الإهداء
زائر من الجنة
الانتهازيون لا يدخلون الجنة
الموت والمدينة
ثوب الإمبراطور
المرآة
الجراد
الكنز
الإهداء
زائر من الجنة
الانتهازيون لا يدخلون الجنة
الموت والمدينة
ثوب الإمبراطور
المرآة
الجراد
الكنز
زائر من الجنة
زائر من الجنة
ومسرحيات أخرى
تأليف
عبد الغفار مكاوي
الإهداء
إلى أحبائي الثلاثة:
وحيد النقاش.
ميخائيل رومان.
صلاح عبد الصبور.
وعدتكم فما استجاب لي القدر،
وعشت في انتظار عودة المطر.
زائر من الجنة
مسرحية في أربعة مشاهد
الشخصيات
المرأة.
زوجها الثاني.
الشاب.
المعتوه.
أصوات نساء وأطفال.
المسرحية مستوحاة من لوحة شعبية كتبها «معلم» صناع الأحذية - في مدينة نورمبرج - وشاعر عصر النهضة «هانز زاكس» (1494-1576م)، الذي ترك عددا كبيرا من الأشعار واللوحات الدرامية أو بالأحرى «الطرف» التمثيلية التي استمد مادتها وشخصياتها النمطية وحوارها ولغتها الخشنة من النوادر والحكايات الشعبية في العصور القديمة والوسيطة. واللوحة التي اعتمدت عليها هي إحدى تمثيليات عيد الفصح القصيرة التي كتبها «هانز زاكس»، وجعل عنوانها «الطالب المسافر إلى الفردوس» (وتقع في طبعة «ركلام» الصغيرة في حوالي ثلاث عشرة صفحة، شتوتجارت 1958م) وغني عن الذكر أن هذه الصياغة تتصرف في الحكاية الأصلية تصرفا كبيرا، وربما تكون قد جنت على روحها الفلاحية الساذجة، ولو كنت من شعراء العامية المصرية أو كتابها لجاءت أكثر توفيقا.
1 (قاعة كبيرة في بيت ريفي. على اليمين دولاب كبير، وفي الوسط وعلى اليسار أرائك (كنب) مريحة ومنضدة وبضعة كراسي على حصير ملون مفروش على الأرض. في الواجهة نافذة عريضة تطل منها المرأة البدينة المتسربلة بالسواد. بين الحين والحين تفتح الدولاب وتخرج صورة كبيرة لرجل ريفي في أواسط العمر، تتأملها وتبتسم وتمسح دموعها في وقت واحد، ثم تضعها في مكانها وتعود إلى النافذة. البدر يتوسط السماء، تنظر إليه وإلى الحارة والمزارع والأشجار البعيدة. تتردد أصوات نساء وأطفال يعبرون بالنافذة وهم يغنون ويثرثرون، ويمكن أن ترى أشباحهم أو يكتفى بسماع أصواتهم ...)
المرأة :
آه ... البدر اكتمل في السماء، وعدتني أن تأتي في مثل هذه الليلة. في مثل هذه الليلة وعدتني (تطل من النافذة) .
أصوات نساء وأطفال :
يا جارة نامي يا جارة،
فالسامر ودع سماره،
والشاعر ألقى أشعاره،
لكن الزائر ما زارا،
والقادم لم يبرح داره،
يا جارة نامي يا جارة ...
المرأة (تبتعد قليلا عن النافذة) :
أنام؟ كيف أنام؟ اذهبوا ... اذهبوا، أنتم لا تعرفون ... لو كنتم مثلي تنتظرون.
أصوات النساء والأطفال :
الجارة تنتظر إشارة،
تسأل تتسمع أخباره،
يا جارة قولي يا جارة،
هل جاء رسول ببشارة،
أم ترك على الباب حماره؟
يا جارة ردي يا جارة.
المرأة :
وماذا أقول؟ يسمونني المجنونة، سكنتني روح ملعونة، لكن من منا الملعون؟ ومن المجنون؟
صوت امرأة :
المجنونة ... المجنونة.
امرأة أخرى :
ظهر خيالها وغاب.
صوت طفل :
أطلت من النافذة.
طفل آخر :
ونظرت للبدر.
امرأة :
بل كلمته ...
امرأة أخرى :
وماذا قال؟
أصوات النساء والأطفال :
الطير الغائب قد طارا،
والليل طواه وتوارى،
مذ راح وهاجر أوكاره،
لا تنتظريه يا جارة،
يا جارة نامي يا جارة.
امرأة :
انظروا ... إنها تطل على الحارة.
امرأة أخرى :
هل جاء رسول ببشارة؟
طفل :
اسمعوا ...
طفل :
إنه قادم هناك.
امرأة :
أرى شبحه.
امرأة أخرى :
أبصر جناحيه.
طفل :
حمار بجناحين؟
طفل آخر :
أليس حمار العمدة؟
امرأة :
وحمار العمدة يا جارة،
يتغزل في ظل حمارة.
امرأة أخرى :
قد جاء من الجنة يسعى،
ويقص عليها أخباره.
امرأة :
أرأيت المرحوم عليه؟
امرأة أخرى :
وسمعت نهيقا يا جارة! (أصوات أطفال تقلد نهيق الحمير، ضحك وتهليل ...)
امرأة :
مسكينة ... جسدها في الدنيا.
امرأة أخرى :
وعقلها في الآخرة.
امرأة :
تنتظر القادم من الجنة.
امرأة أخرى :
أو من جهة أخرى.
امرأة :
حرام عليك ... كان رجلا طيبا.
امرأة أخرى :
ليته أخذها معه.
امرأة :
اطمئني ... سيعود زوجك أيضا.
المرأة :
يعود؟ فأل الله ولا فألك.
امرأة :
ويأخذك معه.
امرأة :
ويدفئك من البرد يا أختي (يتضاحكن) .
أصوات النساء والأطفال :
ذهب المرحوم ولم يأت،
من خمس سنين أو ست،
هل يرجع أحد يا أختي،
من أرض الوحشة والموت؟
المرأة (تلف وتدور في المكان وهي تضع يديها على أذنيها) :
سيرجع ... سيرجع، قولوا مجنونة ... قولوا ملعونة، ولكنه سيرجع ... سيرجع. (تتجه إلى الدولاب وتفتحه، وتمد يدها بداخله.)
أصوات النساء والأطفال :
قد ران الصمت على الصمت،
والفلك الدائر ما دارا!
وانسكب الدمع بلا صوت،
وصبرت كأنك صبارة،
الغائب راح ولن يأتي،
لا تنتظريه يا جارة،
لن يرجع أبدا للبيت،
يا جارة نامي يا جارة.
صوت امرأة :
بل نامي أنت يا جارة.
امرأة أخرى :
تنام ... ماذا جرى؟
صوت امرأة :
وأنت ... وأنت ... هيا يا أولاد.
صوت طفل :
إنه قادم ... هناك.
طفل :
من الجنة؟
امرأة :
أو من الحانة.
امرأة أخرى :
زوجها الثاني ... أعوذ بالله.
امرأة :
أرى ظل الموت ولا أرى وجهه ... هيا هيا.
امرأة أخرى :
يا ويلك يا مسكينة.
امرأة :
سيضربها ككل ليلة.
امرأة :
وسيرتفع عويلها ولن تنام.
امرأة أخرى :
الجبار الظالم ... ولا نحن سننام.
امرأة :
هيا هيا ... قبل أن يرانا.
امرأة أخرى :
الذئب يا أولاد.
صوت طفل :
يفرق القطيع.
المرأة :
والشاة يا أولاد.
صوت طفل :
والحمل الوديع،
يسوقه الجلاد؛
للذبح يا أولاد،
كأنه الرضيع.
صوت أطفال ونساء :
الشاة يا أولاد،
والحمل الوديع،
يسوقه الجلاد؛
للذبح يا أولاد،
هيا البسوا السواد،
وأعلنوا الحداد. (وهم ينصرفون مولولين صائحين):
هيا البسوا السواد،
وأعلنوا الحداد.
المرأة (تسحب الصورة من الدولاب، تتأملها وتعانقها وهي تطوف بأرجاء القاعة) :
نعم نعم ... صدقتم يا أولاد، سامحكم الله يا أولاد، لبست السواد من سنين، أعلنت الحداد من سنين ... آه يا زوجي الحبيب، يا زوجي الطيب الحبيب، هل تذكر ليلة احتضارك قلت إنك ستعود، وقلت سألبس السواد حتى أراك، قلت يومها ستلبسين البياض، وأزف إليك كما في ليلة عرسنا، ثوب العرس لا يزال في مكانه، لا زال يلف صورتك (تنشر ثوب الزفاف القديم بين يديها، وتحتضنه وتقبله)
يا زوجي الطيب ... يا زوجي الحبيب، هل نسيتني هناك في الجنة؟ عني شغلتك الحور العين؟ ألست ملاكك الطيب الحنون؟ ألست ملاكي الذي سيجيء مع الفجر؟ انظر ... ها هو البدر في تمامه ... في الليلة التي وعدت، فلماذا تأخرت؟ لماذا تأخرت؟ (تقبل الصورة وتمسح دموعها، تسمع صوتا فتجفل وتتجه إلى الدولاب بسرعة)
لا بد أنه حضر من القهوة، أو جاء يتخبط من الحانة، إنه زوجي الثاني ... صدقتم يا أولاد، يسوقني الجلاد للذبح يا أولاد، فلأخف الصورة في مكانها، إنه لا يطيق رؤيتها، والثوب أيضا، لو رآها في يدي لبرزت السكين في يده، فلأنزل إليك يا ذئبي العجوز ... يا ذئبي العزيز. (تغلق الدولاب، وتتحرك للنزول بسرعة، بينما يعلو صوت الزوج الثاني من أسفل النافذة) : يا امرأة ... يا امرأة، أنت أيها العجوز النكدة! هل نمت يا ملعونة؟ أأرجع كل ليلة وأنت نائمة كالبقرة؟ ألا تنتظرين؟ ألم أقل لك انتظريني؟
المرأة (وهي تسرع إلى النافذة) :
انتظر ... نعم ... أنتظره هو (بصوت عال)
نعم يا زوجي ... نعم يا ثوري العجوز.
صوت الرجل :
ثورك ... نعم، ولكنني لست عجوزا.
المرأة :
البقرة تنتظرك ولم تنم، العشاء جاهز.
صوت الرجل :
لا أريد عشاء، بقرة لا تفكر إلا في المضغ، وثورها يموت عطشان.
المرأة :
هل أحضر لك كوب الحليب؟
صوت الرجل :
تعلمين ما يروي عطشي، هيا اقذفي الدنانير.
المرأة :
الدنانير (لنفسها)
وماذا يهمك؟ أرضي وتعب آبائي وأجدادي ... تذيبها في الكأس كل ليلة (تبحث في جيبها)
خذ ... سكران لا يفيق، متى تعود؟
صوت الرجل :
أعود أو لا أعود، عندما أشاء.
المرأة :
لا تتأخر، العشاء جاهز ودافئ.
صوت الرجل (وهو ينصرف) :
بقرة لا تفكر إلا في المضغ، وثور يبحث في ضوء البدر عن الدنانير ... الدنانير ... الدنانير.
المرأة (وهي تنصرف حزينة عن النافذة) :
سمعت يا زوجي الحبيب؟ غزالك الجميل أصبح بعدك بقرة، والثور يحلبها كل ليلة، يمص دمها وعمرها، ولا يشبع ولا يرتوي، وتنتظر البدر وتنتظرك ... ويطلع البدر ولا تأتي ... تشكو له ولا تسمع ... وأنت لا ترى ولا تسمع. (تتحرك الستارة ويسمع صوت) : بل أرى وأسمع.
المرأة (كأنها في غيبوبة تسمع وترد على الصوت الغامض) :
فلماذا لم تأت؟
الصوت :
كل شيء بأوان.
المرأة :
أوترسل من الجنة إشارة؟
الصوت (يغني) :
قد جاء رسول ببشارة.
المرأة (تواصل الغناء كأنها تردد صدى الأغنيات السابقة) :
والجارة تنتظر إشارة،
تسأل ... تتسمع أخباره،
لكن الزائر ما زارا،
والطير الغائب قد طارا،
يا جارة نامي ...
لا لن أنام، لن أنام، سأظل ساهرة أنتظرك، خمس سنين وأنا أنتظرك، أفتح عيني على وجهك، أغمض عيني على وجهك، سأنتظرك وستعود، برغم الثور السكير، برغم الذئب المخمور، برغم الجارة والجار، برغم صياح الأطفال (تجري نحو الدولاب، وتخرج الصورة وتقبلها)
يقولون مجنونة، يقولون ملعونة (تغني)
لكني في نظرك أنت غزال ... وغزالك ينتظرك يا صياد تعال ... ينتظرك يا صياد تعال. (تتجه إلى باب في اليسار، تفتحه وتغيب وراءه. يظهر الشاب من خلف الستارة، فقير في أسمال، يبدو عليه تراب التعب والسفر، يحمل على كتفه كيسا كبيرا يضعه على الأرض وهو يمسح عرقه ويقول):
الشاب :
وها هو الصياد قد جاء، فتعال يا صيدي الثمين، تعال يا غزال، تنتظر الزائر من الجنة؟ منذ سنين وسنين، ولماذا لا أكونه؟ أم أن منظري لا يوحي بجنة ولا ... حقا، يوحي بالعائد من نار جهنم (يتجول في القاعة، وينظر حوله يقف أمام مرآة)
لا ... لا يمكن أن أشبهه. الشعر الأشعث، غبرة السفر الدائم والتراب والمطر والريح، والوجه الضامر كالفأر الجائع، والأسمال البالية كأني في الأكفان ... لا لا يمكن أن أكون عائدا من الجنة، أين أخفت صورته؟ ليتني أراه وأتملى وجهه، لا ... لا ... لا يصح أن أفتش في الدولاب، لست لصا، ولكني صياد، وقد أرسلتك السماء إلي يا غزال (يرفع صوته)
فتعال تعال ... تعال.
المرأة (تظهر وتنظر فزعة) :
من؟ ماذا أرى؟ من أنت؟
الشاب :
سيدتي لا تخافي ... لا تخافي (يقترب منها) .
المرأة (تتراجع) :
من أنت؟
الشاب :
أنا من تنتظرين.
المرأة :
لا أصدق ... هل جئت الآن؟
الشاب :
نعم الآن اكتمل البدر في السماء، سمعت ورأيت وجئت.
المرأة :
ربي! من الجنة؟
الشاب :
من الجنة أو من النار ... المهم أنني جئت.
المرأة :
ولكن صوتك ... وجهك.
الشاب :
صوتي ليس صوته، وجهي ليس وجهه، وهذه الأسمال ... اطمئني لم يقس عليه الزمن قسوته علي، زوجك بخير.
المرأة :
زوجي بخير؟ وأين هو؟
الشاب :
أين هو؟ في الجنة طبعا ... يستمتع بالنعيم ... ويأتنس بالملائكة والحور العين، إذا عطش سقته الملائكة من عين سلسبيل في أكواب من عسل أو خمر طهور، وإذا جاع مدت له الموائد بما تشتهي النفس من فاكهة ولحم وطعام، لم تره عين بشر ولم تذقه البطون (يتحسس بطنه ويتأوه)
أما أنا ...
المرأة :
من أنت؟ من أنت؟
الشاب :
تمنيت لو تكون زوجي.
المرأة :
لا يمكن أن تكون زوجي.
الشباب :
بالطبع ... بالطبع لا يمكن أن يكون ضامر الوجه مثلي، لا يمكن أن يكون الجوع والعطش قد أهلكه مثلي.
المرأة :
تكلم ولا تكذب، من أنت إذن؟
الشاب :
ومن أكون يا سيدتي؟ رسول من عنده بالطبع.
المرأة :
رسول من عنده؟ هو الذي أرسلك؟ (تفرح فرحا شديدا) .
الشاب :
ومن غيره؟ من أين سأعرف عنوانك؟ من أخبرني أنه ذهب من خمس سنين، إنه وعدك عند طلوع الروح أنه سيزورك أو يبعث برسول.
المرأة :
رسول يحمل البشارة ... كنت أعرف هذا، كنت أثق به ولا أشك فيه، كذبتن يا نساء القرية، وأنتم يا أطفالها الملاعين، قد جاء رسول ببشارة ... قد جاء رسول ببشارة (تغني) .
الشاب (ينبهها متوسلا) :
ولكن الرسول جاء من سفر بعيد ... سفر بعيد بعيد و... (يشير إلى بطنه) .
المرأة (تواصل الغناء وهي تدور حول نفسها) :
قد جاء رسول ببشارة.
الشاب :
سيدتي، لا يمكن أن تغني بينما الرسول ...
المرأة :
اطمئن ... أعرف أنك جئت من سفر بعيد.
الشاب :
ولقيت الأهوال والأهوال ...
المرأة :
وستحكي لي.
الشاب :
طبعا طبعا، ولكني ... (يشير إلى حلقه وبطنه) .
المرأة :
ولكنك ظامئ وجوعان ... طمئني أولا.
الشاب (متوسلا) :
سيدتي!
المرأة :
ستحكي كل شيء؟
الشاب :
كل شيء ... ولكن عجلي قبل أن يرجع الثور العجوز.
المرأة :
حقا، كيف غاب هذا عني؟ وتعرفه أيضا؟ تعرف كيف يسومني العذاب؟ كيف يمتص دمي ولحمي وعمري ومالي؟ هذا الذئب الجشع (تبكي) .
الشاب :
الجلاد الجزار المخمور السكير ... عجلي بالله عليك. (تنصرف وهي تمسح دموعها إلى الباب على اليسار، وتختفي وراءه لحظات في أثنائها يكلم الشاب نفسه.)
الشاب :
حقا إنها لغزال ثمين، وأنا الصياد الذي يعرف كيف يأكل لحم كتفيه وفخذيه، قادم من الجنة؟ لم لا ... ورأيته هناك؟ وكيف لا؟ أليس رجلا صالحا تزفه الملائكة وترعاه الحور العين ويباركه الأولياء والقديسون؟ يا لهذه الليلة الغريبة! ما أكثر ما طرقت على الأبواب فلم يفتح باب. أنا الذي عبرت النار وتلظيت بالجحيم طول حياتي، أسقط رأسا من الجنة على رأس هذه المسكينة، هي مثلي تعيش في الجحيم، مثلي أيضا تحلم بالجنة ... الجنة! ها ها ها! فلأضع الزوج البائس فيها، ولأضعك فيها إن شئت وشاء نصيبك. هل أحتاج لشيء غير الخيال؟ وهل ضيعني شيء كالخيال؟ سأشرب وأحشو بطني الفارغة منذ أيام إلا من كلأ الأرض وأشواك الصبار ... آه! رائحة اللحم تفوح، ليتك تأتين معها بشراب دافئ ... فالليلة باردة على القادم من الجحيم ... الخيال! ولماذا لا أطلب منها شيئا يدفئني، لا بل يدفئه من برد ... الجنة ... نعم نعم ... ولم لا؟ (تدخل المرأة وهي تحمل صينية عليها أطباق تتصاعد منها روائح الطعام، الشاب الذي وضع كيسه بجانبه يهرع لحملها وهو يلهث بالدعاء.)
الشاب :
بارك الله فيك أيتها المرأة الصالحة، لا عجب أن يكون زوجك الطيب في الجنة، وأن تلحقي به بعد عمر طويل.
المرأة :
كل واشرب أيها البشير الأمين، ولكن ماذا قلت؟
الشاب (وهو يقبل على الطعام بشراهة) :
ماذا؟ هل قلت شيئا؟
المرأة :
كيف ألحق به بعد عمر طويل؟ هل يتركني أنتظره كل هذا الوقت؟ ألم يقل إنه سيحضر بنفسه؟
الشاب :
يحضر بنفسه؟ نعم ... نعم بالطبع، ولكن هذا يحتاج لبعض الإجراءات.
المرأة :
هل يعقدون الأمور هنا وهناك؟
الشاب :
ليست الأمور بهذه البساطة، لا في الدنيا ولا في الآخرة. لا بد من إذن أو تصريح في الدخول والخروج، وزوجك الطيب قد قدم الطلب بالفعل، قدمه للملاك المشرف على الجناح الذي يقيم فيه، والملاك يرسله إلى ملاك يتولى شئون المنطقة، وهذا يرفعه إلى الملاك المكلف بالدائرة، وهذا يلتمس الإذن بقبوله من رئيس ملائكة المحافظة، وهذا يؤشر عليه بالموافقة، ثم يلتمس رفعه إلى رئيسه في السماء الأولى، وحتى يصل إلى السماء السابعة، ثم يرفع أخيرا.
المرأة (في حزن) :
حقا ... لا بد أن يمر وقت طويل.
الشاب (مقبلا على الأكل بشراهة) :
لا لا، مسألة روتين، لا تخافي أبدا، أنا أوصيت عليه بنفسي قبل أن أخرج من هناك.
المرأة :
لا بد أنك تعبت حتى وصلت إلى هنا.
الشاب (ضاحكا) :
تعبت؟ قولي هلكت، غرقت، مت ثم بعثت، كم من جبل ومنحدر، من أنهار وبحور، من أحراش وصحاري ... آه لا تذكريني، وكم دميت قدماي، وتثلج عظمي واحترق، انظري.
المرأة (تنظر إلى قدميه وهيئته) :
مسكين ... مسكين.
الشاب :
كان من الممكن أن يرسلوني على جناحي ملاك مخصوص، ولكن الملاك كلف في آخر لحظة بمهمة علوية، وبقي علي أن أسلم الرسائل بنفسي.
المرأة :
رسائل؟ هل أحضرت معك رسالة؟
الشاب (وهو يتجشأ راضيا) :
وهل رأيت رسولا بدون رسائل؟ بالطبع بالطبع منذ وصلت إلى الدنيا، وأنا أسلم رسائل في الشرق والغرب ... الهند والسند ... رسائل للأهالي والآباء والأبناء من ذويهم الصالحين. (يفتح الكيس الكبير كأنه يريها الرسائل، يستخرج مظروفا أصفر عليه أختام كثيرة، يرفعه في وجهها ثم يرده إلى الكيس.)
وهذه آخر رسالة أوزعها، تعبت حتى عرفت العنوان، قريتكم بعيدة جدا، تصوري أنها غير موجودة على الخريطة؟!
المرأة :
أرجوك ... أرجوك.
الشاب :
تريدين أن تقرئيها ... أليس كذلك؟ هذا الشوق أعرفه في كل العيون، طالما لمحته في وجوه الأبناء، ولمسته في قلوب الزوجات الوفيات.
المرأة :
اقرأه لي، أسرع أرجوك.
الشاب :
آه! نسيت! قبل أن يعود زوجك الثاني، أقصد ثورك المخمور.
المرأة :
لو رآك هنا لقتلني، أسرع! أسرع!
الشاب (يشرب الشاي) :
اطمئني، وما الحاجة لقراءته؟ إنني أعلم ما فيه، ثم إنه قاله لي بنفسه.
المرأة :
إذن فقد رأيته أيضا؟
الشاب (ضاحكا) :
رأيته؟! يا له من سؤال! وهل له في الجنة حبيب سواي؟
المرأة :
يا زوجي المسكين ... وحيد أنت في الدنيا والآخرة؟
الشاب :
وحيد؟ لا لا! لا تقولي هذا ... أليس الفقراء لبعضهم؟
المرأة :
فقراء؟ وهل هو فقير؟
الشاب :
طيبة أنت يا حاجة ... اسمحي لي أن أسميك بهذا الاسم المبارك، إنه أفقر من الفقر نفسه.
المرأة :
قلبي عليك يا زوجي، أهكذا تسكت على نفسك؟
الشاب :
وهذا ما كتبه لك ... أسعفيني يا زوجتي الصالحة.
المرأة :
وكيف يترك نفسه هكذا؟ كيف يتركونه ...
الشاب :
هذه حكاية طويلة يا حاجة ... كان في البداية غارقا في النعيم ... حرير أرق من أجنحة الملائكة ... عسل وفاكهة وخمر في أكواب وأطباق ذهبية وفضية ... كراسي وأرائك وسجاد وستائر ... قصور وحدائق وجنات وأنهار ... ثم ...
المرأة :
ثم ماذا؟ ماذا حدث؟
الشاب :
حدث ما يحدث أحيانا بينكم في هذه الدنيا ... اختلف مع بعض الصالحين، تنافسوا على بحيرة يملكها أحد الأولياء الطاهرين، تطور الأمر إلى عراك بالأيدي وسباب وشتائم ... فزعت الملائكة، وأشاحت بوجوهها الحور العين، واضطربت السماء الأولى والثانية والثالثة.
المرأة :
زوجي لا يمكن أن يفعل هذا.
الشاب :
هذا ما حدث يا حاجة، هل تعلمين ماذا فعلوا به؟
المرأة :
من هؤلاء؟
الشاب :
رئيس الملائكة وأعوانه المباركون ... قرروا نفيه في كوخ صغير، حكموا عليه أن يخلع حرير الجنة وطيلسان النعيم والقصور، ويفرغ جيبه من الذهب والدنانير ... حكموا عليه.
المرأة (تبكي) :
مسكين يا زوجي الطيب، ألا يكفيهم أن يسير كالشحاذ المسكين؟
الشاب :
حكموا عليه أن يبقى في الكفن الذي دفن فيه.
المرأة :
الكفن الأبيض وحده؟
الشاب :
حكم السماء يا حاجة ... عاري الرأس ... حافي القدمين ... إذا خرج من كوخه ليتريض قليلا بعد العصر.
المرأة :
ويراه الناس حافيا عاري الرأس؟
الشاب :
أشار إليه الملائكة والصالحون، وقالوا: هذا هو الرجل الذي لم يدخل الجنة، ولم يدخل النار.
المرأة :
لم يدخل الجنة؟
الشاب (مستدركا) :
ولم يخرج منها أيضا ... أقصد أنه في حالة طوارئ، لا هو في الجنة، ولا هو في النار.
المرأة :
يحفظك الله يا زوجي، ما هكذا يعاملونك.
الشاب :
ولهذا أرسل إليك هذه الرسالة الذهبية (يخرجها ويريها لها من بعيد)
انظري ... هذا هو ختم الحارس الأكبر، وهذا ختم وكيله وكاتم سره، إنه يطلب ...
المرأة :
أسرع أسرع، ماذا يطلب؟
الشاب :
أشياء قليلة ... اطمئني.
المرأة :
قلت لك أسرع ... أخشى أن يأتي ...
الشاب :
الثور الملعون، لا أخشى شيئا، سيتخبط في الظلام طويلا قبل أن يهتدي إلى الباب. (تسمع خشخشة في الحارة، أصوات نحنحة وسعال شديدين.)
الشاب :
آه ... ماذا يطلب صاحبي المسكين؟ عشرة دنانير ذهبية، حتى لا يمشي فارغ الجيب واليد.
المرأة :
طبعا طبعا، ربما اشتاقت نفسه لشراب أو طعام دافئ، خذ (تضع يدها في صدرها، وتخرج كيسا صغيرا تفرغ منه عشرة دنانير)
خذ، وهذا لك أيضا.
الشاب :
دينار ذهبي؟!
المرأة :
جزاء المشوار، والله يجازيك.
الشاب :
شكرا شكرا، وسيدعو لك زوجك بالستر وبالعافية، هذا أفضل من التسول والعيش على صدقات الأتقياء الصالحين، ويطلب أيضا ...
المرأة (تنظر من النافذة وترجع) :
تكلم تكلم، الزوج ينادي ويلعن على الباب.
الشاب :
إن كان لديك سترة من الصوف أو معطف ثقيل، الدنيا في الآخرة برد كما تعلمين.
المرأة (تهرع للدولاب، تقلب في الملابس وتخرج معطفا أسود) :
خذ، ها هو ذا ... لا بد أن الكفن قد بلي وتعفر بالتراب.
الشاب :
لا تنسي الغيارات الداخلية؛ قميصين وسروالين. يستحسن أن يكونا من الصوف.
المرأة (تقلب في الدولاب وتعطيه) :
خذ ... خذ.
الشاب :
وجلبابا ... جلبابا يستره يا حاجة.
المرأة (تعطيه) :
واحدا من الصوف، وواحدا من الجوخ، لن تبرد أبدا يا زوجي وأنا حية.
الشاب :
وطاقية إذا أمكن من الصوف.
المرأة (بسرعة) :
خذ طاقيتين، واحدة للمشي وأخرى للنوم.
الشاب :
نسيت، كيف أنسى هذا؟
المرأة :
ماذا ... تكلم تكلم.
الشاب :
هل نتركه يمشي حافي القدمين؟
المرأة :
آه ... كيف غاب هذا عنا؟ ولكن ليس لدي إلا هذا، قدم زوجي هذه أكبر من قدمه.
الشاب :
لا مانع ... لا مانع، الحذاء أفضل من القدم العارية على الأرض. (يزداد صياح الزوج على الباب، طرق شديد مصحوب باللعنات: افتحي أيتها البقرة، أين ذهبت المجنونة؟ نامت لتحلم بالمرحوم! ها ها ها! المرحوم المرحوم! أم عاد إليها فوق جناح ملاك؟ ها ها! ليته أخذها وأراحني. ليت إبليس يأخذهم جميعا ... إبليس؟ لا لا ... أقصد عزرائيل ... عزرا... عز عز عز...)
المرأة (تطل من النافذة) :
يبدو أنه نام على العتبة.
الشاب :
وماذا أفعل؟ لا بد من الخروج بسرعة، فالطريق طويل.
المرأة :
تعال أريك الباب الثاني، ستخرج من دوار البهائم والحمير.
الشاب :
جزاك الله! أهكذا يعامل القادم من الجنة؟
المرأة :
لو رآك لذبحك وعلق رأسك بالباب، هيا هيا ... لا تنس أن تسلم عليه، قل له ...
الشاب :
سأقول له كل شيء، اطمئني، سأسعى للعفو عنه. وسيحضر بنفسه .
المرأة :
أنا في انتظاره، منذ أن ذهب وأنا في انتظاره، قل له أيضا ... قل له يأخذ باله من نفسه، سلم عليه ... سلم عليه ... سلم عليه. (تشيعه إلى الباب وهي تشير له، يحمل كيسه على ظهره ويقول وهو يخرج.)
الشاب :
جزاك الله خيرا.
المرأة :
لا تتباطأ عني، وإذا احتاج لشيء فارجع.
الشاب :
وإذا احتجت لشيء، بالطبع سأرجع ... بالطبع سأرجع.
2 (نفس المنظر، تدخل المرأة وهي تسند زوجها.)
المرأة (تغني) :
يا جارة مرحى يا جارة،
قد عاد رسول ببشارة،
أفق يا رجل ... أفق واسمع.
الرجل :
أفيق؟ لماذا أفيق؟
المرأة (تواصل الغناء) :
كي تسمع مني أخباره،
وتسر وتعرف أسراره.
الرجل :
لا أريد أن أسمع ... لا أريد أن أعرف، ثم لماذا تغنين؟
المرأة (تغني) :
زوجي في خير يا جارة،
يا جارة غني يا جارة،
إن كانت معك القيثارة،
فلنشد سويا يا جارة،
ونزيح عن القلب مراره.
اصح يا زوجي، ألا تريد أن تفيق؟ أكل ليلة أرش وجهك بالماء؟
الرجل :
هيه؟ ولماذا أصحو؟ لأسمعك يا مجنونة؟ ثم لماذا تغنين؟
المرأة (تهزه بشدة) :
لأن من حقي أن أغني، بعد خمس سنوات معك أغني وأغني وأغني.
الرجل :
في عز الليل تغنين؟ ألا يكفي أنهم يعيرونني بك، في الحانة والسوق والطريق، يشيرون إلي ويقولون: زوج المجنونة.
المرأة :
ويعيرونني بك أيضا، عند النبع وفي الحارة، في المأتم والفرح، فوق الجبل وعند السفح، يقولون: زوج السكير، زوج الثور المخمور.
الرجل :
ثور؟ أنا ثور؟ وأنت البقرة (يصفعها) .
المرأة (ترد الصفعة) :
وأنت الذي حلبتها ومصصت دمعها ولحمها.
الرجل (يفيق قليلا، يجري وراءها ويخطئها) :
أنا؟ أنا؟ أنا الذي رضيت بك يا مجنونة؟ قلت أرملة مسكينة، تزوجتك لوجه الله.
المرأة :
تزوجت الحقل والبيت والساقية وثلاثة ثيران وحمارين وبقرتين.
الرجل (ضاحكا) :
بل بقرة واحدة، بقرة واحدة.
المرأة :
يرحمك الله يا زوجي الأول، كنت تحبني وترعاني وتخشى أن تجرحني النسمة، لماذا تركتني للثور المخمور؟
الرجل (بدأ يفيق) :
احذري أن ينطحك ويذبحك أيضا، لا تنسي أنه ثور وجزار، أيتها البقرة المغنية.
المرأة :
ألا تسأل لماذا أغني؟
الرجل (يعلو شخيره) :
ولماذا تغنين؟
المرأة :
لو عرفت لغنيت معي، لو عرفت لفرحت لزوجتك. (الرجل يعلو شخيره.)
المرأة (تهزه بشدة) :
لقد عاد ... عاد.
الرجل :
من؟ المرحوم؟!
المرأة :
رسول من عنده.
الرجل (يصحو فجأة) :
من الجنة؟
المرأة :
وهل يعود مثلك من جهنم؟
الرجل (يفيق تماما، يبحث في كل مكان) :
أنا الذي سيلقيه في جهنم، أين هو؟ أين؟
المرأة :
عم تبحث؟ لقد ذهب.
الرجل :
جاء وذهب ... إلى الجنة أيضا؟
المرأة :
بالطبع ... جاءني بالبشارة وأعطيته الأمارة. (تغني):
قد جاء رسول ببشارة،
يا جارة غني يا جارة.
الرجل :
ما هذا؟ أتلعبين برأسي أيتها البقرة؟ (يهجم عليها.)
المرأة :
وهل تركت الخمر فيها شيئا ألعب به؟ دعني ... دعني.
الرجل :
ألعب كما أشاء ... ما شأنك أنت؟
المرأة :
تلعب بمالي، بما تسرقه من أرضي وأرض أجدادي.
الرجل (متلطفا) :
دعينا من هذا، قولي من الذي جاء؟ ماذا أعطيته؟
المرأة :
وهل تركتني أقول لك؟ هل سألت عن المعجزة؟
الرجل :
معجزة؟
المرأة :
أن يحضر شاب من الجنة، ومعه رسالة من المرحوم، ألا تسمي هذا معجزة؟
الرجل :
شاب فقير؟ (لنفسه)
لا بد أنه لص خطير، صفيه لي.
المرأة :
كيف أصفه؟ ليتك رأيته معي.
الرجل :
كنت خنقته بيدي، هيا صفيه لي.
المرأة :
قلت لك شاب فقير، عبر الجبال والصخور، والصحاري والبحور، فتش في كل مكان عني، هل تعلم أن قريتنا ليست على الخريطة؟
الرجل :
ما هذا الهراء، قرية وخريطة، ماذا كان يلبس؟
المرأة :
مسكين، أسمالا سودها التراب والمطر، شعره طويل طويل، وقدماه حافيتان.
الرجل :
وماذا يحمل على ظهره؟
المرأة :
ماذا يحمل على ظهره؟ نعم نعم ... ألم أقل لك؟ الكيس الكبير، فيه رسالة إلي، وكله رسائل مختومة من الملائكة.
الرجل :
يا إلهي، مختومة أو مبصومة ... وأين هي؟
المرأة :
تعلم أنني لا أقرأ.
الرجل :
لا تقرئين ولا تفهمين، أين هي؟
المرأة :
قلت لك قرأها علي، رسالة من المرحوم، ألا يسرك أن يكتب إلي ...
الرجل :
يسرني؟ طبعا يسرني، وماذا يقول فيها؟ (لنفسه)
هؤلاء الملاعين، يستغلون السذج المساكين، ويوزعون عليهم المنشورات، يبشرونهم بالجنة ويسرقونهم، ماذا قال فيها؟
المرأة :
ماذا قال فيها ؟ (تبكي.)
الرجل :
أف ... ما الذي يبكيك الآن؟
المرأة :
لو سمعت لبكيت معي.
الرجل :
سأبكي حتما ... سأبكي.
المرأة :
هل تتصور أنه يعيش وحيدا في كوخ صغير؟ زوجي الطيب الصالح يعيش وحده في كوخ.
الرجل :
كوخ ... كوخ في الجنة؟
المرأة :
أنت لا تعرف الحكاية ... دبت بينه وبين بعض الصالحين خناقة، ثار زوجي المسكين كعادته وسبهم ولعن أجدادهم، فجاء رئيس الملائكة ...
الرجل :
الحمد لله، وقذفه في الجحيم.
المرأة :
معاذ الله، إنه لا يزال في الجنة، ولكن على الحدود.
الرجل :
على الحدود؟ وماذا يفعل هناك؟
المرأة :
بل قل كيف يعيش؟ ماذا يلبس؟
الرجل :
قولي أنت ...
المرأة :
قلبي تقطع وأنا أسمع ما قاله الشاب، بكيت حتى احمرت عيناي ... تصور أنه الآن يلبس الكفن الذي دفن فيه؟
الرجل :
بالطبع، وهل يلبس ملابس الزفاف؟
المرأة :
زوجي المسكين ... زوجي المسكين (تبكي) .
الرجل :
أنا المسكين ... أنا المسكين ... وماذا أعطيته؟
المرأة :
وهل رأيته حتى أعطيه؟ ليته جاء بنفسه بعد طول الانتظار (تبكي) .
الرجل (يهدئها) :
سيجيئ حتما، ماذا أعطيت الشاب الملعون؟
المرأة :
كل ما يحتاجه، قميصين وسروالين.
الرجل :
آه.
المرأة :
والجلباب الجوخ، وجلباب الصوف.
الرجل :
الصوف؟
المرأة :
الدنيا برد هناك ... أقصد الآخرة، وطاقيتين.
الرجل :
يا إلهي، تمت المعجزة، وكيف أنام الليلة؟
المرأة :
وعندما قال إنه يعيش على الصدقات أعطيته ...
الرجل :
تمت ... تمت، ماذا أعطيته؟
المرأة :
هل يرضيك أن يتسول هناك؟
الرجل :
بالطبع لا، كم أعطيته؟
المرأة :
عشرة دنانير.
الرجل :
ذهبية؟!
المرأة :
أتريد أن يمد يديه للناس؟ ودينارا آخر.
الرجل :
لمصروف الطريق (لنفسه)
يا لعينة! وحين أسألك تبخلين وتمكرين.
المرأة :
ماذا تقول؟
الرجل :
لا شيء.
المرأة :
ألست راضيا عني؟
الرجل :
راض؟ كل الرضا.
المرأة :
كنت أقول هذا لنفسي، أنت زوج طيب برغم كل شيء.
الرجل :
ولكن يا زوجتي الطيبة.
المرأة :
ماذا يا زوجي الطيب؟
الرجل :
ألم يخطر ببالك أن هذا المبلغ قليل؟
المرأة :
صحيح، أتظن أنه قليل؟
الرجل :
أظن؟ بكل تأكيد. وماذا تنفع عشرة دنانير في الجنة؟ هل تكفي للعسل أو الخمر؟
وماذا يفعل المرحوم لو قابله مجذوب من أهل الله، وسأله حسنة تنقذه من الجوع وذل السؤال؟
المرأة :
حقا ... ماذا يفعل؟
الرجل :
لا لا لا ... لا بد من مضاعفة المبلغ ... هيا هيا أعطيني عشرة أخرى لألحق به قبل أن يصل إلى هناك، من أين ذهب؟
المرأة :
من الباب الآخر عبر الدوار.
الرجل :
نعم نعم ... في أي طريق؟
المرأة :
آه ... أظن أنه سيصل إلى التلة، ثم ينحدر منها إلى الأرض البور خلف محطة الوابور، ثم يسير مع خط السكة الحديد، حتى يبلغ سلسلة الجبال، وإذا عبرها سار في خط مستقيم (تناوله الدنانير العشرة) .
الرجل :
طبعا ... طبعا هو الطريق المعلوم، وماذا كان يلبس؟
المرأة :
قلت لك لا يلبس شيئا.
الرجل (صارخا) :
تذكري ... لا بد أنه يلبس شيئا، حتى ولو كان كفنا كالمرحوم.
المرأة :
آه ... أجل على ظهره كيس كبير بني اللون، فيه رسائل مختومة.
الرجل :
بختم الملائكة، وعليه بذلة أم جلباب؟
المرأة :
بذلة؟ نعم بذلة زرقاء، ولكنها أسمال ... أسمال، وحول رقبته شال أسود.
الرجل :
شال أسود ... حسن ... حسن، وربما يلبس جلبابي الأسود فأخنقه.
المرأة :
ماذا؟ ماذا تقول؟
الرجل :
أقصد سأعرفه على الفور، وسأعطيه الدنانير العشرة ليسلمها للمرحوم.
المرأة :
جزاك الله كل خير يا زوجي العزيز، هذا ما كنت أقوله دائما لنفسي.
الرجل :
زوج طيب رغم كل شيء، هيا لا تضيعي الوقت.
المرأة :
أتريد أن تعطيه شيئا آخر؟
الرجل (صائحا) :
هيا أسرجي الحمار، هيا بلا إبطاء.
المرأة :
جزاك الله الخير يا زوجي، كنت أعرف أنك وفي (تذهب) .
الرجل :
رغم كل شيء ... آه يا ربي، لماذا ابتليتني بهذه البلية؟
المرأة (تعود) :
لو شاء الله ومت سأرسل لك أكثر مما أرسلت إليه.
