساسا ولبنة للعلم، فكان أن فعل وخرج بمفهوم للزمان والمكان المستقلين عن كل شيء والثابتين دائما أو المطلقين. ويوضح لنا عالم الفلك والفيزياء وفيلسوف العلم جيمس جينز أن العلم يطرح أربعة معان متميزة للمكان يقابلها أربعة معان متميزة للزمان؛ هي: المكان التصوري، والمكان الإدراكي، الحسي، والمكان الفيزيائي، والمكان المطلق. يقابلها: الزمان التصوري، والزمان الإدراكي الحسي، والزمان الفيزيائي، والزمان المطلق.
2
وكقاعدة عامة، يتصور الفيزيائي الزمان بالطريقة نفسها التي يتصور بها المكان؛ فهو يفترض أن كليهما متصل قابل للقياس، وتتخذ كل أحداث الطبيعة موقعا فيه. وكما تعامل الهندسة - علم قياس المكان - المكان في حدود نقاط وعلاقاتها، يعامل الكرونومتري
Chronometry - علم قياس الزمان - الزمان في حدود لحظات وعلاقاتها. وكما أن الوعي لا يتلقى نقاطا لا امتداد لها، فإنه لا يتلقى لحظات لا ديمومة لها. والعلاقات المكانية تماثل - صوريا - العلاقات الزمانية، ولكن المكان فكرة على قدر من البساطة، ويتعامل العلماء معه بسهولة، أما الزمان والحركة فموضوع شديد التعقيد.
3
إن المكان كائن دائما في المكان، أما الزمان فيتدفق في قلب الزمان؛ فلا بد إذن أن الزمان يتوغل في مستويات فلسفية وعلمية أبعد، لا يطولها المكان. •••
فعلى الرغم من كل ما رأيناه من ارتباط الزمان والمكان، فإنهما ليسا البتة على قدم المساواة، وليسا متساويين أو متكافئين، بل كان الزمان دائما - من وجهات النظر المختلفة - متميزا عن المكان ومتقدما عليه، حتى إن صمويل ألكسندر الذي رأى أنهما ندان لا ينفصلان، وأكد فلسفيا ما أكدته النظرية النسبية علميا من أنه لا يوجد مكان مستقل أو زمان مستقل، بل ثمة فحسب زمانيات مكانية تستلزم زمانا-مكانا أوليا تنبثق عنه كل الأشياء؛ عاد بعد هذا ليعلي من شأن الزمان بوصفه مبدأ تنظيم، لولاه لكان المكان كتلة مصمتة. وبتعبير مجازي يقول إن المكان جسد الكون والزمان عقله، وليس هذا ببعيد عن الثنائية التي أرساها أبو الفلسفة الحديثة ديكارت بتفرقته الحاسمة بين المادة أو الجوهر الممتد، والعقل أو الجوهر المفكر.
وإيمانويل كانط أيضا، وهو من أكثر الفلاسفة عناية بالربط بينهما، وقد ذهب إلى أن الفارق الوحيد بينهما هو أن الزمان يقوم على التوالي بمعنى التعاقب بين الأحداث وفقا للسببية، أما المكان فيقوم على التتالي بمعنى التجاور وفقا لعلم الهندسة. نقول إن كانط أوضح أن المكان هو شكل تجربتنا الخارجية، أما الزمان فهو شكل تجربتنا الداخلية. ولكن العالم الخارجي - كما تنص فلسفة كانط النقدية - لا ينفصل البتة عن الشروط الداخلية في العقل الذي يتصوره. لذا عاد كانط في نقد العقل الخالص ليقدم الزمان على المكان ويعتبره الأعم والأشمل؛ لأن المكان مقصور على الظواهر الخارجية وحدها، أما الزمان فهو الشرط الصوري القبلي لجميع الظواهر بوجه عام، ومن ثم فإن له - دون المكان - «علاقته الوثيقة بالعالم الداخلي للانطباعات والانفعالات والأفكار. والزمان بهذا الوصف هو معطى من معطيات الوعي المباشر، وهو أكثر حضورا من المكان، بل من أي تصور آخر كالسببية أو الجوهر، فكأنه لا خبرة هناك إلا إذا كانت تتسم بطابع زماني.»