الرجل :
قلت اذهبي، امرأة بلا عقل ولا روح ولا جسد ... بقرة عجوز حمقاء، قردة تضحك عليها القرود وتبكي ... لماذا يا ربي أعميت عقلها وصممته وأخرسته؟ كيف نفخت فيها من قبسك المنير وبقي مع ذلك في ظلام بهيم؟ لكي أتعثر فيه وأسقط؟ لكي أرتطم بخفافيش الحمق ليل نهار؟ لكي تفضحني في الشارع والسوق والبيت والطريق؟ آه يا ربي ألأني أشفقت عليها ورضيت بها ؟ ومن سيصدق أنها ترسل المال والثياب والحذاء لرجل مات من خمس سنين؟ أهو الحب الذي يصيب العقل بالعمى والعين بالجنون؟ أف من هذه المصيبة! جعلتني أخلط أيضا وقريبا أصبح كالمجنون، وأنت ... أنت أيها اللص المتسول أيها الأفاق اللئيم! كيف أوقعتها في مصيدتك؟ لا بد أنك طالب متسكع أو فقيه فاسد أو محتال مأجور. أكاد أعرفك من كثرة ما سمعت عنك. آه لو وقعت في يدي! ستعرف من منا الأمكر والأدهى، سترى أن الكتب لم تنفعك ولن تنجيك ... سأقتص منك وأجعلك تتوب. سأزفك على حمار أعرج في شوارع القرية وأفرج عليك العميان وأسمع الصم صياحك ونواحك ... أيها الجدي الضال! لن تفلت من الثور المخمور ... الثور المخمور، وسأشرب في صحتي حتى أصبح الثور والجزار والضحية والسكين والكلب المسعور. (ينصرف وهو يخور ويكشر عن أسنانه وينبح بصوت عال.)
3 (خلاء وبرد في الصباح والجو غائم، الشاب يجلس على شجرة مقطوعة ويناجي نفسه ... الكيس أو الجراب أمامه، يقلبه ويستخرج منه بعض محتوياته ثم يطويها. يحدث نفسه ويذرع المكان جيئة وذهابا، يلمح شبحا قادما فيحاول أن يخفي الجراب. الشبح يظهر عن قرب ... يسبقه أنينه وتأوهاته.)
الشاب :
ما بك أيها الرجل؟ لماذا تئن وتتأوه؟
الرجل :
ولدي يا ولدي. ولدي يوشك أن يسبقني إلى الجنة.
الشاب :
أنت أيضا؟ ما الذي جرى؟ هل يتسابق الجميع هنا إلى الجنة؟
الرجل :
منذ شهرين وهو يموت ... يلفظ روحه نفسا نفسا أمام عيني.
الشاب :
وماذا تفعل هنا في العراء؟ كيف تتركه وتمضي؟
الرجل :
أتركه؟ أنا لا أتركه يا بني، إنما جئت أبحث عن الشيخ.
الشاب :
أي شيخ يا رجل؟
الرجل :
الشيخ الواعظ أيها الشاب، يقولون عني معتوه، ولكني أعرف الواعظ من الفاسق، هل رأيته يا ولدي؟
الشاب :
وكيف أراه يا رجل؟ هل ترى شيئا حولك؟ أتبحث عنه بين الأشواك وشواهد القبور؟
الرجل :
قالوا في القرية المجاورة، وراء التل، سألت عنه هناك فقالوا هو في الخلاء، يصوم ويعتكف ويدعو ويصلي لله. ألم تره يا ولدي؟
الشاب :
لم أر إنسا ولا جنا، في هذه الأرض لا ترى حيا ولا حياة.
الرجل :
إذن فسأبحث عنه وراء الهضبة، ربما يكون هناك يا ولدي.
الشاب :
اذهب إلى ابنك يا رجل، كيف تتركه؟
الرجل :
قلت لم أتركه ... أأنت أيضا؟
الشاب :
لا لا ... أنت رجل عاقل، ولكن ارجع لتكون مع ابنك.
الرجل :
أنا معه يا ولدي، من أجله أبحث عن الشيخ. أريد أن يكون معه، أن يقرأ آيتين على رأسه. قالوا هذا يجعله من أهل الجنة.
الشاب :
اذهب يا رجل، عد إلى ابنك.
الرجل :
وإذا رأيته ترسله في الحال. أرجوك يا ولدي.
الشاب :
قبل أن تصل إلى عتبة بيتك، اذهب ... اذهب.
الرجل :
قل له بيت المعتوه، ابني يموت يا ولدي، ابني يموت.
الشاب :
اطمئن ... سأقول له كل شيء.
الرجل :
وهو يعرف أنني لست بمعتوه، يعرف أنهم ...
الشاب :
بالطبع، أنهم يظلمونك ... أسرع أسرع.
الرجل :
قل له لا يتأخر ... أرجوك.
الشاب :
أسرع يا رجل ... أسرع. (ينصرف الرجل، يعود الشاب إلى جرابه ويقلب في محتوياته، يفرك يديه من البرد.)
الشاب :
برد، برد شديد! ماذا كنت سأفعل لولا الدنانير؟ الدنانير؟ بل لولا دينار واحد؟ كنت هلكت كالبهيم ونفقت كالحمار. عندما دخلت المطعم بعد طلوع الفجر، حقا إنها حكاية! النادل العجوز يكنس السلم. عبرته غير مبال، دخل ورائي مسرعا، صعد في بصره وأنزله ... لماذا تنظر هكذا! وبصوت مرتفع كالأعيان وأصحاب الأملاك هيا ... أعد الفطور! ولا تنس شرائح اللحم، والبيض والجبن من كل الأنواع. لماذا تنظر إلي أيها الأبله؟ ألا أليق بهذا الفطور الملكي؟ لا ترضيك سترتي البالية وشالي المعفر ووجهي الذي لطمت الرياح والأمطار والعواصف صخرته الناتئة وجعدتها وملأتها بالشقوق؟ وهرعت إلى الدنانير ... أخرجت الكيس وأسمعته الرنين، فزع المعتوه. ترك المكنسة وربط المداعة، وأقبل على العمل. هل يطلب سيدي شايا بالحليب؟ قهوة بالحليب يا ثور! هكذا يفعلون في بلاد الله المتحضرة. قهوة باللبن، وسكر كثير كثير. فالطريق وعر لا يزال ... الطريق وعر على الدوام. ولا تسل عن الانحناءات والاحترامات والتحيات. هذا لك! والدعوات أيضا والابتهالات (يخرج الكيس ويرنه)
هكذا تفعل أيها السم البراق! تفتح العيون وتغمضها وتدفع الأبواب بالأقدام. دينار معك فأنت مع نفسك، مع الحق، مع القوة، مع العدل والحقيقة ... الحقيقة؟ تتمدد كالجثة إن لم ينفخ فيها الدينار الدفء. إن لم تنعشها شمس الدينار الذهبية! بوركت أيتها المرأة الطيبة! أيتها الحاجة الصغيرة البائسة! الحاجة! ها ها! سميتها الحاجة، ولم لا؟ صيد ثمين يا غزال! صيد يكفيني مئونة الشتاء. وماذا كنت أفعل الآن بغير دفء ولا شراب؟ ليت الوقت اتسع، ليت الذاكرة لم تكن كالغربال المخروق. إذن لطلبت شايا وسكرا وبنا وكومة أرغفة تعين على الطريق. الطريق طويل يا امرأة. الطريق وعر يا حاجة! آه لو عرفت أنه يؤدي دائما إلى الجحيم! الجنة! أجل أجل، حلمت بها طويلا، وحرقت عيون الفكر والعزم والخيال. حاولت أن أصنعها للأطفال والجيران والأصحاب وأهل القرية. وفي كل مرة تتهشم أجنحة الحلم على صخرة القبح والظلم. في كل مرة تسحقها أقدام القردة، وتلوكها أنياب الذئاب والكلاب، حتى الحمير الراضية القانعة تصمم أن يكون العلف من الأحلام. فإذا شبعت تمددت في الشمس ورفعت النهيق آمين آمين! وأنا المطارد والمطرود. أهيم من بلد إلى بلد بلا عدة ولا حذاء، جواب آفاق أم أفاق؟ حالم بالجنة أم هارب من الجحيم؟ ودائما أعود إلى المركز، وألف حول الدائرة وحيدا في البرد والليل، في الصحراء والهجير. ابتعدي أيتها الذكريات! بدأت الشمس تسلط على رأسي سياطها فدعيني. وماذا أفعل الآن؟ لا بد من الاحتياط، ربما يكون الثور المخمور في أعقابي. ربما أفاجأ به يقبض على خناقي، فلأسرع أيتها الحيلة أين وصاياك وعكازك؟ أين نذورك وبخورك وألاعيبك يا شيخ السوء وحاوي السيرك المغمور؟ ها ها! ها هي ذي! الجبة والشال والعمامة. لو لبست الجلباب لعرفني. لو بقيت بهذه الأسمال لوقعت في القفص كالنسناس المذعور. والشال الأسود ... حمدا لله أنني لم أنسه على رقبتي! وشكرا لك أيها المعتوه، أنا الشيخ الذي تنتظره ... أنا الذي سيرسل ابنك للجنة ... يرسله؟ ولماذا لا آخذه معي؟ لماذا؟ (ينزع الشال الأسود، ويلقيه في الجراب، يستخرج الجبة والعمامة والشال الأبيض، يتلفت حوله) .
أرض بور ! أرض خراب ! أشواك وبقايا جذوع وشواهد قبور، أما من شجرة أقبع في ظلها أو أستند عليها وأغير ملابسي؟ أدائما تكشف الرغبات وتعرى الأحلام؟ وماذا لو رأيته الآن ووقعت في الفخ؟ من أجلك يا سيدتي المسكينة. من أجلك يا حاجة أحتمل عذاب الرحلة للجنة أو للجحيم. (يبدأ في تغيير ملابسه قطعة قطعة وهو يدندن بلحن الأغنية التي سمعها من النساء والأطفال مع بعض التغيير):
يا جارة مرحى يا جارة،
قد جاء رسول ببشارة،
ورآك وحقق أوطاره،
واحتال الشاطر بشطارة،
يا جارة مرحى يا جارة.
عظيم! شيخ أخنى عليه الزمان، معلم لم تعلمه الأيام. من أجلك أيتها المسكينة، وأنت أيها الطفل المسكين، هل بقي شيء؟ نعم نعم. الجراب، لا بد من إخفائه، أين أخفيه؟ أين أخفيه؟ لعن الله هذا الخلاء. لم تبق إلا الأرض، أيها الرحم المفتوح على الدوام. أيها الكهف الأمين اللعين. وأين المهرب منك؟ اليوم تلقم الجراب وغدا صاحب الجراب! (يحفر حفرة يخفي فيها الجراب. يرتب ملابسه وعمامته ويفتح كتابا في يده، يتلفت وراءه فيلمح شيئا يتقدم نحوه) .
ها هو ذا! تعال يا ثوري المخمور. تعال يا ثوري المسعور.
وهل تعجزني التعاويذ والبخور؟ (يتقدم الزوج وينزل من على حماره.)
الزوج :
سلام أيها الشيخ!
الشاب (يرفع رأسه من على الكتاب) :
سلام أيه العبد المؤمن.
الزوج :
معذرة ... سؤال بسيط.
الشاب :
بارك الله يا ولدي ... ولي سؤال بسيط.
الزوج :
أجب أولا عن سؤالي.
الشاب :
سأفعل إن شاء الله إذا أجبت عن سؤالي.
الزوج :
ولكنني متعجل، إن لم تجب هرب الجاني.
الشاب :
لا يغرك أنني أقرأ وأنني جالس، إن لم تجبني مات المرحوم.
الزوج :
المرحوم؟ هل رأيته؟
الشاب :
وهل كنت أسألك؟ أنا هنا تائه يا ولدي. غريب عن هذا البلد وعن هؤلاء الناس. لا أرى غير الأشواط ولا أشم غير رائحة الموتى والمستنقعات، هل تدلني على ...
الزوج :
هل تدلني أنت على رجل مر من هنا؟
الشاب :
لا أجيب حتى تجيب، أيقظوني من عز النوم لأحضر وفاة طفل مسكين. تركوا العنوان وتركوني بغير دليل، هل تعرف كفر البور؟
الزوج :
أعرفها ... إني آت منها، وماذا تريد منها يا شيخ؟ من تريد؟
الشاب :
فلاح هناك، يبدو أنه رجل طيب موعود. أقصد معتوه من أحباب الله، قالوا بيته بجوار دوار شيخ البلد، وله طفل واحد، والمسكين يموت.
الزوج :
لا حول ولا قوة إلا بالله، يكفي أن تتجه وراء التلة.
الشاب :
نعم نعم ...
الزوج :
وتجتاز البركة الكبيرة.
الشاب :
تصور يا ولدي حال المسكين! أب معتوه والابن الوحيد. والابن الوحيد يصارع القضاء والمقدور، منذ ليال وأسابيع وشهور.
الزوج :
الموت حق يا شيخ.
الشاب :
بالطبع يا ولدي، توكلنا على الحي الذي لا يموت، سأقرأ على رأسه إن شاء الله.
الزوج :
يا شيخ ... افعل ما قدرك الله، ولكن بالله عليك ...
الشاب :
ماذا تريد يا ولدي؟
الزوج :
هل نسيت؟ سؤالي لم تجب عليه.
الشاب :
اسأل يا ولدي وستعرف إن شاء الله.
الزوج :
هل مر عليك أحد الآن؟ رجل يلبس بذلة زرقاء، عليه أسمال بالية، وعلى رقبته شال أسود، وفوق ظهره ...
الشاب :
جراب ... جراب بني منفوخ.
الزوج :
تماما يا شيخ ... أسرع بالله عليك، أين ذهب؟
الشاب :
ذهب يا ولدي ... لم يتوقف حتى أسأله.
الزوج :
بالطبع بالطبع كان متعجلا.
الشاب :
جريت وراءه وأنا ألهث، لم يرحم ضعفي وشيخوختي (يسعل) . لم يرد بكلمة واحدة.
الزوج :
هو نفسه ... هو اللص الملعون.
الشاب :
لص ... وملعون، القلوب يعلمها علام الغيوب يا ولدي ... أين ذهب؟
الزوج :
أنا الذي أسألك يا شيخ ...
الشاب :
كان يسرع كالحصان في الرهان، يا ولدي انتظر ... انتظر.
الزوج :
ولم يرد عليك.
الشاب :
لم يلتفت إلي ... شباب هذه الأيام!
الزوج :
ذهب في أي اتجاه؟
الشاب :
وكيف أعرف؟ قلت لك لم يرد، اختفى وراء هذه الهضبة، عبرها كالمهر الطائر في الريح، أتعرف ماذا فكرت حين رأيته وهو يجري؟
الزوج :
ماذا يا شيخ؟
الشاب :
تخيلت ما كنت أسمعه في طفولتي ... بدا كأنه نعش يطير.
الزوج :
نعش؟ أيكون قد مات قبل أن أخنقه بيدي؟
الشاب :
لا لا، هذه خرافات يا ولدي ... كانوا يقولون إن الرجل الصالح يطير نعشه في الهواء ، وكأنه يسبق المشيعين إلى الجنة.
الزوج :
عرفته يا شيخ ... هو أيضا يزعم أنه ذاهب إلى الجنة.
الشاب :
أرأيته قبل هذا؟
الزوج :
لو رأيته لفصلت رأسه الملعون عن جسده النجس، ولكنني عرفت ما فعل، قال إنه ذاهب إلى الجنة، وترك في البيت نارا تشتعل.
الشاب :
معاذ الله، أحرق البيت؟
الزوج :
نهب ما فيه، هل تفعل النار أكثر من هذا؟
الشاب :
وماذا نهب يا ولدي؟ اربط الحمار إلى هذا الجذع وتكلم.
الزوج :
تعطلني يا شيخ، حتى الحمار يستعجلني للإمساك به، لا تدري كم نهب وخرب.
الشاب :
لا بد أنه لص مشهور.
الزوج :
يقولون طالب صعلوك، وربما واعظ فاسق أغواه إبليس.
الشاب :
أعوذ بالله، إلى هذا الحد يا ولدي؟
الزوج :
وأكثر يا شيخ، ضحك على زوجتي البلهاء. قال لها إنه قادم من الجنة، هذه النعجة الحمقاء وقعت في يد الجزار.
الشاب :
الجزار، لا أفهم يا ولدي.
الزوج :
رجل صالح مثلك لا يفهم أولاد هذا الزمان.
الشاب :
هل ذبحها لا سمح الله؟
الزوج :
ذبحني أنا يا شيخ، هل تعرف ماذا فعلت المسكينة؟
الشاب :
وماذا فعلت؟
الزوج :
لم يكفها ما أخذ، الدنانير وجلبابين من الجوخ والصوف، وحذاء أدخره للشتاء. أعطته كذلك عشرة دنانير، دنانير من الذهب يا شيخ.
الشاب :
من الذهب؟ في أيام لا نعثر فيها حتى على القش والعلف؟ لماذا يا ولدي؟
الزوج :
لكي يسلمها لزوجها الأول. كانت متزوجة قبلي. المعتوهة لا ترضى بي، لا ترضى عني، ولهذا تنتظر أن يرجع الزوج الصالح من الجنة.
الشاب :
مسكينة، تريد الجنة وتقع في نار إبليس.
الزوج :
أنا الذي وقعت يا شيخ، ولكنه لن يفر، لن يهرب مني.
الشاب :
وماذا ستفعل يا ولدي؟ استعذ بالله واسترح قليلا.
الزوج :
أستريح؟ لا بد من اللحاق به يا شيخ. لا بد من ضربه حتى يتوب، ثم خنقه حتى يستريح منه الناس، أف لقد عطلتني.
الشاب :
إذن فعجل، هل سيسعفك هذا الحمار؟
الزوج :
الحمار؟ حقا لم أفكر في هذا، بالطبع لن يسعفني، شيطان كسول لا ينفع في شيء، هل ستبقى هنا قليلا يا شيخ؟
الشاب :
سأبقى يا ولدي حتى تعود، إنني متعب ولا بد أن أستريح، ولكن لا تتأخر فالطفل المسكين ...
الزوج :
الطفل؟ قبل أن أترك القرية، سمعت صواتا من ناحية الدوار الكبير.
الشاب :
يرحمه الله، هكذا تموت الأطفال، وتموت معها الأحلام، أسرع يا ولدي.
الزوج :
سامحك الله يا شيخ، تفكر في الأطفال والأحلام، وتعطلني عن الإمساك باللصوص!
الشاب :
أنا أعطلك يا ولدي؟ اذهب اذهب في أمان الله.
الزوج :
وهذا الحمار الملعون؟
الشاب :
خذه أو اتركه في أمان بإذن الله.
الزوج :
ستنتظرني إذن؟
الشاب :
بالطبع يا ولدي، لكن لا تتأخر ... لا تتأخر.
الزوج :
إذن إلى اللقاء.
الشاب :
إلى اللقاء يا ولدي، وليعني الله على البلاء.
الزوج :
خذ بالك من الحمار (يجري مسرعا نحو الهضبة) .
الشاب :
توكل على الله، توكل على الله ... في يوم واحد كل هذا البلاء، طفل يموت وبيت يخترق وحمار كسول، هيا قف في مكانك، أتريد أن تذهب معه؟ أتريد أن تعرف الطريق إلى الجنة. الجنة هنا تحت قدميك، وأنت ستكون تحت قدمي. هذا الثور المخمور يظن أنني صيد سهل. ومع ذلك فالمسكينة تعز علي، أيتها الطيبة الصالحة تكفيك نار هذا الثور المسعور، هذا الجزار المخمور. لا بد من الإسراع قبل أن يرجع إليك ويفسد الحلم علي وعليك. لا بد من الإسراع (يستخرج الجراب)
لست لصا ولا أفاقا، إنني شريد مطرود. نعم نعم، شريد مطرود. أنتقم ممن يستحق الانتقام، أما أنت أيتها المسكينة، أيتها الطيبة العينين، أيتها الحالمة بطيف الجنة، ها هو الحالم يعود إليك من وسط النار يعود. من قلب النار يعود ليعتذر إليك، هل تعفين وتنسين؟ سيعود إليك ولن يعفو عن نفسه، لن يجرؤ أن يوقظك من الحلم. إنه يحلم مثلك في وسط النار يقيم خيام الأحلام، من وسط النار يعود إليك (يلقي نفسه على ظهر الحمار)
وإليك أيها المعتوه، تحلم أن يسبقك إلى الجنة ولم لا؟ وأنت أيها الطفل المسكين، لا بد أنك تنتظرني، هيا ... هيا ... هيا (يلكز الحمار ويمضي) .
4 (نفس المنظر الأول، المرأة تذهب وتجيء في القاعة . تتجه للنافذة بين حين وحين، تلمحها إحدى الجارات المارة في الشارع فتكلمها وتسمع صوتها من بعيد.)
صوت الجارة :
مساء الخير يا جارة.
المرأة :
مساء الخير.
الجارة :
ما لك يا جارة؟
المرأة :
مالت الشمس للغروب ولم يعد.
الجارة :
ربما يرجع مع الفجر، أو عندما يكتمل البدر.
المرأة :
لا يمكن أن يتأخر، لقد ذهب على الحمار.
الجارة :
يا حسرتي عليك، تعيشين حياتك في انتظار، هل جاء وذهب بالحمار؟
المرأة :
من تقصدين؟ إنه زوجي.
الجارة :
أيهما يا جارة؟ المرحوم أم المخمور؟
المرأة :
ألم أقل لك؟ باركي لي يا أختي.
الجارة :
وعلام أبارك؟ لأنه ركب الحمارة؟
المرأة :
أنت لا تعرفين، جاء رسول ببشارة.
الجارة :
أخيرا جاء؟
المرأة :
قلت لك جاء، في الليل وجدته أمامي، على ظهره جراب، وفي الجراب رسالة.
الجارة :
رسالة منه؟ من المرحوم؟
المرأة :
بالطبع، ألم أقل لك أن قلبي لا يكذب، ذهبية ومختومة بختم الملائكة.
الجارة :
وما هي أحواله يا أختي؟ ماذا يقول؟
المرأة :
بخير، بخير والحمد لله، ولكن البرد هناك شديد.
الجارة :
البرد؟ هناك في الجنة؟
المرأة :
طبعا يا جارة. البرد هنا وهناك. والمرحوم ضعيف كما تعلمين.
الجارة :
أعلم يا أختي، وهو هناك ...
المرأة :
وحيد وفقير ... تركوه في الكفن الذي دفن فيه، هل يمكن أن أتركه بلا مال ولا ثياب؟
الجارة :
مسكين، وماذا فعلت يا أختي؟
المرأة :
ماذا فعلت؟ ما تفعله الزوجة الوفية.
الجارة :
أرسلت إليه الثياب والمال؟
المرأة :
بالطبع يا أختي، أرسلتها مع البشير، جلبابين وطاقيتين وحذاء وعشرة دنانير.
الجارة :
وزوجك؟ هل علم بهذا؟
المرأة :
وذهب ليعطيه الباقي. قال عشرة دنانير لا تكفي، ألم أقل لك إنه زوج طيب رغم كل شيء؟
الجارة :
رجل طيب يا أختي، وركب الحمارة.
المرأة :
ليلحق به ويعطيه الأمانة، لا بد أنه سيرجع بعد قليل.
الجارة :
يا فرحته بك يا أختي!
المرأة :
ويا فرحتي به وبك، غني يا أختي. قد جاء رسول ببشارة، غني ودعي الجارات يغنين.
الجارة :
الجارات والأطفال يبكين يا أختي.
المرأة :
يبكين؟ ولماذا يا أختي؟
الجارة :
ألم تسمعي النواح منذ قليل ؟ إنهن في المأتم.
المرأة :
كفى الله الشر، من الذي مات؟
الجارة :
ألا تعرفين؟ ابن المعتوه مات اليوم. البلد كلها هناك تعزيه.
المرأة :
يرحمه الله، لقد كنت نائمة، لم يبق له أحد في الدنيا.
الجارة :
والشيخ عنده من الصباح، يقرأ على رأسه من كتاب الله.
المرأة :
الله يصبره يا أختي، الطفل الميت يذهب للجنة.
الجارة :
هذا ما يقوله الشيخ، وعندما يموت أبواه يأخذ بأيديهما إلى هناك. (تسمع أصوات نواح وعويل من بعيد.)
المرأة :
يا حسرتي على الصغير، كان يزورني ويغني لي.
الجارة :
يا حسرتي عليه وعليك، سيزورك حتما فانتظريه.
المرأة :
سأنتظره يا أختي، سأنتظره.
الجارة :
ها هو زوجك قد عاد، هيا يا أختي لتستقبليه.
المرأة :
أرأيته؟ ألم أقل لك؟
الجارة :
يا حسرتي عليه وعليك، يا حسرتي على الجميع ... يا حسرتي على الجميع (تنصرف) .
المرأة (تفتح الباب) :
زوجي؟ هل عدت؟
الزوج (مترنحا يتأوه) :
وهل ظننت أنني لن أعود؟
المرأة :
يبدو عليك التعب يا زوجي الحبيب، يبدو عليك التعب، ولماذا لم تركب الحمار؟
الزوج :
الحمار؟ نعم، أين الحمار؟
المرأة :
هل نسيته يا زوجي؟ لقد وضعت السرج عليه في الصباح.
الزوج :
الحمار والسرج، نعم نعم ... تذكرت.
المرأة :
تكلم يا زوجي (لنفسها)
ربي، تفوح منه رائحة البراميل، هل شربت يا زوجي؟
الزوج :
شربت؟ طبعا طبعا. كأسين فقط، في صحة السرج والحمار!
المرأة :
ألم تجد الرجل؟ ألم تعطه الدنانير؟
الزوج :
كيف يا امرأة؟ رأيته وأعطيته الحمار والدنانير.
المرأة :
الحمار أيضا؟ وماذا تفعل بدونه؟
الزوج :
وماذا يفعل مسافر إلى الجنة؟ هل أتركه يمشي على قدميه؟ الطريق طويل يا امرأة، الطريق وعر وطويل!
المرأة :
الطريق وعر طويل، حقا يا زوجي العزيز، حسنا فعلت، كيف غاب هذا عني؟
الزوج :
ألم أقل لك أنت امرأة طيبة.
المرأة :
أنت الطيب يا زوجي، كنت أعلم أنك لن تغار من زوجي الأول المسكين، كنت أعلم أنك لن تبخل عليه.
الزوج :
أنا أبخل عليه؟ المهم ألا تبخلي أنت علي.
المرأة :
أبدا يا زوجي الطيب، لن أبخل أبدا عليك.
الزوج :
ولن تخفي الدنانير ؟
المرأة :
جرب أن تموت يا زوجي، وسأرسل إليك كل شيء. الثياب والأحذية والدنانير.
الزوج :
ولا تنسي البرميل.
المرأة :
أعرف أعرف.
الزوج :
ها ها ... برميل على ظهر جمل يا امرأة، جمل وبرميل ... جمل وبرميل. (يتجه للانصراف.)
المرأة :
إلى أين تذهب؟
الزوج :
ولماذا لا أذهب؟ رجلي وأنا حر فيها، والحمار ضاع، والدنانير ...
المرأة :
ألم تعطها له؟
الزوج :
كيف لم أعطها له (يربت على ظهرها وخديها)
هل نتركه يتسول في الجنة كالشحاذين؟ أخذها يا امرأة، ولكنه أعطاني واحدا للطريق.
المرأة :
رجل طيب.
الزوج :
وأنا؟ ألست طيبا يا امرأة؟ ألا أستحق أن أشرب على روحك وروحه؟
المرأة :
أتذهب الآن؟
الزوج :
إلى الجنة؟ لا ليس الآن، لا تنسي يا زوجتي الطيبة، جمل وبرميل ... البرميل فوق الجمل. والجمل فوق البرميل ... البرميل البرميل (يخرج) .
المرأة :
طيب ووفي، كنت أعرف هذا ولا أصدقه. آه لو يترك الخمر! كان المرحوم صالحا لا يترك الجامع. وأنت لا تترك الحانة، ولكنكما طيبان، ولكنكما طيبان، يرحمنا الله ... يرحمنا الله. (يظهر الشاب فجأة من وراء الستار، هو الآن شيخ معمم، يضع الجراب على الأرض.)
الشيخ :
يرحمك الله ... يرحمك الله. هل نسيت يا حاجة؟
المرأة :
من؟ أنت؟
الشيخ (يخلع العمامة والجبة) :
عرفت الآن؟
المرأة :
اختف يا رجل، من أين أتيت؟ ألم تذهب ...
الشيخ :
ذهبت وعدت. اطمئني يا حاجة.
المرأة :
بهذه السرعة؟
الشيخ :
كان الملاك الحارس ينتظرني. ما كدت أعبر التلة حتى حملني إلى الجنة.
المرأة :
الملاك؟ ألم تركب الحمار؟ ألم يعطه لك زوجي؟
الشيخ :
الحمار ... آه تذكرت، إنه أمام الباب.
المرأة :
فهمت، رجعت عليه.
الشيخ :
أوصلني الملاك إلى القرية، ثم ركبت الحمار.
المرأة :
كيف حاله؟ هل أعطيته؟
الشيخ :
ماذا أقول لك؟
المرأة :
تكلم ... تكلم هل يطلب شيئا آخر؟
الشيخ :
بل يشكرك على هداياك. رفض أن يقبل شيئا.
المرأة :
رفض؟ كيف رفض هل هو غاضب علي؟
الشيخ :
انتظري يا حاجة، سأل عنك، فقلت له: هي على ما يرام. تزوجت بعدك، ولكنها لا تنساك.
المرأة :
الله أعلم بحالي، أنا أيضا لا أنساه.
الشيخ :
ولكنه قال: لا حاجة لي بالدنانير، أعطها لها فهي أولى بها. (يعطيها الدنانير.)
المرأة :
أنا أولى بها؟ ومن أين ينفق هو؟
الشيخ :
لا لا، اطمئني الدنيا بخير، لو كنت معي لما صدقت، أنا نفسي لم أصدق عيني، حرير في حرير، ذهب في ذهب، كأنه ملاك منير.
المرأة :
هل ترك الكوخ الذي كان فيه؟
الشيخ :
وهو الآن في قصر بديع. حدائق وحراس وأسوار وأعناب ونخيل. ابتهجي يا حاجة، زغردي إن كنت تستطيعين ... إنه في نعيم أي نعيم. (تحاول أن تضع يدها على فمها لتزغرد، يهجم عليها فيمنعها، تجفل إلى الوراء.)
الشيخ :
صوتي إذا استطعت.
المرأة :
أصوت؟ تأتيني بالبشارة ومع ذلك تمنعني.
الشيخ :
ألم تسمعي الصياح والعويل؟ ألم يتأثر قلبك؟
المرأة :
الصياح والعويل؟ نعم نعم، الطفل الصغير ... كيف عرفت؟
الشيخ :
كنت هناك، مات على صدري.
المرأة :
كنت هناك؟
الشيخ :
جاءني أبوه وأنا في طريقي إلى الجنة. كان يبكي وينوح ويمزق الوجه والجلباب. دعاني أن أرجع معه لأقرأ على رأس الصغير، كنت أعرف ...
المرأة :
كنت تعرف أنه سيموت؟
الشيخ :
إنه في طريقه إلى الجنة، ملاكي الحارس قال لي: خذه معك إلى هناك.
المرأة :
ولكنك ...
الشيخ :
أفهم سؤالك، لكنني لست شيخا.
المرأة :
لم تكن كذلك عندما رأيتك.
الشيخ :
اجلسي يا حاجة، اهدئي واجلسي.
المرأة :
تخيفني وتقول اهدئي!
الشيخ :
اهدئي وأفيقي، افتحي عينيك وأذنيك.
المرأة :
تكلم ... هل أسمع ما أخشاه؟
الشيخ :
لا تخشي شيئا، افتحي عينيك، أتسمعين هذا النواح؟ (تسمع أصوات النواح من بعيد.)
أنا أيضا مثل هذا الطفل المسكين، مت مثله عشر مرات، مائة مرة، في كل مرة كنت أغمض عيني على حلم يموت، ثم أفتحها وأشقى في الدنيا لأغمضها من جديد.
المرأة :
ربي! كلامك عجيب.
الشاب :
ليس في الأمر عجيب. مع كل طفل يموت يموت كذلك حلم، وأنا مت ألف مرة، لكن الحلم لم يمت. هل تعرفين أباه المعتوه؟ المسكين سيزداد جنونه، لقد مات حلم يدخره ... حلم للأرض وللقرية وللأب المسكين، أما أنا فكنت ولا زلت أحلم. والحلم في كل مرة يقتل في عيني وبين يدي . يقتل في البيت والشارع والسوق والقرية والمدينة، حلمت فصرت معلما في كتاب، ثم مات الحلم فتركت الكتاب والكتب، حلمت فصرت واعظا في جامع، ثم رأيت الأحلام تموت في عيون البؤساء وتركت الوعظ والجامع. جربت أن أنادي في الشارع والسوق، صرت حاويا وبائع أدوية وبخور وتعاويذ. صرت منجما وقارئ كف وفنجال ومهرجا في سيرك، في كل مرة كان الحلم يموت، وحش ينقض عليه ويخنقه وينزع جناحيه.
المرأة :
كلامك غريب ... كلامك غريب.
الشاب :
وجربت بيع الأحلام وشراء الأحلام، الأحلام تموت على الأرض وبين الناس. فلأجرب أحلاما أخرى لأناس آخرين، لهذا جئت إليك من الجنة بالأحلام.
المرأة :
نعم جئت ... زوجي أعطاك العنوان.
الشاب :
افتحي عينيك يا امرأة، أفيقي وافتحي عينيك، الناس تقول عني: أفاق ومحتال، وأنا أقول لنفسي: بائع أحلام، هل تغفرين لي؟
المرأة :
أغفر لك؟ هل اقترفت ذنبا حتى أغفر لك؟
الشاب :
بعت لك الحلم، زوجك المخمور سيقول: نصبت عليك.
المرأة :
لا لم يقل شيئا، لقد لحق بك ليعطيك الدنانير وترك لك الحمار، إنه زوج طيب.
الشاب :
كلهم طيبون، زوجك الأول أيضا كان طيبا.
المرأة :
أنت رأيته بنفسك في الجنة، وقريبا سترجع إليه.
الشاب :
أفيقي يا امرأة، افتحي عينيك وأذنيك، أنا لم أره ولن أراه ... إنها الأحلام ضاقت بها الدنيا، فذهبت للآخرة أحلام ... أحلام.
المرأة :
أحلام أو غير أحلام، لقد قابلته وطمأنتني عليه.
الشاب :
قابلته؟ أنت أول من صدق الحلم.
المرأة :
لأني أصدقك أيها الشاب؛ لأنني أثق فيك، ألم يقل إنه سيفي بوعده، ألم يقل إنه سيزورني عن قريب.
الشاب (يحمل جرابه على ظهره، ويطيل التأمل في وجهها العجوز البريء) :
سيزورك بالطبع ... بالطبع.
المرأة :
قل له: سأظل انتظرك كما وعدت.
الشاب :
نعم نعم، لا يمكن أن يخيب رجاءك.
المرأة :
سأظل أنتظره حتى يأتي في ليلة اكتمل فيها البدر، ليلة تشبه ليلة عرسنا، سأظل أنتظره.
الشاب :
كلنا ننتظر، كل الأحلام تموت إلا هذا الحلم.
المرأة :
هل تذهب اليوم؟
الشاب :
نعم نعم، لا بد أن أذهب.
المرأة :
وتراه هناك؟
الشاب :
أراه؟ بالطبع بالطبع ... ألم أقل لك ليس لي صديق سواه؟
المرأة :
ألا تريد أن تأخذ شيئا معك؟
الشاب :
قلت لك هو الآن بخير، ملاك ينعم في قصر عظيم. نور يحيا في النور.
المرأة :
أعرف ... أعرف، ولكن ربما يحتاج لشيء، سكر أو شاي. فطيرة أو دجاجة، لقد رد الثياب والدنانير.
الشاب :
لا ... لا، كل شيء هناك. هل نسيت ما قلته لك؟
المرأة :
لم أنس ... لم أنس، إنها الجنة أيها الشاب.
الشاب :
نعم نعم هي الجنة.
المرأة :
المهم ألا ينساني هناك.
الشاب :
ينساك؟ هل يمكن أن تشغله الجنة عنك؟ يكفي أن تنتظريه.
المرأة :
وسأظل أنتظره.
الشاب :
وتصرين على الحلم؟
المرأة :
سمه كما تشاء، ولكنه لن يموت.
الشاب :
يكفيني هذا، يكفيني حلم واحد لا يموت ... الوداع (ينظر إليها في صمت) .
المرأة :
أتذهب؟ تذكر إن كان في حاجة إلى شيء، إن كنت تحتاج شيئا.
الشاب :
لا ... ليس في حاجة إلى شيء، لست في حاجة إلى شيء.
المرأة :
والطفل المسكين؟ ألن تأخذه إلى هناك؟
الشاب :
اطمئني، لقد حمله الملاك وسبقني على الطريق.
المرأة :
كل الأطفال تذهب إلى الجنة.
الشاب :
لتواصل الأحلام، الوداع.
المرأة :
الوداع.
الشاب :
إلى أن يجيء ...
المرأة :
سأواصل الانتظار. (الشاب يطيل النظر إليها قبل أن يستدير، يمد يده مسلما، ولكنها لا تنتبه إليه، يسحبها حين يرى بريق عينيها الناظرتين إلى السماء، بعد قليل تكتشف خروجه، تهرع إلى النافذة، يسمع صوت امرأة تتبعه أصوات نساء وأطفال.)
صوت :
يا جارة، هل سمعت يا جارة.
صوت :
جاء رسول ببشارة (يضحكن) .
صوت ثالث :
حرام عليكن، الميت لم يجف دمه في القبر.
صوت :
مسكين، الموت رحمه من الموت.
صوت :
منذ شهور وهو يلفظ أنفاسه.
صوت :
وأبوه، يا حسرتي عليه، يهيم في الشوارع كالمجنون.
صوت (يضحك) :
ويقول ابني راح الجنة وسألحق به.
صوت (ضاحكا) :
ولماذا لا يذهب إليه؟
صوت آخر :
ولماذا لا ينتظر حتى يأتي إليه، حتى يأتيه رسول ببشارة (ينادي)
يا جارة ... يا جارة.
المرأة (تنظر من النافذة) :
نعم يا جارة.
صوت :
هل جاء رسول ببشارة؟
صوت آخر :
هل جاء وأعطاك أمارة ؟
صوت آخر :
بل أخذ أمارة ... شالا وحذاء وحمارة.
صوت ثالث :
انظرن ... انظرن، قد ترك على الباب حمارا. (ترتفع ضحكاتهن، المرأة تقول في ثبات):
المرأة :
غني يا جارة، غني يا جارة.
قد جاء رسول ببشارة.
صوت :
هل جاء من الجنة يجري،
أم فوق حمار أو مهر؟
هل جاء بعسل أو خمر
من نبع الكوثر كالفجر؟
المرأة :
قد جاء وعاد إلى الجنة.
افرحن يا جارات، افرحن معي، وقريبا يأتي زوجي الحبيب.
سأظل أنتظره كما وعد.
صوت :
لا تنتظريه يا جارة.
ها هو يترنح في الحارة.
يحجل كغراب أو فأرة.
غرقت في برميل الخمرة. (يتضاحكن ويبتعدن فرارا.)
الزوج (يدخل بعد قليل وهو يترنح) :
ما هذا يا امرأة؟ ما هذا الضحك والصياح؟
المرأة :
وما هذه الرائحة يا رجل؟
الزوج (يغني بصوت أجش) :
الجميل ببرميل الخمرة،
قد غرق وأصبح كالفأرة.
المرأة :
أف لك، دائما تفضحني أمام الناس.
الزوج :
وأنت؟ ألم تفضحيني أمام البلد كلها؟
المرأة :
جاراتي جئن يباركن لي.
الزوج :
يباركن أو يضحكن عليك؟ (يقترب منها ويصفعها على وجهها) .
المرأة :
وتصفعني أيها الجمل الأجرب ... أيها الثور المخمور؟
الزوج :
والثور هو الجزار المخمور، خذي! (يهجم عليها فترده ويسقط على الأرض)
لو كان معي السكين، لو كان معي السكين.
المرأة :
وتريد أن تصبح قاتلا.
الزوج (لاهثا) :
وأدفنك حية.
المرأة :
لن تخيفني (يختفي وراء الستار، ثم يعود وفي يده السكين) .
الزوج :
وأسلخك وأقطع لحمك أيتها البقرة.
المرأة (تتحداه) :
افعل لو كنت شجاعا.
الزوج :
وأشجع من المرحوم.
المرأة :
مخمور وجبان، هو أشرف منك وأطهر.
الزوج :
تحملتك خمس سنين.
المرأة :
ونهبتني خمس سنين.
الزوج :
السكين ... السكين (تسقط من يده) .
المرأة :
ملعون ... ملعون.
الزوج :
هات السكين.
المرأة :
ترتعش يداك من الخمرة،
يا جملا أجرب يا فأرة.
الزوج :
نادي المرحوم ... ها ها ها، نادي المرحوم!
حتى أذبحك وأذبحه بالسكين،
آكل لحمكما ثم أصوم.
المرأة :
لا تذكر اسمه.
الزوج :
ها ها، هل هو معصوم؟
يا مرحوم! يا مرحوم!
المرأة :
اخفض صوتك القبيح.
الزوج :
أنا حر ... أنادي عليه.
المرأة :
أخفض صوتك.
الزوج :
حتى لا يسمعنا الجيران ؟ ها ها! يا جارة قولي للجارة ننتظر من الزوج زيارة!
المرأة :
سأنتظره وحدي.
الزوج :
وأنا؟ ألست زوجك الطيب؟ زوجك الوفي؟
المرأة :
زوجي في الجنة.
الزوج :
وأنا في البرميل! ها ها ها! (سمع أصوات النساء والأطفال وهي تغني من بعيد كما في المشهد الأول):
تحلم - لا زالت - بمحال.
بالزوج يعود من الجنة،
هل يجري ماء في العالي،
والميت هل يترك كفنه؟
الزوج :
سمعت؟ الميت هل يترك كفنه؟ (يحاول أن ينهض ليتجه إلى النافذة، فيسقط على الأرض.)
المرأة :
سيعود، رغم أنفك سيعود.
أصوات النساء والأطفال :
ما جدوى الأرق أو السهد،
والدمع على الخد الوردي؟
قد ذهب الحلم بلا عود،
والوردة ذبلت في الخد،
كالطفل الميت في المهد،
قد ذهب الحلم بلا عود.
الزوج :
سمعت! ذهب الحلم بلا عود، كالطفل الميت في المهد. مات ... مات الحلم.
المرأة :
موتوا بغيظكم ... الحلم لا يموت.
الزوج :
غني يا جارة! غني يا جارة.
أصوات نساء وأطفال :
يا جارة عودي يا جارة،
للأرض وإن كانت نارا.
الزوج :
للأرض.
المرأة :
للجنة.
أصوات النساء والأطفال :
فالأرض هي الأم البارة.
الزوج :
الأرض هي الأم البارة.
المرأة :
الأرض جحيم.
الزوج :
يا جارة ...
أصوات النساء والأطفال :
يا جارة عودي يا جارة،
وتعالي نهبط يا جارة،
من برج الحلم إلى الحارة.
الزوج :
هيا افتحي الباب.
المرأة :
الباب مفتوح.
الزوج :
تعالي إلى الحارة.
المرأة :
اذهب أنت.
الزوج :
وتأتين معي؟
المرأة :
سأنتظره.
الزوج :
الميت لا يترك كفنه، هيا معي (يهجم عليها بعد أن أفاق قليلا ويضربها) .
المرأة :
سيعود ... يعود من الجنة.
الزوج :
وها هو الباب (يغلق الباب) .
المرأة (تفتحه) :
سيعود ... يعود وأنتظره.
الزوج :
وسأسلخ جلدك يا بقرة. (يضربها، تبكي، ينهار على الأرض وهو يحاول أن يغلق الباب.)
المرأة (تفتحه رغما عنه) :
سيظل الباب مفتوحا، وسأظل أنتظره.
أصوات من بعيد :
ما جدوى الأرق أو السهد،
والدمع على الحلم الوردي؟ ... إلخ.
المرأة :
سأنتظره ... اسمعوني جميعا، سيعود، يعود وأنتظره.
الأصوات :
قد ذهب الحلم بلا عود.
والورد يموت على الخد،
كالطفل الميت في المهد.
المرأة (تصرخ كالمجنونة، وهي تدور بين الباب والنافذة) :
سيعود، يعود من الجنة،
والميت قد مزق كفنه،
الباب مفتوح ... تعال ... تعال، إنني أنتظرك. (تبكي وتنهار على الأرض، ثم تنهض بعد قليل وتفتح الأبواب والنوافذ على اتساعها، تتردد من بعيد أصوات النساء.)
هل يصعد ماء في العالي؟
والميت هل يترك كفنه؟
تحلم لا زالت بمحال،
بالزوج يعود من الجنة.
المرأة (تتجه إلى النافذة، وتتطلع منها في تحد. تنظر باحتقار إلى الزوج الممدد على الأرض. ترجع إلى الباب وتواجهه في إصرار وهي تردد بصوتها الذي يعلو على أصوات النساء) :
لا بد أن يعود.
لا بد أن يعود.
الانتهازيون لا يدخلون الجنة
مسرحية في ستة مشاهد
مهداة إلى عبد الرحمن فهمي.
الشخصيات
المريض.
زينب:
زوجته.
أحلام:
ابنتهما.
الطبيب.
محمد دربالة:
وهو الشق الآخر من نفس المريض المنقسمة.
صبري:
وكيل وزارة سابق.
الممرضون.
الملاك الأسود الصامت.
جوقة الأطفال.
هذه المسرحية صياغة حرة لقصة «الجلسة» لصديق العمر الكاتب الفنان عبد الرحمن فهمي. ولو سلمنا بوجود عدد من روائع القصة المصرية القصيرة - قد لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة أو اليدين - لكانت «الجلسة» في تقديري هي إحدى هذه الروائع بغير منازع (نشرت القصة في مجموعته الأخيرة «العود والزمان»، القاهرة سنة 1969م، من صفحة 7 إلى صفحة 42). (حجرة واسعة في عيادة طبيب الأمراض النفسية والعقلية، مكتب كبير في مواجهة النظارة، يجلس الطبيب على كرسي موضوع أمامه أو يقوم أحيانا ليعاين المريض أو يكلمه، على اليمين أريكة مستطيلة يتمدد عليها المرضى أثناء التحليل، يقف خلفها أربعة من الممرضين في ثياب بيض، وهم يمثلون الجوقة التي تراقب الأحداث أو تستفسر عنها وتعقب عليها. المريض جالس على الأريكة بعد أن انتهى الطبيب من فحصه، يدفن رأسه بين كفيه ويبكي. الممرضون يحاولون أن يساعدوه على ارتداء ملابسه، وفي يد كل منهم قطعة منها.)
1
المريض :
ابنتي ماتت يا دكتور. ابنتي ماتت.
الطبيب :
أعرف، أعرف.
المريض :
إنه يتهمني بقتلها، يتهمني بقتلها.
الطبيب :
اهدأ أرجوك.
المريض :
أهدأ؟ كيف أهدأ بالله عليك؟ هل تتصور أنني قتلتها؟ هل سمعت عن أب قتل ابنته؟ (يبكي.)
الطبيب :
كفى بكاء. نريد أن نتناقش في هدوء، هيا ارتد ملابسك أولا. (الممرضون يحاولون أن يساعدوه على ارتداء ملابسه فيصدهم بعنف.)
المريض :
بل قل أنت أولا، هل تعتقد أنني مجنون؟
الطبيب :
مجنون؟ لا لا، لا تبالغ.
المريض :
هو الذي أقنعك بهذا. أليس كذلك؟ وزوجتي أيضا، لم يكتفوا باتهامي بقتل ابنتي، اتهموني أيضا بالجنون.
الطبيب :
قلت لك لا تبالغ في كلامك. نحن الأطباء حريصون في استعمال الألفاظ. إنه مجرد فحص عادي. فحص انتهينا منه ويمكنك أن تطمئن.
المريض :
أطمئن؟ أطمئن وأنت تعتقد أنني مجنون!
الطبيب :
بل أعتقد أنك سليم، الكبد سليم، القلب سليم، الرئة سليمة، اهدأ الآن وارتد ملابسك.
المريض :
اهدأ، اهدأ، أليس عندك غير هذه الكلمة؟ هل جربت فقد عزيز أو حبيب؟ هل رأيت في حياتك إنسانا يحتضر؟ ابنتي ماتت يا دكتور، ماتت! (ينشج نشيجا مؤلما.)
الطبيب :
وهذا هو سبب الأزمة. أزمة طارئة ستزول، كل شيء سيعود أفضل مما كان.
المريض :
وتسميها أزمة؟ موت أحلام واتهامي بالقتل والجنون في رأيك أزمة؟
الطبيب :
قلت لك احترس في استعمال الألفاظ.
المريض :
الجنون أو القتل. ما الفرق بينهما؟ إنهما يطاردانني في كل مكان، أصابعهما تشير إلي حتى في المنام، تآمرا علي يا دكتور تآمرا علي، هل أنت معهم أم معي؟
الطبيب :
سنتناقش الآن، ستحكي كل شيء. وسنعرف الحقيقة.
المريض :
وهؤلاء؟
الممرضون (في صوت واحد) :
نحن مع الحق،
لسنا معك ولا ضدك.
نحن مع الحق.
المريض (يلتفت إليهم فزعا كأنه يكتشفهم فجأة. يرى أيديهم الممدودة بقطع ملابسه) :
سألتك من هؤلاء؟
الطبيب :
ما الذي يخيفك؟ إنهم يمدون أيديهم إليك. يريدون أن يساعدوك.
المريض :
يساعدونني أم يخنقونني؟ ابتعدوا أيها الجلادون!
الممرضون :
لسنا جلادين ولا نحن قضاة.
المريض :
هو الذي أرسلكم.
الممرضون :
لم يرسلنا أحد. من تقصد؟
المريض :
الذي يطاردني ويتآمر علي، هو ولا أحد سواه. محمد دربالة.
الممرضون :
محمد دربالة؟
المريض :
كلكم محمد دربالة. كلكم تتربصون بي. كلكم تمدون إلي حبل المشنقة.
الممرضون (ضاحكين) :
أتسمي السترة مشنقة.
نحن نمد إليك قميصك،
ياقة رقبتك، حزامك .
ساعدنا حتى نقف جوارك ونساعدك ونرعاك.
المريض (ثائرا) :
بل أنتم جلادون وقتلة. أبعدهم يا دكتور؟
الممرضون :
لسنا جلادين ولا قتلة.
نحن شهودك، ظلك، صوت ضميرك،
تابعناك طوال العمر، نظرنا في مرآتك،
فانفض تذكاراتك،
اجعلنا أهلك وصحابك،
ساعدنا كي نقرأ معك كتابك.
المريض :
اسألوه أن يساعدكم. اذهبوا إليه. اقرءوا كتبه. أنا لا أقرأ كتبا مثله ولا أؤلف كتبا.
الممرضون :
من هو محمد دربالة؟
نحن لا نعرف محمد دربالة،
الحقيقة هي ما نريد أن نعرف.
تهت في الظلام، نريد أن نضع مصباحا في طريقك.
اعوجت شجرة عمرك؛ دعنا نعالج جذورها.
لطخ الدنس ثوبك؛ دعنا نطهره.
مد يديك إلينا، وسوف نضعك على صدورنا.
الطبيب :
مد يديك إليهم، ساعدهم.
المريض :
مرهم أن يبتعدوا، أن يتخلوا عني.
الممرضون :
نحن تخلينا عنك سنين،
أحصيناها بلغت في العدد ثلاثين،
فصرت إلى ما صرت إليه.
المريض :
نفس كلامه. هذا هو نفس كلامه.
أبعدهم عني، أبعدهم عني (يبكي).
الطبيب (يتقدم إليه) :
ابتعدوا عنه. ما الذي تخشاه منهم؟
إنهم يعاونونني ويعاونونك،
مد ذراعك، نعم هكذا.
استرح، نحن نريد راحتك،
بعد أن ترتدي ملابسك سنتفاهم في هدوء،
ستحكي لنا عن الملعون محمد دربالة.
المريض (مستجيبا له كالطفل) :
ملعون وقاتل!
الطبيب :
وهو يتهمك ويظلمك.
المريض :
صدقتني أخيرا يا دكتور؟
الطبيب :
أنا أصدقك من البداية.
المريض :
ولكن لماذا يصدقني كل الناس ويكذبني؟ لماذا لا يرحمني؟ حتى الضحية غفرت لي.
الطبيب :
الضحية؟
المريض :
إنه يتصور أنني تسببت في سجنه، يتصور أنني أدخلته السجن وحكمت عليه بالأشغال الشاقة، الحمار لا يريد أن يفهم، لا يريد أن يفهم أنني فعلت كل شيء من أجلها.
الطبيب :
فهمت، من أجل ابنتك.
المريض :
وابنتي ماتت يا دكتور، ابنتي ماتت.
الطبيب :
أعرف، أعرف، سنرى الآن كل شيء.
المريض :
المهم أن يعرف هو، المهم أن يفتح عينيه ويرى، هل تعتقد أني مذنب يا دكتور؟ هل تعتقد أنني قتلتها؟
الطبيب :
بالطبع لا. استرح الآن. مدد ساقيك وأرخ ذراعيك. استرح وتنفس بهدوء، سنعرف كل شيء معا، سيخرج كل شيء إلى النور.
المريض :
النور ؛ هذا ما أريده أيضا كي يرى ويفتح عينيه.
الطبيب :
وستحكي لنا كل شيء، كل شيء.
المريض :
ما الفائدة إذا كان لا يصدق؟
الطبيب :
وربما اكتشفنا أنه غير موجود.
المريض (يحاول أن ينهض في غضب) :
هل صدقت كلام زوجتي؟ إنه موجود يا دكتور.
الطبيب :
إذن فهو موجود.
المريض :
كيف يكون غير موجود وهو يبكيني ليل نهار؟
الطبيب :
قلت لك هو موجود، المهم أن تستريح الآن.
المريض :
حذار أن ترجع لاتهامي بالجنون.
الطبيب (صارخا) :
قلت لك لا تنطق هذه الكلمة.
المريض (في خوف) :
خفت أن تتهمني بالجنون كما اتهمني بالقتل ... إنني بريء يا دكتور (ينظر للممرضين)
إنني بريء.
الممرضون :
نحن نصدقك تماما.
وسنعرف إن كنت بريئا،
أو إن كان هو الجاني.
المريض :
ساعدوني.
الممرضون :
سنساعدك جميعا.
مدد رجليك، استرخ قليلا.
وتنفس في عمق.
الطبيب :
أعمق ... أعمق.
الممرضون :
انفض أحزانك،
ساعد تذكاراتك كي تطفو فوق السطح؛
لنساعدك فيلتئم الجرح.
الطبيب :
هيا تذكر، ماذا حدث عندما عدت إلى بيتك؟
المريض :
وفي يدي اللعبة والدواء.
الطبيب :
تطفر فرحا وتغني.
الممرضون :
تضع المفتاح بثقب الباب.
وتنادي: يا أحلام.
المريض :
أحلام، أحلام. (يخفت الضوء. يرى على اليمين فراش طفلة صغيرة، يتقدم المريض نحوها وهو يثب فرحا. الزوجة والطبيب يجلسان صامتين أمام الجثمان.)
2
المريض :
كنت فرحا كما لم أفرح في حياتي.
الممرضون :
بالطبع؛ فالترقية بجيبك،
في قبضتك المجد،
وفيها جوهرة العمر.
كم عانيت طويلا حتى تصل،
وها أنت وصلت،
لكن وا أسفاه!
صعد السلم حتى طال النجم،
لكن سقط السلم في الطين المعتم.
وا أسفاه! وا أسفاه!
ماتت أحلام ومات الحلم.
المريض :
أحلام، يا أحلام، افتحي ذراعيك لأبيك، انهضي لنلعب معا، أحلام.
الزوجة :
تأخرت كالعادة، لن تستطيع أن تلعب معك.
المريض :
لماذا؟ هل نامت الليلة مبكرة؟
الزوجة :
نعم نامت.
المريض :
لا بد أن تصحو. سأزف إليك خبرا سارا يا أحلام. لن تفهمي كثيرا ولكنك ستضحكين وترقصين. حتى العروس التي طلبتها سترقص وتغني معنا.
انظري يا أحلام.
الزوجة :
لا تتعب نفسك.
المريض :
ماذا بكما؟ قومي لتري عروسك يا أحلام .
الزوجة :
ماذا حدث ؟ ماذا حدث؟
الممرضون :
خيم صمت الموت على الإنسان،
جثم على الخدين، على الشفتين،
على الأجفان.
وامتد الظل على الجدران.
الزوجة صامتة كالبوم،
والطب العاجز،
في وجه طبيبك مهموم.
وتمد يديك لكي تتحسس صدر ابنتك،
فلا تسمع نبض القلب،
ولا تلمس إلا الجثمان.
المريض :
صرخت وبكيت، نشجت واختنقت بالدموع، ضربت وجهي على سريرها حتى سال دمي، تكلمي. ماذا حدث؟
الزوجة :
تأخرت عليها بالدواء.
الطبيب :
ونفذ قضاء الله يا محمد، نفذ القضاء.
المريض :
لم أتأخر، الوزير هو الذي وصل متأخرا، أخبرتك أنني سأكون في استقباله.
الزوجة :
وطلبت منك أن تعجل بإحضار الدواء.
المريض :
ما ذنبي إذا كانت طائرة الوزير تأخرت؟ هل كنت أعلم أنها ستتعطل ساعتين؟ هل كنت في علم الغيب؟
الزوجة :
وابنتك؟ ألم تكن أولى بك؟
المريض :
وهل فعلت ما فعلت إلا من أجلها؟ هل سعيت لاستقبال الوزير إلا لأسعدها؟ أكان يرضيك أن تضيع مني الترقية؟
الزوجة :
أفضل من أن تضيع ابنتك.
المريض :
قومي يا أحلام. أبوك أصبح وكيل وزارة، تعب من أجلك حتى وصل. افتحي عينيك يا ابنتي. انظري إلي وكلميني.
الممرضون :
الزوجة صامتة صمت البوم،
والطب العاجز في وجه طبيبك مهموم.
عبثا تصرخ يا مسكين،
عبثا تصرخ يا مسكين.
المريض :
أحلام، أحلام، انتبهي يا ابنتي، تكلمي يا حبيبتي، نادي على أبيك.
الزوجة :
نادت عليك ساعتين.
المريض :
قلت لك لم أتأخر بإرادتي.
الزوجة :
ظلت تبكي وتقول: أريد بابا، أريد بابا.
الطبيب :
وأبوها ينتظر الترقية من الوزير.
المريض :
حصلت عليها من أجلها. تعبت وشقيت طول العمر لأسعدها. هل بنيت الفيلا واشتريت العربة إلا لها؟
الزوجة :
الفيلا والعربة؟ كانت تريدك أنت بجانبها.
المريض :
اسمعيني أنت يا أحلام. أمك لن تفهمني ولن يفهمني أحد سواك. قومي يا حبيبتي، تعالي وانظري عروسك الجميلة، أنت نائمة تحلمين، انهضي لتري الحلم الجديد، قومي، قومي!
الممرضون :
ناديت وناديت فهل سمعت صوتك؟
المريض :
سمعته وقامت، لم يرها أحد غيري.
الممرضون :
كيف يقوم الموتى؟
المريض :
وقفت كعروس تخرج من نبع صاف كالفجر. ما كادت تلمح لعبتها حتى التقطتها، ضمتها للصدر: عروسي، سآخذها معي (تتمثل الرؤيا أمامه في ضوء الحلم الوردي الأخضر، يتابعها بعينيه ولا يراها أحد غيره) .
المريض :
إلى أين يا ابنتي؟
أحلام :
ألا تراه هناك؟
المريض :
من يا حبيبتي؟
أحلام :
هناك، هناك.
المريض :
ونظرت حيث أشارت. كان يستند على حافة الشباك صامتا حزين العينين، ملاك أسود ضخم، بجناحين كالليل الأسود، يحدق فيها ولا يتكلم، تقدمت منه وقالت:
أحلام :
من أنت؟
هل أنت صديق؟
أم أنت عدو؟
المريض :
والملاك الأسود صامت لا يحول عينيه عنها.
أحلام :
لم لا تتكلم؟
جئت لتأخذني؟
المريض :
أطرق الملاك برأسه. لم يجب، شعرت أنه خجل أو نادم. لكنها مدت ذراعها نحوه وقالت:
أحلام :
ستكون رقيقا وحنونا،
لا تقس علي.
أدفئني تحت جناحيك،
دثرني،
خذني بين ذراعيك،
ولا تقس علي.
المريض :
مد الملاك يده إليها. وضع يدها في يده وسار صامتا كالنسر الكبير الذي يقبض على فراشة، جريت وراءهما باكيا: تعالي يا ابنتي، تعالي، إلى أين تذهبين؟ رفرفت طيور بيضاء بأجنحة بيضاء، انطلقت تغني:
الموت طفل صغير،
بوجه شيخ عبوس.
والموت باب كبير،
يفضي إلى الفردوس.
المريض :
هللت أحلام وأشارت إلي:
افرح يا أبي. موعدنا في الفردوس.
الله دعاني،
لبيت الدعوة،
والملك الحاني
يعبر بي الهوة.
جريت وراءها وأنا أبكي: لا تتركيني يا أحلام، لا تتركيني. التفتت إلي وصاحت: تعال يا أبي، تعال! أتعرفون ماذا فعل؟
الممرضون :
من؟ الملاك؟
المريض :
بل هو. محمد دربالة. انشقت عنه الأرض ووقف أمامي. سد علي الطريق كالجبل.
الممرضون :
وماذا قال؟
المريض :
صرخ كذئب جائع: الانتهازيون لا يدخلون الجنة.
الممرضون :
الانتهازيون لا يدخلون الجنة؟
المريض :
بكيت وصرخت وضربت الأرض بقدمي. حاولت أن ألكمه ولكنه كان كالصخر. ابتعد عن طريقي يا محمد، لماذا تطاردني يا محمد؟ دعني أذهب مع ابنتي. دعني أخرج من هذا العالم ما دمت لا أستطيع أن أعيش معك فيه.
الممرضون :
وهو الصامت كالجبل الأجرد، قاس كالصخر.
المريض :
أقسى منه امرأتي، أقسى منه طبيبي.
الممرضون :
ماذا فعلا؟
المريض :
راحا يناديان: تعال يا مجنون. ابنتك في فراشها. تعال لا تتعب نفسك. وابنتي تبكي وتشير إلي:
تعال، تعال،
العالم وحش،
فلنهرب منه.
والعالم نعش،
فلنخرج منه.
وأنا أنادي:
إنهم يمنعونني يا حبيبتي،
إنهم يظلمونني.
الممرضون :
من منهم ظلمك؟
المريض :
كلهم، كلهم ظلموني.
الممرضون :
الجنة لا يدخلها ...
المريض :
أترددون قوله؟ ألا يكفي ما قاله منذ أيام؟
الممرضون :
ومتى قابلته؟
المريض :
في اليوم التالي. يوم جاء الناس لتهنئتي وتعزيتي.
الممرضون :
ارو علينا ما حدث هناك. احك لنا ما قال.
الطبيب :
نعم هكذا، استرح ومدد ساقيك. أرخ ذراعيك.
الممرضون :
خذ نفسا أعمق،
وارو علينا ما قال،
الجنة لا يدخلها ...
لا، لا تغضب.
الأفضل أن نسمعها منك،
أو نسمعها منه،
ارو علينا ما قال. (يخفت الضوء على المريض الممدد على الأريكة، يسلط على الجانب الآخر من المسرح، تظهر حجرة مظلمة كالقبر، معفرة بتراب الملفات والسجلات. شخص يشبه المريض في مظهره وملبسه، يقف بجانب السلم المعدني ويقلب في ملف قديم.)
3
المريض :
لم أدر كيف وقفت أمام باب هذه الحجرة، ولا كيف فتحت الباب ودخلت.
الطبيب :
ألم تذهب أولا إلى الوزارة؟
المريض :
في اليوم التالي لدفن ابنتي، أفقت من الكابوس ورجعت لنفسي.
الممرضون (يتضاحكون) :
رجعت لنفسك؟
أم رجعت نفسك لك؟
المريض :
لا تسخروا بي. كان يوم تهنئتي بالترقية هو يوم تعزيتي. تزاحم السعاة والموظفون على بابي. سمعت ضجيجهم وراء الباب فتقززت من كل شيء.
الممرضون :
ولماذا تتقزز منهم؟ سيان،
أن يأتوا للتهنئة،
أو التعزية وتقديم القربان،
وصل النسر إلى القمة،
ما وجد سوى الديدان.
المريض :
وهذا ما ضاعف اشمئزازي. واربت الباب قليلا ونظرت. كانوا يقفون في طابور طويل وينتظرون. أيتها الكلاب الشامتة. لو مت وأنا في الدرجة الخامسة ما مشى في جنازتي كلب واحد، ناديت الساعي وصحت به: اطردهم جميعا، لا أريد أن أرى أحدا. (يظهر الساعي.)
الساعي :
مستحيل يا سعادة البيك.
المريض :
ولماذا؟ قل لهم الوكيل مشغول. قل لهم ليس موجودا.
الساعي :
إنهم يراقبون الأبواب من الصباح.
المريض :
قل لهم لا أريد أن أقابل أحدا.
الساعي :
هل ترفض تهنئتهم؟
المريض :
أم تعزيتهم ؟ قلت لك اصرفهم حالا.
الساعي :
لا أستطيع يا سعادة البيك.
المريض :
ولماذا لا تستطيع؟
الساعي :
مراقب شئون العاملين يحمل دفترا للتوقيع، كل واحد منهم سيوقع قبل أن يدخل لتهنئتك.
المريض :
هل أعد دفترا آخر للتعزية؟
الساعي :
لا أدري يا سعادة البيك.
المريض :
الصادر والوارد. سركي الابتسامات والدموع.
الساعي :
نعم يا سعادة البيك. والمراقب أعد قصيدة عصماء.
المريض :
قلت لك اصرفهم حالا. قل لهم لا أريد أن أرى أحدا.
الساعي :
سينتظرون حتى الليل. سيبيتون هنا إذا لزم الأمر، إنهم مصممون على تقديم الواجب.
المريض :
أم على إظهار الحسد؟
الساعي :
أستغفر الله يا بيك.
المريض :
قلت لك لا أريد أن أرى أحدا، لا أريد أن أراك أيضا، اذهب، اذهب، أغلق كل الأبواب.
الممرضون :
وغلقت الأبواب،
كم كافحت لتفتح هذي الأبواب،
ولتجلس في نفس الحجرة،
وترى الخدم مع الحجاب،
والزوار على الأعتاب،
وكأنك صنم فوق العرش،
مطاع الأمر مهاب!
ماذا حدث؟
انكسر الصنم،
انهار العرش،
وصرت وحيدا،
لا أتباع ولا أحباب.
المريض :
نعم. وجدت نفسي وحيدا، خفت أن أنظر في عيونهم فلا أرى إلا دموع الحسد ولا عزاء، أو ابتسامة الشماتة بلا حياء، خفت أن تنطق الدموع والابتسامات: لقد وصلت، وصلت.
الممرضون :
وصلت وصلت،
فما معنى الكلمة؟
كم تتردد بين الناس على كل لسان!
لكن ما غاية تعب الإنسان؟
هل يصل لغير تراب الأرض وللأكفان؟
يسعى البطل الظافر للمجد ويشقى قلب ويدان،
وعلى جبهته يضع الناس الإكليل،
وتحسده الأعين بل يحسده الثقلان.
لكن البطل الظافر بعد زمان،
يصبح مأدبة للديدان،
يصبح مأدبة للديدان.
المريض :
نعم. لقد حسدوني، كانوا دائما يحسدونني، ولهذا هربت من عيونهم.
الطبيب :
إلى أين؟
المريض :
تسللت من الحجرة دون أن يراني أحد، ساقت رجلي قوة مجهولة إليه.
الطبيب :
من تقصد؟
المريض :
محمد دربالة. لم أكن أتصور أنني سأراه هناك، جريت على السلم الخلفي حتى وجدتني في البدروم، أمام هذه الحجرة نفسها، كان الصمت يحيط بي والظلام. وكان الباب مواربا فدفعته ودخلت.
الطبيب :
لا شك أنه كان ينتظرك.
المريض :
لم أعرف هذا في البداية . كان يقف وسط الملفات المعفرة بالتراب كأنه ملف قديم. تقدمت منه وقلت: أنت هنا يا محمد؟ (يظهر محمد دربالة في الضوء الخافت وفي يده ملف وحوله ملفات.)
محمد دربالة :
أنا هنا من ثلاثين سنة، منذ عينا في قرار واحد.
المريض :
وكيف نعمل معا في وزارة واحدة ولا تسأل عني؟ هل نسيتني يا محمد؟
محمد :
لما نسيتني نسيتك.
المريض :
أنا لم أنسك أبدا يا محمد، أنت الإنسان الوحيد الذي بقي لي. لا تتخل عني.
محمد :
تخليت عنك لما تخليت عن نفسك.
المريض (باكيا) :
ابنتي ماتت أمس يا محمد، لا تتركني.
محمد :
لن أتركك بعد اليوم. لقد تركتك ثلاثين سنة فصرت إلى ما صرت إليه.
المريض :
وتقدم مني. ضمني إلى صدره وأخذ يربت على ظهري. شعرت بدموعه على خدي. شعرت أنه الإنسان الوحيد الذي يحزن لحزني. بعد قليل قال لي:
محمد :
يجب أن تتماسك. كنت رجلا فيما مضى.
المريض :
نعم فيما مضى، أما الآن فابنتي ماتت.
محمد :
أنت الذي قتلتها.
المريض :
ما زلت قاسيا كما كنت يا محمد. أنا لم أقصر معها في شيء.
محمد :
قصرت معها في أهم شيء.
المريض :
لا تظلمني يا محمد. لقد شقيت من أجلها ووصلت الليل بالنهار لأجلها.
محمد :
بل شقيت من أجل الوصول، وها أنت قد وصلت.
المريض :
وأنت الوحيد الذي لم تهنئني.
محمد :
أهنئك أم أعزيك؟
المريض :
أرجوك لا تعذبني يا محمد، هل فعلت ما فعلت إلا لها؟
محمد :
وانشغلت عنها طوال الوقت.
المريض :
ربما لم أعطها من نفسي إلا قليلا.
محمد :
لم تعطها شيئا على الإطلاق.
المريض :
أعطيتها لعبة جميلة.
محمد :
ليست أجمل من أبيها.
المريض :
أعطيتها فيلا وحديقة واسعة.
محمد :
الدنيا كلها ضيقة إذا خلت من أبيها.
المريض :
لما مرضت أحضرت لها أعظم الأطباء.
محمد :
الطبيب الوحيد الذي كانت تحتاج إليه كان ينتظر الوزير في المطار.
المريض :
ما ذنبي إذا كانت الطائرة تأخرت أربع ساعات عن موعدها؟ هل كنت أعلم أنها ستتعطل في روما؟
محمد :
كنت تعلم أن ابنتك في انتظار الدواء.
المريض :
أقسم لك أنني اشتريت لها العروس والدواء. قدرت أن الانتظار لن يطول أكثر من ساعة.
محمد :
كانت في انتظارك تنادي: بابا، أريد بابا. وكنت في انتظار الوزير لينعم عليك بالدرجة.
المريض :
هل كنت تريد ألا أنتظره فتطير مني الدرجة التي تعبت طول العمر لأصل إليها؟ هل كنت تريد أن يخطفوها مني؟ بعد أن نزل الوزير من الطائرة وهنأته بسلامة الوصول وهنأني بالترقية سارعت إلى البيت.
محمد :
ووصلت بعد أن ماتت أحلام.
المريض :
وهل أنا طبيب؟ هل اطلعت على الغيب؟ خالها الطبيب كان بجانبها.
محمد :
ولكنها كانت تريد أباها.
المريض :
حضرت ومعي الدواء والعروس.
محمد :
ومعك الدرجة.
المريض :
من أجلها، أقسم لك من أجلها. لماذا لا تريد أن تفهمني؟ لماذا تظلمني؟ (يبكي)
لا تتركني كما تركتني في الماضي.
محمد :
تركتك لما تركتني، لما تجاهلتني ولم تسمع صوتي.
المريض :
ومع ذلك لم ترحمني.
محمد :
لما عرفت أنك أصبحت جلادا.
المريض :
لا تؤلمني يا محمد. كان هذا من عشر سنوات.
محمد :
والضحية قضت في السجن عشر سنوات بسببك.
المريض :
أنا الآن الضحية يا محمد، أنت تعرف أنني لم أكن السبب.
محمد :
ومن الذي هيأ له الطريق للاختلاس؟ من الذي أغراه بالرشاوى وزيف الفواتير؟
المريض :
هو الذي دبر كل شيء، كان كل شيء بخطه، لم يجدوا كلمة واحدة بخطي، وعند التحقيق كانت صفحتي بيضاء. ألا تذكر يا محمد؟
محمد :
أذكر أنك أنت الذي بلغت عنه.
المريض :
بلغت عنه لأنه منحرف، واجب وطني، واجب إنساني. هل أسكت على مختلس ومنحرف؟ ما ذنبي إذا كان قد ضيع أموال الخزينة في الخمر والقمار؟
محمد :
ذنبك أنك أردت أن تصل إلى درجته.
المريض :
السيد الوكيل هنأني بنفسه، هنأني على نزاهتي وعينني مكانه.
محمد :
وصلت، ووصلت الضحية إلى الليمان.
المريض :
قلت لك أنا الآن الضحية يا محمد.
محمد :
مجرد تبادل في الأدوار، كل الجلادين يصبحون في النهاية ضحايا.
المريض :
ولكنه غفر لي يا محمد، الضحية غفرت وأنت لا تريد أن تغفر. لقد قابلته في الأسبوع الماضي .
محمد :
أين قابلته ؟
المريض :
في القهوة يا محمد، كان يجلس على القهوة.
محمد :
واحتقرك بالطبع.
المريض :
بل جرى ورائي ودعاني لفنجان قهوة. (يظهر صبري وكيل الوزارة السابق وهو يسحب المريض من يده ليجلس معه.)
صبري :
تعال يا محمد، تعال نشرب فنجان قهوة.
المريض :
تدعوني لفنجان قهوة بعد كل ما حدث.
صبري :
وماذا حدث يا أخي؟ كل شيء انتهى.
المريض :
ألا تكرهني يا صبري بيك؟ ألا تحقد علي؟
صبري :
السجن علمني ألا أكره، علمني ألا أحقد، ثم إنك لم تفعل شيئا.
المريض :
يتهمونني بأنني بلغت عنك.
صبري :
وافرض أنك فعلت. لقد أديت واجبك، ثم إنني أنا المسئول عن كل شيء، أنا الذي شربت وقامرت، أنا الذي أمرتك بتزوير الفواتير واختلست المبالغ الضخمة وبددتها في الليالي الحمراء.
المريض :
هل تصفح عني؟
صبري :
استغفر الله، هو الذي يصفح عنا جميعا، أنت شاب طموح تريد أن تصل.
محمد :
تريد أن تصل.
المريض :
انتظر يا محمد، إنه لم يكتف بالصفح عني، سألني أيضا عن ابنتي أحلام ودعا لها بالبركة، ثم دعا لي بالستر وقبلني.
محمد :
الضحية تقبل جلادها.
المريض :
افهمني يا محمد، افهمني وارحمني، أنا الآن الضحية، أنا الآن الضحية. (ينشج في ألم. ينهض محمد ويضع يده على رأسه.)
محمد :
انهض يا محمد.
المريض :
أتذكر اسمي؟
محمد :
وأذكر ماضينا.
المريض :
كانت أياما حلوة. كل شيء ضاع الآن.
محمد :
الطريق طويل، وما ضاع يسترد.
المريض :
ألا ترى الشعر الأبيض يغزو رأسي؟ ألا تراني وحيدا؟
محمد :
قلت لك لن أتخلى عنك، بعد ثلاثين سنة عدت إليك.
المريض :
ابق معي يا محمد، لم يبق لي أحد بعد أن ماتت ابنتي.
محمد :
ماتت لما مات ضميرك، لما ضاع صوته وسط أصوات السياط التي ألهبت ظهرك للوصول إلى القمة، وها أنت تتمرغ في الحضيض.
المريض :
ساعدني يا محمد.
محمد :
ستعود للحياة إذا عاد ضميرك.
المريض :
وابنتي؟ لقد مت يا محمد بموتها.
محمد :
ستعود هي أيضا للحياة.
المريض :
معقول يا محمد؟ هل أنت المجنون أم أنا؟
محمد :
ستعيش في قلبك يوم تنصت لقبك. انهض ، كن رجلا وانهض على قدميك.
المريض :
إلى أين يا محمد؟
محمد :
إلى بيتنا القديم، حجرتنا القديمة المظلمة في الحسين. يوم كنا شبانا نحلم ونغضب ونجوع.
المريض :
أما زلت تذكرها يا محمد؟
محمد :
وما زلت أسكن فيها مع أولادي وزوجتي.
المريض :
هل تدعوني إلى بيتك؟
محمد :
أنت لا تحتاج للدعوة.
المريض :
ولماذا لا تأتي معي؟ هل تخجل مني؟
محمد :
أنت تعرف العنوان. (ينصرف طيف موظف الأرشيف، ينهض المريض ويناديه.)
المريض :
محمد، محمد، لا تتركني وحدي، يا محمد دربالة. لا تتركني في الظلام والحضيض والوحل. أنت الوحيد الذي بقي لي، الكل يحتقرني فلا تحتقرني أنت، لا تتركني، لا تتركني!
الممرضون :
لا لن يتركك وحيدا.
لن يتخلى عنك،
فامض الآن لبيته.
وسنعرف منه ومنك،
إن كان الذنب عليه،
أو كان الذنب عليك. (ينطفئ الضوء، يسقط من جديد على المريض الذي يجلس على نفس الأريكة في حجرة مظلمة.)
4 (المريض ممدد على الأريكة في استرخاء، يمر بيده على جبهته بين الحين والحين، كأنه يحاول أن ينفذ من الضباب الذي يغشى بصره. الطبيب أمامه، والممرضون من حوله، وذكرياته تتمثل في مشهد الحجرة المظلمة التي يدور فيها الحوار بينه وبين محمد دربالة.)
الطبيب :
وبحثت عن العنوان.
المريض :
لم أكن في حاجة للبحث عنه، سرت في الحسين فإذا بأيام صباي وشبابي تبرز من كل ركن ومنعطف، تصافحني وتأخذ بيدي وتتأمل وجهي.
الممرضون :
ووجدت البيت المتداعي،
كعجوز فان منهار،
وهبطت السلم للقاع،
والليل يخيم في الدار،
كالأعمى يحلم بشعاع،
من فرح أو ضوء نهار،
وطرقت الباب.
المريض :
وصحت، يا محمد! كيف تتحمل كل هذا الظلام؟ وخرج محمد وفتح الباب، ضحك، وأمسك بذراعي وقال:
محمد :
وأتحمل كل شيء.
المريض :
كادت رقبتي تنكسر.
محمد :
هل نسيت ما كنت تقوله لي: أنت أستاذ في الصبر؟
المريض :
وأولادك يا أخي، ما ذنبهم؟
محمد :
تعلموا في المدرسة نفسها.
المريض :
ودخلت الحجرة، هي بعينها التي كنا نسكنها معا أيام شبابنا، الظلام بعينه، الفقر نفسه، والمصباح الزيتي الذي يرتعش ضوءه على الحائط القديم ، والحصيرة المتهرئة على البلاط الأجرب، صحت: هي نفس الحجرة يا محمد!
محمد :
والساكن هو نفسه.
المريض :
الدنيا كلها تحركت يا محمد، وأنت واقف في مكانك، الناس كلهم صعدوا إلى النور.
محمد :
وأنا في بير السلم!
المريض :
ثلاثون سنة في نفس الحجرة، في الظلام والبؤس والمرض.
محمد :
الحمد لله، أنا راض على كل حال.
المريض :
إذا كنت ترضى بهذا لنفسك، فكيف ترضاه لزوجتك وأولادك؟
محمد :
نحن مستورون والحمد لله، زوجتي قانعة وأولادي سعداء.
المريض :
سعداء، في هذا الجب المعتم؟ لماذا لم تتصل بي وأنت تعمل معي في نفس الوزارة؟
محمد :
ولماذا أتصل بك؟
المريض :
أدلك على شقة أخرى، أساعدك يا أخي، هل نسيت أننا إخوة؟
محمد :
لست أنا الذي نسي.
المريض :
أنا مثلا أسكن في فيلا على النيل، حديقتها باتساع أربعمائة متر، يمضي الزمن ولا تسأل عني، لا تزورني.
محمد :
ولماذا أزورك؟
المريض :
كنت أنتظر زيارتك.
محمد :
لما نسيتني نسيتك.
المريض :
أنت جاحد يا محمد، وحسود أيضا، هل تنكر أنك تحسدني؟
محمد :
ولماذا أحسدك؟
المريض :
لأنني وصلت، هذا هو السبب. هل تدرون ماذا فعل؟ ظل يضحك ويضحك، غاظني ضحكه، نفس الضحكات التي كانت تجلجل أيام كنا في الجامعة، في نفس الحجرة، أتعلمون ماذا قال بعدها؟
الممرضون :
ماذا قال؟
محمد :
أحسدك؟ إنني أشفق عليك وأرثي لك. تصوروا، هذا اللئيم الحسود يشفق علي، هذا الموظف درجة خامسة يرثي لي!
الممرضون :
حقا أنت تحركت،
الويل لمن لا يتحرك.
وبلغت الذروة،
والويل الويل لمن يسقط.
وجلست على عرش القوة،
وصديقك باق في الهوة.
لكني أرجع لسؤالي:
أوصلت؟ فما معنى الكلمة؟
ما الغاية منها؟ ما الحكمة؟
المريض :
غاظني ضحكه فقلت له: أهكذا تستقبلني في بيتك يا محمد؟ أما زلت تحتقرني؟
محمد :
لم أحتقرك أبدا.
المريض :
الشفقة نوع من الاحتقار.
محمد :
ربما كنت أنت الذي تحتقرني وترثي لي.
المريض :
نعم، أرثي لك.
محمد :
لأنني ما زلت فقيرا؟ لأنني أسكن في نفس الحجرة في البدروم، وأعمل في نفس الأرشيف في البدروم؟
المريض :
لأنك تظلم أولادك معك، تسكت على نفسك ولا تلجأ إلي.
محمد :
ولماذا ألجأ إليك؟ كنت أراقبك فتزداد سعادتي بما أنا فيه. إنني أقرأ وأكتب، أرسم وأسمع الموسيقى، أربي أولادي بشرف، وأنتظر الدرجة في شرف، ماذا أريد من دنياي أكثر من هذا؟
المريض :
ونسيت طموحك القديم؟ نسيت طموحك النبيل؟
محمد :
لم أنس شيئا ... فعلت ما استطعت.
المريض :
وأحلامك بمستقبل البشرية؟ وتمردك وغضبك واستعدادك أن تشنق في سبيل الإنسان؟
محمد :
عندما يطلبني الإنسان، سيجدني مستعدا لأن أشنق في سبيله.
المريض :
وكتبك التي تؤلفها وتسهر فيها؟
محمد :
ها هي أمامك.
المريض :
ولكنها مخطوطات، كل هذه المخطوطات ولم تفكر في نشرها؟
محمد :
عندما أحس أن الناس في حاجة إليها سأنشرها، أو ينشرها من يحتاجون إليها بعد موتي.
المريض :
وأحلامك؟ أين ذهبت أحلامك؟
محمد :
تقصد أحلامنا؟
المريض :
أنا حققت أحلامي.
محمد :
نمت نوما سيئا، فرأيت أحلاما سيئة.
المريض :
أتعود لاتهامي والحقد علي؟ ألا يكفيك أنها ماتت؟
محمد :
ولهذا لا أحقد عليك ولا أتهمك.
المريض :
ولكنك تحتقرني وترثي لي.
محمد :
ولا هذا أيضا، إنما أذكرك.