4
Bilinmeyen sayfa
وليس من الضروري بطبيعة الحال أن تتسم كل خبرة بطابع مكاني، بل إن الخبرة بغير عالم الظواهر الخارجية لا يمكن أن تتسم بالطابع المكاني.
وإذا كان الفيلسوف الألماني كانط شيخ الفلسفة الحديثة بأسرها، فإن أهم ما أخرجته الفلسفة الألمانية المعاصرة في القرن العشرين كتابان؛ الأول: هو كتاب مؤسس الفينومينولوجيا إدموند هوسرل
E. Husserl (1891-1938) دراسات منطقية
Logische Untersuchungen
وقد اعتنى هوسرل بالوعي الباطني والتوصيف الفينومينولوجي له، والثاني: كتاب مارتن هيدجر
M. Heidegger (1889-1976) الوجود والزمان
Sein Und Zeit (1927) وقد اكتسب هذا الكتاب أهمية فلسفية فائقة، حتى عد إنجيل فلسفات الوجود والفلسفة الوجودية المعاصرة؛ وذلك لأنه نظر إلى الوجود أخيرا نظرة كانت مجدية حقا، نظر إليه من خلال الزمان. وفي القسم الأول من الكتاب اعتبر هيدجر أن الزمان هو الأفق الترانسندنتالي المتعالي الذي ننظر منه إلى السؤال عن الوجود؛ إذ إنه بالزمان والزمانية يفسر «الدازين»
Dasein (الموجود ثمة أو الكائن الملقى به هناك والتي ترجمت بالآنية)، «أما في القسم الثاني من الكتاب، فيشرح المعالم الرئيسية لما يسميه «التحطيم الفينومينولوجي» لتاريخ الأنطولوجيا على هدى من مشكلة الزمانية.»
5
وقد وضع هيدجر مصطلحات معقدة وجهازا فلسفيا مهيبا وفعالا؛ لينجز هذه المهمة التي كانت ضرورية، مهمة التفسير الزماني للوجود والتفسير الوجودي للزمان، واعتبار الزمان الأفق الذي نطل منه على الوجود.
Bilinmeyen sayfa
فقد ارتبط الزمان دائما بالوجود، ونحن لا نفكر في أحدهما دون أن نفكر في الآخر و«الوجود منذ فجر الفكر الفلسفي مرادف للحضور، والحضور يكون في أفق الحاضر ويتكلم بصوته، والحاضر في التصور الشائع بعد من الأبعاد الثلاثة التي تلازم تصورنا للزمن الذي يسير على طريق لا رجوع فيه من ماض إلى حاضر إلى مستقبل. والماضي في تصورنا الشائع أيضا هو الذي لم يعد له وجود، كما أن المستقبل هو الذي لم يوجد بعد.»
6
إن ثمة علاقة عكسية وتحديدا متبادلا بين الزمان والوجود؛ لذا فربما بدا المكان أقدر من الزمان على البقاء، إلا أن وجودنا يرتبط ويتحدد بالزمان المنقضي المتلاشي، أكثر كثيرا من ارتباطه بالمكان. •••
والتقابل بين المكان والزمان يمكن وضعه وتصعيده على النحو التالي:
المكان
الزمان
النقطة
اللحظة
الامتداد
الديمومة
Bilinmeyen sayfa
التجاور
التعاقب
التتالي
التوالي
السكونية
الحركية
الثبات
التغير
الكينونة
الصيرورة
Bilinmeyen sayfa
هكذا ننتهي إلى أن الزمان - دون المكان - هو الكائن الصائر السيال المنقضي دائما: ماض لم يعد ومستقبل لم يأت وحاضر لا يكون أبدا، ينفلت من بين فروج الأصابع دائما. ومجرد الإمساك باللحظة الراهنة يعني انفلاتها وإتيان اللحظة التالية لتنفلت هي كذلك في توال لا يتوقف أبدا، أو لم نبدأ من اللحظة، واللحظة آن، و«الزمان مكون من آنات يرفع كل منها الآخر، فهو تغاير مستمر، موجود بوصفه غير موجود، وغير موجود بوصفه موجودا.»