المريض :
بأيام الفقر والجوع؟
محمد :
وأيام الحب والغضب والثورة على الفقر والجوع. تعال تعال، تذكر نفسك الأخرى التي لم تحلم بالوصول. لم تفكر في الفيلا والمرسيدس والدرجة والكرسي.
المريض :
آه يا محمد! ما زلت قاسيا كما كنت.
محمد :
لم أقس عليك أبدا. كانت لنا قيم قدسناها وأردنا لها أن تعيش، تعاهدنا على الثورة في سبيلها والموت في سبيلها، وعندما كنت أراك تنحرف عنها كنت أقسو عليك.
المريض :
أذكر كيف شتمتني ولعنت أجدادي بسبب تلك المرأة البيضاء السمينة.
محمد :
لأنني أردت ألا تمرغ حبك في الوحل.
المريض :
نعم نعم، حبي لزينب.
محمد :
كنت أعرف أن حبك الطاهر لها هو الذي سينقذك، وحكمت عليك بأن تمشي على قدميك من الدراسة إلى العباسية وتحج إلى بيتها.
المريض :
وطفت حوله سبع مرات.
محمد :
وكفرت عن علاقتك بالحشاشة التي أغرتك بأن تتزوجها وتعمل معها.
المريض :
لا تقس عليها يا محمد، كانت طيبة القلب. أرادت أن تتزوجني على سنة الله ورسوله. أتذكر يوم قالت لي: اترك الملعونة التي يسمونها الشيوعية وتعال اعمل معي، ستأكل ذهبا؟
محمد :
وفضلت أن تجوع على أن تأكل ذهبا.
المريض :
وجعت وتمردت في سبيل الحب.
محمد :
وفي سبيل زينب.
المريض :
زينب؟ نعم نعم. كانت جميلة كفينوس، شفافة كالملائكة في الفردوس، ولكن ما الفائدة؟ لقد تزوجت بأخرى.
محمد :
تزوجتها هي نفسها.
المريض :
لا لا، لا تدنس ذكرى زينب القديمة. زوجتي الآن لا تفهمني، هي مثلك لا ترحمني.
محمد :
لأنك لم تشعر بوجودها، ولم تشعر بوجود ابنتك.
المريض :
تصور أنها تتهمني بقتلها! لا يمكن أن تكون هي زينب.
محمد :
هي الحبيبة التي عبدتها وطفت حول بيتها.
المريض :
تقدمت منه وحدقت في عينيه، صممت أن تنزل عليه الحقيقة كالصاعقة. قلت له: لقد أحبتك أنت يا محمد! سألني وكأنه لا يعرف: أحبتني أنا؟
المريض :
وهجرتني بسببك.
محمد :
ومتى كان هذا؟
المريض :
من عشر سنين، لا لا، ربما من عشرين.
محمد :
ألم تسأل نفسك عن السبب؟
المريض :
قلت لك أنت السبب. بدأت ألاحظ أنها لا تكف عن ترديد اسمك. كلما عدت في آخر الليل مهدودا من التعب تقول: ليتني تزوجت محمدا. وأقول لها: ألا تخجلين من ذكر اسمه أمامي؟ فترد علي: بل أنت الذي تخجل منه. تثور عندما يذكرك أحد بشبابه وأحلامه وحبه القديم. حتى بعد أن بنيت لها الفيلا على شاطئ النيل واشتريت لها العربة ظلت تحلم بالحياة معك. وبعد أن أنجبنا «أحلام» لم تتورع عن الكلام عنك وإلقاء سمومها في وجهي: لو كنت محمد دربالة لاهتممت بها ورعيتها. وأصرخ في وجهها: لمن أتعب وأشقى إلا لها ولك؟ لمن بنيت الفيلا؟ فتواصل كالنمرة المفترسة: كنت سعيدة معه في حجرته المظلمة. وأصيح من جديد: في ذلك القبر؟ فتثبت عينيها في: كانت الحياة فيها جنة. كنا سعداء ومستورين. وتركتني يا محمد بعد أن ماتت أحلام.
محمد :
إلى أين تركتك؟
المريض :
ثرت عليه ومددت يدي أريد أن أصفعه. صحت في ثورة عارمة: تسألني إلى أين؟ هجرتني وجاءت إليك، فضلت أن تعيش معك في هذا القبر. أجاب وهو يبتسم في سخرية.
محمد :
ألم تقل إنه جنة؟
المريض :
هي التي قالت هذا. هي التي فضلت الحياة في جنتك الرطبة المظلمة على الحياة في الفيلا. هي التي هجرتني وجاءت إلى هذا القبر. لمعت ابتسامته على فمه كأنها عين ثعبان لئيم.
محمد :
ليس قبرا يا محمد ما دام الحب والشرف يسكنان فيه.
المريض :
صحت غاضبا القبر قبر ولا يمكن أن يكون جنة. ابتسم ولمعت السخرية على فمه كالسم: بل هو الجنة يا محمد. ما دامت السعادة ترفرف عليه.
رفعت صوتي وناديت: يا زينب! هل أنت سعيدة معه يا زينب؟ هل أنت سعيدة في هذا القبر؟ قال في هدوء: لا ترفع صوتك هكذا. لن ترد عليك.
صحت: لماذا لا ترد علي؟
قال وابتسامة السخرية تتسع كبركة ماء آسن: لأنها تخجل أن تراني معك. نزل علي قوله كالصاعقة: تخجل أن تراني معك؟ وأولادك؟
عاد يبتسم في هدوء : يخجلون أن يروك معي.
المريض :
إلى هذا الحد يا محمد؟ تخجلون مني أنا؟ تطردونني من جنتكم؟
محمد :
الانتهازيون لا يدخلون الجنة.
المريض :
بكيت وسقطت على قدمي. لا تكن قاسيا يا محمد. حتى إبليس يعفو الله عنه وأنت لا تعفو.
محمد :
الانتهازيون لا يدخلون الجنة.
المريض :
تطردني وتخجل مني؟ تطردني وتخجل مني؟
محمد :
اذهب يا محمد دربالة، اذهب وطهر ثوبك، اذهب، اذهب، اذهب.
5
الطبيب :
وماذا بعد؟
المريض :
وجدتني وحيدا في الشارع، غريبا في الحي الذي احتضن أيام شبابي، مطرودا من الحجرة التي جعت فيها وتمردت وأحببت.
الطبيب :
تقصد من الجنة؟
المريض :
نعم نعم، تلك المغارة الرطبة بدت لي كأنها الجنة، ولكن رضوان وقف على بابها كالجلاد القاسي.
الطبيب :
رضوان؟
المريض :
أقصد محمد دربالة، هذا الموظف الحقير درجة خامسة، هذا الفقير الفظ يطرد وكيل الوزارة. والذي أغاظني أكثر ...
الطبيب :
ماذا؟
المريض :
أن أولاده وزوجته رفضوا أن يسلموا علي، أن زينب خجلت من أن تراه معي!
الطبيب :
زينب الجميلة كفينوس، الشفافة كالملائكة في الفردوس؟
المريض :
نعم هي، لقد تركتني وتزوجته.
الطبيب :
هل كنت نسيت هذا؟ هل تذكرته فجأة ؟
المريض :
بل كنت أعرفه؛ ولهذا تناسيته متعمدا. قررت بيني وبين نفسي أنهما قد ماتا إلى الأبد. صممت أن أتركهما في الوحل وأصعد بجهدي وعرقي إلى النجوم. اندفعت في طريق المجد وتركتهما ورائي في الغبار والضباب. كنت أريد أن أحطم صنم غرورهما.
الطبيب :
وغاظك أنه لم يتحطم.
المريض :
هذان التعيسان، بقيا على غرورهما الكاذب، فضلا الحياة في الوحل والظلام وتصورا أنهما في الجنة.
الطبيب :
وزرته بعد ثلاثين سنة فطردك منها.
المريض :
الحسود الحقير، ظل يلاحقني كالكلب المسعور بشتائمه.
الطبيب :
ووجدت نفسك تقف وحيدا في الخلاء.
المريض :
آه! إنك لا تدري ماذا جرى لي في هذه الليلة.
الممرضون :
طرد الشيطان من الجنة.
يا للكارثة ويا للمحنة!
المريض :
أنا الشيطان أم هو؟ حتى الشيطان يمكنه أيضا أن يبكي.
الطبيب :
كنت حزينا؟
المريض :
الحزن لا يكفي، سمها الزلزلة أو الصاعقة. أحسست كأني أتعرى في الشارع.
الممرضون :
من ثوبك المستورد البديع،
من عرشك المنمق الرفيع.
الطبيب :
أرجوكم.
المريض :
لو كنتم معي لوقفتم بجانبي في تلك الليلة.
الطبيب :
أكمل، كنت وحيدا.
المريض :
عاريا من كل شيء؛ المنصب سقط مني، الفيلا تداعت وأصبحت حطاما. أنوار المجد انطفأت، والمرسيدس بدت كعربة كارو يسوقها حصان عجوز أجرب. وملت على جدار جامع الحسين وأخذت أبكي وأنادي ابنتي.
الطبيب :
تناديها؟ ألم تكن تعرف أنها ماتت؟
المريض :
لا لا، كان العالم كله قد مات، إلا ابنتي، هي الوحيدة التي استجابت لندائي؛ هي الوحيدة التي هرعت إلي ... تقدمت نحوي في ثوبها الأبيض المرصع بالذهب وهي تقول: أبي، تعال يا أبي (يبكي) .
الطبيب :
لا تبك، أرجوك تماسك ولا تبك.
الممرضون :
ها أنت وحيد ضائع،
مع فيلتك وعربتك وزيف المجد الخادع،
ترقص مذبوحا وسط الشارع،
كمهرج سيرك يقف على جثمان ابنته،
يندب بالصوت الدامع.
نهاز الفرص البارع،
ذئب مسعور جائع،
اختلط الأمر عليه،
فحسب الطمع طموحا،
والجشع كفاحا،
وتسلل كالثعبان إلى العش الهاجع،
وجد الرزق متاحا؛
قطعا من لحم الفقراء،
ومزقا من ثوب الفقراء،
وبقايا عفن سماه نجاحا.
نهاز الفرص البارع،
ذئب مسعور جائع.
ها أنت وحيد ضائع ،
ها أنت وحيد ضائع.
الطبيب :
بكيت كثيرا.
المريض :
ككلب مريض يستند إلى جدار وينتظر الموت.
الطبيب :
الدموع جسر ينقلك إلى بر الشفاء.
المريض :
حذار أن تعود لاتهامي بالجنون!
الطبيب :
إنني طبيب.
المريض :
هم الذين أوحوا إليك بهذا، هم الذين تآمروا علي. إنني وحيد يا دكتور.
الطبيب :
لست وحيدا. إنهما معنا الآن.
المريض :
من؟ الذين تآمروا علي؟
الطبيب :
لم يتآمر أحد عليك.
المريض :
بالطبع يا دكتور، محمد دربالة يتهمني بقتل ابنتي.
الطبيب :
أنت محمد دربالة.
الممرضون :
أنت محمد دربالة.
المريض :
إنه يتهمني بقتل ابنتي.
الممرضون :
لم يقتلها غيرك.
المريض :
أنا أقتل ابنتي؟ كيف تصدقونه؟ إنه يحسدني ويحقد علي.
الممرضون :
لم يحسده ولا حقد عليه سواك.
المريض :
أنا أحسد هذا الحقير؟ موظف الدرجة الخامسة؟ الجثة المتعفنة كالضفدعة الغبية.
ثلاثون سنة في الأرشيف؟
الممرضون :
أنت محمد دربالة،
أنت الجثة والضفدع،
كنت ربيب الأرشيف،
وكنت الوحل، المستنقع.
المريض :
وخرجت منه بعزيمتي. بهمتي طفوت على السطح، صعدت القمة وتركت محمد دربالة في السفح.
الممرضون :
أنت محمد دربالة،
ومحمد دربالة هو أنت.
المريض :
مستحيل، مستحيل، قل لهم أيها الطبيب.
الممرضون :
وطبيبك يعرفك الآن،
ويعرف من أنت من كنت،
يعلم أنك حين سرقت السلم وتسلقت،
وتوهمت بأنك فوق القمم جلست،
وبأنك للمجد وصلت،
قد خنت محمد دربالة.
المريض :
أنا لم أخن أحدا.
الممرضون :
نفسك خنت،
نفسك خنت.
المريض :
ساعدني يا دكتور، مساعدوك تخلوا عني.
الممرضون :
أنت الآن وحيد ضائع،
أنت الآن وحيد ضائع.
الطبيب :
لا ليس وحيدا، ها هي زينب.
المريض :
زينب ماتت، ماتت عندما تركتني وتزوجت محمد دربالة.
الممرضون :
الصمت الصمت،
يموت الموت،
وحبك لا يعرف طعم الموت.
المريض :
زينب ماتت.
زينب (تظهر بجوار الطبيب) :
لم أمت يا محمد، أنا زوجتك.
المريض :
أنت زينب أخرى، قتلتني واتهمتني بالقتل والجنون.
زينب :
أنا حبيبتك.
الممرضون :
جميلة كأنها فينوس، شفافة كأنها الملاك في الفردوس.
المريض :
لا لا، قلت لكم لقد تركتني وتزوجت محمد دربالة.
الممرضون :
أنت محمد دربالة،
زينب لم تتركك،
وها هي تقف أمامك.
تدعوك : تعال، تعال.
المريض :
محمد دربالة هناك، في حجرته المظلمة في الحسين.
زينب :
ليتنا بقينا فيها، هل تذكر أيامنا الأولى؟ كنا مستورين كأنا في الجنة.
المريض :
سمعتم؟ وأنا أخرجتها من جنتها لتحيا في جحيم الفيلا على شاطئ النيل؛ ولهذا تركتني وذهبت إليه.
زينب :
لم أتركك ولم أذهب إليه.
المريض :
وتنكرين؟ ذهبت إليه وخلفت منه عشرة أولاد وخمس بنات.
زينب :
لم نخلف إلا بنتا واحدة يا محمد، وابنتنا (تبكي) .
المريض :
قوليها، أنا الذي قتلتها؟
زينب :
تأخرت عليها بالدواء.
المريض :
نفس القصة، ماتت وهي تنادي: بابا، تعال يا بابا.
زينب :
طالما نادت عليك، طالما اشتاق صدرها لحنانك، وعندما اشتدت عليها الحمى ...
المريض :
وهل أنا طبيب؟ هل كنت في علم الغيب؟ ألم أفعل كل شيء من أجلها؟ هل تعبت إلا لإسعادها؟
زينب :
وسعادتها بك، هل فكرت فيها؟
المريض :
والمبلغ المحترم في البنك بعد وفاتي؟ والمركز والمنصب والسمعة؟ ألم تكن لإسعادها؟
زينب :
لا تساوي قبلة على وجهها، بسمة على فمها، ومرور يديك على شعرها ورأسها قبل أن تنام.
المريض :
أحلام نساء، تريد أن أتركها للكلاب تنهشها، للمستقبل المجهول يفترسها، تريد أن أجلس في البيت لأداعبها.
زينب :
كنت دائما مشغولا عنا، هل رأيتني لحظة واحدة؟ هل لاحظت المرأة التي في نفسي وجسدي؟ هل نظرت في المرآة لترى الشخص الآخر الذي يأكل وينام معي.
المريض :
لهذا تخليت عنه؟
زينب :
نعم، ذهبت لمحمد دربالة الذي أحببته وأحبني عندما كنا في حجرتنا المظلمة في الحسين، لموظف الأرشيف الذي عشت معه تحت سقف الستر والشرف.
المريض :
سمعتم؟ تعترف بخيانتها، بعظمة لسانها تقول إنها تركتني.
زينب :
بعد أن تركتنا أنا وابنتي ورحت تلهث وراء الدرجة والفيلا والمرسيدس.
المريض :
نفس كلام محمد دربالة.
زينب :
أرأيت؟ أنت تتهم نفسك بنفسك. محمد دربالة خان محمد دربالة. كل شيء تغير فيك، نظرة عينيك وحركة شفتيك، وجهك تغير من كثرة الخطوط التي حفرها عليه التعب والخوف، والقلق والأرق، حتى جسدك لم أعد أعرفه من كثرة الانحناء والركوع.
المريض :
ولماذا لا تقولين من شدة الجهد والتعب. قضى علي المجتمع بالسقوط في الحضيض. لكنني تحديته وارتفعت بكفاحي إلى السماء، أصبحت غولا لكي أحميكما من الغيلان.
الممرضون :
حجة كل الأبطال بهذا العصر وكل الفرسان؛
ولهذا صار المجتمع بفضلك،
أنت وأمثالك غابة غيلان.
زينب :
ولهذا لم تنشغل عنا وحدنا، حتى أمك.
المريض :
أمي؟
زينب :
نعم أمك، كانت في القرية تحتضر وأنت مشغول عنها.
المريض :
أرسلت إليها كل شهر ما يكفيها، كلفت أحسن الأطباء بعلاجها.
زينب :
وماتت وهي تنادي باسمك.
المريض :
هل قصرت أبدا في حقها؟ هل بخلت عليها بشيء؟
زينب :
قصرت في أهم شيء، في نفسك.
المريض :
عملت لها مأتما لم تشهده البلد كلها، أحضرت لها أعظم المقرئين.
زينب :
كانت تريد ابنها ولا تريد ماله. ماتت وهي تردد اسمك. كما ماتت أحلام، كما ماتت أحلام (تبكي) .
المريض :
نفس كلام محمد دربالة.
الممرضون :
أنت محمد دربالة.
المريض :
لقد تآمر مع زوجته علي.
الممرضون :
زوجته هي زوجتك حبيبة عمرك.
المريض :
لا لا، إنهما يتآمران علي، كلكم تتآمرون علي. إنني وحيد، وحيد.
الطبيب :
ابك فإن دموعك هي جسر شفائك.
المريض :
وأنتم أيضا؟ ألم يبق لي أحد؟
الطبيب :
يبقى أن تعرف نفسك.
الممرضون :
تعرف سر دوائك،
أنت محمد دربالة،
فاعلم أن رداء الشرف،
على كتفيه نفس ردائك.
زينب هي زوجتك، حبيبة عمرك،
قبلة أملك ورجائك.
المريض :
زينب تركتني، تركتني.
الطبيب والممرضون :
تركت كلب السلطة والسلطان لترجع للإنسان.
وتخلت عن جنتك الزائفة؛
لتسقط في نيران الأحزان.
المريض :
أنتم ضدي، هذا حكم بالإعدام.
الطبيب والممرضون :
لسنا بقضاتك، نحن شهود عيان.
لا شأن لنا بالحكم ولا بالأحكام.
المريض :
الكل تخلى عني. لم تبق سوى أحلام.
الطبيب والممرضون :
أحلام، في القبر الآن.
المريض :
بل في الجنة، يا أحلام، يا أحلام.
الطبيب والممرضون :
ارجع يا مسكين.
الزوجة :
ارجع لحبيبة عمرك.
المريض :
عودي أنت إليه.
الزوجة :
قلبي هو نفس القلب،
وفي لك وأمين،
تعال، تعال.
المريض :
هي تدعوني.
الزوجة :
ردوه، ردوا العقل إليه.
مدوا جسرا ليسير عليه.
لا تدعوه يسقط منكم في جوف الموج.
هل قضي علي بموت الابنة وجنون الزوج؟ ...
المريض :
أحلام تنادي.
الطبيب والممرضون :
ارجع يا مسكين.
ارجع يا مسكين.
المريض :
أحلام، أحلام.
6 (تظهر الرؤيا التي عرفناها في المشهد الثاني. النور الأخضر الشاحب يغمر المكان، الملاك الأسود الصامت يسحب «أحلام» من يدها، والممرضون في ثياب بيض وأجنحة ملائكة يزفونها، إلى اليمين باب الجنة، تحيط به جوقة ملائكة في صورة أطفال مجنحين مكللين بالزهور، أما في عمق المسرح فيبدو الطبيب والزوجة كأنهما شبحان في الظلام.)
المريض :
إلى أين تذهبين يا أحلام؟
أحلام :
الله دعاني،
لبيت الدعوة.
والملك الحاني،
يعبر بي الهوة.
المريض :
انتظريني يا حبيبتي.
الممرضون :
انتظرتك طويلا وتأخرت
راحت تحتضر وفات الوقت.
المريض :
تأخرت يا حبيبتي، لم يكن الأمر في يدي.
الممرضون :
نادت باسمك حتى اختنق الصوت،
نادت فأجاب الموت،
ورد الصمت.
المريض :
وأحضرت الدواء معي.
الممرضون :
لكن بعد فوات الوقت، بعد فوات الوقت.
المريض :
والعروس يا حبيبتي، العروس الجميلة لم أنسها.
أحلام :
ها هي يا أبي، تعال العب معي.
المريض :
مدي ذراعيك يا حبيبتي.
أحلام :
تعال يا أبي.
المريض :
خذي بيدي.
أحلام :
ساعده أيها الملاك. (الملاك الأسود ينظر إليه في صمت.)
الممرضون :
مثلك لا يدخل من باب الجنة.
طهر ثوبك، طهر قلبك؛
فلعلك تجتاز المحنة.
المريض :
أرجوكم، دعوها تساعدني.
الممرضون :
لا تستطيع، لا تستطيع.
المريض :
إنني أتألم يا حبيبتي.
أحلام :
أيا حبيب روحي،
فراشتي تطير،
للنار أو للنور،
في صدرك الجريح.
المريض :
ساعديني يا حبيبتي.
أحلام :
لا تبك يا أبي،
فإنني فداك.
غدا سنلتقي،
موعدنا هناك.
المريض :
الجرح عميق يا ابنتي.
أحلام :
ستسكت الجراح،
وينطفي الحريق.
وزهرة الصباح،
تضيء لي الطريق.
المريض :
طريقي مظلم يا حبيبتي.
أحلام :
ودموعي ستضيء طريقك.
المريض :
ذنبي أكبر من أن يغفر.
أحلام :
غفراني أكبر من ذنبك.
المريض :
إن أنت عفوت فهل يعفون؟
أحلام :
باب الجنة أوسع مما يدرون.
المريض :
باب الجنة؟
الممرضون :
لا يتسع لمثلك يا ملعون.
المريض :
سمعت؟
أحلام :
وشل الخوف جناني،
شل عيوني،
لم تقسون عليه،
وتسدون الباب،
وتتجنون؟
يا أبت، كفكف دمعك.
الممرضون :
طهر ثوبك يا مسكين،
واغسل بدموعك رجس سنين،
لن نغفر ذنبك نحن،
فهل تغفره أرض الوادي؟
هل يغفره ماء النيل، العشب، الطين؟
بنيت الفيلا،
هل فكرت بمن يسكن وسط الأموات؟
نهبت الفرص، تسلقت على الأعناق،
وفي رأسك أحلام المجد،
وفي جيبك دفتر شيكات،
ونسيت ألوف المحرومين من الأقوات،
ألوف حفاة وعراة،
إلا من حظ الأموات.
عشت لنفسك والنفس،
إذا لم تحي لغيرك، قبر وجحيم.
وظننت بأنك ترتفع من الوحل إلى أعتاب الأنجم،
لم تدر بأنك في الوحل مقيم.
طهر قلبك يا مسكين،
واغسل ثوبك بدموع العين،
لعلك تغسل رجس سنين.
أحلام :
يا أبتي طهر ثوبك.
الممرضون :
كفر ذنبك.
أحلام :
والله غفور يا أبت، حنون.
الممرضون :
سنسوق ابنتك إلى الجنة.
أحلام :
وغدا ألقاك.
ويهنأ قلب محزون.
الممرضون :
لن يدخلها نهاز الفرص لعين،
لن يدخلها غير شريف ونزيه وأمين.
أحلام :
يا أبت وداعا،
ها أنا ذا أسبقك إليها.
المريض :
هذا يكفيني.
الممرضون (يلتفون حول الصبية ويغنون) :
تقدمي يا صغيرة،
كنجمة أو أميرة،
على جناحي ملاك،
تزفك الأفلاك.
أحلام :
يا أبت، وداعا،
لا تتأخر.
لن أقبل عذرا.
المريض :
لن أتأخر،
لن يشغلني شيء عنك.
أحلام :
يا أبت، سلاما.
المريض :
لا تنسيني
لا تنسيني. (الممرضون والجوقة من الأطفال الملائكة يحيطون بها. تتقدمهم إلى الباب الذي يفتح للموكب الجميل بينما تغني):
أحلام :
الله دعاني
لبيت الدعوة
والملك الحاني
يعبر بي الهوة.
الجميع :
ستدخلين الحديقة
تحفك الأنغام
وتعرفين الحقيقة
وتقرئين السلام
على الزهور الرقيقة
والفجر والأنسام
أحلام :
يا أبت، وداعا،
لا تنس الموعد.
المريض :
لا، لن أتأخر،
فامضي بسلام،
هذا يكفيني.
الممرضون (يلتفتون إليه قبل أن يغيبوا وراء الباب) :
طهر ثوبك،
كفر ذنبك،
رد الدين،
واغسل قلبك
يا مسكين بدمع العين.
أحلام (هي تختفي وراء الباب) :
يا أبت، وداعا.
المريض (وهو ينشج) :
سأطهر ثوبي،
وسأغسل قلبي،
فامضي بسلام،
فامضي بسلام،
هذا يكفيني.
أحلام :
يا أبت، وداعا.
المريض :
لا، لا تنسيني،
لا، لا تنسيني.
الموكب :
تقدمي يا صغيرة،
كنجمة أو أميرة،
على جناحي ملاك،
تزفك الأفلاك. (بينما تتردد أنغام الأغنية الأخيرة يتقدم الطبيب والزوجة إلى النور ، ينحنيان على المريض ويمدان إليه أيديهما. ينهض في هدوء ويسلم إليهما يديه ويمضي الجميع ليختفوا في قاع المسرح وتسدل الستار.)
الموت والمدينة
مسرحية في مشهدين
الشخصيات
الراوية.
الشبح.
الملك.
الكاهن.
القائد.
الوزير.
الكاتب.
الحكيم.
المتعب من الحياة.
رسول من ملك الهكسوس.
حراس، أفراد من الشعب، أصوات.
تقوم هذه المسرحية على قصة مصرية قديمة هي قصة «الشبح»، وتروى عن ملك عجوز تطارده وتؤرق نومه روح ميت تهدم قبره، ولا تهدأ حتى يأمر الملك ببناء قبر جديد له (انظر كتاب روايات وقصص مصرية، ترجمها إلى الفرنسية جوستاف لوفيفر وإلى العربية المحروم الدكتور علي حافظ). أما قصة ملك الهكسوس المتبجح - الذي تزعجه أصوات أفراس البحر في طيبة، بينما هو في شرق الدلتا! - فهي أشهر من أن تذكر، وأما الأشعار المنبثة في المسرحية، فقد استوحيت بعضها من «نذر ايب أور»، وبعضها الآخر من حديث متعب من الحياة مع نفسه - في ترجمتي أرمان وفوكنر - وكلاهما من أروع نصوص الأدب المصري القديم، وكنت قد قرأت نص حديث المتعب في أصله الهيروغليفي قبل أكثر من عشرين عاما. كتبت المسرحية بعد نكسة 1967، وقامت بتمثيلها فرقة المسرح الوطني ببنغازي وبعض فرق الهواة من جامعات الأزهر والمنصورة والثقافة الجماهيرية ببورسعيد وكلية الآثار، كما أذيعت من البرنامج الثاني بإذاعة القاهرة من إخراج الأستاذ هلال أبو عامر.
المشهد الأول (قاعة العرش والعدالة في قصر فرعون العجوز. إلى الخلف شرفة كبيرة بابها مفتوح، يدخل الراوية في الظلام. يقف في مقدمة المسرح ويسلط عليه الضوء. يلاحظ أن الشبح لا يراه طوال المسرحية إلا الملك ولا يكلم أحدا سواه.)
الراوية :
في أوقات المحن والأزمات،
وحين تتكاثر على الناس الظلمات،
ويبتعد النور ويغيب،
يتلفت القلب للتاريخ،
تقلب اليد أوراقه وسجلاته،
يحس دبيبه في قطرات دمه،
يشعر بعبئه فوق كاهله،
يقول: آه، ماذا فعل أجدادي؟
وإذا رأى أنهم كانوا عاجزين،
يسأل نفسه: لماذا عجز الأجداد؟
ونحن قد بحثنا كثيرا في الأوراق والنقوش والسجلات،
فقفز أمامنا ملك عجوز،
والقفز هنا من قبيل المبالغة والتهويل،
فهو في الحقيقة شيخ مريض مسكين،
يعجز حتى عن تحريك إصبعه،
ينام على نفسه بالليل والنهار،
وإذا صحا فلكي يسأل: ما العمل يا أولادي؟
ثم يعود للنوم أو للموت من جديد.
يقال إنه حكم أربعا وتسعين سنة،
وهذا أيضا كما ترون من قبيل المبالغة والتهويل
على أن هذا كما قلنا لكم تاريخ قديم،
فلا تحكموا عليه بميزان العقل والتفكير،
بل عيشوا لحظة في جنة الخرافات والأساطير،
وشاهدوا ذلك الملك المسكين،
وارثوا له إن شئتم أو اضحكوا عليه،
لأنه سيظهر لكم بنفسه بعد قليل. (ينحني الراوية معتذرا ويختفي.) (بينما يدخل الملك العجوز، وهو يجري مذعورا.)
الملك :
الشبح عاد ... الروح يطاردني، أيقظني من النوم وجرى ورائي، ها هو يتبعني ... ها هو يتقدم ويبتسم ويضحك ... أنقذوني يا أولادي.
أين أنتم يا حراس ... يا حراس؟
الحارس :
مولاي ينادي؟
الملك :
مولاك يصيح يا ولدي، مولاك يستغيث.
الحارس (متثائبا) :
ادع الآلهة يا مولاي.
الملك :
ادعها أنت يا ولدي، اطلب منها الحماية والأمان لمولاك.
الحارس :
أيها الإله رع ... أيها الإله بتاح ... يا كبير الآلهة آمون.
الملك :
إنه لم يتزحزح من مكانه.
الحارس :
من يا مولاي؟
الملك :
ألا تراه، أيمكن أن يضحك ولا تسمعه؟
الحارس :
أيها الآلهة العظام ... رع وآمون.
الملك :
كفى كفى، اذهب ونادهم، قل لهم يحضروا جميعا.
الحارس :
من يا مولاي؟ من الذي تريده جلالتك الملكية؟
الملك :
أيها الغبي، إنك تنام فكيف توقظ النيام؟ اذهب ونادهم جميعا، أفزعهم وهزهم من أكتافهم، قل لهم مولاك ينتفض ويرتعش ويصيح.
قل لهم عاد يطارده من جديد، قل لهم ...
الحارس (متثائبا) :
ولكن هل يتكرم مولاي ويقول لي من هم؟
الملك (صارخا) :
حرسي وحاشيتي يا غبي ... الكاهن والوزير ... والقائد والكاتب ... هيا هيا (يذهب الحارس متباطئا وهو يهز رأسه تعجبا) .
الملك :
ما زلت تقف هناك وتبتسم، ماذا تريد؟ هل أقذف بنفسي من الشرفة؟ هل يرضيك أن تبقى البلاد بلا راع؟ تكلم. اصرخ في أذني قبل أن يأتوا، قل أي شيء. اطلب ما تشاء، من أين أتيت؟ عم تبحث؟ ماذا يرضيك؟ في كل ليلة تفزعني، ألا ترى ضعفي؟ ألا ترحم شيخوختي؟ ألا تعلم أنني أحكم البلاد؟! (الشبح يبتسم من بعيد ويقترب منه)
أرجوك، ابتسم كما تحب، ولكن لا تقترب مني ... تسعون سنة وأنا أحكم البلاد، أتبتسم أيضا؟ ألا يرضيك هذا العدد؟ ألا تقول كلمة واحدة؟ أتريد أن تتكلم أمامهم؟ هل تخشى أن أكون قد أصبت بالصمم؟ هل تصدق أنني لا أحرك حتى إصبعي؟ تكلم، تكلم. لا تنس أنني فرعون، لا تنس أن لدي القوة والرهبة والجلال، حتى ولو كنت في التابوت، ألا زلت تبتسم؟ ها هي خطواتهم قادمة، أتوسل إليك. (يدخل الكاهن الأكبر، يتبعه بعد قليل الوزير فالقائد يرتبون ملابسهم بسرعة، أو يمسحون عيونهم، أو يسوون شعورهم - فيما عدا الكاهن الأصلع بالطبع - من أثر النوم.)
الملك :
ها هم قد جاءوا.
الكاهن :
مولاي الملك العظيم.
الملك :
مولاك مسكين، مولاك مطارد.
القائد (يدخل مسرعا) :
من يجرؤ أن يطارد مولاي؟ أليس في القصر حراس؟ أليست معهم خناجر وسيوف؟
الوزير (مسرعا) :
تكلم يا مولاي، أين هم الأعداء؟
الملك :
لا لا، لا تقولوا هذا، أخفوا الخناجر والسيوف. اخفضوا أصواتكم.
الكاتب (مسرعا بدفاتره وأوراقه) :
ها أنا قد جئت يا مولاي، معي الدفاتر والوثائق والسجلات. ومعي الريشة والمحبرة والأقلام، أمل علي وليسجل التاريخ.
الملك :
إنه يقف هناك.
الجميع :
أين يا مولاي؟
الملك :
ألا ترونه؟ ألا تخيفكم ابتسامته؟ ألم يطاردكم أيضا في الليل؟ ألم يهزكم من النوم؟
الجميع :
نحن لا نرى شيئا يا مولاي، لكن عينكم الملكية.
الملك :
عيني الملكية؟ أيمكن أن تبصر ما لا تبصرون، تكلموا إليه يا أولادي. تكلموا.
الجميع :
ماذا نقول يا مولاي؟
الملك :
اسألوه ماذا يريد؟ لماذا يفزع مولاكم العجوز؟
الجميع :
تكلم ... تكلم (يذهب كل في اتجاه) .
الملك :
هنا هنا ... ها هو أمامي، ما يزال يبتسم.
الجميع :
قل ماذا تريد؟
الملك :
تكلم أيها الروح الجليل، قل للكاهن ماذا تريد؟
الكاهن (يتقدم إليه ولا يراه) :
أخبرني ماذا تريد؟ لماذا خرجت من قبرك المقدس؟ من أنت حتى أقدم باسمك قربانا للآلهة وأعمل كل ما يجب علي، ألا تريد قربانا باسمك ، باسم أبويك العظيمين ؟
الملك :
إنه يهز رأسه، تكلم تكلم.
الكاهن :
أنا على استعداد لتنفيذ رغبتك، أقسم بآلهة السماء والأرض، والشرق والغرب، والجنوب والشمال. قل لي أين تقع مقبرتك، سأعمل على تجديدها، سآمر لك بتابوت جديد، لن تحتمل برد الشتاء إن كنت عاريا، وإذا جعت لن تحرم من الخبز والنبيذ.
الملك :
ما يزال يهز رأسه ... استمر ... استمر.
الكاهن :
لا تجعل قلبي يضطرب كالنيل في الفيضان، هل يرضيك أن أصوم عن الأكل والشرب؟ إن لم تتكلم فلن أبصر أشعة الشمس ولن أتنسم نسيم الشمال، ما دمت أيها الروح تأتي كل يوم ومعك الظلمات.
الملك :
أرجوك، قل لهم من أنت؟
الوزير :
أكنت رئيسا لخزائن الملك؟
القائد :
أم أميرا في الجيش؟
الوزير :
أم رئيسا للديوان؟
الكاتب :
أم الكاتب الأول لفرعون؟
الكاهن :
ألم تمنح أوعية التحنيط الأربعة؟ ألم يضعوك في النعش المصنوع من الرخام الأبيض؟ ألم تدفن في قبر مذهب الأبواب والجدران؟
الملك :
تكلم تكلم ... هل تهدم القبر وانهار؟ هل أصبحت الرياح تهب داخله؟
الوزير :
أقسم أنني سأعيد بناءه.
الكاهن :
وسأجعل لك خمسة عبيد من الرجال وخمسا من النساء.
الوزير :
ليصبوا لك الماء ويقدموا لك زكيبة قمح كل يوم.
الكاهن :
ومن أجلك سنقدم القرابين ونريق الخمر والماء.
الكاتب :
كلمني عن اسم أبيك وأمك العظيمين، الوثائق معي والسجلات.
الوزير :
أو اسم أولادك وأحفادك. أقسم لك أن أعينهم في أعلى المناصب، وأعفيهم من الضرائب والرسوم.
القائد :
وسآمر لكل منهم بخنجر من الذهب وسيف من البرونز، وسيذهبون معي لتأديب البدو في الصحراء (الشبح يبتسم) .
الملك :
ما زال يبتسم، بل إن ابتسامته تتسع.
الجميع :
تكلم تكلم أيها الروح العظيم.
نتضرع إليك باسم الآلهة المقدسين،
وباسم هذا الملك الشيخ الجليل،
سيصعد الرجال بقارب في النيل نحو الشمال،
وسيبحثون عن المكان العظيم،
الذي ستخلد فيه أيها الروح.
الملك :
شكرا يا أولادي، ها هو يفتح فمه.
الجميع :
ماذا يقول؟ ماذا يقول؟
الملك :
أنصتوا ... تكلم أيها الروح، لم جئت من بلد الموت؟
الروح :
عليك أن تحسن السؤال؟
الملك :
وماذا أقول ... ماذا أقول؟
الروح :
تقول: لم جئت إلى بلد الموت والأموات؟
الملك :
بلد الموت والأموات؟ أين هي أيها الروح؟ من هم؟
الروح :
تحت أقدامك ... أمام عينيك، في كل مكان.
الملك :
لا أفهم أيها الروح ... ما اسم هذه البلد؟ صفها لي.
الروح :
هي البلد التي يحكمها الموت.
الملك :
ألا تفسر كلامك أيها الروح؟ أهناك حاكم غيري؟ (الروح يبتسم.)
الملك :
عدت للابتسام. (الروح يضحك.)
الملك :
وتضحك أيضا؟
الجميع :
نحن لا نسمع الضحك، ولا نرى الابتسام.
ليته يتكلم لنعرف ما يقول.
ليته يتكلم لنعرف ما يريد.
الروح (ضاحكا) :
لا يسمعون ولا يبصرون، ألم أقل لك إنها بلد الأموات؟
الملك :
لكن يا ولدي، ماذا تريد بهذا الموت؟ من تقصد بالأموات؟
الروح :
الموت في الضمير، والموت في الصدور، والموت في التراب.
الملك :
رجعت للألغاز؟
الروح :
أتريد أن تراهم؟ ها هو أحدهم.
الملك :
أين؟ أين؟ (يسمع صوتا عميقا مهيبا يأتي من بعيد) : لديك الحكمة والعدالة، لكنك تترك الفساد ينتشر في البلاد.
الروح :
سمعت؟
الملك :
من هذا؟
الروح :
أتحب أن تراه؟
الملك :
إن كان هذا يرضيك.
الروح :
ها هو يطرق الباب، هل تأذن له بالدخول؟
الملك :
أدخلوه ... أدخلوه.
الجميع :
من يا مولاي ... من؟
الملك :
أيها الموتى، ألا تسمعون الطرق على الباب؟ (الشبح يبتسم، بينما يهرع الجميع لفتح الباب، يدخل شيخ عجوز أعمى يتوكأ على عصا طويلة، يتحسس طريقه إلى الملك بعد أن يقترب من الكاهن والوزير ... إلخ. ويلمسهم بيده واحدا بعد الآخر.)
الملك :
إنه أعمى.
الروح :
إنه حكيم.
الملك :
أهذا هو الموت؟
الروح :
استمع أولا لما يقول.
الحكيم :
أين أنت أيها الملك؟
الملك :
إنه يتجه نحوي.
الحكيم :
يا من تقبع في قصرك من مئات السنين؟
الملك :
غير صحيح، إنني كما يقولون لم أحكم أكثر من تسعين ...
الحكيم (بعد أن يتعرف عليه يمد يديه نحوه ويهزه من صدره) :
كذبوا عليك، كذبوا عليك.
الملك :
من أيها الحكيم؟ من؟
الحكيم :
يقولون لديك الحكمة والبصيرة والعدالة.
الملك (للكاهن والوزير ... إلخ) :
سمعتم؟ يقول لدي الحكمة والبصيرة والعدالة.
الجميع :
يا له من شيخ حكيم.
الحكيم :
ولكنهم كذبوا عليك.
الملك :
هل كذبتم علي حقا؟
الحكيم :
فتركت الفساد ينتشر في البلاد.
والبلاد تشتعل والشعب على شفا الهلاك.
الملك :
الشعب؟ سمعت هذه الكلمة من قبل، لماذا لم تقولوا لي من هو الشعب؟
الروح :
لا تقاطعه أيها الملك. انتظر ولا تقاطعه.
الحكيم :
انظر، إن السرور قد مات.
ولم يبق حيا على الأرض إلا أنين المظلومين.
إنني أقف في قاعة العدالة،
لكن العدالة موجودة باسمها فقط،
وحين يلجأ الناس إليها لا يلقون إلا الظلم.
الملك :
ليس هذا صحيحا، لم يلجأ إلي أحد أيها الشيخ.
الروح :
انتظر، قلت لك انتظر.
الحكيم :
العظيم والحقير كلاهما يقول: ليتني كنت ميتا، الطفل الصغير يصرخ ويقول: ليتني لم أولد، القطعان قلوبها تبكي.
الملك :
حتى القطعان أيها الحكيم؟
الشبح (يبتسم) :
ألم يقل إنهم كذبوا عليك؟
الملك (صائحا) :
لم كذبتم علي؟ كيف حجبتم الناس عني؟ ألم يهزكم بكاء الطفل وأنين القطعان؟
الجميع :
أتكلمنا يا مولاي؟
أم تكلم الروح الخالد العظيم؟
الكاهن :
باسم الآلهة المقدسين.
الروح :
أسكتهم.
الملك :
اسكتوا، أنصتوا لما يقول الحكيم.
الجميع :
الحكيم؟ يا له من أخرس حكيم (يضحكون بصوت عال) .
الملك :
تكلم أيها الحكيم، تكلم إلي بالحكم والأمثال.
الحكيم :
ليتني كنت أعرف كلاما لا يعلمه أحد، أو أمثالا جديدة لم يرددها لسان، أو أحاديث خالية من التكرار لم يقلها الأجداد.
انظر ... القلب الشجاع هو رفيق صاحبه في الملمات، فتعال إذن يا قلبي لأتحدث إليك.
الملك (للروح) :
سمعت؟ إنه لا يريد أن يتحدث إلي. (يهز الحكيم كتفه)
أنا مولاك، إنني أسمعك، إنني أقف أمامك.
الروح :
قلت لك لا تقاطعه.
الحكيم (مستمرا) :
أجبني يا قلبي وفسر لي ما يقع في البلاد.
الملك (للروح) :
أيعجبك هذا؟ أيرضيك أن يتجاهلني؟
الروح :
هش ...
الملك :
إنني لا أطيق هذا.
الروح :
طالما تكلموا وتكلمت، تعلم الآن أن تسمع وتنصت.
الملك :
وهل تقول الحقيقة أيها الحكيم؟ حذار.
الروح :
حاذر أنت واستمع.
الحكيم :
إن المصائب تقع اليوم، وكوارث الغد لم تأت بعد ...
والناس كلهم لاهون،
مع أن البلاد في اضطراب عظيم،
إنهم يستيقظون كل صباح ليتألموا ،
ولكن قلوبهم راضية بما حدث،
وما من أحد يدفعه الغضب إلى الكلام.
آه ... ماذا أقول؟ ماذا أقول؟
إن همي ثقيل ومرضي طويل،
ومن المؤلم أن يظل الإنسان ساكتا على ما يسمعه ويراه.
الملك :
يسألني: ماذا أقول؟ هل قال لي: ماذا أفعل؟
الروح :
الحكيم لا يفعل، الحكيم يقول.
الملك :
لكن صوته لم يصلني.
الروح :
أتظن أنك كنت تصدقه؟ (يشير إلى الكاهن والقائد ... إلخ.)
الملك :
كنت أظن أن كل شيء على ما يرام.
الكاهن :
نعم ... هذا ما قاله بتاح حوتب من أزمان.
الروح :
لكنه انتهى إلى الأبد، ألا تفهم ما قاله الحكيم؟
الملك :
ألا يزال لديه ما يقول؟
الروح :
هل تحب أن يحكى لك عن اللصوص والأشرار الذين يجوبون الطرق ويملئون مخازنهم بالغلال؟ أم عن قوانين العدل التي يدوسها الناس بالأقدام؟
الحكيم :
كل شيء يدور مقلوبا على رأسه كما تدور عجلة صانع الفخار.
الملك :
قل له يكف عن الكلام، أسأله ماذا أفعل؟ ماذا لو كان مكاني؟
الروح :
ألا تنتظر حتى يحدثك عما فعله الأعداء؟
الملك :
الأعداء؟ وهناك أعداء ولا أدري؟
الروح :
ألم يقل لك: لديك الحكمة والبصيرة.
الحكيم (صارخا وضاربا بعصاه متجها إلى باب الخروج) :
ولكنك تترك البلاد ينتشر فيها الفساد.
الملك :
انتظر أيها الحكيم، إلى أين تذهب وتتركني؟ من هم هؤلاء الأعداء؟ من هم هؤلاء الأعداء؟
الجميع :
الأعداء؟
الملك :
ألم تسمعوا بهم؟ ألم تروهم؟
الجميع :
نحن نعيش هنا يا مولاي في أمان
والقصر يحيطه الحراس من كل مكان
وكل شيء في طيبة على ما يرام
الأعداء؟ من هم هؤلاء الأعداء؟ (يلتفتون إلى بعضهم البعض.)
الصوت :
الذي لم يكن يجد رغيفا يمتلك مخازن الغلال،
ومن لم يكن يملك زوجا من الثيران،
قد أصبح يملك القطعان.
الملك :
أيحدث كل هذا ولا أعلم؟ لماذا كذب على الكاهن والقائد والكاتب والوزير؟ لماذا قالوا كل شيء على ما يرام؟
الملك (يناجي نفسه) :
آه ... لا تهتم بأخ، ولا تصاحب صديقا، ولا تثق بأحد، فليس في ذلك كمال.
إن تمت فاسهر على قلبك بنفسك،
إذ ليس للرجل في وقت البلية إخوان ،
آه ... لقد أعطيت الفقراء وأطعمت اليتامى،
وسمحت بدخول من لا قيمة له ومن له قيمة،
ولكن أولئك الذين أكلوا خبزي كذبوا علي،
وذلك الذي مددت له يدي نشر الذعر في البلاد،
والذين لبسوا كتاني الرقيق عادوني،
والذين تعطروا بعطري غدروا بي،
لا ... ليس كل شيء على ما يرام، ليس كل شيء على ما يرام.
الروح (يصفق) :
أكل هذا بسبب هذا العجوز الحكيم؟
الملك :
نعم، كان عجوزا. فهل من حقك أن تسميه الحكيم؟
الروح :
ربما أسميه باسم آخر.
الملك :
ماذا تسميه؟
الروح :
هو الذي ذكرته لك.
الملك :
إنني أنسى، أعده على عقلي المسكين.
الروح :
الموت في الضمير.
الملك :
الموت في الضمير؟
الروح :
جاء يقول إن العدالة نبذت، والظلم أخذ مكانه في قاعة العدل.
الملك :
كان عليه أن ينصحني بما أفعل، انصحني أنت أيها الروح، تكلم أيها الحي بين الأموات.
الروح :
انتظر ... كان يريد أن يقول: الرجال ينامون، ويأكلون ويشربون ... وينسون أن الأعداء في البلاد.
الملك :
تكلم عن الأعداء فلم أعرف معنى الكلمة، ولم يعرف أيضا هؤلاء، أرجوك أيها الروح.
الروح :
إنه الموت الأخير.
الملك :
الموت الأخير؟ ذكرني أيها الروح.
الروح :
هو الذي سميته الموت في التراب، أتريد أن يدخل عليك؟
الملك :
يدخل علي؟
الروح :
كما دخل الحكيم، ألا تسمع وقع أقدام؟
الملك :
قل لي أولا ماذا أفعل؟
الروح :
لا أستطيع الآن (يبدأ في الاختفاء) .
الملك (يجري وراءه) :
لا تستطيع؟ من يستطيع إذن؟
الروح :
ألا ترى الفجر يطلع؟ ألا تسمع الديك يصيح؟
الملك :
لكن ماذا أفعل؟ تكلم ... تكلم.
الروح :
انتظر حتى يحضر الرسول، مر الوزير أن يكرم وفادته، اجعل الكاهن ... لكن لم التسرع؟ انتظر قليلا حتى يشرق النهار (يختفي) .
الملك :
انتظر؟ أرجوك أيها الروح، هل قلت إنه رسول الأعداء؟ إلي أنا الملك العجوز المسكين؟ ماذا أفعل؟ ماذا أفعل؟ (يهرع الكاهن والوزير ... إلخ إليه ويحيطون به، ويحاولون العناية به.)
الجميع :
مولاي، عوفيت يا فرعون.
الملك :
ها هم الأعداء في الطريق، قولوا ماذا أفعل؟ (الراوية يظهر بعد أن تسدل الستار ببطء ويقول):
الراوية :
لكنهم وجموا وأصابهم الذهول.
دعا الكاهن باسم الآلهة أن يشفي المريض،
هز القائد رأسه وقال:
من قال إن هناك أعداء؟
أليس هناك حصون؟
أليس هناك حراس أشداء؟
فتش الكاتب في الوثائق والسجلات والأوراق،
قال بعد أن نام فرعون من الإرهاق:
لا، ليس هناك ذكر للأعداء،
هذا شيء قديم شطب من النقوش والسجلات،
أما الوزير فخاف أن يكون في الأمر شيء، وسأل نفسه: والوزارة؟ والأرض؟ والقصر؟ والأتباع؟
أتكون مؤامرة دبرها اللصوص والرعاع؟
فلنتركهم الآن حتى يفيق الملك الجليل،
لنسمع ما سيقوله الرسول بعد قيل (يختفي بسرعة).
المشهد الثاني (نفس المنظر، نفس الأشخاص ... الكاهن والوزير والقائد والكاتب يستيقظون، الملك نائم.)
الكاهن (يستيقظ) :
آه ... ظهري يؤلمني.
الوزير :
أف ... من يصدق أن الوزير ينام على الأرض؟ (يهز الكاتب والقائد.)
الكاتب :
أين أنا؟
الكاهن :
وأين تريد أن تكون؟ في حضن إيزيس؟
الكاتب (مذعورا) :
أين أوراقي؟ أين وثائقي وسجلاتي؟
الوزير :
نائمة بجوارك، حذار أن توقظها.
الكاهن :
وألا تحرك التاريخ (يضحكون)
أيها القائد ... أيها القائد.
الوزير :
أليس عجيبا أن نصحو جميعا بينما يعلو شخيره؟
الكاتب :
وما العجب في هذا؟
الوزير :
ألم يدخل الروح إلى القصر دون أن يفطن الحراس؟ ألم يقل إن الأعداء في البلاد؟
القائد (متثائبا) :
كل ما لا أراه بعيني فلا وجود له عندي. ليس هناك روح، ليس هناك أعداء.
الكاهن :
والضجة التي أثارها فرعون؟
الوزير :
وحديثه الطويل معه؟
الكاتب :
وصوت الحكيم الذي يردد حكمة التاريخ؟
القائد :
شيخ مريض وعجوز ... ألسنا ننتظر موته من عشرات السنين؟ ألم ينتظره آباؤنا وأجدادنا؟
الكاهن :
والروح ... هل تشكون في عودته؟ هل تشكون في ظهوره؟
الوزير :
ليظهر عندكم في المعابد كما يشاء، أما أن يظهر ليلا لفرعون.
القائد :
فهذا تخريف رجل عجوز.
الوزير :
وهو دليل على أنه يحتضر.
القائد :
وأن روحه تدعوه إلى الغرب بعد أن ملت الانتظار.
الكاهن (مشيرا إلى فرعون النائم) :
انظروا، ها هو ينعس في النوم كطفل شاب شعره، انظروا كيف يبتسم، إن شفتيه تتحركان (يلتفون حوله) .
الكاهن :
ربما يناجي الروح.
الوزير :
الروح؟ الروح؟ نحن لم نر شيئا .
الكاهن :
الروح لا ترى يا ولدي، إنها تشعر وتحس.
الوزير :
كيف خرجت من قبرها؟ كيف فتحت التابوت؟
الكاهن :
إنها تسكن مع الآلهة والأجداد، أيها الإله رع العظيم، أيمكن أن تشك؟
الوزير :
لست أشك يا أبي، أنا أيضا لي روح، ومن أجل أن تعود إلي بعد الموت أبني الآن مقبرتي الفخمة، وأزين تابوتي بالذهب والفضة، ولكن هذه الروح التي تزعج سيدنا.
القائد :
بعد أن نام في سلام تسعين سنة.
الوزير :
هذه الروح الضالة الهائمة.
القائد :
بلا اسم ولا أب ولا أم.
الكاتب :
ربما كانت روح التاريخ، هذه الوثائق.
الوزير :
اسكت أنت بوثائقك وسجلاتك.
الكاهن :
ولكنني أشعر بوجودها.
القائد :
قلت لك أنا لا أشعر إلا بما أراه أمامي، بما أطعنه بخنجري وأنفذ فيه رمحي.
الوزير :
روح كهذا يعكر سلام المملكة.
القائد :
يجب أن تطرده بتعاويذك ودعواتك.
الكاهن :
هش ... إنه يتحرك ... يفرك عينيه ... يبتسم ويهز رأسه، قولوا معي: أيها الفرعون العظيم ... لا تخف من الروح.
الوزير :
سوف نبني له قبرا جديدا إن كان قبره تهدم.
القائد :
ونجعل عليه من الحراس أربعة رجال وأربع نساء.
الكاهن :
ونقدم القرابين من اللحم والفاكهة والنبيذ.
الكاتب :
لكي لا يجوع أو يعطش أو يعرى في برد الشتاء.
الوزير :
ولا يعكر صفو المملكة التي تعيش في سلام.
القائد :
ولا يزعجنا بأخبار الموت والحرب والأعداء. (يسمع طرق شديد على الباب يستيقظ له الملك من نومه.)
الملك :
هل سمعتم؟ ها هو يطرق الباب.
الجميع :
الروح؟
الروح (يظهر على البعد ويقترب من الملك دون أن يراه أحد سواه) :
وهل مثلنا يطرق الأبواب؟
الملك (مذعورا) :
إذن فمن الطارق؟
الكاهن :
أيتها الآلهة، عاد الملك يتحدث إلى نفسه.
القائد :
أف ... ما أطول ساعة الاحتضار عند الملوك.
الروح :
ألم أقل لك؟
الملك :
إنني أنسى، ألا ترى أنني مريض وعجوز؟
الروح :
إنه الموت.
الملك :
أي واحد فيهم؟
الروح :
الموت الأخير ... الموت الأكبر.
الملك :
أكبر من الموت في الضمير؟
الروح :
أكبر ... أكبر.
الملك :
تكلم بحق الآلهة المقدسين، أيكون موتي أنا؟ (الروح يضحك.)
الملك :
إذن اقتربت ساعتي؟ هل آمرهم بتجهيز الجنازة وإعداد التابوت؟
الروح :
ليته اقتصر على هذا.
الملك :
إذن ماذا يكون؟ أتحل كارثة بالقصر؟ مجاعة بالبلاد؟ زلازل؟ براكين؟ هل يفيض النيل؟ هل يجف ماؤه؟
الروح :
أكبر ... أفظع، إنه الموت في التراب.
الملك :
سمعتك تقول هذا، فسره بحق رع وآمون وبتاح.
الروح :
عندما تموت الأرض، عندما يموت التراب، عندما يموت الوطن.
الملك :
الأرض؟ التراب؟ الوطن؟
الكاهن :
تكلم أيها الروح الجليل، ارحم شيخوخة الملك وضعفه.
الروح :
الطرق يشتد على الباب.
الملك (صارخا) :
افتحوا الأبواب ... افتحوا الأبواب. (يدخل أحد الحراس مندفعا.)
الحارس :
مولاي ... سيدي القائد ... سيدي الوزير (يلهث) .
الملك :
تكلم ... تكلم.
الحارس :
رجل عجيب يقف بالباب، يركب شيئا غريبا سألته عنه فقال اسمه عربة، لهذا الشيء الغريب أربعة أشياء مستديرة سألته عنها، فقال اسمها العجلات، وأمام هذا الشيء الغريب الذي اسمه العربة التي تقف على أشياء غريبة اسمها العجلات يقف مخلوق أشد غرابة سألته عنه قائلا ما هذا الشيء الغريب فقال اسمه حصان.
الملك :
أيها الأبله، ماذا تريد؟ لم جاء؟
الحارس :
انتظر يا مولاي، لم أصف لك شكله بعد، لم أصف لك ملبسه.
الملك :
أيها الأحمق، ألم يكن الأولى أن تسأله من هو وماذا أتى به؟
الحارس :
هداني تفكيري يا مولاي أن أعرف لبسه وشكله ووجهه لكي يسهل بعد ذلك معرفة مهمته.
القائد :
ما شكله أيها الحارس؟ ماذا يرتدي ...
الحارس :
بعد أن سألته عن الشيء الغريب الذي يقف عليه فقال إنه العربة ... وعن ...
القائد (نافد الصبر) :
وعن الأشياء الغريبة التي يقف عليها هو والعربة فقال إنها العجلات والمخلوق الغريب الذي يقف أمامها.
الحارس :
فقال إنه الحصان.
القائد (صارخا) :
قلت لك ما شكله؟ ما لون وجهه؟ ماذا يرتدي؟
الحارس :
مهلا يا سيدي، لقد تفرست فيه جيدا، وتأملته من أصابع قدميه إلى شعر رأسه، هل تعرف من هو؟
القائد :
من؟ من؟
الحارس :
رجل أسمر الوجه، ذو لحية طويلة، يبدو لون بشرته كأنه من رمال الصحراء، وعليه ملابس مصنوعة من الجلد والوبر.
القائد (لنفسه) :
وجه أسمر ... لحية طويلة.
الملك :
أدخلوه ... أدخلوه .
القائد (لنفسه) :
هل هجم البدو من الصحراء؟ أم الأعداء الذين حدثني عنهم الأجداد؟
الملك (للقائد) :
هل قلت شيئا أيها القائد؟
القائد :
أنا؟ أبدا يا مولاي.
الملك :
أليس عندك شيء تقوله؟
القائد :
إن كان لا بد فكل شيء على ما يرام.
الملك :
أحقا يا وزير؟
الوزير :
بالطبع يا مولاي، كل شيء على ما يرام.
الملك :
وأنت؟
الكاتب :
التاريخ يؤكد هذا بالتمام.
الملك :
والأعداء ... ماذا يقول عن الأعداء؟
الكاتب :
كلمة قديمة شطبت من الأوراق والسجلات.
الوزير :
بعد أن اشتدت طيبة وهزمت كل الأعداء.
الكاهن :
ببركة رع وآمون وباقي الآلهة الأجلاء.
الحارس (يدخل) :
ها هو الرجل الغريب يا مولاي.
الرسول :
سلاما أمير مدينة الجنوب.
الروح (مبتسما) :
أو أمير مدينة الموت.
الجميع :
سلاما أيها الفارس.
الملك (ينتبه) :
سلاما أيها الفارس، لماذا جئت إلى مدينة الجنوب؟ لم قمت بهذه الرحلة حتى مثلت بين يدي؟
الجميع :
تكلم أيها الفارس الشجاع، فمولانا يحب أن يسمع ما تريد.
الرسول :
إنه أميري أبو فيس الذي أرسلني إليك لأقول ...
الملك :
ماذا يقول يا ولدي؟
الرسول :
أخل البحيرة الواقعة شرقي المدينة من أفراس البحر؛ لأنها تحول بيننا وبين النوم في الليل والنهار، وتملأ آذان سكان المدينة بالضوضاء.
الملك :
أية مدينة يا ولدي؟
الرسول :
مدينة أواريس أيها الملك.
الملك :
أواريس؟ لأول مرة أسمع هذا اسم، أين هي أيها القائد؟ في الشمال أم في الجنوب؟ في الشرق أم في الغرب؟
القائد :
أواريس؟ أواريس؟
الكاتب :
انتظر يا مولاي حتى أبحث في السجلات.
القائد :
سمعت الأجداد يحكون عنها.
الكاتب :
والوثائق والأوراق تقول.
القائد :
إنها في أقصى الشمال.
الوزير :
والتحصينات المنيعة تحرسها.
القائد :
وحائط الحاكم يحميها من غارات الآسيويين.
الرسول (ضاحكا) :
يحرسها ويحميها؟ مولاي وأجداده يقيمون فيها من مائة وخمسين سنة، الحصون تهدمت والحائط خربه الفرسان الآسيويون.
الملك :
فرسانكم الآسيويون؟ من هم يا ولدي؟ صفهم لي.
الرسول :
لا يستقرون في مكان واحد.
أقدامهم صنعت لكي تتجول بهم بعيدا،
إنهم يحاربون منذ أيام الإله ست،
لا يقهرون ولا يقهرون،
يقاتلون ولا يحددون يوما للقتال،
كاللص الذي يفاجئ الإنسان إذا كان بمفرده،
ولا يهاجم مدينة بها سكان كثيرون.
الملك :
أكمل يا ولدي، هل قلت التماسيح ...
الرسول :
أفراس النهر.
الملك :
ماذا فعلت يا ولدي؟ ذكرني فقد نسيت.
الرسول :
تزعج مولاي وتملأ آذان سكان المدينة.
القائد :
ولكن مدينتكم بعيدة، هناك في أقصى الشمال، ونحن هنا في أقصى الجنوب.
الملك :
نعم نعم، هل سمع سيدك حقيقة وهو في تلك المدينة النائية عن البركة الواقعة شرقي مدينة الجنوب؟
الرسول :
وسمع أصوات أفراس البحر التي تمنعه أن ينام بالليل أو بالنهار.
الملك :
كيف يسمعها يا ولدي؟ كيف يسمعها؟
الرسول :
فكر فيما بعثني من أجله مولاي. (الروح يضحك.)
الملك (متجها إليه) :
لماذا تضحك؟ أيمكن أن يحدث هذا؟ أيمكن أن يسمعها من هذا المكان البعيد؟
الروح :
ما دمت لا تسمع ولا ترى،
فالعدو حاد البصر مرهف الآذان،
وأفراس البحر في البحيرة الهادئة،
التي لا يزعج صوتها أي إنسان،
يسمعها العدو في أقصى الشمال،
وتزعجه في الصحو كما تزعجه في المنام.
الجميع :
مولاي، دع الروح الآن، كلم الرسول.
القائد :
ما كنت أعرف أن أفراس البحر تزعجه إلى هذا الحد.
الملك :
هل قلت العدو؟ أهذا هو العدو.
الروح :
بل هو الموت، الموت الأكبر.
الملك :
ماذا أفعل؟
الروح :
من يسأل هذا السؤال لا يفعل شيئا.
الملك :
أحب أن أعرف أين ذهبت قوتي؟
الروح :
وأنا أحب أن تكرم الرسول.
الملك (منتبها) :
هيا ... أكرموا وفادة الرسول، قدموا له الأشياء الطيبة.
الرسول :
فكر فيما بعثني من أجله مولاي.
الملك :
قل لسيدك إن الملك سيستجيب لطلبه.
لكن ليس قبل أن تذوق الفطائر واللحوم،
هيا أيها الحارس ...
مره بما يجب عليه أيها الوزير. (الوزير ينادي على الحارس، يذهب معهما ثم يعود بعد قليل.)
أيها الروح ... يا رسول الأجداد.
الروح :
تريد أن تعرف ماذا تفعل؟
الملك :
أغثني أرجوك.
الروح :
ألا تسأل مستشاريك؟
الملك :
من؟ هؤلاء؟
الروح :
إن الذهول يبدو على وجوههم.
الملك :
تخلوا عني ... كذبوا علي.
الروح :
ولكنهم مستشاروك.
الملك (ملتفتا إليهم) :
أشيروا علي ...
هل حلت الكارثة بالبلاد؟
هل فاض النيل أم جف الماء ؟
قل أيها القائد : أين عساكري وأسودي؟
وأنت يا وزير: أين كنوزي وماشيتي وعبيدي؟
وأنت أيها الكاهن: لمن توجه الدعوات وعلى من تصب اللعنات؟
ويا كاتبي: ماذا ستكتب عني في الوثائق والأوراق؟
ماذا ستنقش على قبري ليذكره التاريخ؟
هل ضاعت قوتي؟ هل داسني الأعداء؟
أهذا هو اليوم الذي تنبأ به الحكيم؟
أهذا هو الموت الأكبر الذي توعدني به الروح. (الجميع واجمون.)
الملك :
تكلموا ... تكلموا، أحقا يقول الطفل ليتني لم أولد؟
ويسير الأمير عاريا في الطرقات؟
ويمتلك اللص مخازن الغلال؟
أحقا إنني تركت الفساد ينتشر في البلاد،
والآسيويون يهدمون حائط الحاكم؟
أين إذن ما قاله عني الحكيم؟
الكاهن :
مولاي ... لديك الحكمة والبصيرة والعدالة.
القائد :
ولديك القوة التي تهزم الأعداء.
الكاتب :
والمجد الذي ورثته عن الأجداد.
الوزير :
والمدينة العامرة باللحم والفطائر والنبيذ.
الملك :
المدينة؟ أليست هي مدينة الموت؟ تكلم أيها الروح.
الروح :
دعهم أولا يتكلمون.
الملك :
أشيروا علي ... ماذا أفعل؟ ماذا تفعلون؟
الكاهن :
سأصب اللعنات على الأعداء.
الروح (ضاحكا) :
بالسحر بدلا من السلاح!
الكاهن :
سنكتب أسماءهم على الدمى والأواني ومعها الأوعية والتعاويذ.
الروح :
ونحطمها في حضور الملك والملكة حسب المراسم والطقوس.
الوزير :
ما لنا نحن وللأعداء في الشمال؟
انظر ... إن وسط البلاد معنا،
والناس هنا تعيش في أمان،
إنهم يزرعون لنا أحسن الأراضي،
وماشيتنا ترعى في الحقول والمستنقعات،
والقمح والشعير يرسل علفا للخنازير،
وقطعاننا سعيدة لم يسرقها اللصوص.
القائد :
والأعداء الذين تخشاهم ليس لهم وجود.
فلو رأيناهم لذبحناهم وبقرنا البطون،
وأخذنا النساء والعبيد ومحونا الحصون،
وحرقنا مدنهم بأمر صادق المشورة آمون.
الكاتب :
لم يأت ذكرهم في البردي والنقوش.
الملك :
والرسول الذي بعثوه؟
الوزير :
سنكرم الرسول.
الملك :
وأفراس البحر التي تزعجهم؟
القائد :
سنؤكد لهم أن صوتها عذب محبوب.
الملك :
وأرقهم في الليل والضوضاء؟
الكاهن :
سندعو آمون ورع وسائر الآلهة الكبار أن يريحهم في الليل ويمتعهم في النهار.
الملك :
ألم يرسلوا هنا الرسول ليتحدانا؟ أليسوا أعداءنا؟
الكاتب :
سنثبت لهم من النصوص أن كلمة الأعداء لم تكتب على المعابد من مئات السنين.
الجميع :
بذلك نعيش في سلام وأمان،
فتملأ مخازننا بالغلال،
ومعابدنا بالبخور والتماثيل والصلوات،
وبيوتنا بالنبيذ واللحوم والنساء،
ونعيش في سلام ... نعيش في سلام.
الروح (ضاحكا) :
ولكنهم لن يتركوكم في سلام.
الملك (مرددا) :
لن يتركوكم في سلام.
الجميع :
ما دمنا نعيش في سلام،
فسوف يتركوننا في سلام.
صوت :
آه ... أين ذهبت قوتي؟
أين جيشي ليسير أمامي كالريح أو كالنار؟
أصابتنا، ولست أدري لماذا، نقمة من الإله،
فاندفع نحونا أقوام مجهولون،
هدموا حائط الحاكم، واحتلوا أواريس.
صوت :
بينما الحراس نائمون ... بينما الحراس نائمون.
صوت :
غروا الأرض، وأخضعوا البلاد.
أحرقوا المدن، وهزموا حكام الإمارات.
صوت :
دون أن ندخل معهم في حرب، دون أن ينشب بيننا قتال ...
صوت :
أتلفوا المعابد وأحرقوا التماثيل،
نهبوا الحقول وسرقوا القطعان،
غنموا الزوجات وذبحوا الرجال.
صوت :
بينما نحن نأكل ونشرب وننام.
لا نفيق من الكابوس من مئات السنين.
صوت :
آه ... الدماء تنزف منا، متى تسكت الجراح؟
متى نجفو النوم ما دام العدو يقظان؟
متى نرفض اللقمة المعجونة بالعار؟
متى نهجر القصور والبيوت التي يتربص بها الأعداء لنتعلم مثلهم كيف نضرب الخيام في الصحراء؟
ونصاحب العطش والقحط والعواصف والرمال؟
صوت :
متى يترك الفلاح أرضه ومحراثه ومواشيه ليحمل الخنجر والسهم والرماح؟
متى ينزع أظافره من الطين ليغرزها في أعناق الأعداء؟
متى يطهر الأرض السمراء من خيول الغرباء؟
متى يكف عن قوله: كل شيء على ما يرام.
الملك :
متى؟ متى؟ متى؟
الجميع :
عاد يكلم الروح.
الكاهن :
لا بد من تحضير الجنازة.
الوزير :
سأسرع بإعداد المقبرة وتجهيز التابوت.
الكاتب :
وأجمع الكتبة والرسامين والحفارين.
القائد :
وأعلن في البلاد، على رأسي سيستقر التاج.
الوزير :
ألم نتفق أنني الوريث الوحيد؟
الكاهن :
بل على رأسي سيستقر التاج.
الكاتب :
ألا تسألونني؟ إنني أدرى الناس بشجرة الأنساب.
الوزير :
أنا ...
القائد :
أنا ...
الكاهن :
أنا ... (يتنازعون.)
الملك :
اخرجوا ... اخرجوا ... آه. (يخرجون.)
الروح :
أتتألم؟
الملك :
تعبت من الحياة.
الروح :
أم تعبت من الموت؟
الملك :
الموت ... الموت، أليس عندك إلا الموت؟
الروح :
الموت يحكم المدينة.
الملك (صارخا) :
أنا الذي أحكم المدينة. (الروح يضحك.)
الملك :
قل لي، ماذا تريد؟
الروح :
أريد ما لا تستطيع.
الملك :
هل هناك شيء لا يستطيعه فرعون؟ (الروح يضحك.)
الملك (يائسا) :
لم تقل ماذا تريد؟
الروح :
أن ترفع الموت عن المدينة.
الملك :
دلني عليه.
الروح :
إنه الموت في الضمير، ألم تسمع ما قاله الحكيم؟
الملك :
ذلك المخرف العجوز؟
صوت الحكيم :
لديك الحكمة والبصيرة والعدالة،
لكنك تترك الفاسد ينتشر في البلاد.
الملك (باكيا) :
تخلوا عني.
الروح :
والموت في النفوس والصدور.
الملك :
كيف أعرفه؟ أين أراه؟
الروح :
ألم يحدثوك عن ذلك الرجل المشهور؟ ذلك الرجل المسكين؟
الملك :
ما اسمه؟ في أي مكان ألقاه؟
الروح :
يسمونه المتعب من الحياة، وأسميه المتعب من الموت.
الملك :
آه ... الموت راحة، كيف يتعب من الموت.
الروح :
اسمع ...
الملك :
لا، إنني أحتضر، لا أريد أن أكلم أحدا.
الروح :
لا تخف، فهو لا يجد من يكلمه أو يشكو إليه.
صوت (ويمكن أن يدخل شخص نحيل عليه أسمال بالية أشبه بشبح من الماضي ويقول) :
لمن أتكلم اليوم؟
الظلم الذي يجوب البلاد،
ليس له آخر،
لا يوجد رجل عادل،
والبلاد تركت للأشرار والظالمين.
الملك (هامسا) :
نفس ما قاله الحكيم.
الروح (هامسا) :
لأن الشكوى خالدة.
الصوت :
لمن أتكلم اليوم؟
الأخوة سوء،
القلوب جشعة،
وما من أحد يمكنك أن تثق فيه.
الملك :
ألم يكن له أم أو أب؟ ألم يكن له صديق؟
الروح :
كان له صديق واحد.
الملك :
اذكر له اسمه.
الروح :
ها هو يناديه.
الصوت :
لمن أتكلم اليوم؟
الموت أمامي، كالشفاء للمريض،
كرائحة بخور المر،
الموت أمامي،
كالجلوس تحت ظل الشراع في يوم عاصف الريح،
كعطر أزهار اللوتس، كالسماء عندما تصفو السماء من الغيوم.
الموت أمامي اليوم،
كعودة الرجل إلى بيته بعد سنوات في الأسر،
كالجلوس على شاطئ الحب والسكر.
الملك :
إلى هذا الحد يشتاق للموت؟
الروح :
سيجد هناك من يشكو إليه.
الصوت :
حقا، إن من يعش هناك سيصبح إلها حيا.
إن من يعيش هناك سيصبح حكيما.
ولن يمنعه أحد من الشكوى لرع.
الملك :
الموت الموت، أيمكن أن يحبه كل هذا الحب؟
الروح :
بحث حوله فلم يجد سواه.
الملك :
والأمل؟ والحب والنور؟ والزوجة؟ والأولاد؟
الروح :
لم تكن إلا أسماء لشيء واحد.
الملك :
حذار أن تقول إنه الموت.
الروح :
ومن غيره؟ منذ القدم وهو يحكم المدينة، بنى الهرم والمصطبة والمعبد.
أقام التمثال ونقش على المسلة وزخرف التابوت، أحب الأخت وأنجب الأولاد ليقدموا لروحه القرابين، أنشد الأشعار ونطق بالأمثال وحفظ الوصايا؛ لكي لا ينسى اسمه. عصر النبيذ وشرب الجعة، وتمتع بيوم سعيد قبل أن يغيب في الظلام، تعب في الحقل وحارب في الميدان وبرع في البناء ليرضى عنه فرعون، وينعم عليه بقبر صغير، الموت ... الموت ... الموت ... يا أرض الأكفان والتوابيت والندابين، يا أرض الجثث المحنطة وكتاب الموتى والمتعب من الحياة، والعازف الأعمى على القيثار، يا أرض السجلات والملفات واللجان والدواوين، يا أرض البردي والجعارين والمساكين والدجالين.
الملك :
إنه التاريخ، أتريد أن تلغي التاريخ؟
الروح :
ومن يستطيع أن يلغيه؟
الملك :
ماذا تريد إذن؟
الروح :
أريد أن نتحرر منه.
الملك :
تتحرر منه؟ كيف؟
الروح :
نفك الأربطة عن الجثة الخالدة، نتخلص من تاريخ الموت لنبدأ تاريخ الحياة.
الملك :
يا لك من طموح، وهل هناك من تحرر منه؟ منذ زمن الأجداد الراقدين في الأهرام، هل هناك من تحرر منه؟
الروح :
ليس هذا ما أعنيه، أعني الموت الآخر.
الملك :
أيهم يا ولدي، حيرتني؛ فهم كثير.
الروح :
ألم أقل لك إنه يحكم المدينة؟
من عهد مينا وخوفو وهو يسكن القلوب والقبور.
الخوف في العيون،
الذل فوق الظهر والجبين،
الجوع والحرمان في البطون،
القهر والهوان والعذاب والأنين.
صوت :
العدل يا مولاي للمظلوم.
صوت :
من يفتح السجون؟
صوت :
من يقتل التنين؟
صوت :
من يطعم المسكين؟
صوت :
من ينصف المغبون؟
صوت :
من يهزم الظلام في الصدور والعيون؟
صوت :
من يمسك الميزان والأشرار من يدين؟
صوت :
العدل يا مولاي، العدل يا فرعون.
الملك :
فرعونكم مسكين، فرعونكم مسكين (يبكي) .
الروح :
أتبكي؟
الملك :
تخلوا عني، كذبوا علي.
الروح :
تركت الفساد ينتشر في البلاد.
الملك :
أنت أيضا؟ إنني أموت كاليتيم.
الروح :
ما زلت بجانبك؟
الملك :
ما الذي جاء بك؟ لم طاردتني ؟ من أنت؟
الروح :
أنا؟
الملك :
ما اسمك؟ ما اسم أبويك؟
الروح :
ليس لي اسم، أنا أيضا يتيم مثلك.
الملك :
من أي قبر خرجت؟ هل جئت من عند الآلهة والأجداد؟
الروح :
أنا من تراب هذه الأرض، ليس لي اسم ولا مكان؛ لأنني في كل اسم وكل مكان.
في الجبل وحبة الرمل، في الريح وقطرة النيل، في زهرة اللوتس وأغصان النخيل، في الثور والفراشة، في التمساح والعصفور، في قلب المحتضر وابتسامة الوليد.
الملك :
تكلم، ماذا أفعل؟
الروح :
فات الوقت.
الملك :
هل تتخلى عني؟
الروح :
أنا بجانبك.
الملك :
أهناك أمل؟
الروح :
إذا خرج الموت من المدينة.
الملك :
سيأخذني معه.
الروح :
وسيأتي غيرك.
الملك :
أيستطيع أن يحكم بعدي؟ أيستطيع أن يهزم الموت في الضمير، والموت في الصدور؟
الروح :
والموت في التراب.
الملك :
والذي يزعجه صوت أفراس البحر؟
الروح :
عندما يزعجه بصوت الفئوس والرماح والحراب.
الملك :
ليتني أراه قبل أن أموت.
الروح :
اسمع ... ها هم يتحدثون عنه.
صوت :
سيد كل الناس،
الراعي الشجاع الذي يجمع قطعانه الباكية،
يطفئ حريق الفتنة،
لا يحمل في قلبه شرا.
أين هو اليوم؟
أين هو اليوم؟
هل هو نائم؟
انظر، إن بأسه لا يرى،
ولكنه سيظهر عما قريب،
سيظهر عما قريب.
الروح :
أيها الملك (يتحسسه فيجد أنه مات) ... نعم نعم ... سيظهر عما قريب.
الراوية (يظهر في هالة من الضوء) :
هكذا يكون الملك قد مات.
الملك الذي عاش ومات في قصره كاليتيم،
بعد أن حكم، كما يقول التاريخ، من السنين أربعا وتسعين،
وبعد أن مات هذا الشيخ المسكين،
ظل الحكماء ينذرون، والندابون يندبون،
والمتعبون من الحياة يتألمون ويشكون،
حتى خرج من الشعب الذي نسيه الملك العجوز،
رجل عرف كيف يغضب وينتفض ويثور،
ويجمع حوله القطعان الباكية في الحقول،
والجياع من الشوارع، والمساجين من السجون،
أزعجه صوت ذلك المتبجح المغرور،
الذي أزعجته أصوات أفراس البحر،
نادى على المظلومين والمتعبين والفلاحين،
فخرجوا بالعصا والحجارة والفئوس،
وهجموا بالأظافر والأسنان على الهكسوس،
في أوقات المحن والكوارث والأزمات،
يرجع الإنسان للتاريخ وينبش الذكريات.
صوت :
تذكروا العدو الذي لا يزال هناك.
صوت :
لا تنسوا أنه هدم حائط الحاكم العجوز.
صوت :
تذكروا أن أفراس النهر لا تزال تزعجه.
صوت :
لا تنسوا أنه يذبح الرجال والأطفال والنساء.
صوت :
تذكروا ... تذكروا ... تذكروا.
صوت :
لا تنسوا ... لا تنسوا ... لا تنسوا! (ستار)
ثوب الإمبراطور
مسرحية من ثلاثة مشاهد
الشخصيات
المنادي.
المهرج.
الخياط الأول.
الخياط الثاني.
الإمبراطور.
الحارس.
الفلاح.
العامل.
الشاعر.
المؤرخ.
البطل.
الجلاد.
الطفل.
الأم.
مجموعة من الفلاحين والعمال والشعراء والمفكرين والعلماء والفرسان والحراس وأفراد الحاشية.
عنوان المسرحية يشير بنفسه إلى القصة المشهورة لكاتب الأطفال الدنماركي العظيم «هانز كرستيان إندرسون»، وإن كان لا يشير إلى التصرف فيها عند كتابتها تحت تأثير أحزان النكسة. أذيعت من البرنامج الثاني بإذاعة القاهرة من إخراج الأستاذ هلال أبو عامر، وعرضتها فرقة المنتدى الثقافي بالبصرة، ونشرت لأول مرة سنة 1971م في مجلة الآداب البيروتية.
المشهد الأول (المهرج يترنح على المسرح، يجرب ثيابا مختلفة يخرجها قطعة بعد قطعة من كيس أمامه، يسمع صوت المنادي بين الحين والحين آتيا من بعيد.)
المهرج :
هذا هو المهرج وإلا فلا، رقع في كل مكان، حمراء وخضراء وزرقاء ومن كل الألوان ... طرطور أحمر على الرأس، سروال يصلح قميصا وقميص يصلح سروالا، ولم لا؟ كل شيء جائز، ما دمت قد قررت أن أكون بهلوانا، إذا ضحكت ضحك الناس، وإذا بكيت ضحكوا أيضا. يكفي أن أسير أمامهم على قدمي أو على رأسي لا يهم، المهم أن ضحكاتهم ستصل إلي كأمواج البحر، وأن أيديهم ستصفق لي، أيديهم التي تعودت على السلام والنفاق وعد النقود. الآن تنطلق هذه الأيدي الخشنة، هذه الأيدي المتوحشة. الآن تعرف اللعب والبراءة والضحك فكرة رائعة، لا أدري لماذا لم تهطر لي قبل الآن! هل هناك أسهل من هذه المهنة؟ يكفي أن تنظر إلى الناس من أعلى أو من أسفل، أن تتحول إلى عصفور فوق رءوسهم أو نملة تحت أقدامهم، هم يسيرون على قدمين، جرب أن تسير على رأسك، هم يسلمون بالأيدي. جرب أن تسلم بقدميك، هم يخرجون الكلام من أفواههم. جرب أن تخرجه من بطنك أو من ... معذرة. (للجمهور)
لم أكن أدري أنكم تسمعونني، لكن ماذا أفعل وقد ضقت بحرفتي، أو في الحقيقة ضاق بها الإمبراطور، نعم نعم عندنا إمبراطور، أراكم لا تصدقون، لكن انسوا ما قلته الآن. لحظة واحدة فقط، انسوا المهرج والبهلوان، وتذكروا ... تذكروا، لا ... الأفضل أن أذكركم أنا، حرفتي هي الخياطة. دكان في حارة ضيقة، لا يدخلها نور الشمس ولا نور القمر والنجوم، ولم تطأها قدم عبد عبيد الإمبراطور، لكن الأيام ليس لها أمان، فقد خفت أن يدخلها سيف الإمبراطور، ويبحث عن رأسي هذه التي تختفي تحت الطرطور (يرفع الطرطور قليلا في يده)
ومن يقطع الرأس يقطع معها الأنف والعيون والخدود التي تكسوها المساحيق (يخرج مرآة من صدره)
بذمتكم، أليست هذه خسارة، وكل هذا التعب يروح على الأرض ... الأبيض على الوجه، والأحمر على الرقبة (يمسك رقبته ويصرخ)
آه، والكحل في العينين (يفتح عينيه ممسكا إياها بيديه)
ثم التحسينات الأخرى التي تستجد، ريشة في الأذن أو على الرأس، قرنان على الجانبين، قناع وقت الضرورة، كل هذا بضربة سياف، آه ... لكنني نفدت بجلدي، طبعا فهمتم ما أريد، فالإمبراطور قد أمر بذبحنا جميعا، أقصد الخياطين في الإمبراطورية ... لماذا؟ وهل هذا سؤال؟ بالطبع لأننا فاشلون، لأننا لا نصنع الثياب التي ترضيه، لا ثياب الرعية بالطبع، فهؤلاء يرضون بأي شيء يستر العري؛ لأن العري كما تعلمون ممنوع في الإمبراطورية ... لماذا؟ وهل هذا سؤال؟ (في لهجة خطابية)
لأن البلد فيها قانون، فيها محاكم، فيها حراس، فيها إمبراطور، فيها ... فيها ... أعود لحكايتي، الإمبراطور لا يعجبه العجب، في كل يوم يلبس ثوبا، وفي كل يوم يذبح خياطا، طبعا تعرفون الملك شهريار، إمبراطورنا شهريار من نوع آخر، ترك العذارى والتفت للخياطين، الثوب الضيق لا يعجبه ... الواسع لا يعجبه، نقدم له الطويل المجرجر فيقول: لا ... وتسقط رأس ... والقصير فوق الركبتين فيصرخ لا ... وتسقط رأس، نقدم له بذلة الأبطال الشجعان فيقول: ما هذا السخف؟ أين ثوب الحكماء؟ ونقدم له عباءة الحكماء. فيقول: ما هذا الملل؟ أين سلطان الإمبراطور؟ وعندما خفت أن يأتي الدور علي ، مع أنني كما قلت لكم خياط الرعايا والرعية الذين لا يطلبون إلا الستر. قلت أفصل لنفسي هذا الثوب، طبعا ترون أنني كنت من أمهر الخياطين (يسمع صوت المنادي يقترب)
اللهم اجعله خيرا، قلت لكم كنت ... في الماضي والله، وحق رءوسكم ورءوس أجدادكم، لا تقولوا شيئا لهذا الشيخ الملعون وإلا فضحني في طول البلاد وعرضها (يدخل المنادي الأعمى يسبقه صوته الجهور) .