7
هذه الطبيعة الانزلاقية المتحركة، بل الدافقة الجارفة والمروعة للزمان، هي التي جعلته يتحد بالوجود ثم العدم، بالحضور ثم الفناء. والزمان هو الذي ينبئ الإنسان بموته وزواله وعبثية كل جهوده، كما يبشره بانتظار الجديد الوافد، الميلاد الذي سوف يحدث والجديد الذي سوف يطرأ، مثلما أن الموت سوف يحدث والطارئ سوف يبلى. إن الزمان هو الذي يحمل أمل الإنسان ويأسه، مجده وتفاهة شأنه، إنه الكيان الموجد الفاني.
لذلك «لو رجعنا إلى المصطلح اليوناني لكلمة الزمان فسوف نجد أن كلمة كرونوس
Chronos
تشير إلى الزمان منذ عصر هوميروس»،
8
وكرونوس إله يخشى على ملكه من أبنائه، فيلتهمهم الواحد بعد الآخر، وكذلك الزمان هو الذي ينجب الكائنات، ثم هو الذي يقضي عليهم.
9
لذلك يفر الإنسان دائما من كرونوس إلى أيون
Bilinmeyen sayfa
Aion . وأيون كلمة يونانية تشير إلى الزمان بمعنى الأبدية، التي احتلت موقعا جوهريا في بنية العقل طوال تاريخه. فلكي يواجه الإنسان (الماضي، الحاضر، المستقبل) وضع (الأزلية، السرمدية، الأبدية) في محاولة منه للتغلب على شر الزمان، وتحطيم لأطره وانفلات منه، يتخذ صورا عدة. فأبو اليزيد البسطامي - مثلا - يعرف توحيد الشهود الذي هو توحيد الخواص «بأنه الخروج من ضيق الحدود الزمانية إلى سعة فناء السرمدية.»
10
إن الشعور بالتناهي والزوال الذي يجعله الزمان مسيطرا على الإنسان هو الذي دفع الفلاسفة اليونان الأولين لأن يقولوا: كل شيء عائد إلى أصله، ولا بد أن يعاني العقاب وذلك تبعا لقانون الزمان (دورته الأبدية). ثم جاء الإنجيل الرابع يؤكد الحياة الأبدية للمسيح، وتحدث الصوفي العظيم الميستر إكهارت
Eckhart (1260-1327) عن الآن الأبدي داخل «سيلولة» الزمان ،
11
مؤكدا أن الأول - أي الآن الأبدي - هو الحقيقة، أما الزمان فوهم غير حقيقي. والواقع أن الأبدية محض هروب من الزمان الغادر الفاني، الذي هو قدر الإنسان، فإلى أين؟ إلى زمان آخر فحسب نرجوه لا يغدر ولا يفنى، فهل الأبدية تحمل الخلاص من ربقة الزمان أم ينطبق عليها قول أبي العلاء المعري:
وهل يأبق الإنسان من ملك ربه
فيهرب من أرض له وسماء؟!
ومهما يكن الأمر، فإننا نلاحظ أن مفهوم الأبدية الموازي للزمان ليس له مماثل بشأن المكان الذي لا يمس صميم المصير الإنساني. إن المكان مقولة فلسفية لها قضايا محددة أما الزمان فمقولة استحالت إلى إشكالية من أمهات المسائل الفلسفية، التي أرقت لها العقول وتضاربت بشأنها الرؤى واسترعت الاهتمام واستأثرت به، وبزت جميع إشكاليات الفلسفة في ذلك كله منذ وجد الإنسان. فإذا اعتبرنا الحضارة الفرعونية هي الفجر الناصع لحضارة الإنسان، لاحظنا كيف انصبت جهودها على تأكيد عقيدة الخلود في الحياة الأخرى، تحديا للزمان، وتقف الأهرامات مصداقا شامخا على هذا. •••
وتميز الزمان عن المكان لا يقتصر على أن الزمان له طبيعة تجعله مخاطبا لعالم الإنسان الداخلي ومسترعيا لصميم وجوده ووجدانه؛ أي متوغلا في العالم المقابل لعالم العلم، بل إن الزمان يتميز عن المكان أيضا في قلب عالم الظواهر - عالم العلم.
Bilinmeyen sayfa
لقد ذكرنا أن كل فروع العلم تسلم - كما تسلم الفيزياء - بأن الزمان والمكان إطاران متقاطعان لهذا الوجود أو العالم الذي يبحث كل فرع من فروع العلم في زاوية من زواياه. هذا صحيح، لكن من الصحيح أيضا أن كل علم له اعتماده الخاص على مفهوم الزمان دون المكان؛ فالحياة العضوية لا توجد إلا بمقدار ما تتطور في زمن، فهي ليست شيئا بل عملية، تيار مستمر من الأحداث أو الوظائف، يعني ديمومة معينة من الزمان.
وقد تعاظم أمر الزمان في العلوم الحيوية حين ظهر علم البيولوجيا العام - الذي يبحث في نشأة ظاهرة الحياة على سطح الأرض وتطورها - حين تقدم دارون بنظريته عن أصل الأنواع الحيوية ونشوئها وتطورها خلال مراحل زمانية.
والمجموعة الثالثة في نسق العلم، بعد مجموعة العلوم الفيزيائية أو علوم المادة الجامدة، ثم مجموعة العلوم البيولوجية أو علوم المادة الحية؛ هذه المجموعة الثالثة هي مجموعة العلوم الإنسانية التي تعتمد أكثر وأكثر على الزمان. فدراسة الظواهر الإنسانية - من أية زاوية - تتمركز دائما حول الزمان.
والزمان معطى مباشر للوعي، ولكنه معطى شديد التعقيد، وهذا ما دفع كاسيرر في مرجعه المذكور «مقال في الإنسان» إلى الإشارة إلى عدة مستويات لإدراك الزمان، أدناها «الزمان العضوي» الموجود لدى الكائنات الحية حتى لدى الأشكال الدنيا منها، وإذا اقتربنا من الحيوانات العليا سنجد شكلا جديدا يسميه كاسيرر «الزمان الحسي» وهو ذو طبيعة سيكولوجية معقدة، وفي النهاية نجد الزمان الرمزي الذي يدخل فيه مفهوم الزمان الفيزيائي العلمي الدقيق.
وكما ظهرت فكرة التطور في علم الحياة وتوغلت في بنية الفكر المعاصر من زوايا عديدة، ظهرت فكرة التقدم في العلوم الاجتماعية المعاصرة، ونشأ علم النفس الارتقائي لبحث نمو سيكولوجية الطفولة، فيزداد اعتماد العلوم الإنسانية الحديثة جميعا على الزمان.
وحتى قبل ظهور العلوم الإنسانية الحديثة كان لا بد أن تدور المباحث الإنسانية حول محور الزمان. وخير ما يبرهن على هذا أن أفلاطون عجز عن الاستغناء عن محور الزمان بالرغم من أنه أعدى أعداء مقولة التقدم، «وما كان ليقبل أبدا الفكرة القائلة بأن مبادئ النظام الاجتماعي الصحي تتغير من عصر لعصر ومن مجتمع لآخر؛ فقد أكد أنها أبدية ثابتة كمبادئ النظام الطبيعي، وإن كان يمكن تشويهها وإفساد المجتمع بألف طريقة.»