المنادي :
يا أهالي الإمبراطورية، من الرعايا والرعية، الحاضر يعلم الغائب، والماشي يقول للراكب، عظمة الإمبراطور، الذي وجهه كالنور، وطلعته كبدر البدور، وعطاياه بالذهب والبللور، أمر وأمره مطاع، واجب على الأعيان والرعاع، أن يجهز له ثوب لطيف، يليق بجسده الشريف، ليس له مثيل في البلاد، ولم تلبس مثله العباد، إن أرضاه رفع صاحبه إلى أعلى مقام، وإن أغضبه قطع رأسه بالسيف ومزق جسمه بالسهام، يا أهالي الإمبراطورية، من الرعايا والرعية، الحاضر يعلم الغائب، والماشي يقول للراكب ... إلخ.
المهرج :
أعوذ بالله، لو كانت عينه مثل صوته، لرحت في ألف داهية.
المنادي (يقترب منه) :
أنت يا من هناك ... أنت ...
المهرج :
لا ... لا أحد هناك.
المنادي :
لماذا لا ترد؟ إنسان أنت أم حيوان؟
المهرج :
أنا يا عم كما تشاء، المهم دعني في حالي.
المنادي :
هذا الصوت ليس غريبا علي، لماذا تقف هناك كالثور، ألم تسمع أن الإمبراطور ...
المهرج (مكملا) :
الذي وجهه كالنور، وطلعته كبدر البدور.
المنادي :
ألم تسمع أن الحاضر عليه أن يبلغ الغائب.
المهرج :
سمعت.
المنادي :
ولماذا لم تتحرك؟
المهرج :
ومن قال لك أنني حاضر؟
المنادي :
صوتك.
المهرج :
ألم يقل لك إنني حاضر كالغائب، وغائب كالحاضر.
المنادي (متشككا) :
بل قال إنني سمعته قبل هذا.
المهرج (منزعجا) :
إما أنه قال لك ولم تفهم، أو أنك لم تفهم ما قال.
المنادي :
هذا يؤكد أنني سمعته من قبل، أين؟ أين؟ أين؟
المهرج :
في السيرك؟
المنادي (متفكرا) :
لا.
المهرج :
في السوق؟
المنادي :
لا ... لا.
المهرج :
من سابع أرض؟
المنادي :
لم أتعلم لغة الشياطين.
المهرج :
من سابع سما؟
المنادي :
لم أتشرف بصحبة الملائكة والقديسين .
المهرج :
إذن فأنت لا تراني.
المنادي :
أنا أسمعك ولا أراك.
المهرج :
لو رأيت ثيابي.
المنادي :
تمام ... الثوب.
المهرج :
ما هذا؟ إن لم تر بعينيك فاطلب من صوتك أن يريك.
المنادي :
صوتك أنت يريني.
المهرج :
وماذا رأيت؟
المنادي :
الحارة التي لا يدخلها النور.
المهرج :
إذن فاذهب إليها واتركني في حالي.
المنادي :
دكان الخياط اللئيم.
المهرج :
خياط؟ ما هذه المصيبة؟
المنادي :
إذن المنادي هي عينه، الآن عرفتك.
المهرج :
يا سيد ... المهرجون يعرفون من ثيابهم.
المنادي :
والخياطون أيضا.
المهرج :
رجعنا للخياطين؟ يا عم دعني في حالي، ألم تسمع بمذبحتهم؟ ألم يكفك ما جرى لهم؟ ألم يبق إلا المهرجون؟
المنادي :
تعال يا كذاب ... يا كافر، ثوبي أو فلوسي؟ أين الثوب؟
المهرج :
رحمتك يا رب، رجعنا للثوب، يا عم أنا لا أعرفك.
المنادي :
عرفت فلوسي؟
المهرج :
ولا عمري رأيتك.
المنادي :
وقست مقاسي بيديك.
المهرج :
ألم أتزوج بنتك أيضا؟ ألم أخطف منك زوجتك؟ ألم؟
المنادي :
فلوسي ... ثوبي ... فلوسي ... ثوبي (يتحسس ويبحث عنه حتى يمسك بخناقه) . (يدخل رجلان أحدهما طويل ضخم والآخر صغير ضئيل، يلبسان ثيابا غريبة، ويسيران كأنهما يحملان حملا ثقيلا جدا، ولكنه لا يرى.)
الرجل الأول :
ما هذا؟ أليس في هذه البلاد قانون؟
الرجل الثاني :
أليس فيها محاكم؟
الرجل الأول :
أليس فيها حراس؟
الرجل الثاني :
أليس فيها أقفاص؟ (يفرقان بينهما بعد أن يضعا حملهما الوهمي على الأرض.)
المنادي :
فلوسي يا محترم.
الرجل الأول :
أين فلوسه يا رجل؟
المهرج :
في عرضك، هل مثلي معه فلوس؟
الرجل الثاني (يمد يده، ويرفع طرطوره من على رأسه ويهزه) :
لا ليس معه فلوس.
المنادي :
ثوبي يا محترم.
المهرج :
في طولك، هل مثلي يعرف الثياب؟
الرجل الثاني (يركع على الأرض، وينظر إليه من أسفل إلى أعلى) :
لا ... ليس عليه ثياب.
المهرج :
يحيا العدل.
المنادي (يصرخ) :
يا ناس ... فلوسي ... ثوبي ... فلوسي.
المهرج :
عرفت الآن أن البلد فيها قانون.
الرجل الأول :
وفيها محاكم.
الرجل الثاني :
وفيها حراس.
الرجل الأول :
وفيها أقفاص.
الرجل الثاني (يشب على قدميه ويقلد عمل السياف على رأس المنادي) :
وفيها سياف.
المنادي :
سياف ... لا ... لا، وقعت من مهرج في سياف، ما هذا اليوم الأسود! (ينادي)
النداء أسلم، يا أهلي الإمبراطورية، من الرعايا والرعية ... إلخ. (يواصل نداءه ويخرج من المسرح مذعورا.)
الرجل الأول :
وفيها إمبراطور؟
الرجل الثاني :
وفيها إمبراطور؟
المهرج :
وفيها إمبراطور، والإمبراطور له إمبراطورية، والإمبراطورية فيها رعية، والرعية ...
الرجل الأول :
والرعية فيها خياطون.
الرجل الثاني :
والخياطون يصنعون الثياب؟
المهرج :
رجعنا للخياطين والثياب؟
الرجل الأول :
وهل يمشي الناس عرايا؟
المهرج :
الغالبية، نعم ... أنا مثلا.
الرجل الأول :
وهذه الملابس التي عليك؟
المهرج :
وهل تسمي هذه ملابس؟
الرجل الثاني :
أنا أسميها ملابس يمكن بشيء من الصبر أن تصبح ثيابا.
المهرج :
ما هذا اليوم الأسود؟ هل كل من أقابلهم اليوم عميان؟ لم يبق إلا أن تقولا: أنت الإمبراطور.
الرجل الأول (ضاحكا) :
لطيف جدا.
الرجل الثاني (يشب ليربت على كتفه) :
ذكي جدا.
المهرج (يربت عليه أيضا) :
قصير جدا جدا.
الرجلان (يضحكان) :
هذا من نعتمد عليه ... هذا من نبحث عنه.
المهرج (منزعجا) :
أنتما أيضا تبحثان عني؟ أأكون صنعت لكما ثوبا ونسيت؟
الرجل الأول (معا) :
هذا من يملك عينين.
الرجل الثاني :
ولسانا وذراعين.
المهرج :
وطرطورا ذا قرنين.
الرجل الأول :
ويرى اللحم وراء الثوب.
الرجل الثاني :
ويرى العظم وما في القلب.
المهرج :
ويرى أنكما بغلان ... وسخيفان ومجنونان.
الرجل الأول :
هذا المبصر في بلد العمى.
الرجل الثاني :
والمتكلم في بلد الصم.
المهرج :
كفى شعرا.
الرجلان (يضحكان) :
والشاعر في بلد الخرس.
المهرج :
قلت كفى شعرا، هل تظنان أن البلد بلا حكومة؟
الرجل الأول :
سمعنا أنها إمبراطورية.
المهرج :
طبعا وللإمبراطورية إمبراطور.
الرجل الثاني :
وله قصر؟
المهرج :
وهل ينام في كوخ؟
الرجل الأول :
والقصر له حراس؟
المهرج :
والحراس عندهم سيوف، والسيوف تقطع الرقاب، والرقاب تستحق القطع، ماذا تريدان إذن؟
الرجل الأول :
نريد أن نتفق معك.
الرجل الثاني :
على الخير والشر.
الرجل الأول :
والمكسب بالنصف.
المهرج :
والأجر على الله (يريد أن ينصرف) .
الرجل الأول :
تعال هنا.
الرجل الثاني :
هل تظن البلد بلا قانون؟
الرجل الأول :
ولا محاكم.
الرجل الثاني :
ولا حراس؟
الرجل الأول (مشيرا إلى رأسه) :
ولا سياف؟
المهرج :
في عرضكم، من أنتم؟ من أين أتيتم؟ ماذا تريدان؟
الرجل الأول :
أنا أجيب على السؤال الأول.
الرجل الثاني :
وأنا على الثاني.
الرجل الأول :
وأنت على الثالث.
المهرج :
نبدأ بالسؤال الأول، من أنتما؟
الرجل الأول :
هل لك عينان؟
المهرج :
أنا الذي أسأل ... من أن...ت...ما؟
الرجل الأول :
انظر إلى هذا الصندوق.
الرجل الثاني :
ارفع غطاءه أولا.
المهرج (يتلفت حوله) :
وهل هناك صندوق حتى أرى غطاءه؟
الرجل الأول (يصفعه فجأة) :
رجعنا للف والدوران، قلنا لك انظر الصندوق، فلا بد أن ترى الصندوق.
الرجل الثاني (يصفعه على خده الآخر) :
وترفع الغطاء، يعني لا بد أن ترفع الغطاء.
المهرج :
آه ... لا داعي للضرب، أنا تحت أمركم، ماذا تريدان مني؟
الرجل الأول (يهدده بيده الضخمة) :
أن ترى الصندوق.
المهرج :
طبعا أراه كالشمس، أستطيع أيضا أن أحضر لكما ما بداخله.
الرجل الثاني :
بداخله ثوب.
المهرج (لنفسه) :
رجعنا للثياب (ثم لهما)
ثوب واحد؟ ولماذا لا يكون عدة ثياب؟ وهل سأدفع شيئا من جيبي؟
الرجل الأول (يصفعه بشدة) :
قلت لك ثوب واحد.
الرجل الثاني (يشب ليصفعه فيهرب المهرج منه) :
ثوب واحد يعني ثوبا واحدا.
المهرج :
طبعا ثوب واحد، وجميل جدا.
الرجل الأول :
نسجته أيدي العذارى.
المهرج :
يا سلام.
الرجل الثاني :
اخرس.
الرجل الأول :
وباركه الكاهن الأعظم.
المهرج :
واضح ... واضح.
الرجل الثاني (يحاول أن يصفعه فيتلافاه المهرج) :
قلت لك: اخرس.
الرجل الأول :
مرصع بالذهب والجواهر.
المهرج :
وحريره من الهند والصين.
الرجل الثاني :
رأيت؟
المهرج :
تقصد ... فهمت.
الرجل الأول :
يهمنا أن نجد رجلا مثلك.
الرجل الثاني :
يرى في بلاد العميان.
المهرج :
ويسمع في بلاد الصم.
الرجل الأول :
ويخرس عندما نقول له اخرس (يصفعه مرة أخرى) .
المهرج :
رأيت وسمعت وفهمت وخرست.
الرجل الأول :
اتفقنا؟
الرجل الثاني (مهددا) :
قل نعم.
المهرج :
نعم نعم (بعد لحظة)
على أي شيء؟
الرجل الأول :
على أن نذهب للإمبراطور.
الرجل الثاني :
وتقدمنا إليه.
المهرج :
لكن ...
الرجل الأول (مهددا) :
وتصيح، هذا هو الخياط يا مولاي.
الرجل الثاني (مهددا) :
وهذا هو مساعده .
المهرج :
وهذا هو الصندوق .
الرجل الأول :
والثوب النادر بداخله.
المهرج (صائحا) :
الثوب النادر، الثوب العجيب ... الثمين ... النفيس.
الرجل الثاني :
نسجته أيدي العذارى.
المهرج :
من حرير الهند والصين.
الرجل الأول :
بالذهب والجواهر.
الرجل الثاني :
ملمسه كالمخمل الناعم.
المهرج :
لا يليق إلا بالإمبراطور.
الرجل الثاني :
اتفقنا.
الرجل الأول :
هيا بنا.
المهرج :
إلى قصر الإمبراطور (ينظر إليه فيتقدمهما ويسيران وراءه) .
المهرج (ملتفتا بعد أن يسير خطوات) :
وغدا نعود لنحمل الصندوق.
الرجل الأول :
حقا ... الصندوق.
الرجل الثاني :
الصندوق ... الصندوق. (يعود الجميع ويتعاونون على حمل الصندوق الوهمي، ويخرجون من المسرح بينما يرن صوت المنادي من بعيد: يا أهالي الإمبراطورية، من الرعايا والرعية ... إلخ.)
المشهد الثاني (حجرة في قصر الإمبراطور، الخياطان منهمكان في العمل الوهمي، حارس غليظ يغط في النوم، المهرج يتقدم من المسرح ويخاطب الجمهور.)
المهرج :
مضى علينا الآن شهران، في هذا المنفى الذي يسمونه الآن جناح خياط الإمبراطور، لا أحد يرانا، ولا نرى أحدا، حتى العصافير حرمتنا من غنائها، لا صوت نسمعه، لا أحد يسمع صوتنا، لا شيء يربطنا بالعالم إلا فتحة في الجدار نرى منها السحب، وهي تعبر كالخيول البيضاء، لا بل ترف كثوب الإمبراطور، شفافة وبيضاء وشاحبة، في بعض الأحيان أناديها: أيتها السحب المسافرة، قولي لأهلي: أنا هنا في قصر الإمبراطور، قولي للناس: نحن نصنع ثوب الإمبراطور، الثوب الذي سيرونه ويهتفون: يا للمعجزة، يا للروعة. الآن استراح قلب الإمبراطور ... الآن اطمأنت الإمبراطورية، ها هو الثوب الذي ذبح من أجله كل الخياطين، الثوب الذي يجعله أعظم إمبراطور كما يجعله الإمبراطور أعظم الثياب. بوركت أيها الخياط السعيد! من أي بلد جئت أيها الساحر المجيد؟ أكنت تفصل الأثواب لحوريات الفردوس؟ أم تعلمت الفن على يد إبليس، لكن هل يا ترى سيذكرني أحد؟ هل سيسمعون عن المهرج الذي قاد الخياطين إلى قصر الإمبراطور؟ هل سيتحدثون عن الرجل الذي سيعلمهم أن يسيئوا الظن بعيونهم، بل يلعنوا أمهاتهم التي ولدتهم بهذه العيون القديمة البالية، فيروا بعيونهم الجديدة ما لا يوجد، ويجدوا ما لا يرون؟ غدا يظهر إلى الشعب في ثوبه الجديد، نعم غدا فكل شيء الآن على ما يرام، وسيتعلم الناس ما جهلوه من آلاف السنين، أن يغمضوا العيون ليروا جيدا، أو يفتحوها لكي لا يروا شيئا، إلا ما يراه الإمبراطور، أعني خياط الإمبراطور، أعني الخياط ومساعده، أعني مهرجه. (يشير إلى نفسه، ينحني انحناءة بسيطة)
وحارسه الغبي الغليظ (يشير إلى الحارس الذي يغط في نومه)
هل تعرفون ما ضايقني حتى الآن؟ شيئان اثنان، هذا الحارس الذي لا يصحو من النوم إلا لينام، ولا يريد أن يفهم أنه على عتبة عصر جديد، عصر العيون الجديدة، عصر الثوب الجديد. وهؤلاء الخياطون الذين يلتهمون خير الطعام على صينية طباخ الإمبراطور، ويتركون لي العظام ويقولون: كل هذا الديك، كل هذه الدجاجة، هل ألومهما أم ألوم عيني التي لم تتعلم أن ترى اللحم مكان العظام؟ المهم، لا يمكن بالطبع أن أقضي الوقت في الكلام، لا بد من عمل شيء، انظروا الآن بعيونكم القديمة لحظة واحدة (يصفع الحارس على وجهه، فيصحو مذعورا من نومه) .
الحارس :
هه ... هه ... من ... من؟
المهرج :
ألم أقل لك ألف مرة افتح عينيك؟
الحارس (يفرك عينيه) :
ومن قال لك إنني أغلقتهما؟
المهرج :
شخيرك العالي.
الحارس :
هذا نوع جديد من الحراسة، تماما مثل الفن الذي تعلمته منك.
المهرج :
وما هو هذا الفن؟
الحارس :
هل نسيت؟ الرؤية بعيون مغمضة.
المهرج :
آه تذكرت، أنت تحفظ الدروس بنصها، نعم قلت لك: تعلم كيف تفتح عينيك فلا ترى أي شيء، وكيف تغمضها فترى كل شيء.
الحارس :
وهذا ما فعلته يا مولاي.
المهرج :
وماذا رأيت؟
الحارس :
رأيت كأنني أطير في الهواء.
المهرج :
علامة سيئة.
الحارس :
والثوب الإمبراطوري ملفوف حول جسدي يرفعني إلى السماء بجناحين.
المهرج :
بجناحين؟
الحارس :
والإمبراطور فوق عربته يصيح وتصيح معه جماهير الشعب الإمبراطوري: أعد إلينا الثوب يا مجنون.
المهرج :
طبعا مجنون، وهل جننت في عقلك حتى تسرقه وتطير به في الهواء؟
الحارس :
هل نسيت؟ الرؤية بعيون مغمضة إليهم خصوصا وأنهم كانوا يتوسلون ويبكون وينتظرون، ولكنني ...
المهرج :
حذار أن تقول أنك كنت عاريا.
الحارس :
ابن حلال، ولكن هل كنت معي في المنام؟
المهرج :
وأنا الذي سأوقظك منه (يصفعه) .
الحارس :
ما هذا؟
المهرج :
وأعيدك إلى الأرض يا عريان (يصفعه مرة أخرى) .
الحارس :
والله مظلوم مظلوم مظلوم.
المهرج :
افهم الآن نحن في عصر جديد (يدخل الخياطان يتلمظان) .
الخياط الأول :
تمام، عصر يحتاج لتفكير جديد.
الخياط الثاني :
ونظر جديد.
المهرج (يتلمظ مثلهما) :
وطعام جديد.
الحارس (يتلمظ مثلهما) :
خصوصا الطعام.
الخياط الأول :
ومن جاء الآن بسيرة الطعام؟ إلى العمل يا كسالى.
الخياط الثاني :
لم يبق إلا القليل وتنتهي المعجزة.
المهرج :
ويبدأ عصر جديد.
الخياط الأول :
قلت هيا للعمل.
المهرج :
أمرك ... المقص؟
الخياط الأول :
وماذا أفعل به؟ ألم ننته من قص الثوب من شهرين؟ هل نسيت أن الإمبراطور سيشرفنا اليوم؟
المهرج :
طبعا طبعا، إذن بقي العمل في الرقبة (الحارس يتابعه بعينيه)
هنا ...
الخياط الأول :
بل في الذيل ... يا للغباء.
المهرج :
طبعا طبعا، هنا أيضا (الحارس يتابعه) .
الخياط الأول :
إلى متى أعلمك فن الرؤية الجديد؟
المهرج :
معك حق، والتفكير الجديد، والعصر الجديد.
الخياط الثاني :
قلنا إلى العمل، كفى ثرثرة، أين الإبرة الجديدة؟
المهرج :
لم نتفق على أنها جديدة.
الخياط الأول (صارخا) :
الإبرة العجيبة.
المهرج (مسرعا كأنه يبحث في مكان ويحضرها ويناولها له) :
أما العجيبة فنعم ... ها هي.
الخياط الأول :
من هنا، نحن الآن في اللمسات الأخيرة ... في ماذا؟
المهرج :
اللمسات الأخيرة، يا لك من فنان!
الخياط الأول :
لا تنس أن تضيف: فنان جديد.
المهرج :
طبعا طبعا، كل شيء الآن جديد.
الخياط الأول :
وأنت يا حمار، عندما يحضر الإمبراطور.
الحارس (يضرب سلاما) :
مولانا الإمبراطور ... (الخياطان منهمكان في العمل، لا يلتفتان إلى دخول الإمبراطور ومعه اثنان من الحاشية.)
الخياط الأول :
هذا هو الثوب (مشيرا إلى شيء وهمي) . وهذا هو النول الجديد، وهذه هي الخيوط الجديدة. (الحارس يتابعه بعينيه ويضرب السلام.)
الإمبراطور :
هل رأيتما النول الجديد؟
الرجل الأول (من الحاشية) :
يا له من نول عظيم.
الإمبراطور :
والخيوط الجديدة.
الرجل الأول :
يا لها من خيوط رائعة!
الإمبراطور :
ما أسعدني ... أنا الإمبراطور السعيد.
الرجل الأول :
الإمبراطور السعيد.
الرجل الثاني :
الإمبراطور السعيد.
الخياط الأول :
شرفتنا يا مولاي.
الخياط الثاني (وهو يعمل) :
لم تبق إلا اللمسات الأخيرة.
الإمبراطور (يلف حولهما) :
ألم أقل لكما أنا الإمبراطور السعيد.
الرجل الأول :
السعيد.
الرجل الثاني :
السعيد.
الخياط الأول :
وبعد قليل تصبح الإمبراطور الجديد.
الرجل الأول :
الجديد.
الرجل الثاني :
الجديد.
الإمبراطور :
ألم أقل لكما؟ الإمبراطور السعيد الجديد (يضحك) .
الرجل الأول (جانبا) :
ما يحيرني ... أين هو الثوب؟
الرجل الثاني (جانبا) :
وما يحيرني أن تسأل هذا السؤال؟
الرجل الأول :
إذا كنت لا أرى شيئا.
الرجل الثاني :
لأنك لم تتعلم كيف ترى.
الرجل الأول :
وهل هناك ما أراه؟
الرجل الثاني :
ليس المهم ما تراه، المهم ما يراه الإمبراطور.
الرجل الأول :
وهل يرى شيئا؟
الرجل الثاني :
هل جننت؟ أم تريد أن تجد رأسك أمام قدميك؟
الإمبراطور :
أنا سعيد يا أبنائي ... أنا سعيد ... ألم أقل لكم إنني سمعت العصافير تغني.
الرجل الأول :
وتقول صو ... صو، الإمبراطور السعيد.
الرجل الثاني (يقلد العصافير) :
السعيد ... السعيد.
الإمبراطور :
والبقر في المراعي.
الرجل الأول (يقلد البقر) :
الإمبراطور الجميل ... الإمبراطور الجميل.
الرجل الثاني :
الجميل ... الجميل.
المهرج :
والحمير أيضا يا مولاي، لا تنس الحمير.
الإمبراطور :
هي أيضا؟ وماذا تقول يا ولدي؟
المهرج (يقلد الحمير) :
الإمبراطور العظيم ... الإمبراطور العظيم.
الرجل الثاني :
العظيم ... العظيم.
الإمبراطور :
أنا لا أخاف الآن شيئا يا أولادي.
الرجل الأول :
الإمبراطور لا يخاف ... لا يخاف.
الإمبراطور (حزينا) :
بل أخاف من شيء واحد يا أولادي.
الرجل الثاني :
الإمبراطور يخاف ... يخاف.
الإمبراطور :
أخاف على شعبي من هذه السعادة. ماذا يقول التاريخ عن هذا اليوم؟ هل يقول الإمبراطور قتل الناس من السعادة؟
الرجل الأول :
هذا ما تتمناه كل الشعوب يا مولاي.
الرجل الثاني :
أن تموت من السعادة يا مولاي.
الخياط الأول :
الآن ...
الإمبراطور :
آه ... أخشى أن أكون أول من يموت من السعادة يا أبنائي.
الرجل الثاني :
هذه خرافة أعداء الوطن يا مولاي.
الإمبراطور :
صحيح يا أبنائي، إنها الغيرة ... الحسد.
الخياط الأول (يضع ثوبا وهميا على كتفيه، الثاني يساعده) :
لا ... لا تتحرك يا مولاي. أهم شيء أن تبدو طبيعيا، تماما كما لو كنت تلبس أقدم الثياب.
الخياط الثاني :
الثوب العجيب.
المهرج :
الذي نسجته أيدي العذارى (الإمبراطور يضحك) .
الخياط الأول :
من حرير الهند والصين (الإمبراطور يضحك) .
المهرج :
وعبير بلاد العرب ومسك الشام (الإمبراطور يضحك) .
الخياط الأول :
وجواهر الأرض ولآلئ البحار (الإمبراطور يضحك) .
الخياط الثاني :
وكل من يراه يخر على قدميه.
المهرج :
ومن لا يراه يخر أيضا على قدميه.
الإمبراطور :
حتى العصافير والبهائم يا أولادي.
المهرج :
والحمير أيضا يا مولاي (يقلد صوت الحمير) .
الإمبراطور (يضحك) :
وكل هذا غدا؟
الرجل الأول :
غدا يبدأ عصر جديد.
الرجل الثاني :
كما قال الفلكيون يا مولاي.
الإمبراطور :
قالوا هذا؟ حقا إنهم فلكيون.
الرجل الأول :
والشعراء والمؤرخون.
الرجل الثاني :
والكتاب والصحفيون.
الرجل الأول :
ورجال السينما والتليفزيون.
الرجل الثاني :
ورواد الفضاء والنجوم.
المهرج :
والمجانين والمهرجون.
الإمبراطور :
حتى هؤلاء؟ ما أخلصكم يا أبنائي!
المهرج :
وأرواح الخياطين المقتولين.
الإمبراطور (غاضبا) :
لا لا ... امنعوهم من الحضور، لا أريد إثارة الأحزان.
المهرج :
باستثناء أرواح الخياطين.
الإمبراطور :
لا داعي لهم أبدا ... لا أحياء ولا ميتين.
الخياط الأول (للمهرج) :
يا وجه الشوم.
المهرج :
لا أحياء ولا ميتين.
الإمبراطور (يبكي) :
هل تريدون أن أبكي يا أبنائي، مع أنني الإمبراطور السعيد؟
الرجل الأول :
السعيد.
الرجل الثاني :
السعيد.
الإمبراطور :
غدا يحضر الجميع. (للخياطين)
هل انتهيتما؟ الرقبة ضيقة قليلا، يمكنكم أن توسعوا الأكمام ... ماذا قلت؟
الرجل الأول :
توسعوا الأكمام ... توسعوا الأكمام.
الإمبراطور :
قبل هذا.
الرجل الثاني :
الرقبة ضيقة قليلا.
الإمبراطور :
قلت قبل هذا ... قبل هذا.
المهرج :
غدا يحضر الجميع.
الإمبراطور :
تمام ... الشعراء والمفكرون.
الرجل الأول :
والمؤرخون والفلكيون.
المهرج :
والمهرجون والمجانين.
الرجل الأول :
والأحرار والمساجين.
الرجل الثاني :
ورجال السينما والتلفزيون.
المهرج :
والعصافير والحمير.
الإمبراطور :
ادعوهم أيضا، أريد أن يحضر الجميع.
الرجل الأول والثاني :
الجميع ... الجميع ... الجميع.
الإمبراطور :
أشكركم يا أبنائي، أنا ...
الرجل الأول :
الإمبراطور السعيد ... الإمبراطور السعيد (جانبا لصاحبه)
هل خلع الإمبراطور الثوب؟
الرجل الثاني (جانبا) :
وهل رأيته حين لبسه حتى أراه حين خلعه؟
الرجل الأول (جانبا) :
اسكت ... اسكت، يظهر أن رأسك ...
الرجل الثاني (جانبا) :
لا تخف، لم تسقط حتى الآن رأس منافق أمام قدميه.
الإمبراطور :
والآن يا أبنائي ... ماذا تطلبون؟
الخياط الأول (وهو يخلع الثوب عنه بعناية ويضعه بعناية) :
راحتك يا مولاي.
الخياط الثاني :
ورضاك عنا يا مولاي.
الإمبراطور :
بالطبع يا أولادي، لكن ألا أسمع ما تطلبون؟
المهرج :
نحن نطلب رضاكم، لكن ما تطلبه البطون.
الإمبراطور (ضاحكا) :
حالا ... حالا ... لك ما تشاء يا ملعون.
الخياط الأول :
طلب واحد.
الخياط الثاني :
واحد وبسيط.
الإمبراطور :
تكلما ... تكلما.
الخياط الأول :
تطلب أن تأمروا المنادي.
الإمبراطور :
بماذا آمره فيستجيب؟
الخياط الأول :
أن ينادي ويقول:
المهرج :
الحاضر يعلم الغائب، والماشي يقول للراكب ...
الخياط الأول (ينظر للمهرج مهددا) :
ليحضر الجميع ... ليحضر الجميع.
الخياط الثاني :
الشيخ والرضيع ... والكريم والوضيع.
الخياط الأول :
ويأتوا معهم بعيون جديدة.
الخياط الثاني :
ترى الأشياء القريبة بعيدة.
الخياط الأول :
والأشياء المعدومة موجودة.
الإمبراطور (لرجلي الحاشية) :
سجلا يا أبنائي ... عيون جديدة.
الرجل الأول (يكتب في دفتر) :
عيون جديدة.
الرجل الثاني (يكتب في دفتر) :
ترى الأشياء القريبة بعيدة.
الرجل الأول (يكتب) :
والمعدومة موجودة.
الرجل الثاني :
وتترك العيون القديمة البليدة.
الرجل الأول :
لتنظر بعيون جديدة.
الرجل الثاني :
عيون جديدة وسعيدة.
الإمبراطور (وهو ينصرف) :
جديدة وسعيدة، غدا يا أولادي. ها ها الإمبراطور سعيد، والرعية أيضا سعيدة (ينصرف رجلا الحاشية وراء الإمبراطور وهما يكرران المقاطع الأخيرة من كلماته، يدخل خادم يحمل صينية عليها طعام فاخر، فيتلقاه المهرج في حماس) .
المهرج :
وأصحاب العيون الجديدة، لا يرون الأشياء غير الموجودة، مثل هذه الصينية الفريدة.
الحارس (متوسلا) :
أنا عيوني ما زالت قديمة.
المهرج :
يا ضيعة تعليمي فيك، أرني (ينظر في عينيه)
أبدا، أنت أذكى مما كنت أظن، أنت لا ترى الآن أي شيء.
الخياط الأول :
ما هذه الصينية العجيبة؟
الخياط الثاني :
ما هذه الصينية الفريدة؟
المهرج :
صينية؟ من قال لكما إن هناك صينية؟
الحارس :
بطني نبتت لها عيون.
المهرج :
عيون أثرية قديمة، ابعد. (يذهب بالصينية في ركن بعيد ويأكل متلمظا)
كل واحد في مكانه، شهرين وأنا أرى الثوب العجيب بعيوني الجديدة. ألا يحق لي أن أرى شيئا واحدا بعيوني القديمة ؟ خذوا.
الحارس والخياطان :
عظم؟
المهرج :
هل عميتما؟ من قال إنه عظم؟ من ينكر أنه لحم مثل من ينكر أن الهواء ثوب، إنه لا يستحق أن يدخل العصر الجديد.
الحارس والخياطان :
في عرضك، نريد أن ندخل العصر الجديد شبعانين.
المهرج :
ادخلوه وحدكم، أما أنا فلا أدخله حتى آتي على هذه الصينية خذوا ... خذوا ... لحم ... لحم ... لحم.
الحارس (باكيا) :
والله عظم ... عظم ... عظم.
المشهد الثالث (منصة كبيرة عليها كرسي العرش، أفواج من رجال الحاشية والحراس والفرسان تتوافد على المكان، وتتخذ مكانها على جانبي المنصة، تدخل أفواج أخرى من الشعب، فلاحون وعمال وأمهات مع أطفالهن، وشحاذون ... إلخ ينظمهم الحراس على الجانبين، المهرج في مقدمة المسرح يواجه الجمهور، يمر المنادي الأعمى ويقول):
المنادي :
الآن يا سادة يا كرام، تبدأ الحفلة وفصل الختام، الناس جاءت من الفلاحين، والمدن ازدحمت بالملايين، ناديت في كل مكان، تعالوا إلى أكبر ميدان، فملئوا الشوارع بالفرح والسرور، كأنهم بعثوا من القبور، ترون الرجال والنساء والأطفال، والقواد والفرسان الأبطال، وعلية القوم النابهين، مع الصعاليك والشحاذين، وجميعهم يا سادة يا كرام، ينتظر طلعة الإمبراطور من الحمام.
المهرج (مقلدا المنادي) :
لم يبق إلا القليل، وتروا الثوب الذي ليس له مثيل؛ فهو قد تم على ما يرام، وسيحمله إلى هنا جيش من الفرسان؛ لأنه أطول وأعرض مما تتصورون، والذهب الذي عليه يزن من الأطنان مليون، معجزة العصر والأوان، سترونها بأنفسكم الآن، فافتحوا عيونكم يا كرام، ليتم كل شيء على ما يرام، عظمة الإمبراطور خرج من الحمام، وأراه الآن يتقدم إلى الأمام، يشق طريقه وسط الجماهير، ويحيي العظيم فيهم والحقير، ووراءه سار الخياطان، ومعهما جمع من الفرسان، يحملون العجب العجاب، ثوبا ولا كل الثياب، عظمة الإمبراطور المهاب.
الإمبراطور :
هيا يا أولادي.
حاجب :
مولانا الإمبراطور يقول: هيا يا أولادي.
الإمبراطور :
هيا ... هيا.
الحاجب :
مولانا يقول: هيا ... هيا.
الإمبراطور :
تعسا لك، أبعدوا هذا الحاجب، إنه يفسد سعادتي، اقتلوه ... اقتلوه.
الحاجب :
مولانا يقول: أنا أفسد سعادته، اقتلوني اقتلوني (الحاشية تحيط به) .
الإمبراطور :
بل اتركوه ... اتركوه.
الحاجب :
مولانا يقول : اتركوه ... اتركوه (يضع رجال الحاشية أيديهم على فمه، ويخرجونه من المسرح) .
الإمبراطور :
لا داعي للقتل والانتقام، منظر الدم يفسد الحمام (يصفق بيديه)
قلت: هيا ... هيا.
أحد رجال الحاشية :
هل نبدأ يا مولانا بشاعر البلاط؟
الإمبراطور :
أنا أتشاءم من الشعر القديم.
رجال الحاشية :
أم بالخطيب المحنك العظيم؟
الإمبراطور :
قلت: لا داعي للمقدمات.
رجل الحاشية :
إذن نترك المؤرخين والمنجمين.
الإمبراطور :
لا داعي للمقدمات، أين الخياط؟
الخياط الأول :
أمر مولانا مطاع، هل يأمر مولاي ...؟
الإمبراطور :
مولاي ... مولاي، أين الثوب العجيب؟
الخياط الأول :
لا بد من كلمة تقال، إن اليوم ...
الإمبراطور :
اليوم والغد والأمس.
الخياط الأول :
اسمح يا مولاي لعبدك الأمين.
الإمبراطور :
ضع الثوب أولا على جسدي، ألا تراني أرتعش من البرد؟
الخياط الأول :
أمر مولاي مطاع، هذا الثوب العجيب.
الإمبراطور :
هيا ... هيا (يشير إلى الفرسان أن يحملوا الثوب إليه) .
الخياط الأول :
ليسعد مولاي الإمبراطور، ولتهلل معه الجماهير (وهو يلبسه الثوب الوهمي هو ومساعده)
الرقبة أولا يا مولاي، نعم هكذا ... اليوم يبدأ عهد جديد ... عهد مجيد وسعيد، الذراع اليمنى من هنا، والذراع اليسرى أيضا، بشرى للإمبراطور العظيم، بهذا الثوب الرائع الثمين، الذي نسجته أيدي العذارى.
الخياط الثاني (وهو يساعده بحركات وهمية) :
من حرير الهند والصين.
الإمبراطور :
حقا حقا ... إنه ناعم ورقيق.
الخياط الأول :
ومرصع بالذهب والماس.
الخياط الثاني :
ولائق على القد والمقاس.
الإمبراطور :
تماما يا أولادي (يدور حول نفسه)،
لكن يظهر أنه شفاف.
الخياط الأول :
بالطبع يا مولاي، شفاف وهفهاف.
الخياط الثاني :
انظروا كيف يبهر العيون.
الخياط الأول :
لأنه كما ينبغي أن يكون.
الخياط الأول :
مناسب في العرض والطول.
الخياط الثاني :
لكل الأوقات والفصول.
الإمبراطور (يتمشى على المنصة) :
هكذا تكون ثياب الملوك.
الخياط الأول :
اهتفوا وقولوا مبروك.
رجل من الحاشية :
أيها الشعب اهتف معي: مبروك.
أصوات الشعب :
مبروك ... مبروك ... مبروك.
الخياط الأول :
اسمع الآن لعبدك يا مولاي، أن يبين مزايا هذا الثوب العجيب، ويشرح لشعبك الطيب الأمين. لماذا وهبت حياتي لهذا العمل الثمين؟ كنت أنا وزميلي المسكين، نتجول في الأسواق والميادين، فسمعنا عن رغبة الإمبراطور، في ثوب ليس له نظير، يدخل على قلبه السرور، ويريحه من الضيق والنفور، ويحل الأمن والنظام، محل الفوضى والخصام، وينشر العدل بين العباد، ويقضي على الظلم والفساد.
الإمبراطور :
قلت لكم أنا أتشاءم من الشعر.
الخياط الثاني :
ليس هذا شعرا، إنه سجع يا مولاي.
الإمبراطور :
شعر أو سجع، ادخلوا في الموضوع.
الخياط الأول :
أمرك مطاع بالطبع، فلا داعي للشعر ولا السجع.
الإمبراطور (صائحا) :
قلت لك ادخل في الموضوع.
الخياط الأول :
لجأت أياما طويلة إلى الجبل، مثل كل الأنبياء والملهمين، ثم رجعت إلى زميلي وقلت له: أنا اكتشفت سر السعادة البشرية، إنها في كلمة واحدة: الثياب ... الثياب تصنع العدل والظلم. تخلق اليأس والأمل، تجعل الحيوان ملاكا والملاك حيوانا. أعطني الإبرة والمقص وأنا أعطيك سر الحياة والوجود. تعجب صديقي وقال: كيف هذا يا مجنون؟ قلت له: الثوب هو الإنسان، والإنسان هو الثوب، يخلق الجلادين والقديسين، ويميز السلاطين من الشحاذين، يفرق البيض عن السود، والأرانب من الأسود، الثياب هي سبب البلاء، ومصدر الضحك والبكاء، قال صديقي: ماذا نفعل؟
الخياط الثاني (مزهوا) :
لم أقل هذا فقط، قلت: هيا نقضي على الثياب.
الخياط الأول :
لكنك لم تعرف الدواء الوحيد، الذي يأتي بالشفاء الأكيد.
الإمبراطور (ضاحكا) :
أرجوك ابتعد عن الشعر، وصف لنا الدواء بالنثر.
الخياط الأول :
الثوب الواحد يا مولاي.
الإمبراطور :
أي ثوب؟
الخياط الأول :
الثوب الذي تلبسه الآن يا مولاي.
الإمبراطور :
ثوبي أنا ... ماذا تقصد؟
الخياط الأول :
إنه الخيمة التي تغطي على شعبك كله.
الإمبراطور :
أنا ... ألبس خيمة؟
الخياط الثاني :
إنه يتكلم بالرمز يا مولاي.
الإمبراطور :
هل تترك الشعر لتذهب للرمز، قلت: ماذا تقصد؟
الخياط الأول :
هل يذكر مولاي ما طلبته منه؟
رجل من الحاشية :
صينية باللحم، لكن المهرج أكلها.
الخياط الأول :
شيئا آخر، طلبت أن يحضر الناس اليوم.
الإمبراطور :
تذكرت طلبك الغريب، بعيون جديدة.
الخياط الأول :
لأن هذا الثوب فيه صفة عجيبة.
الخياط الثاني :
تضم إلى بقية صفاته الغريبة.
الخياط الأول :
كل من يراه ينسى نفسه.
الخياط الثاني :
لجماله وسحره .
الخياط الأول :
ولأن الإمبراطور هو الذي يلبسه، ألم أقل إنه خيمة، كل من تضمه تحتها عرايا.