12
وهذا ما دفع أفلاطون إلى تكريس الكتاب الثامن من الجمهورية لبحث مراحل التدهور التي تعقب الحكم المثالي حكم الفلاسفة، وحددها بخمس مراحل من الحكومات الدنيا أو الحكم السيئ؛ هي: الأرستقراطية، ثم التيموقراطية، وهي حكومة الحماسة للحرب، ثم الأوليجارشية، وهي حكم القلة من الأغنياء، تعقبها مرحلة استيلاء الأغلبية الفقيرة الدهماء على الحكم؛ أي مرحلة الديمقراطية التي تفضي إلى حكم الطغيان والاستبداد. هذه الحكومات الخمس متعاقبة، كل منها أسوأ من سابقتها، وهي بطبيعة الحال تتم عبر مراحل زمانية.
ولا غرو أن يكون الزمان محورا أساسيا من محاور فلسفة جيامباتستا فيكو
G. Vico (1668-1744) رائد فلسفة التاريخ. وليس بالنظر فحسب إلى فلسفته في التاريخ، وهي وثيقة الاتصال بالزمان لدرجة تغني عن الذكر، ولكن نظرية فيكو في فلسفة القانون كانت هي أيضا قائمة على مقولة الزمان، أو بتعبير أدق، على «فكرة تقسيم الأزمنة
Bilinmeyen sayfa
Sett dei tempi ، باعتبارها مبدأ قابلية العملية القانونية للنمو والحياة والتطبيق، كما كانت عند الرومان.»
13
وعلى ضوئها كانت مجمل فلسفته للقانون فضلا عن التاريخ.
إن الإنسان أكثر الكائنات طرا وعيا بالزمان وتحددا بإطاره وتفاعلا بمساره، فهل يمكن لأي نظر أو دراسة للإنسان، ألا ترتكز على مفهوم الزمان، بصورة أو بأخرى؟!
ويمكن أن ننظر للأمر نظرة أكثر عمومية وشمولية لنجد المعرفة العلمية على إطلاقها تتشابك تشابكا خاصا مع الزمان. ولنستعر قول نيقولاي بيرديائيف: «لقد علمنا أفلاطون أن المعرفة تذكر، أو بتعبير آخر هي انتصار على دولة الزمان.»
14
ذلك بأن قوة التذكر انفلات من أسر التجربة الحسية المباشرة واقتحام للماضي، لزمان لم يعد كائنا. وتقوم المعرفة التاريخية، على وجه الخصوص، سواء التاريخ الجيولوجي أو الطبيعي الحيوي أو الإنساني تقوم بتأكيد قدرة الإنسان على هذا الانفلات، ويتصل بها كذلك قدرة العلم على التنبؤ، التي تتعاظم يوما بعد يوم وتزداد دقة، فالتنبؤ هو أيضا اقتحام لآفاق المستقبل؛ أي: آفاق الزمان الذي لم يوجد بعد.
وثمة أيضا التنبؤ العكسي الذي يقتحم الماضي، كأن يستدل العلماء على أوضاع فلكية أو فيزيقية كانت منذ زمن قريب أو بعيد. وعلى الإجمال، فإن تنامي القدرة على اقتحام آفاق الزمان معيار مهم من معايير التقدم العلمي الذي يحرزه الإنسان. •••
وهكذا، نرى صور تميز الزمان على المكان، فضلا عن انفراده بعالم الوجدان اللامنطقي المنطلق، ولكل ذلك فاق الزمان المكان حيثية وشأوا في عالم العلم ذاته. إن المكان له - بطبيعة الحال - حيثية، وقد انشغل به نفر من الفلاسفة منذ ما قبل السقراطيين الذين بحثوا في الخلاء والملاء، إلى فلاسفة العلم المعاصرين والمعنيين بالرياضيات البحتة والتطورات الخطيرة التي حدثت لعلم الهندسة في القرنين التاسع عشر والعشرين؛ حيث ظهرت هندسات لا إقليدية كاملة الأنساق، وأصبح لدينا ثلاثة أنساق هندسية متكافئة منطقيا؛ الأولى: هندسة إقليدس المعهودة التي تفترض أن المكان أو السطح كما ندركه مستو، وهندسة لوباتشيفسكي التي تفترضه مقعرا، وهندسة ريمان التي تفترضه محدبا. ثم أصبحت الأخيرة مع آينشتاين هي الهندسة التطبيقية أو هندسة الواقع الفيزيائي، بعد أن كانت الإقليدية هي السائدة مع نيوتن،
15
Bilinmeyen sayfa
ولكن إذا كان للمكان قضايا معينة انشغل بها نفر من الفلاسفة، فإن الزمان له قضايا لا أول لها ولا آخر، ولا يوجد فيلسوف ذو اعتبار لم يدل بدلوه في إشكاليات الزمان. إن الزمان هو الذي استرعى انتباه الجميع، وأثار من الدهشة - أم التفلسف - ما لم يثره سواه، وما لا يضاهي بما أثاره المكان، ولا ما أثارته أية مقولة فلسفية أخرى.
الفصل الثالث
متاهات إشكالية الزمان
وما دامت مقولة الزمان بكل هذه الحيثية وكل هذه الشمولية من ناحية، ثم الهلامية المراوغة من الناحية الأخرى، فلا بد أنها تحتمل النظر من ألف زاوية وزاوية، لنخرج بألف وجهة للنظر ووجهة، وبصورة تنذر بمتاهات لإشكالية الزمان، لا مخرج منها.
وبادئ ذي بدء نلاحظ أنه قد أثيرت مشكلة ما إذا كان الزمان أصلا حقيقة أم وهما. صحيح أن العلم بواقعيته المبدئية يسلم بالوجود الموضوعي للزمان من حيث يسلم بموضوعية الكون؛ أي بأنه موجود في حد ذاته سواء أكان ثمة ذات تدركه أم لا. فضلا عن أن الذوات جميعا تدركه بالطريقة نفسها ولكنه ليس من الضروري أن تلتزم الفلسفة كلها بهذه الواقعية؛ فالمثالية تنكر استقلال الوجود، بل تنكر حتى وجوده ذاته وترده إلى الوعي، وهي تيار فلسفي هام. وكثيرون هم الفلاسفة الذين أنكروا حقيقية الزمان، ولعل أهمهم جون ماكتاجارت
J. Mc Taggart (1866-1925)؛ وذلك لأنه استند على السمات الخاصة بالزمان، وليس على الصعوبات المحيقة به، الصعوبات الخاصة بالاتصال واللاتناهي، والتي تلاشت بالتقدم الحديث في الرياضيات البحتة وحساب اللامتناهي،
1
وكذلك لأن حجج ماكتاجارت قد صيغت في صورة استدلالات منطقية، تعتمد على أن ثمة طريقين لترتيب الأحداث في الزمن؛ فنحن يمكن أن نتحدث عنها بوصفها ماضيا، أو حاضرا، أو مستقبلا. ونحن أيضا يمكن أن نتحدث عنها بوصفها سابقة أو لاحقة أو متآنية بعضها مع بعض.