الإمبراطور :
لكن شعبي ليس عريانا.
رجل من الحاشية :
هذا كذب يا مولاي.
رجل آخر :
هذا كلام الخونة والأعداء.
الخياط الأول :
انتظروا ... انتظروا.
الخياط الثاني :
في عرضك، ابعد عن الشعر والرموز.
الخياط الأول :
هم عرايا؛ لأنك وحدك تلبس يا مولاي. هم أغبياء؛ لأنك وحدك تفكر. هم مشلولون؛ لأنك وحدك تعمل. هم خرس؛ لأنك وحدك تتكلم.
الإمبراطور (للخياط الثاني) :
قل لصاحبك يبتعد عن الرموز.
الخياط الثاني (لصاحبه) :
في عرضك.
الخياط الأول :
لنسأل الحاضرين يا مولاي، أنت يا وزير البلاط.
رجل من الحاشية :
أجل يا سيدي.
الخياط الأول :
افتح عينيك، لا ... لا عينيك الجديدتين.
الرجل :
فتحتهما ... فتحتهما.
الخياط الأول :
هل ترى ثوب الإمبراطور؟
الرجل :
بالطبع.
الخياط الأول :
أليس جميلا؟
الرجل :
جميل؟ يا له من لفظ حقير إلى جانب جماله الباهر المنير.
الخياط الأول :
وهل يمكن أن يكون هناك أجمل منه؟
الرجل :
أجمل منه، أنت تطلب المستحيل، ولا أعظم ولا أكمل ولا أشجع، ولا أنبل ولا أحكم ولا أبدع.
الخياط الأول :
وأنت ... نعم أنت.
الإمبراطور :
أنت تشير إلى مؤرخي وفيلسوفي الحكيم.
المؤرخ :
أمر مولاي مطاع.
الخياط الأول :
ألم يبدأ اليوم عهد جديد؟
المؤرخ :
هذا أقل ما يقال يا ولدي، الحمد للآلهة أنني عشت لأؤرخ له.
الإمبراطور :
ماذا ستقول يا مؤرخي الحكيم؟
المؤرخ :
سيرتعش القلم قليلا في يدي، لكنني سأقول ما لا بد من قوله، في الساعة العاشرة من صباح هذا اليوم السعيد، وبحضور الوزراء والأعيان.
المهرج (صائحا من مكانه بين الجمهور) :
لا تنس المهرج أيها المؤرخ الحكيم.
المؤرخ :
وعلى مشهد من الفرسان والشجعان.
فلاح :
والفلاحين.
شحاذ :
والشحاذين.
جلاد :
والجلادين.
المؤرخ :
اطمئنوا ... المؤرخون لا ينسون، جلس الإمبراطور العظيم على العرش الرائع المكين.
الإمبراطور :
أعرف البقية ... غيره.
الخياط الأول :
لنسأل شاعر البلاط.
الإمبراطور :
أرجوك، إلا الشعر.
الشاعر :
العصافير تغني، والأزاهير التي ...
الإمبراطور :
يا سياف.
السياف :
وأنا يا مولاي أراك في ثوبك الجديد، وسيفك يهتز فوق رقاب العابثين.
فارس :
ويهزم أعداء الوطن الغادرين.
حارس :
ويعيد الأمن للخائفين.
فلاح :
وأراك في جلبابك الأزرق الثمين، وفي يدك الفأس ينغرز في الطين.
عامل :
وفي يدك المطرقة والمنشار، والعرق يسيل من الجسد والجبين كالأنهار.
شحاذ :
ويدك تمتد وتقول لله يا محسنين.
المهرج :
وبذلتك المرقعة تضحك المتفرجين.
أب :
ويدك تمسح على الآباء والبنين.
الإمبراطور :
الفضل لهذا الثوب الجميل، الفضل لهذا الثوب الثمين.
الخياط الأول :
أرأيت يا مولاي؟ إنه ليس ثوبا ككل الثياب، وليست مثله كل الثياب.
الإمبراطور (يدور حول نفسه) :
حقا، وإن كنت أرتعش من البرد.
الخياط الثاني :
البرد؟ لا بد أن مولاي يمزح.
الإمبراطور :
هو جميل حقا، ولكنني أرتعش.
الخياط الأول :
ترتعش وعليك كل هذا الصوف.
الإمبراطور :
ألم تقل إنه من حرير ... نسجته أيدي العذارى.
الخياط الأول :
من الحرير والصوف والوبر وكل ما تشاء، إنه ثوب الثياب يا مولاي.
الطفل :
ماما ... ماما.
الأم :
اسكت يا ولدي، اسكت.
الطفل :
انظري يا ماما ... انظري يا ماما.
الأم :
اسكت وإلا سمعك الإمبراطور.
الإمبراطور :
لنسمع ما يقوله الأطفال ... تعال يا ولدي.
الطفل :
الإمبراطور عريان ... الإمبراطور عريان.
أصوات :
عريان ... عريان.
الإمبراطور (يقف وينظر لنفسه) :
هل صحيح أنني عريان؟ هل هذا صحيح يا وزير البلاط؟
الوزير :
معاذ الله يا مولاي، عريان؟
الإمبراطور :
ما دمت أرتعش من البرد.
الوزراء :
رعشة الثوب الجديد.
الخياط الأول :
الثوب الثمين.
الخياط الثاني :
الجميل.
فارس :
الذي نسجته أيدي العذارى.
السياف :
من حرير الهند والصين.
الشاعر :
وزينته الأنامل الرقيقة.
عامل :
بالذهب والجواهر والماس.
الطفل :
ماما ... ماما.
الإمبراطور :
أنا أرتعش حقا، هل سمعتم هذا الطفل؟
رجل من الحاشية :
أبعدوا هذا الطفل.
رجل آخر :
إنه يفسد الحفل.
السياف :
سأقطع رقبته يا مولاي.
الأم (صائحة) :
ولدي ... ولدي (تهرب بولدها) .
الإمبراطور :
هل صحيح أنني عريان؟
الشاعر :
أنا الشاعر، سأعلمه أن يصرخ بالشعر.
رجل :
وأنا الطبيب، سأعلمه كيف ينظر بعيون جديدة.
المؤرخ :
وأنا المؤرخ، سأحرمه من دخول التاريخ.
الخياط الأول :
شكرا يا أصحابي، لا يمكن أن نترك الأطفال الصغار، يزعجون احتفال الكبار.
المهرج :
والمهرجون مثل الأطفال، اسمعوا ... اسمعوا.
الإمبراطور :
ماذا يريد المهرج أن يقول؟ هيا يا ولدي .
المهرج :
مولاي، صدق عيون المهرجين والأطفال.
الخياط الأول :
ويكذب الفرسان والأبطال؟ والشاعر والمؤرخ الحكيم؟ والفلاح الطيب والعامل الأمين؟ والأب الذي يخاف على أولاده والموظف الذي يريد أن يضمن المرتب والمعاش؟ والجلاد الذي يعاقب الخونة والحاقدين ... والتقي الورع الذي يقول آمين.
لا ... لا يا مولاي، لا تصدق الطفل الصغير، ولا الرجل المجنون.
المهرج :
يا ناس ... يا هوه ... مولانا عريان.
أصوات :
عريان ... عريان ... عريان؟
السياف :
يا خائن البلاد.
الفارس :
يا عدو يا جبان.
فلاح :
يا كافر النعمة.
عامل :
يا جاحد اللقمة.
المؤرخ :
يا جاهل يا متأخر.
صوت :
يا عدو التطور.
صوت :
أمسكوه.
صوت :
اطردوه.
صوت :
انفوه.
صوت :
اشنقوه (تختلط الأصوات، ويهرب المهرج) .
صوت :
اقتلوه.
صوت :
اصلبوه.
الإمبراطور :
أرجوكم، قولوا يا أطفال، صوت واحد يريحني، هل أنا عريان؟ هل أنا عريان؟ لا صوت يجيب، ألم يبق هنا طفل واحد؟ هل كل عيونكم جديدة؟ ألا يذكر أحد كيف ينظر الأطفال؟ هل بعتم عيونكم القديمة؟ هل رميتموها للكلاب؟ أم سقطت منكم في البحار؟ قل لي يا مؤرخ، هل ضاعت تحت عجلة التاريخ؟ وأنت يا شاعر؟ هل تاهت في الكنايات والاستعارات؟ وأنت يا جلاد؟ هل قطعت رقبتها؟ أم وقعت منك في الساقية يا فلاح، وسقطت في الطين؟ أريد صوتا واحدا ... صوتا واحدا يقول لي: هل أنا حقا عريان؟ أين ذهب الطفل؟ قطعت رأسه يا سياف؟ اتهمته بالخيانة يا وزير؟ علمته الحكمة يا حكيم؟ أيها الطفل المسكين ... أيها المهرج الحزين، أين أنتما؟ من بعدكما يقول لي إن كنت مستورا أو عريان؟ من ... من؟ من ... من؟ (يبكي وينزل ستار الوسط.)
المهرج (يزيح الستار ويتقدم للجمهور) :
الآن يا سادة يا كرام، تنتهي حكايتنا المعروفة بالتمام. كان بودي أن أنهيها بالضحك والمزاح، لكن المؤلف يحب الكآبة والنواح ... المهم لا أريد أن أطيل عليكم، فيكفي أننا أتعبناكم وضيعنا سهرتكم، لكن قبل أن تتركوا هذا المكان، وتعودوا إلى البيوت لتناموا في أمان، نرجوكم أن تنظروا مرة في عيون الأطفال؛ لتتذكروا عيونكم القديمة التي تلفت من كثرة الاستعمال، وتعرفوا أن الدهشة والبراءة، هي منبع الصدق والجراءة، وأن كلمة آمين جنت على جنس البني آدمين، وجعلتهم يرون العريان في حلل الحرير والطيلسان، والضعيف والجبان، كأنه أشجع الشجعان، وقبل أن أقول لكم مساء الخير أذكركم بأن الثياب أمر خطير، ومن يتخل عن ثوبه أو يبعه في المزاد. فلا يغضب لهوان شأنه بين العباد، ولا يحزن إذا رآه طفل أو بهلوان، وصاح شوفوا الرجل الذي يمشي في الشارع عريان، يا ما ثياب تتباهى، لكنها أكفان، وراها جثة ريحتها تفوح بكل مكان، بيعيش صاحبها وبيموت كما اتولد عريان، يا رب سترك وطلعنا من الدنيا على خير، والسامعين يا رب يمسوا ويصبحوا على خير.
1968م
المرآة
الشخصيات
جحا.
تيمور لنك.
حارس تيمور لنك الخاص.
قائد.
حراس وجنود مختلفون.
فكرة المسرحية مستوحاة من حكاية ذكرها شاعر الألمان الأكبر «جوته» في تعليقاته على ديوانه الشرقي؛ فقد رأى القائد المغولي المرعب وجهه لأول مرة في المرآة، فاستبشعه وانخرط في بكاء مر. عندئذ قال له بعض المحيطين به: إذا كنت قد بكيت بعد رؤية وجهك مرة واحدة، فماذا نفعل ونحن نراه كل يوم؟! أما عن لقاء جحا وتيمور لنك، فتذكره بعض نوادر جحا، وبعض كتب التاريخ. (خيمة تيمور لنك الحريرية، وفرسانه يحاصرون مدينة جحا «آق شهر» بالأناضول استعدادا لغزوها، حارسه الخاص يساعده على ارتداء ملابسه، تسمع بين حين وحين أصوات أبواق وصلصلة سلاح كما ترى أشباح جنود تتحرك في الخلف.)
الحارس (ممسكا بفردة حذاء) :
لم تبق إلا هذه الفردة يا مولاي.
تيمور :
قلت لك لا أريد.
الحارس :
ويسير مولاي حافيا؟
تيمور (ينهض ويمشي) :
وما الضرر؟ هل قالوا لك أني ولدت بحذاء في قدمي؟
الحارس :
لم يقل أحد هذا، ولكن لن يصدق أحد أن تيمور لنك العظيم ...
تيمور :
دعني وشأني، قلت لك: اذهب واتركني وحدي.
الحارس :
عفوا يا مولاي، ولكن من يتصور أن الملك الذي يضع التاج على رأسه يسير بقدم حافية؟ من يتصور أن القدم التي تدور على نصف العالم تظل عارية؟
تيمور :
نفاق ... نفاق، كلكم تجيدون النفاق ، سواء كنت تيمور لنك السفاح الجبار، أو كنت أضعف خلق الله، المهم أن تروا التاج على الرأس أو السيف في اليد.
الحارس :
ولكن يا مولاي.
تيمور :
قلت لك: دعني، ألا ترى كيف لا أحتمل الكلام؟
الحارس :
أجل يا مولاي، وقد عرفت دائما عنك ...
تيمور :
تكلم، ماذا عرفت؟
الحارس :
عرفت حبكم للصمت، سمعت أنكم تجلسون دائما وحدكم بجبين مقطب ووجه مكفهر حزين.
تيمور :
حزين؟ نعم هذه هي الكلمة المناسبة، هل جربت البكاء مرة واحدة في حياتك يا ولدي؟
الحارس :
مرة؟ بالطبع يا مولاي، أظن أنني لا أختلف في هذا عن أي إنسان، ولكني لا أصدق.
تيمور :
لا تصدق أن تيمور لنك يمكنه أن يبكي.
الحارس :
لم أقصد هذا يا مولاي، فأنت أيضا بشر.
تيمور :
لأول مرة تترك النفاق، نعم أنا أيضا بشر، ولكن الناس تنتفض رعبا إذا سمعت باسمي أنهم يسمونني الشيطان الأكبر والسفاح الأعظم والأسد الفاتك والإله الأعمى. لا يعرفون أن تيمور له قلب مثلهم، ولا يتصورون أنه يبكي في بعض الأحيان.
الحارس :
إن أذنتم يا مولاي ... متى؟
تيمور :
متى بكيت؟ بكيت دائما يا ولدي، بدموع جامدة تغيب في نفسي كأنها تغيب في أعماق البئر، كنت في طفولتي أجلس على سطح بيتنا في المدينة الخضراء، أمد بصري إلى القوافل الذاهبة إلى سمرقند، وأسمع نشيد الفلاحين في عودتهم من الحقول ونداء المؤذن يدعو الناس للصلاة وأحاديث التجار والدراويش والشحاذين عن القوافل والحروب والمعارك. كانت أمي قد ماتت وأنا صغير، فلم أتذكر ملامح وجهها، وكان أبي دائم الجلوس مع المشايخ والعلماء، ثم ذهب إلى صومعة انصرف فيها إلى العبادة.
الحارس :
طفولة حزينة يا مولاي، ألم يكن لك رفاق ... أتراب لعب؟
تيمور :
هؤلاء أيضا كانوا دائما يعجبون لحالي، كنت أسير بينهم مطرق الرأس، كثير التفكير، قليل الضحك. لم يكن عبثهم يحرك في شعرة واحدة، وكلما سألوني عن السر في ذلك أقول: على المرء أن يسلك الطريق الذي كتبه القدر.
الحارس :
وهذا القدر يا مولاي؟
تيمور :
الحزن يا ولدي.
الحارس :
الحزن؟ أيمكن أن يصنع الحزن رجلا، لا بل ...
تيمور :
نعم الحزن، إنه المسئول عن كل شيء، عبوس الوجه، تقطيب الجبين، الصمت ... الصمت الدائم الذي لم أكن أخرج عنه.
الحارس :
لا أفهم يا مولاي.
تيمور :
لم أكن كما تعلم ابن ملك كالإسكندر ولا ابن زعيم قبيلة مثل جنكيز خان، ولكن الحزن هو الذي علمني الطموح، هل تعرف من الذي حببني في الدم؟ الحزن. هل تعرف من الذي فتح شهيتي لرؤية آلاف الرءوس المقطوعة؟ الحزن. هل تعرف من الذي علمني القسوة التي لا ترحم الطفل ولا المرأة ولا الشيخ؟ الحزن ... الحزن ... الحزن.
الحارس :
مولاي ... لا أتصور أن الحزن يمكنه أن يغلب ملوك الهند والصين وفارس وما بين النهرين، أن ينتصر على كل الأعداء، ويقتحم كل الحصون ... أن يبث الخوف في نفوس الملوك والفرسان والعامة ... أن يكون ملك العالم.
تيمور :
نعم هو الحزن ... الحزن الذي جعلني أمشي وحيدا إلى سمرقند، لا أملك غير سيفي، وليس معي سوى خادمي عبد الله. الحزن هو الذي جعلني أصبح أملك العالم كما تقول.
الحارس :
معذرة يا مولاي، هل أتوسل إليكم بلبس هذه الفردة حتى يتم الحزن؟
تيمور :
ويحك! ألا يتم الحزن إلا إذا لبستها؟
الحارس :
ولكن منظركم هكذا، أخاف أن أقول ...
تيمور :
منظر مضحك؟ ولكنه لا يضحكني كما ترى، ولن يضحك أحدا، إذ لم يخلق من يجرؤ على الضحك في وجه تيمور. (بعد قليل)
أين ذلك الرجل الذي طلبته؟ لماذا تأخر؟
الحارس :
جحا؟ إنهم يبحثون عنه من ثلاثة أيام.
تيمور :
أريد اليوم أن أضحك، أضحك من القلب، أضحك وأضحك وأضحك.
الحارس :
إذن فليضحك مولاي، يكفي أن يراني أجري وراءه بهذا الحذاء فيضحك (يحاول أن يجري فينظر إليه تيمور فيتجمد في مكانه) .
تيمور :
أريد هذا الرجل، ماذا كان اسمه؟
الحارس :
جحا يا مولاي.
تيمور :
وماذا تعرف عنه؟
الحارس :
أعرف عن حماره أكثر مما أعرف عنه.
تيمور :
حماره؟ ألم أسمع أنه قاض؟ هل يتاجر أيضا في الحمير؟
الحارس :
إنه لا يكاد ينفصل عن حماره، الناس لا يعرفونه من ملابسه؛ لأنه يغيرها كل يوم ، ولا من صنعته فهو يوما قاض أو واعظ في جامع أو معلم في مدرسة أو سائح في بلاد الله، ولا حتى من زوجته فهم يقولون إن له أكثر من زوجة، وربما كان هو نفسه لا يعرفهن، ولكنهم إذا راوا حماره عرفوا مكانه.
تيمور :
وكيف سيهتدي إليه فرساني؟ هل يعرفون ذلك الحمار؟
الحارس :
يعرفونه؟ إنه أشهر حمار في المدينة، بل أشهر حمار في التاريخ، إنه ابنه ورفيق عمره، ومستشاره وكاتم سره.
جحا (ضجة في الخلف، صوت جحا يصيح مستغيثا: حماري ... حماري، ويدخل وهو يقول في غضب شديد) :
حماري ... حماري أيها الملاعين! حماري أيها اللصوص! والله لا أعدل به قافلة جمال، والله لا أرضى بفرسان تيمور كلها عوضا عنه، والله ولا حتى بتيمور نفسه. (يتلفت حوله ويستعيذ بالله)
أقصد لا أرضى أن يركبه غيري، ولو كان هو نفسه، أعوذ بالله من اسمه. حماري يا ناس، حماري يا عالم.
الحارس :
ما هذه الضجة أيها الرجل؟ ألا تعرف أين أنت؟
تيمور (همسا للحارس) :
حذار لا تقل شيئا.
جحا :
وأين أكون إذن؟ في جنة عدن؟ في قصر أمير المؤمنين؟ حماري أيها اللصوص، ألستم من فرسان تيمور؟ أليست صناعتكم هي السلب والنهب والسطو على أملاك الناس وحميرهم؟
الحارس :
هل أحتمل هذه البذاءة كلها؟
تيمور :
هش، قلت لك لا تفتح فمك، أوصيهم أيضا ألا يدخل علينا أحد (لجحا)
هيه ماذا تريد أيها الرجل؟ عم تبحث؟ هل أستطيع أن أساعدك؟
جحا :
ماذا تريد؟ عم تبحث؟ وكيف تساعدني بالله عليك وأنت أصم؟
تيمور :
قل لي ماذا تريد؟
جحا :
يظهر أنك لست أصم فقط، بل غبي أيضا، ألم أصح بملء صوتي؟ ألم أصرخ كالمجنون؟
تيمور :
هيه، فهمت، لقد ضاع منك شيء وتبحث عنه.
جحا :
ما شاء الله.
تيمور :
هل قلت إنه حمار؟
جحا :
نعم والله، وفيه شبه منك.
تيمور :
وكيف دخل إلى هنا؟
جحا :
كيف يدخل إلى هنا؟ كما يدخل كل شيء بقدرة قادر (يشير إشارة السطو والسرقة) .
تيمور :
هل هرب منك مثلا؟ هل ضاع؟
جحا :
هرب ... ضاع؟ والله إن لك أسئلة لا يسألها حماري ، وهل يهرب شيء أو يضيع وفرسان تيمور أحياء يرزقون، إن الهواء نفسه يخاف منهم. الشمس نفسها تخشى أن يسرقوا نورها، البحر والسماء والرياح.
تيمور :
كفى ... كفي، أين كنت حين اختفى حمارك؟
جحا (مقلدا صوته) :
كنت أنا وهو نختفي منكم.
تيمور (بصبر شديد) :
وأين؟
جحا :
وأين أختفي حتى لا يروني؟ أين أختفي حتى لا يعرفوا أنني حي أرزق؟ في الجبانة طبعا، نزلت في أحد القبور المفتوحة حين أبصرتهم من بعيد.
تيمور (مبتسما وهو يقترب منه) :
ومعك حمارك؟
جحا :
يا لذكاء الفرسان! هل كتب علي أن أتحمل ذكاءكم بعد أن تحملت شجاعتكم؟
تيمور :
تكلم، هل كان الحمار معك؟
جحا :
بالطبع لا أيها الفارس الذكي الشجاع، تركت حماري يرعى وأسرعت بإخفاء نفسي في قبر مفتوح وجدته صدفة أمامي.
تيمور :
كيف كان هذا؟ ارو الحكاية.
جحا :
يا عم أنا لم أجئ لأروي حكايات، إنما جئت لأبحث عن حماري، حبيبي وصديقي ومنى عيني.
تيمور :
ورفيق عمرك ومستشارك وكاتم سرك.
جحا :
ومن أين عرفت؟ إن أحدا لا يعرف هذا، هل قاله لك الحمار بنفسه؟
تيمور :
ربما.
جحا :
إذن ساعدني في البحث عنه.
تيمور :
ألم أعرض عليك هذا من قبل؟ هيا نتكلم، ماذا فعلت حين رأيت الفرسان؟
جحا :
وماذا أفعل بالله عليك؟ ماذا أفعل أيها الفارس الطيب (يرى قدمه الوحيدة حافية فيضحك)
ماذا يفعل رجل على نياته مثلك حين يرى أحد فرسان تيمور؟
تيمور (متجاهلا نظراته إلى قدميه) :
نعم، ماذا يفعل؟
جحا :
يرتعش وينتفض، يتصور عزرائيل أمامه، يقرأ الشهادة على روحه.
تيمور :
حسن جدا، ولهذا أسرعت إلى القبر المفتوح؟
جحا :
خلعت ملابسي أولا، ثم دخلت القبر كما ولدتني أمي.
ولما اقترب الفرسان ورأوني في القبر عاري الجسم استغربوا حالي وسألوني: ماذا تفعل في القبر يا هذا؟ فحرت في الجواب، ولكنني استدركت بسرعة، أنا يا سادتي الفرسان من أهل القبور، أرقد هنا من عشرات السنين، وقد سئمت طول المكث فاستأذنت ربي أن أخرج قليلا للفسحة. (تيمور يضحك بصوت عال.)
جحا (ينظر إليه) :
هكذا ضحكوا يا سيدي، ولكنهم لم يكتفوا بالضحك.
تيمور :
وماذا فعلوا؟
جحا :
أعوذ بالله، أبعد هذا كله تسألني: ماذا فعلوا؟ سرقوا حماري الذي جئت أبحث عنه، فإذا بحضرتك تعطلني كل هذا الوقت (جحا يبحث في كل ركن في الخيمة تحت المقاعد ... بين الكراسي ... تحت السرير ... وراء قماش الخيمة وهو يقول):
حماري ... حماري، اظهر يا نور عيني ... اظهر ولا تخف، أنا لست من فرسان تيمور السفاح، أنا صاحبك، صاحبك جحا المسكين، أرجوك يا حماري. نهقة واحدة ترد روحي (يقترب من تيمور لنك) .
جحا (يرفع ثوب تيمور لنك، وينظر في داخله وتحته) :
هل أنت هنا يا حبيبي؟
تيمور :
ماذا تفعل يا جحا؟
جحا :
عدت للسؤال يا ذكي؟
الحارس (يتقدم إليه غاضبا) :
أجننت أيها الأحمق؟ أتبحث في ثوب ...
تيمور :
حذار ...
الحارس :
في ثوب هذا الفارس الشجاع عن حمارك؟
جحا (بثبات وهو يواصل البحث) :
ولم لا؟ وهل يصعب شيء على الفرسان الشجعان من أمثاله، إنهم يسرقون مال النبي، ويخطفون الكحل من العين، ويلهفون الرءوس من على الأجسام، انحن قليلا يا رجل.
الحارس :
كيف تخاطب الفارس بهذه اللهجة؟
جحا :
وما المانع؟ وهل بقي شيء بعد أن ضاع الحمار؟ (يمد يده إلى عمامة تيمور، وتيمور مستسلم له) .
الحارس :
وهل يختفي الحمار في العمامة يا أحمق؟
جحا :
وهل هي ككل العمامات يا غبي؟ هل تضيق عمامة أحد فرسان تيمور عن حمار صغير لطيف مثل حماري؟ أسنانك يا رجل.
الحارس (صارخا) :
وتبحث في أسنان مولاك أيضا؟
جحا :
وما المانع أيها الغبي العنيد؟ ثم من الذي أسماه مولاي؟ هذا الجلف الضخم ال...
الحارس (وقد نفذ صبره) :
إنه تيمور لنك يا أحمق، إنه تيمور لنك.
جحا :
من؟ ماذا قلت؟
تيمور (يربت عليه بهدوء، للفارس) :
لا فائدة منك يا غبي، لا تخف يا جحا. (جحا يسقط على الأرض مغشيا عليه، تيمور لنك ينحني، ويحاول أن يفيقه من غشيته. جحا يفتح عينيه، ثم يقفلهما بسرعة، يرفع رأسه، ثم لا يلبث أن يخفضها ويتماوت)
اصح يا جحا ... اصح.
جحا :
من ينادي علي؟
تيمور :
أنا يا جحا بجانبك.
جحا :
من ؟ عزرائيل؟
تيمور :
بل السلطان تيمور لنك.
جحا :
آه ... الله يرحمني، ظننت أنني لا زلت أطالع في الروح (يتماوت) .
تيمور :
أفق يا جحا، قلت لك لا تخف.
جحا :
الحمد لله أنني مت من زمان.
تيمور :
لم تمت بعد، ألا تسمع صوتك؟
جحا :
ضعت وضاع حماري أيضا، كنت على ظهره فضعت معه.
تيمور (يضحك) :
هيا، أفق، قلت لك لا تخف (ينهضه بالقوة) .
جحا :
أسرع يا مولاي، أسرع.
تيمور :
وما الداعي للسرعة يا جحا؟
جحا :
ألم تأمر بالسيف والنطح؟ هيا اضرب رأسي قبل أن أفيق من نومي.
تيمور (مدعيا الغضب) :
قلت لك ألف مرة لا تخف، أم تريد أن ترى كيف يتصرف تيمور لنك السفاح؟
جحا :
أرجوك يا مولاي (يزحف إلى قدمه)
ها هي قدمك أقبلها. إنها حافية وهذا يسهل الأمر (يقبلها) .
تيمور :
انهض، قلت لك أفق وإلا ...
جحا :
لا ... لا، أفقت وصحوت (يتحسس رأسه)،
وما زال رأسي على كتفي أيضا، أشكرك يا مولاي، أشكرك وأتوسل إليك.
تيمور (يأخذ بيده في لطف، ويتجه به إلى أريكة) :
بل أنا الذي أتوسل إليك.
جحا :
أنت يا مولاي؟ ملك العالم يتوسل لحمار مثلي؟ (يمتنع عن الجلوس.)
تيمور :
اجلس ...
جحا :
وأجلس أيضا؟
تيمور :
قلت لك اجلس، أتدري لماذا أرسلت إليك؟
جحا :
مولاي أرسل إلي أنا؟
تيمور :
فرقة كاملة من الفرسان تبحث عنك في كل مكان، من ثلاثة أيام وهم يسألون عنك. كان يحب عليهم أن يسألوا عن حمارك.
جحا :
وقد سألوا يا مولاي وسرقوه.
تيمور :
سأتحقق من هذا بنفسي، اجلس الآن بجانبي (جحا يجلس) .
جحا :
وإذا لم تجده يا مولاي.
تيمور :
أعوضك عنه، هل قالوا لك إن تيمور لنك فقير أو بخيل؟
جحا :
عفوا يا مولاي، ولكن حماري لا يعوضه شيء.
تيمور :
إذا لم أعثر عليه فسأعوضك تعويضا كافيا، سأعطيك جرابا مملوءا بالذهب في حجم الجراب الذي تضع له العلف فيه.
جحا :
المهم هو أن تجده يا مولاي، وتستطيع أن تعطيه الذهب، وتترك لي العلف.
تيمور :
أتحبه إلى هذا الحد يا جحا ؟
جحا :
أحبه؟ إن كلمة الحب لا تكفي يا مولانا، لقد ربيته كابني، أخلص لي أكثر من زوجتي وأولادي، فهمني أكثر من كل الناس. واساني حين لم أجد أحدا يسمع شكواي، تحمل حماقاتي حين ضاق بها الجميع، أتقول أحبه؟ في بعض الأحيان أتصور أنه ظلي، لا بل إنني ظله.
تيمور (يضحك) :
لا بد أنه شديد الإخلاص لك يا جحا، ألم تفكر مرة في بيعه؟
جحا :
كلما ضاقت بي الحال، وسدت في وجهي أبواب الرزق فكرت في بيعه، ولكني كنت أشترط على الشاري شرطا لم يرض به أحد.
تيمور :
وما هو هذا الشرط يا جحا؟
جحا :
أن يشتريني معه، أن يأخذني لأكون بجانبه.
تيمور (ضاحكا) :
الناس معذورون لرفضهم هذا الشرط يا جحا.
جحا :
إنني أخشى عليه حتى من نفسه، يخيل لي أنه لو ضاع لضعت معه، ولو مات فلا بد أن أموت أنا أيضا، جاء جاري يطلب إعارته، فقلت: إنني ذاهب للحمار أستشيره عساه يقبل، ثم دخلت إلى الإصطبل وعدت لأقول له: لقد استشرت الحمار فلم يرض؛ لأنه يزعم أن ملاك الحمير أوحى إليه بأنك ستضربه ضربا مبرحا وتشتمه وتسبه هو وصاحبه.
تيمور :
ملاك الحمير؟ ها ها وماذا تفعل لو خانك الحمار، فنهق مثلا؟
جحا :
فعلها يا مولاي، جاءني جار آخر يطلب نفس الشيء، فقلت له: إن الحمار في السوق، وما كدت أتم عبارتي حتى بدأ الخائن ينهق بصوت منكر من داخل الإصطبل، فقال جاري: يا شيخ هذا الحمار يملأ الدنيا نهيقا وتنكر أنت وجوده؟ أسعفني طول لساني، فهززت رأسي وقلت: ما أغربك يا رجل! أتصدق الحمار وتكذب هذه اللحية الشائبة (تيمور يضحك) . (يدخل أحد قواد الجيش، ينحني لتيمور لنك ويحيي بجلبة السلاح ويقول):
القائد :
مولاي، الفرسان ينتظرون الإشارة.
تيمور وجحا (معا) :
هل وجدتم الحمار؟
القائد (مرتبكا) :
حمار؟ ماذا تريد يا مولاي؟
تيمور :
ماذا تريد أنت أيها القائد؟ ماذا يريد فرساني الشجعان؟
القائد :
ماذا يريدون؟ لا يريدون إلا ما تشاء إرادتكم يا مولاي.
تيمور :
تبا لك يا جحا، لقد نسيت لماذا كلفت الفرسان بالاستعداد، ذكرني أيها القائد .
القائد :
إنهم على أهبة الاستعداد يا مولاي، سيوفهم تتحرك شوقا لطعن هؤلاء الخبثاء.
تيمور :
الخبثاء؟ من هم أيها القائد؟ طالما أرحنا خبثاء كثيرين من نفوسهم الخبيثة.
القائد :
ومن غيرهم يا مولاي؟ أهالي آق شهر.
جحا (قافزا من مكانه) :
من؟
القائد :
الذين لا يخافون بقدر ما يعبثون بنا.
تيمور :
يعبثون؟ وكيف هذا أيها الفارس؟
القائد :
لم يخلق بلد فيها من الحمير بقدر ما في بلدهم، تصور أنهم يرسلون الحمير للتجسس علينا.
تيمور (فجأة) :
وهل وجدتم بينهم حمار جحا؟
جحا :
نعم يا ولدي، إنني أستطيع التعرف على نهيقه من بين ألف حمار، أرجوك يا ولدي.
القائد :
إننا نقتلها أولا بأول، ونستعد الآن لتأديب أهلها.
جحا :
مولاي، أتوسل إليك.
تيمور :
أيها القائد، دعني الآن قليلا، قل للفرسان يستريحوا حتى يأتي تيمور.
جحا :
أتوسل إليك يا مولاي، إنهم ضعاف مساكين.
تيمور :
قلت أنا الذي أتوسل إليك، هيا عد إلى مكانك.
جحا :
العجزة والأطفال والنساء.
تيمور :
قلت لك: اجلس، نعم هنا بجانبي، هل تعلم لماذا أرسلت إليك؟
جحا :
لو كان حماري معي لعرفت يا مولاي.
تيمور (ضاحكا) :
لا أشتهي سماع نهيق الحمار، أريد أن أسمعك أنت يا جحا، ماذا كنت تقول؟
جحا :
ماذا كنت أقول؟ انتظر حتى أستشير حماري.
تيمور :
ولكنه ليس معنا يا جحا.
جحا :
ولكن روحه دائما معي يا مولاي، انتظر ... انتظر، ما رأيك يا حماري؟ صحيح ... صحيح.
تيمور (ضاحكا) :
زدني يا جحا.
جحا :
ماذا أقول يا مولاي؟
تيمور :
لا تقل شيئا، أضحكني ... أضحكني.
جحا :
إنك تضحك يا مولاي.
تيمور :
لا أريد هذا الضحك، أريد أن أضحك من القلب، الضحك الذي يغسل الروح ويطهر الجسد ... الضحك الذي يغسل الدماء من ضميري ينسيني منظر الرءوس المقطوعة والأجسام المصلوبة والبيوت المحترقة والمآذن المهمة ... الضحك الذي ينسيني الخراب والموت والدم في كل مكان داسته قدماي. (جحا ينظر إلى قدمه الحافية ويضحك.)
تيمور :
ما الذي يضحكك يا جحا؟
جحا :
تمنيت لو كان حماري هنا.
تيمور :
وماذا كان يفعل؟
جحا :
ربما كنت استعرت حدوته وأعطيتها لك.
تيمور (ضاحكا ) :
قل لي يا جحا، كيف يضحك الناس؟ كيف تزيل العبوس من وجوههم؟ كيف تحيي الابتسامة على شفاههم؟
جحا :
أنا أضحك الناس؟ من قال هذا يا مولاي، إنهم هم الذين يضحكون على أنفسهم. أريهم العالم المقلوب الذي يعيشون فيه، فيكتشفون أنه عالمهم ويضحكون ... أسير أمامهم على رأسي أو أمشي على أربع كما يفعلون، فيكتشفون أنهم كانوا يفعلون ذلك دائما فيضحكون. أبين لعلمائهم ومشايخهم أنهم يقلبون اللغة أيضا على رأسها، فيضحك الناس منهم ويطاردونني في البلاد ... إنني لا أضحك الناس يا مولاي، لم يخلق إنسان له هذه الموهبة الخارقة ... إنني أريهم وجوههم في المرآة.
تيمور :
تريهم وجوههم في مرآة، وما هي المرآة يا جحا؟
جحا (بينما يبحث في جيوبه) :
اختراع غريب يا مولاي، لا أدري إن كنتم قد سمعتم به أولا، ربما اخترعه الناس في أرض فرعون.
تيمور :
زدني يا جحا، زدني عن هذه المرآة.
جحا (يخرج بعض الأشياء من جيوبه وعبه) :
رغيف أعطته لي امرأتي لأتغذى به، أوصتني أن أطعم منه الحمار وآكل ما يفيض منه.
تيمور (يضحك) :
ثم ماذا يا جحا ... ثم ماذا؟
جحا (يبحث في جيوبه) :
ولباسي أيضا، كان منشورا على الحبل وما زال مبتلا، هل تدري لماذا أعطته لي امرأتي؟ لأنني كثيرا ما أبول على نفسي يا مولاي، عادة قديمة لم أستطع التخلص منها.
تيمور (ضاحكا) :
والمرآة يا جحا ... المرآة.
جحا (يبحث في جيوبه) :
أظن أنها أعطتها لي أيضا لأنظر فيها كلما أردت أن أضحك.
تيمور :
أين هي يا جحا؟ أين هي؟
جحا (يخرج من جيبه مرآة صغيرة في حجم الكف) :
أخيرا، ها هي يا مولاي.
تيمور (يسرع نحوه) :
أرني يا جحا.
جحا :
انتظر يا مولاي، انتظر، أتظنها مرآة عادية؟ أتحسب أن كل من هب ودب يستطيع أن ينظر فيها؟ إنها مرآة يستطيع الإنسان أن يرى فيها كل شيء.
تيمور :
وماذا يرى يا جحا؟ هل هي حقا البلورة المسحورة التي سمعنا عنها؟
جحا :
في بعض الأحيان يا مولاي تطل فيها كما تطل في أعماق بئر. قد ترى هناك قصورا مسحورة وعذارى جميلات وبساتين وفاكهة من كل نوع.
تيمور :
أرني يا جحا، أرني هذه المرآة، هذه البلورة المسحورة.
جحا :
وقد ترى فيها شياطين مردة بذيول وقرون في جباهها ونيران تخرج من عيونها وأفواهها أنوافها.
تيمور :
لنترك هذه الشياطين يا جحا، لنر القصور المسحورة والعذارى.
جحا :
قد ترى وجها لم تره من سنين وسنين، وجه أبيك أو أمك أو معلمك أو حبيبتك.
تيمور :
شيء غريب يا جحا، وماذا أيضا؟
جحا :
وقد ترى شيئا تضحك له، تضحك كما لم تضحك في حياتك أبدا.
تيمور (مقاطعا) :
هذا ما أريده يا جحا، هذا ما أتوسل إليك أن تحققه لي، لهذا أرسلت فرساني يبحثون عنك ثلاثة أيام وليالي، أرجوك يا جحا، أتوسل إليك، أريد أن أضحك ... أضحك من قلبي كما لم أضحك في حياتي ... أريد أن أنسى حزني وعبوسي وصمتي، أرجوك يا جحا.
جحا :
ما دمت ترجوني فلا مانع، هيا تعال هنا.
تيمور (طائعا) :
أين يا جحا؟ أين البئر؟ (يبحث حوله.)
جحا :
أية بئر يا (يتدارك نفسه)
يا مولانا ... انظر هنا.
تيمور :
نعم ... نعم، ماذا أرى؟ أهو وجه إنسان يا جحا؟
جحا :
المسألة ليست سهلة إلى هذا الحد (لنفسه)
وجه إنسان؟ أيعقل أن يكون وجه إنسان؟ أيمكن أن يكون وجه إنسان؟
تيمور :
ماذا تقول يا جحا؟
جحا :
نعم، ماذا أقول؟ أولا عليك أن تسكت تماما، أن تنظر فقط وتسكت، تماما كما يجلس الأطفال أمام صندوق الدنيا، هل جلست؟
تيمور :
نعم يا جحا، وأنتظر أن تفسر لي ما أراه.
جحا (أمرا) :
قلت لك اسكت، هل ترى هذا الوجه؟ (يمسك المرآة أمام وجه تيمور)
انظر جيدا، هل تبصر قرنين في جبينه؟ هل تلمح النار التي تخرج من عينيه وأنفه وفمه؟
تيمور :
لا يا جحا، ولكنه وجه غريب.
جحا :
قلت لك: اسكت، نعم هو وجه غريب، صاحبه قوي الجسم، مفتول العضل، كبير الرأس كالمجانبين، واسع العينين تظهر فيهما الصرامة والقسوة والتكبر، هل ترى جبينه؟ إنه عريض، ممتلئ بالتجاعيد، لا يرى أحد ماذا يدور في داخله. رأس محموم يغلي كقدر الساحرة الشمطاء بالأوهام والخيالات والأحلام، أتدري من صاحبه؟ قلت لك: اسكت، كان طفلا عاديا نشأ في بيت عادي، بيت من الطين والأخشاب، حوله سور من الطين ذو جدران أربعة، ماتت أمه وهو صغير، فحرم من عطفها، وانعزل أبوه يتعبد في صومعته، فحرم من حنانه. هل تدري ماذا كان يفعل؟
تيمور (لنفسه) :
هذا الشارب أيمكن؟
جحا (بشدة) :
قلت لك: ولا تفتح فمك. كانت تسليته الوحيدة أن يجلس على سطح البيت، وينظر للفضاء البعيد، ويحلم بمدينة القوافل والذهب والنساء الجميلات، المدينة التي يحدثه عنها التجار والفرسان والدراويش، من هنا بدأ يعرف الوحدة، والوحدة علمته الصمت، والصمت علمه العبوس، والعبوس علمه الطموح، والطموح دفعه أن يمسك السلاح، والسلاح أغراه أن يهدم ويخرب ويقتل، والقتل دفعه إلى المزيد من القتل، والمزيد من القتل إلى المزيد منه.
تيمور :
عجيب يا جحا، هل يستطيع رجل واحد أن يفعل هذا كله؟
جحا :
ألم أقل لك لا تفتح فمك؟
تيمور :
جحا، أنسيت أنك تكلم ...