والطريقة الأولى لا يمكن أن ترد إلى الثانية، ما دامت الثانية لا تتيح مجالا لمرور الزمن. والأحداث ماض للأحداث اللاحقة لها وحاضر للمتآنية معها ومستقبل للسابقة عليها، وما حاول ماكتاجارت إثباته هو أن هذه الخصائص الثلاث غير متسقة بعضها مع بعض، ويستحيل التوفيق بينها بطريقة لا تؤدي إلى ارتداد لا نهائي أو دوران منطقي. والواقع أن ماكتاجارت قد وقع في الخطأ المتربص دائما بالمثاليين، وهو استعمال اللفظ الكلي «أحداث» كما لو كان يشير دائما إلى الكيان نفسه؛ فالأحداث لا تكون ماضية ومستقبلة في السياق نفسه وبالنسبة للأحداث نفسها، بل في سياقات مختلفة وبالنسبة لأحداث مختلفة، بصورة تؤكد في النهاية التسلسل المنطقي.
وإذا كان يعتز بأن حججه ليست حدوسا عقلانية بل منطقية للغاية، فإنه يسهل لأساطين الفلسفة المنطقية دحضها. وقد تكفل بهذا كثيرون، نذكر منهم ألفرد جوليوس آير،
Bilinmeyen sayfa
2
الذي قام بنقل الوضعية المنطقية من فيينا إلى لندن.
ومن خلال نظرة إلى هذه الشريحة المحددة والطارئة في تاريخ الفكر الفلسفي الطويل العريض، يتضح لنا إلى أي حد تضاربت المعالجات الفلسفية لإشكالية الزمان وتعددت. والشريحة المقصودة هي الغزوة المثالية الطارئة التي اقتحمت الفكر الإنجليزي ذا التجريبية العتيدة بأصولها التي تمتد حتى فرنسيس بيكون في القرن السادس عشر وجون لوك في القرن السابع عشر، إلى التجريبيين العلميين في القرنين التاسع عشر والعشرين.
وقد حدث أن تعرض الفكر الإنجليزي لغزوة من المثالية الألمانية في بدايات القرن التاسع عشر، بيد أنها كانت غزوة ضعيفة؛ لأنها تمت على أيدي شعراء وكتاب رومانسيين من أمثال: كولريدج، وكيتس، وشيلي، ووردزورث، وتوماس كارليل. وجميعهم غير متخصصين في الفكر الفلسفي ولا محترفين له؛ لذلك سهل اندحارها التام على يد جون ستيوارت مل
J. S. Mill (1806-1873) قمة التجريبية الإنجليزية في القرن التاسع عشر. غير أن نهايات ذلك القرن شهدت غزوة مثالية أخرى، كانت قوية مكينة؛ فعرفت حقا كيف تقتحم حصون التجريبية الإنجليزية، فقد كانت معززة بكتابات هيجل العظيم (1770-1830) الذي لا يفلت من قبضته القوية - إما سلبا أو إيجابا - أي من الفلاسفة المعاصرين، ويكفي أن نتذكر تلميذه النجيب كارل ماركس الذي يشغل الجميع. ومن ناحية أخرى كانت هذه الغزوة قائمة على أيدي أكبر أساتذة الفلسفة في أكسفورد؛ لتصبح أكسفورد حينا من الزمان معقلا من معاقل المثالية الهيجلية، على حين ترعرعت في كمبردج كذلك حركة مثالية تروم تجديد الأفلاطونية أو بعثها.
وإذا نظرنا إلى المثاليين الإنجليز سنجد الهيجليين الجدد منهم - في أكسفورد - يتمسكون بالقول بأن الزمان غير حقيقي؛ لأن صميم مفهوم الزمان في نظرهم غير مترابط مع نفسه، وهذا ما يمكن أن تؤدي إليه حقا فلسفة هيجل التي رأت الزمان - كالمكان - جزئيات منفصلة لا اتصال بينها، وكائنة خارج نطاق الذات والروح المطلق.
وبطبيعة الحال، فقد أفادوا من حجج ماكتاجارت الذي كان أستاذا في كمبردج! على حين تمسك «الأفلاطونيون الجدد في كمبردج بأن الزمان يعزى لله، وأنه واحد من أشياء قليلة جدا تتسم بأنها حقيقية!»
3
لقد تمسكوا بحقيقية الزمان وجوهريته التي يفرضها العقل، ولكنهم أنكروا ربطه بالحركة والأفلاك وبالأشياء التي تتغير في داخله، ورفضوا قياسه بها، وقالوا إن قياس الزمان
Metrication Of time
Bilinmeyen sayfa
عملية منطقية بحتة. وهذا ما يذكرنا بقول أبي العلاء المعري في رسالة الغفران أن ربط الزمان بحركة الأفلاك قول زور بلا أساس. وهذه نغمة سوف نراها تتردد كثيرا في الفلسفات الدينية، والصوفية، والمثالية.
وعلى الطرف المقابل لهؤلاء، وللمثاليين عموما، نجد التجريبيين الذين يرون الزمان شكلا موضوعيا للعالم. إنه - كما قال وليم جيمس - تصور كوناه من العلاقات الوقتية، التي هي معطى حسي في خبرتنا بالديمومة والحاضر المستمر دائما. وقياس الزمان من ثم عملية تجريبية بحتة تتم من خلال المعاينة الحسية للحركة؛ لأن الزمان نفسه لا يدرك إلا من خلال حركة الأشياء.
والواقع أنه لا المثاليون الخلص على صواب، ولا التجريبيون الخلص على صواب؛ «إذ لا توجد أية حقائق أو وقائع، لا تصورية ولا تجريبية، يمكنها أن تحدد بصورة مطلقة وفذة القياس الوحيد الصائب للزمن.»
4
فقياس الزمن مسألة اصطلاحية اتفاقية بحتة، قد تقوم على عناصر مثالية وتجريبية معا .
وبين المثالية والتجريبية يقف كانط، الذي لا ينكر موضوعية الزمان، لكنه ينكر واقعيته المطلقة. فالزمان كما طرحه كانط في نقد العقل الخالص ليس معطى حسيا مأخوذا من أية تجربة عينية، لكنه صورة قبلية شرطية ضرورية لأية تجربة. فالزمان لا يقوم على الظواهر، ولكن الظواهر هي التي تقوم على الزمان، ولا تدرك ولا تتحقق إلا من خلاله. والزمان الكانطي واحد وليس كثيرا، والأزمنة المختلفة أجزاء من هذا الزمان الواحد، وهو لا متناه لأن كل آن قبله آن وبعده آن.
وتأتي ثورة الفلسفة التحليلية في القرن العشرين، لترد إشكالية الزمان برمتها - كما تفعل بشأن كل إشكالية فلسفية - إلى شروط الاستعمال الصحيح لألفاظ لغوية؛ مثل: قبل وبعد، وماض وحاضر ... إلخ. ولكن إشكالية الزمان، كما تناولها الفلاسفة العلميون، وأهمهم كارل بوبر وهانز رايشنباخ، هي في الحقيقة أكبر وأعمق كثيرا من هذا، إنها مشكلة الملامح العامة للكون.
على أنه قد أثيرت مشكلة الملامح العامة للزمان نفسه، وشكل بنيته، أو ما يسمى بطوبولوجية الزمان، فإذا كان الزمان نسخا أو نظاما من مفردات وقتية، عن طريقها نفهم بعض الأشياء؛ مثل: اللحظة، والوهلة، والآن، والديمومة ... إلخ. فعلى أي نحو تنتظم هذه المفردات؟ أو ما الشكل العام لها؟ في الإجابة عن هذا وضعت ثلاث نظريات في طوبولوجية الزمان، توجزها الأشكال الثلاثة الآتية:
5
ويمكن أن نضيف إليها النقطة. وتصور الزمان نقطة مفردة مستقلة ومطلقة في حد ذاتها له دوره في التصوف، في حين أن الزمان المفتوح بلا بداية وبلا نهاية هو الزمان العلمي، أو - على وجه الدقة - الزمان الفيزيائي.
Bilinmeyen sayfa