جحا :
هش! أتريد أن تختفي الرؤية من أمامك؟ أتظن أن الإنسان يمكن أن يرى مثل هذا الوجه مرتين في حياته؟ اجتمع القتلة حوله من كل الأجناس والشعوب والقبائل. وكلما غزا قبيلة أو أسقط قلعة أو أحرق مدينة انضم إليه المزيد من القتلة، ومضى بفرسانه من بلد إلى بلد، يغلبون خصومهم في كل مكان، ينتصرون على كل عدو، يقتحمون كل حصن، يفتكون بكل إنسان وحيوان.
تيمور :
أيمكن أن يكون هذا!
جحا :
هش، قلت لك اسكت.
تيمور (لنفسه) :
ترى هل يكرر التاريخ نفسه؟
جحا :
أتريد أن يختفي الوجه من أمامك؟ انظر ... ألا ترى العين تزداد حزنا والشعر شيبا، والجبين يمتلئ بالتجاعيد؟!
تيمور :
ماذا كان يريد صاحبنا؟
جحا :
ماذا يريد؟ أن يفتح العالم كله، أن يقف فوق الأرض ويقول: هل فيك شبر لم تمش عليه أقدام خيولي وفرساني؟ أن يحرق كل مدينة ويمعن السيف والسلب والنهب في كل شيء، هل تعلم ماذا فعل في مدينة حلب؟
تيمور :
وهل ذهب إلى هناك أيضا؟
جحا :
أتريد أن يغضب منك ويختفي؟
تيمور :
لا ... لا، إنه وجه غريب حقا، تكلم يا جحا.
جحا :
ترك جنوده يقتلون ويحرقون وينهبون كما يشاءون، حتى صار الإنسان لا يكاد يقع إلا على جثة إنسان، هل تذكر شكل المآذن؟ هل سمعت بأهرام فرعون؟ يقولون إنه بني من رءوس القتلى عشرة مآذن وثلاثة أهرامات، عشرون ألف طفل وشيخ وامرأة وشاب ماتوا تحت أرجل الخيل أو بسيوف الفرسان.
تيمور :
يخيل إلي يا جحا.
جحا :
لا تتخيل شيئا، قلت: انظر وأنت ساكت. هل تعلم ما يقوله الناس عما فعله في دمشق؟
تيمور :
وهل دخل دمشق أيضا؟
جحا :
وهل بقيت هنالك مدينة لم يدخلها؟ يقول العجائز إنه أمر رجاله باقتحام المدينة وسيوفهم مشهورة في أيديهم، نهبوا ما قدروا عليه وسبوا النساء جميعا، وساقوا الرجال والأولاد بعد أن ربطوهم في الحبال، وأشعلوا النار في المنازل والمساجد، حتى صار اللهيب يناطح السحاب، وعصفت المدينة مثل جهنم، أتعرف بماذا كان يتسلى وهو يرى هذا كله؟
تيمور :
يتسلى؟ هل وجد الوقت لهذا أيضا؟
جحا :
بالطبع، إنها تسلية قديمة.
تيمور :
وماذا كان يفعل يا جحا؟
جحا :
كان يلعب الشطرنج.
تيمور :
الشطرنج؟ هل أنت متأكد يا جحا؟
جحا :
وهل تعلم أيضا ماذا كان يقول لأتباعه وهو يرى النار تأكل الأخضر واليابس، وتأتي على الحي والميت؟
تيمور :
إلهي، ماذا كان يقول؟
جحا :
إن طريقي هو طريق القدر، كل ما فعلته كان مقدرا.
تيمور :
نفس الكلام يا جحا، نفس الكلام.
جحا :
قلت لك: اسكت حتى لا يختفي في البئر.
تيمور :
يخيل إلي أنه وجه عجيب يا جحا.
جحا :
بل وجه مضحك يا مولاي، ألا تحس بالرغبة في الضحك وأنت تراه؟ ألا تريد أن تضحك؟ (يضحك بشدة)
أليس من المضحك أن يحاول الإنسان أن يكون قدرا، أن يصبح شيطانا، أن ينوب عن الموت؟ تصور يا مولاي ماذا كنت تفعل لو قالوا لك إن صاحب هذا الوجه هو الموت نفسه؟ (يبعد المرآة.)
تيمور (مفكرا، يذرع المكان جيئة وذهابا) :
جحا ... هل نظرت مرة في هذه المرآة؟
جحا :
نعم يا مولاي، كلما اشتقت إلى رؤية حماري.
تيمور :
جحا، هل خدعتني يا جحا؟
جحا :
خدعتك؟ حاشاي أن أفعل يا مولاي، وهل غاب عني أنك ...
تيمور :
لماذا سكت؟ أكمل عبارتك ... أنني السفاح الأكبر. الرجل الذي أصبح هو القدر والشيطان والموت.
جحا :
وهل جننت يا مولاي حتى أفعل هذا؟ إنها المرآة البلورة المسحورة.
تيمور :
أريد أن أعرف هذا الاختراع، والويل لك إن اكتشفت أنك كنت تضحك علي.
جحا :
خوفي يمنعني أن أفعل هذا يا مولاي، حتى الحمار نفسه. (يدخل القائد بينما يشير جحا مصادفة في اتجاهه، تيمور يغالب الضحك، ولكنه يتماسك بينما يقول القائد):
القائد :
الفرسان سئموا الانتظار يا مولاي، وسيوفهم تشتاق.
تيمور (ناظرا إلى جحا) :
إلى رءوس سكان آق شهر، أليس كذلك؟ (جحا لا يرد.)
القائد :
ولأي شيء يشتاقون غير الرءوس يا مولاي؟
تيمور :
ولن ينسوا الحمير أيضا، أليس كذلك؟
جحا :
إلا الحمير يا مولاي، أتوسل إليك، بحق حماري المسكين، أرجوك، أقبل قدميك.
تيمور :
هيا أيها القائد (يغالب الضحك)،
ولنجرب مذبحة الحمير لأول مرة (يخرج مع القائد، بينما يقف جحا وحده حائرا) .
جحا (لنفسه) :
أهكذا تفشل يا جحا؟ هل انكشفت لعبتك بهذه السهولة؟ ومن الذي كشفها؟ هذا السفاح الغبي الغليظ؟ أين حكمتك وذكاؤك؟ أين عبطك وخبثك؟ أتضحك على ذقون العلماء والمشايخ والفرسان والتجار ويفلت منك هذا الجلف المتكبر؟ ماذا يكون مصيرك الآن؟ ماذا يكون مصير آق شهر؟ أهلك وأولادك وجيرانك وزوجتك الحمقاء وحمارك الطيب العجوز، أيكون عبطك هو السبب أم ... أم هذه المرآة اللعينة؟ أكنت تحسب أن هذا التتري المتوحش الذي غزا نصف العالم سيعجز عن معرفة وجهه؟ ويلي ... ويلي، ويلك أيتها المرآة الملعونة، يا من تزيدين النساء غرورا والملوك ظلما والمجانين جنونا. هل يصعب عليك أن تضحكيهم على أنفسهم؟ ولماذا أضحك أنا على نفسي كلما نظرت فيك؟ أأنا أكثر منهم حكمة أم أكثر منهم غباء؟ أف، تعالي (يكسرها بقوة على الأرض فتتناثر قطعا صغيرة في كل مكان، يحاول أن يبكي فيختلط ضحكه وبكاؤه ... يدخل تيمور) .
تيمور :
جحا ... جحا، ها أنا قد جئت، أين المرآة؟ هاتها ليرى الفرسان فيها أنفسهم، نعم نعم كما رأيت نفسي. أيها الأحمق، ماذا فعلت؟ أيمكن أن يكسر الإنسان بلورة مسحورة؟ (ينحني على الأرض، ويجمع القطع المتناثرة، يأخذ قطعة منها وينظر فيها ثم ... يضحك.)
جحا :
لماذا تضحك يا مولاي؟
تيمور :
لماذا أضحك؟ وكيف لا أضحك يا جحا وأنا أرى هذا الوجه لأول مرة؟
جحا :
مولاي.
تيمور :
اسكت يا جحا، هل أطلب منك شيئا ... شيئا واحد؟
جحا :
بالطبع يا مولاي، ما دمت أنتظر بين لحظة وأخرى.
تيمور :
أف، ألم أقل لك لا تخف؟ اسمع ... أريد أن تصبح نديمي مدى الحياة.
جحا (مذعورا) :
أنا يا مولاي؟
تيمور :
نعم أنت، لكي أنسى وجهي كلما نظرت في وجهك، لكي أستطيع ... (جحا ينفجر باكيا.)
تيمور :
لماذا تبكي يا جحا؟ ألا يرضيك أن تكون رفيقي ونديمي؟ ألا يشرفك أن تكون بجوار أشجع رجل وأقوى رجل (يزداد بكاء جحا)
تكلم يا جحا، تكلم.
جحا :
ارحمني يا مولاي.
تيمور :
إنني لا أفهمك.
جحا :
لقد رأيت وجهك مرة واحد، فماذا أفعل أنا لو رأيته كل يوم (تيمور ينظر في وجهه، ثم يضحك) .
تيمور :
جحا ... جحا، أيها المغفل، أيها الأحمق، أيها الحكيم (ينظر في وجهه ويضحك) .
أتدري ماذا خطر لي الآن؟ وجهك أيضا مرآة، الآن عرفت لماذا يضحك الناس عندما ينظرون فيه، أتعرف كيف اكتشفت لعبتك؟ من شاربي، تذكرت فجأة أن السفاح الذي تكلمت عنه لا يمكن أن يكون غيري، تسألني لماذا؟ لأنه لا يمكن أن يجتمع سفاحان بشارب من نوع واحد، شارب تترا نحيل مبروم إلى أسفل، ومنسدل تحت الذقن، شاربي الذي طالما شددت شعراته وأنا مطرق صامت أفكر في كل مذبحة قادمة. ها ها (يضحك يدخل القائد فيلمحه)
اذهب أيها القائد، قل للفرسان أن تيمور سيخيب ظنكم لأول مرة في حياته. من يأمركم بالحرق ولا بالموت ولا بالتدمير، قل لهم إن السفاح الأكبر يضحك، يضحك لأول مرة على نفسه، يضحك لأول مرة من قلبه، أليس كذلك يا جحا (يعانقه ويقبله ويكتشف أنه يبكي ويتشنج)
لماذا تبكي أيها الأحمق؟
ألم أقل إنني أضحك على نفسي؟ ألم تعلمني المرآة هذا؟ لم تخاف إذن على نفسك؟ على أهل بلدتك؟ آه، هيا يا جحا ... اضحك ... اضحك ... اضحك، هل أعلمك كيف تضحك أنت أيضا على نفسك؟ خذ. هذه قطعة من المرآة ترى فيها أنفك الطويل، ورأسك الغبي، وفمك المضحك، هيا اضحك ... اضحك (جحا يضحك) .
جحا :
ألم تذهب أيها القائد؟ خذ، هذه قطعة من المرآة، وهذه قطعة أخرى. وهذه ... أعط كل فارس مرآة، قل لهم إن تيمور نظر فيها فضحك، أليس كذلك يا جحا؟ ضحك لأول مرة في حياته، قل لهم من يضحك على نفسه لا يقتل غيره، أتخشى أن يمسك كل منهم في يده مرآة، فيتعلموا الضحك وينسوا الحرب؟ أليس هذا أيضا شيئا مضحكا؟ اضحك أيها القائد، اضحك ... اضحك على نفسك كما يفعل تيمور لنك، لا، ليس هكذا، ضحكا أقوى ... أشد ... أعلى نبرة ... أعلى ... أعلى ... أعلى. (القائد يقف متسمرا في مكانه، يفتح فمه من الدهشة، ثم لا يلبث أن يشاركهما ضحكهما الذي يرتفع شيئا فشيئا قبل أن يسدل الستار.)
1968م
الجراد
مهداة إلى الدكتور نعيم عطية.
الشخصيات
الرجل.
المرأة.
المسرحية مستوحاة من قصة «الخادمان» للكاتب اليوناني القبرصي الأصل نيقوس نيقولائيدس الذي عاش ومات في مصر سنة 1956م. كنت قد قرأتها مع مجموعة من القصص التي اختارها الدكتور نعيم عطية من الأدب اليوناني الحديث، وصدرت حوالي سنة 1969م عن دار الكاتب العربي بالقاهرة (من صفحة 48 إلى صفحة 61). عاشت القصة في نفسي سنوات طويلة، وجرى عليها ما يجري على كل حي من تغير وتحول قبل كتابتها على هذه الصورة. ويطيب لي أن أهديها إلى الصديق الكريم تعبيرا عما أكنه له من الحب والعرفان. (المشهد يتألف من منظرين، المطبخ الكبير على اليمين، تبدو الأرفف ومساند الأطباق، ومنضدة عليها مفرش ومطفأة سجائر، وبجوارها كرسيان من أعواد القش، النافذة إلى اليمين تفتح على الحديقة، وتظهر منها أعالي الشجر والسور الحديدي ... إلى اليسار ممشى طويل، في أوله باب يفتح بعد قليل على غرفة الاستقبال في البيت الكبير الذي يحرسه الخادمان العجوزان منذ سنين، المرأة بدينة قصيرة، ترتب الأواني وتنظف المكان بفرشاة طويلة في يدها. والرجل نحيل ضئيل الجسم والوجه، حركاته تنم عن ضعف بصر شديد.)
المرأة (وهي تنظف وتتمتم لنفسها) :
صباح الخير يا سيدتي، صباح الخير يا سيدي (تنحني باحترام)
يوم سعيد. يوم أسعد، ألا زال الصغير نائما؟ أحلام سعيدة يا سيدي. يوم سعيد يا حبيبي، ولترعك عين الله وعيون الملائكة. القهوة؟ في الحال. الماء على النار، والفحم في المدفأة، والغرفة مرتبة ودافئة ككل يوم، ككل مساء. النافذة سأفتحها ليدخل النور، وفي الليل أوقد الثريات والمصابيح. نعم يا سيدي، أمرك يا سيدتي (تتثاءب)
آه! أين غاب عقلي؟ (تتلفت حولها، تخطو خطوات وتنظر في الممر)
كل صباح أكلم نفسي، أكلم سادتي، كأنهم أمامي، كأني أرى وجوههم وأسمع وقع أقدامهم، لكنهم غائبون منذ سنين، غائبون منذ متى يا رب؟ نعم نعم، منذ ظهر الجراد، فتح فاه وافترسهم. أكل الخضرة وتركنا وحدنا. آه! منذ كم سنة؟ وكيف أعرف؟ زوجي هو الذي يحسب ويقرأ؟ سأسأله الآن. العجوز النكد! لا بد أنه يخفي عني سرا. لا بد أنه يعرف ولا يقول، ثم إنه لم يعد يصلح لشيء ... آه يا ربي! سنوات مع هذا الرجل المتعب. لا عقل في دماغه حتى بصره. أوشك أن يصبح أعمى (تنادي)
أين أنت؟ هيه! أين أنت؟ تتركني أعمل وتختفي. هيه، لا بد أنه انطرش أيضا. (تنحني على الأرض، وتجمع أعواد الكبريت وأعقاب السجائر)
الكلاب والقطط يقوم سلوكها. أما هو فيظن أن المطفأة موضوعة للزينة.
الرجل (يدخل حاملا في يده الجاروف، وخرطوم الماء وجردلا ومكنسة، يتنهد) :
هيه، لا زلت نائمة؟
المرأة :
نائمة؟ أنا أم أنت؟
الرجل :
عجوز بلهاء، ألا ترين ما في يدي؟
المرأة :
عجوز نكد، وهل ترى أنت؟
الرجل :
هل ينام من روى الشجر والزرع ومسح السور من التراب، ونظف السلم والمدخل؟ كان شخيرك يقلق الجيران.
المرأة :
وأنت الذي يرتفع شخيرك طول الليل كثور يلفظ أنفاسه.
الرجل :
وتسللت من جانبك وأنا أقول : عجوز لا نفع فيها، ونزلت إلى الحديقة، وأتممت كل شيء. آه من هذا الغبار، كل يوم ... كل يوم ... تعبت ... تعبت.
المرأة :
المتعب هو أنت، أصبحت تتكاسل عن أداء الواجب.
الرجل :
أنا أم أنت؟ يا إلهي!
الأرضية وغسل المفارش؟ من جمع أعقاب السجائر التي ترميها على الأرض. كأن سادتنا لن يرجعوا أبدا.
المرأة :
ومن الذي نظف الأواني والأطباق؟ من رتب الصحون وكنس؟
الرجل :
سادتنا؟ نعم ... نعم (ينحني باحترام) .
المرأة :
سيرجعون ويحاسبونك، قلبي يقول لي ...
الرجل :
تتكلمين عنهم كأنهم ذهبوا إلى الأبد، ألا تشعرين أن أنفاسهم تدفئ البيت؟
المرأة :
نعم ... أنفاسهم حاضرة معنا، هذه أصدق كلمة قلتها يا زوجتي منذ سنين، منذ متى يا زوجي؟
الرجل (يجلس على كرسي ويضع حمله بجوار الحائط) :
منذ سنين (يتنهد) .
المرأة :
أنت تقرأ وتعرف الحساب، من كم سنة غابوا؟
الرجل :
قلت لك لم يغيبوا، أنفاسهم تدفئنا، أرواحهم حاضرة معنا، أتوقع كل لحظة أن يظهر سيدي بالباب.
المرأة (تنهض وتنحني) :
أوامرك يا سيدي.
الرجل :
أو أسمع خطوات سيدتي.
المرأة (تنهض وتنحني) :
السمع والطاعة يا سيدتي.
الرجل :
والخطاب الأخير يؤكد أنهم سيعودون.
المرأة (في حزن) :
مضت عليه سنين.
الرجل :
سنين؟ أين ذهب عقلك؟ لم تمض إلا شهور.
المرأة :
لتكن أخبارهم طيبة يا إلهي.
الرجل :
أف لك ولذاكرتك الخربة كالغربال، أنسيت ما قالوه؟
المرأة :
ما قالوه؟
الرجل :
يا أعزائي، الشتاء عندكم قاتل وطويل، وابننا العزيز ...
المرأة :
يحفظه الله ويرعاه.
الرجل :
صحته لا تحتمله، وعندما يمر ...
المرأة :
وجاء شتاء آخر ... شتاء قارس ... شتاء ... (تسمع دقات الجرس، تنهض العجوز مذعورة وهي تنظر في رعب إلى النافذة الكبيرة المفتوحة، تبدو لها أقنعة مخيفة على هيئة الجراد، يذهب قناع ويأتي قناع، العجوز ترى الوجوه المقنعة كالأشباح، ولا يستطيع زوجها أن يراها، وربما كان يحس بها من كلام زوجته أو يعرفها من زمن قديم. المرأة تجري نحو النافذة الزجاجية من حين إلى آخر، ثم تندفع في النهاية وتسدل عليها ستارة ثقيلة.)
المرأة :
أرأيت؟ (يسمع دق الجرس.)
الرجل :
أسمعت؟
المرأة (ساهمة شاردة) :
رجعوا ...
الرجل :
لا بد أنه ساعي البريد.
المرأة :
انظر إليهم ... انظر .
الرجل (لا يرى شيئا) :
من تظنين؟ أيمكن أن يرجعوا هكذا بغير أن يخبرونا؟ لا ... لا، ربما أرسلوا إلينا.
المرأة (مذعورة) :
نفس الوجوه ... الوجوه الصفراء اللعينة، والعيون ... لا ليست عيونا، قوارض وأنياب وأسنان تتدلى كالحراب، رجعوا يا زوجي.
الرجل (متعجبا يتابع كلامه) :
قلت لك لا يمكن أن يرجعوا الآن. الشتاء عندنا.
المرأة :
الشتاء قارس طويل، كيف يزحفون علينا في الشتاء؟ ألم ترهم في الحديقة؟ ألم تر عيونهم تلمع وسط الأشجار والأزهار؟ انظر ... انظر.
الرجل (يدق جرس الباب) :
أنظر أم أسمع ... ألا تسمعين أنت؟ ألا تفتحين الباب يا امرأة، أصبحت في آخر العمر صماء.
المرأة :
وأنت أصبحت أعمى، إنهم هم ... اذهبوا ... اذهبوا.
الرجل :
لا فائدة منك، لا بد أن أذهب أنا، سأفتح ... سأفتح الباب (يدق الجرس)
اصبر قليلا، حتى الصبر اختفى من هذه الدنيا ... حتى الصبر (ينصرف) .
المرأة :
لماذا رجعتم الآن؟ إنهم لم يرجعوا لبيتهم، نحن وحدنا ... عجوزان مريضان ... عجوزان مسكينان ... اذهبوا ... دعونا في حالنا ... اذهبوا ... اذهبوا (تندفع إلى النافذة. الأقنعة المخيفة تتراقص أمام النافذة، وتلعب لعبة الأشباح. المرأة تسدل الستار البنية القائمة بعنف، ثم تلقي بنفسها على أقرب كرسي وصدرها يهتز بشدة) .
المرأة :
رحمتك يا رب، ما الذي ذكرهم بنا؟ لماذا رجعوا بعد كل هذه السنين؟ ماذا يريدون منا؟ هل بقي في البيت أحد؟ (تلتفت وراءها وتخاطبهم صارخة)
تركوا لكم البيت وذهبوا، غابوا عنه سنين ولم تغيبوا، ماذا تريدون منهم؟ ماذا تريدون منا؟ ما نحن إلا خادمان عجوزان، نرتب البيت ونحافظ عليه.
الرجل (يرجع مسرعا وكأنه يرقص) :
ألم أقل لك؟
المرأة (مستمرة) :
نعم نحافظ عليه، سنصونه ونحافظ عليه كما فعلنا طول العمر، حتى آخر نفس في وفي عجوزي الأحمق.
الرجل (ضاحكا) :
أحمق؟ بل أنت الحمقاء ولا تدرين ما هذا؟
المرأة (تنتبه إليه وتخاطبه) :
لماذا رجعوا اليوم؟ هل تعرف السر في هذا اللغز؟
الرجل :
كما تقولين تماما، إنه سر ... لغز.
المرأة :
وماذا يريدون منا؟ ماذا يريدون من سادتنا؟ ما السر؟
الرجل :
إنه سر يا زوجتي العزيزة.
المرأة (غاضبة) :
طبعا سر.
الرجل :
لا يكفي أن تسميه سرا أو لغزا، سميه المصادفة أو الحظ الطيب، أو ... ولكنه في الحقيقة سر.
المرأة :
وإذا رجعوا مرة أخرى.
الرجل :
قلت لك لم يرجعوا ... كيف يرجعون بلا خبر؟ هل يظهرون على الباب هكذا فجأة؟ ألم تسمعي أن زمان المعجزات فات؟ ولكن ...
المرأة :
ولكنك عجوز نكد، لا تفهم ولا ترى.
الرجل :
وأنت لا ترين ما في يدي.
المرأة :
إنك تطبقها كمحارة، وماذا أرى فيها؟
الرجل :
السر يا امرأة ... اللغز، لا ... كلام فارغ، الحظ الطيب ... كلام فارغ أيضا، المعجزة نعم المعجزة.
المرأة :
بدأت تخرف.
الرجل :
هذا ما تقولينه دائما، عجوز مخرف، وهل هذا تخريف؟ (يفتح يده.)
المرأة :
ما هذا؟ لا أرى شيئا.
الرجل :
لا ترين ولا تسمعين، وتتهمينني بأنني أعمى وأصم.
المرأة :
وأعمى من العميان، استغثت بك فلم تنظر ولم تسمع.
الرجل :
وإذا لم أكن قد سمعت الجرس، فمن الذي فتح البوابة؟
المرأة :
الجرس؟ هل دق اليوم؟
الرجل :
وأصم من الصم، وهذا الخطاب؟
المرأة :
خطاب من أين؟ متى؟
الرجل :
نعم خطاب، وأنت لا ترين ولا تسمعين.
المرأة :
كف عن ثرثرتك، هيا اقرأه علي (تقف باحترام وتنحني لسادتها) .
الرجل :
وكيف يقرأ الأعمى؟
المرأة :
قلت كفى ثرثرة، هيا اقرأ أخبار سادتنا.
الرجل :
وهذه الستارة، لماذا أرخيتها؟ إنني لا أرى شيئا.
المرأة :
أف لك، هيا أثبت لي أنك لم تصبح أعمى (تضع المصباح أمامه على المنضدة) .
الرجل (ضاحكا) :
نسيت أن توصلي النور (تصل السلك بمفتاح الكهرباء)
ونسيت ...
المرأة :
ماذا أيضا؟ التبغ أمامك.
الرجل :
والمنفضة أيضا، سأضع فيها الأعواد وأعقاب السجائر.
المرأة :
ضعها حيثما شئت، فلا فائدة فيك، المهم أن نطمئن على سادتنا.
الرجل (يفض غلاف الخطاب ويبدأ في القراءة) :
أخبار طيبة.
المرأة :
حمدا لك يا رب.
الرجل :
عجوزاي العزيزان! هذا خط السيد ...
المرأة (تقف احتراما بينما يقلد زوجها صوت السيد ونبرته) :
نعم يا سيدي.
الرجل :
نرجو أن تكونا بخير، وأن تكون صحتكما ...
المرأة :
نحن عجوزان مريضان، المهم أن تكونوا أنتم بخير.
الرجل :
اشتقنا لرؤية وجهيكما ، والحياة في بيتنا الكبير.
المرأة :
والبيت الكبير يشتاق إليكم، متى يا رب ترجعون؟
الرجل :
ألا تكفين عن مقاطعتي؟ (يشعل سيجارة وينفخ الدخان في وجهها.)
المرأة :
قل له نحن بخير ما داموا في خير، والبيت ...
الرجل :
أقول له؟ سمعت يا سيدي؟
المرأة :
والبيت في خير، نصونه كالعهد بنا منذ دخلناه.
الرجل :
وتزوجنا فيه، وأدركتنا الشيخوخة والصمم والحمق بين جدرانه.
المرأة :
قل له لا زالت الكلاب الطيبة تحرسه وتحميه، في كل يوم نرتبه وننظفه ونطمئن على كل شيء في مكانه، السجاد النفيس بين أيدي حراس لا يغفلون ... والأواني والثريات والمصابيح والصور والتماثيل الصغيرة مغطاة كما تركتها ولم تمسها يد غريبة، وشجرة الليمون.
الرجل :
أف لك، أتظنين أنه يسمعك أو يراك، دعيني أكمل.
المرأة :
أكمل أكمل، لن تتغير أبدا، دائما تسبح عكس التيار.
الرجل :
وأنت تقلبين القارب بما فيه ومن فيه!
المرأة :
هيا واخفض صوتك، أتريد أن توقظ سيدنا الصغير ...
الرجل :
سيدنا الصغير؟
المرأة :
يا رب اشفه ولا تحرمنا منه.
الرجل :
لو صبرت قليلا (يقرأ)
إنه الآن في دور النقاهة.
المرأة :
شكرا لك يا رب، أكمل أكمل ...
الرجل :
هو الآن بخير، والخطر زال عنه.
المرأة :
آمين ... آمين.
الرجل (يواصل القراءة) :
لم يرد الله أن يتركنا بلا أولاد، حمدا له.
المرأة :
حمدا لك يا رب.
الرجل :
ولكن الشتاء عندكم.
المرأة :
بارد وشديد.
الرجل :
اصبري، إنه لا يقول بارد وشديد.
المرأة :
صبرت ... وماذا يقول؟ أليس باردا على كل حال؟
الرجل :
ولأن الشتاء عندكم أقسى مما هو عندنا، عجيب عجيب. هل يمكن أن يكون أشد بردا؟
المرأة :
أو أشد ظلاما.
الرجل :
حقا ... كان كذلك يوم رحلوا عنا فجأة.
المرأة :
وقبل رحيلهم أيضا.
الرجل :
واستمر على قسوته كل هذه السنين، ولأن الشتاء عندكم ... آه قرأت هذا من قبل، فسوف نتغيب عن بيتنا.
المرأة :
ألم يكتب متى يرجعون؟
الرجل :
انتظري، سوف نتغيب سنة أخرى، أو ربما أكثر من سنة، لا بد أن نحارب الموت حتى النهاية.
المرأة :
نعم لا بد، الموت والجراد ...
الرجل :
الموت والشتاء، ليتهم كانوا معنا .
المرأة :
وليتنا معهم (صمت. بعد فترة)
أكمل أكمل .
الرجل (سارحا) :
ماذا أكمل؟ انتهى كلام السيد.
المرأة :
وسيدتي، ألم تقل شيئا؟
الرجل :
انتظري، نعم ... نعم، بقيت سطور صغيرة بخط يدها.
المرأة :
لا بد أنها موجهة لي.
الرجل :
صدقت، إنها لك ... عجوزي العزيزة.
المرأة (تقف باحترام وتشبك يديها على صدرها) :
أعزك المولى يا سيدتي.
الرجل :
عرفت من الصحف أن الشتاء عندكم هذا العام.
المرأة (مقاطعة) :
الشتاء والبرد والظلام والجراد.
الرجل (مستمرا) :
هذا العام كان أشد، مع ذلك أرجو أن تكون مدفأتنا في غرفة الاستقبال الصغيرة على ما يرام، وأن تبعث الدفء في أوصالك.
المرأة :
سمعت؟ إنها تذكرني أيضا، طيبة وحنون.
الرجل (مستمرا) :
إن شالي الأسود بالنقاط البنفسجية يصلح لك، ضعيه على كتفيك، إنه من الصوف الخالص وسيدفئك.
المرأة :
يا لسيدتي الحبيبة الغالية!
الرجل :
ماذا تنتظرين؟ إنها ...
المرأة :
يا إلهي (تفكر) .
الرجل :
تنقصنا الثقة بالنفس، هذا ما يجب الاعتراف به.
المرأة :
أتريد أن نفتحها؟ إنها مغلقة منذ رحلوا.
الرجل :
خفنا أن نلمس مفروشاتها فتركناها مغلقة، لم نجدد الهواء، ولم نترك ضوء الشمس يدخل إليها.
المرأة :
هل يمكن أن نفتحها بغير أمرهم؟
الرجل :
أليس هذا أمرا؟ أليس من الواجب أن نفتحها لنرى حالها؟
المرأة :
أأنت جاد؟
الرجل :
بالطبع، سترين التراب الذي تراكم فوق الأرائك والكراسي والستائر، سترين العناكب.
المرأة :
ليحفظنا الله.
الرجل (وهو ينهض) :
قولي ليغفر لنا الله تقصيرنا.
المرأة :
لقد حافظنا على كل شيء وتركناه على حاله، أتسمي هذا تقصيرا؟
الرجل :
بالطبع يا امرأة، هيا ... هيا ... إلى العمل. (يفتحان غرفة الاستقبال، يصر الباب وتثور زوبعة من الغبار، يدخلان الغرفة، ويفتحان النوافذ على اتساعها، يقبلان على العمل في صمت ونشاط ولا يكاد أحدهما ينطق بكلمة إلا لكي ينبه الآخر إلى ترتيب شيء، أو يأمره بتنظيف آنية أو تحفة صغيرة أو صورة من التراب العالق بها، الرجل يحمل السجاجيد إلى الخارج، ويكنسها وينظفها ويعود بها ليسويها في مكانها، والمرأة تزيح الأغطية عن الثريا والمرآة واللوحات التي تصور الطبيعة الصامتة، وتنفض الورق عن الشمعدانات وتنفخ الغبار المتراكم عليها، وبعد أن ترتب الغرفة تماما كما كانت على عهد سادتهما يتنهدان وينظران إلى بعضهما.)
الرجل :
الحمد لله.
المرأة :
الحمد لله.
الرجل :
كان يمكن أن تتسرب المياه من المدخنة إلى المدفأة، فتسبب تلفا جسيما (يجلس على المقعد الذي كان يجلس عليه سيده ويقربه من المدفأة. يضع علبة التبغ كما يضع المنفضة على المنضدة الصغيرة بجواره) .
المرأة :
وكان يمكن أن تعشش العناكب على السقف والحائط والنجف ...
الرجل :
حمدا لله.
المرأة :
حمدا لله (تفتح دولاب سيدتها وتخرج منه الشال الأسود وتضعه على كتفيها، تجلس على مقعد جلدي في مواجهة زوجها وترتب علبة البن والسكر على المنضدة، تنهض وتملأ إناء القهوة بالماء وتضعه عليها، تتذكر أنها نسيت شيئا فتذهب إلى المطبخ وتحضر السلة التي تحتفظ فيها ببكرات الصوف وإبر التطريز، وتعود لتجلس في مقعدها) .
الرجل :
لا زالت الغرفة دافئة.
المرأة :
كما تركوها يوم رحيلهم.
الرجل :
مع أننا لم نشعل الفحم في المدفأة.
المرأة :
مع أن الشتاء قاس هذا العام.
الرجل :
لن يكون قاسيا عندما يرجعون.
المرأة :
فليرجعوا بسلامة الله.
الرجل :
هل سنعيش لنراهم؟
المرأة :
نعيش أو لا نعيش، المهم أن يعودوا إلى بيوتهم.
الرجل :
نعم ... يعودوا إلى بيتهم.
المرأة :
ويجلسوا في هذه الغرفة الدافئة، على هذه المقاعد المريحة.
الرجل :
ويشربوا القهوة التي تعدينها (يشعل سيجارة وينهض ليمشي خطوات في أرض الغرفة، تتمتم العجوز كأنها تريد أن تثور غاضبة عليه، ثم تنهض بدورها وتذهب إلى المطبخ لإعداد القهوة، ترجع بعد قليل لتراه يقلب في الصور القديمة، وينزع عنها الورق الذي غطيت به، يتجه إلى مقعده وفي يده صورة رجل عجوز) .
المرأة :
بحق الله، ماذا تفعل؟
الرجل :
انظري، أليس هذا هو السيد؟
المرأة :
أعمى ومفسد أيضا؟ كيف تمد يدك إليها؟ ماذا يقولون عنا؟
الرجل :
قولي أنت ... تحققي منها.
المرأة :
أقول معذرة يا سادتنا، عفوا يا سيد (تنحني باحترام) .
الرجل :
أليس هو بنفسه يوم دخلنا هذا البيت؟
المرأة (تمد يدها إلى الصورة) :
ولا تعرفه أيضا؟ وهل كان له شارب طويل؟ هل كان الشعر أبيض على رأسه، يا حسرتى على عينيك!
الرجل :
إنه الجد الطيب ... الجد العجوز.
المرأة :
كأنني أراه الآن أمامي، جالسا على المقعد الذي تجلس عليه.
الرجل :
أتذكرين كيف حيانا ورحب بنا (يقلد صوت الجد)
تفضلوا يا أولادي، البيت بيتكم.
المرأة :
كنا غرباء بلا مأوى.
الرجل :
مشردين من بلد إلى بلد.
المرأة :
البيت بيتكما.
الرجل (مقلدا صوت الجد) :
أمانة في رقبتكما، كنز أنتما حراسه.
المرأة :
وأنت تنحني باحترام وتقول: نحن في خدمتكم يا سيدي، أنا وزوجتي.
الرجل :
أنت وزوجتك أولادي، من يدخل بيتي لا يخرج منه إلا إلى القبر.
المرأة :
سنكون عند حسن ظنك يا سيدي.
الرجل :
قلبي لا يكذبني، ستعيشان هنا وتربيان أبناءكما وتشيخان.
المرأة :
ليس لنا أولاد يا سيدي، وربما أكون أنا، أو هذا الرجل.
الرجل :
كنزي يكفيكما.
المرأة :
كنزك؟
الرجل :
ألم أقل لكما؟ إنه كنزي من الدنيا، ضعاه في قلبكما كما أضعه في قلبي.
المرأة :
وظهر على وجهك الغباء وأنت تردد.
الرجل (ضاحكا) :
كنزك هو بيتك، سنحافظ عليه ونحرسه كالكلاب التي لا تنام. سنضعه في قلوبنا وعيوننا، ويضحك الرجل على غبائي، ويشير إلى صبي يصعد سلالم الحديقة، ويتجه نحونا (مقلدا صوته)
هذا هو كنزي ... درع عزتي وأملي، سترى حبه يحفر رويدا رويدا في قلبك، وفي قلب زوجتك أيضا، وستطويانه بين ضلوعكما كما يطوي المنجم أغلى كنوزه، انظري إليه وهو يصعد السلم.
المرأة :
وأقبل سيدي علينا، مرحا متهللا كما عرفناه دائما، سلم علينا بحرارة.
الرجل :
ولما ملت على يده لأقبلها سحبها وصاح: أستغفر الله يا والدي.
المرأة :
ورفعت يدي للسماء ودعوت: يا رب احفظه واحفظ بيته.
الرجل :
وصاح بك الجد الطيب، وأنا؟ هل نسيني الله؟
المرأة :
وهتفت ... أنت الأصل، هل يرعى الله الثمرة إلا وهي على فرع الشجرة؟
الرجل :
ضحك الجد العجوز، وكشف عن فمه العاري كفك السمكة.
المرأة :
ضحك وهو يداعب ولده، وقال: ليت البذرة تنمو منها شجرة ... ليت الشجرة تنبت ثمرة.
الرجل :
وصاح الجد: بل ستعيش الشجرة، ستمد جذورها في هذا البيت وتنبت ألف ثمرة وثمرة، وستمر السنون.
المرأة :
ومرت السنون.
الرجل :
عشرة ... عشرون؟
المرأة :
السنوات العجاف هي التي تحصى.
الرجل :
تقصدين سبع سنين؟
المرأة :
أقصد ما لا يفهمه عقلك الغبي، مرت السنون كأنها يوم واحد سعيد، كبر الصبي وأتم دروسه، تزوج وأضاءت سيدتي البيت بنور البهجة والعقل، واستقبلنا الزوار في كل المناسبات السعيدة، في أعياد الزواج وأعياد الميلاد، وانحنينا لهم وأضأنا الثريات، وفتحنا هذه الحجرة المغلقة، حتى بدأت سنوات القحط، حتى كان اليوم المشئوم.
الرجل :
لا تذكريني به.
المرأة :
يوم أن زحف الجراد.
الرجل :
الجراد؟
المرأة :
الجرادة الكبيرة التي افترست سيدنا.
الرجل :
آه ... تقصدين الرجل الذي كان يحمل الحقيبة الكبيرة؟
المرأة :
ووضع سيدنا الصغير فيها، أنسيت يا رجل؟
الرجل :
اصبري، لا ... لم أنس، لا زلت أراه كأنه أمامي، لا زلت أسمع وقع ضرباته على الباب. (تسمع طرقات شديدة على الباب، الرجل والمرأة يجلسان في مكانهما كأنهما مخدران أو غارقان في كابوس. يدخل شبح يكتسي قناع جرادة كبيرة، ويجوس في أرجاء الغرفة كالرعب الجاثم فوق الصدر، الرجل والمرأة يتابعان حركاته مفتوحي الأعين والأفواه، تتحرك الجرادة، وتتكلم بصوت مبهم كأنه يصدر من بوق بينما يتردد صوت الجد والابن من بعيد.)
الجرادة :
هذا بيت السيد؟
الرجل (في الغيبوبة) :
نعم ... من أنت؟ (المرأة تخفي وجهها.)
الجرادة :
ناد عليه (يتحرك في المكان، ويقلب الأوراق والصور والكتب ويفتح الخزائن، ويلقي بالأواني والأطباق والتحف على الأرض ... إلخ) . (الرجل يتبعه كالظل العاجز.)
الجرادة :
لا شأن لك، قلت ناده.
ص. السيد :
ها أنا ذا.
الجرادة :
كنت تتوقع مجيئي؟
ص. السيد :
وحقيبتي جاهزة.
ص. الجد (من بعيد) :
من؟ من أيها العجوز؟
الرجل :
لا شيء يا أبي، لا شيء.
الجرادة :
ستشرفنا هناك.
ص. السيد :
على أتم استعداد.
الجرادة :
تعجبني شجاعتك، الاعتراف أولى (يتجول في المكان، ويراقب كل شيء، ويقلب في كل شيء) .
ص. السيد :
هل أصبح الدفاع عن الحرية جريمة؟
الجرادة :
هذا ما يكشف عنه التحقيق.
ص. الجد :
من يا بني؟
ص. السيد :
لا شيء يا أبي، اطمئن.
ص. الجد :
ما هذه الضجة؟
ص. السيد :
إجراء بسيط.
الجرادة :
تماما، إجراء عادي، هل أعددت حقيبتك؟
ص. السيد :
جاهزة.
الجرادة :
سنأخذ هذه الكتب والأوراق.
ص. السيد :
لتحقق معها أيضا؟
الجرادة :
لنتحقق منك، هيا خذوا هذه ... وهذه ... وهذه (تظهر أفواج الجراد تتناول منه الكتب والأوراق والملفات وتسلمها لبعضها) .
الرجل :
لكن يا سيدي، لا يمكن ...
الجرادة :
اخرس أنت.
ص. السيد :
اطمئن يا والدي. (للجرادة)
هل تسمح لي بتوديع زوجتي وابني؟
الجرادة :
بالطبع، نحن إنسانيون جدا، أكثر مما تتصور (يشير لجرادتين باصطحابه) .
المرأة :
ماذا تريدون بسيدي؟ ماذا تريدون؟
الجرادة (وهي لا تزال تتجول في أرجاء الغرفة، وتفحص كل ما يقع تحت بصرها ويدها) :
ومن أنت؟
المرأة (صارخة) :
بل قل من أنت؟ من أنتم؟
الجرادة (ضاحكا) :
نحن الذين ترينهم.
المرأة :
جراد ... جراد، أين الشرطة؟ أين الدولة؟
الجرادة :
نحن الدولة.
الرجل :
اعذرها يا سيدي، إنها زوجتي، تربينا في هذا البيت ونحن نحافظ على الحديقة، ونسقي الزرع ونروي الشجر.
الجرادة :
ونحن نحافظ على البيت والحديقة والزرع والشجر.
الرجل :
وسيدي؟
الجرادة :
اطمئن، إجراء بسيط.
ص. الجد :
أيها العجوز، أريد أن أعرف من ...
الجرادة :
اطمئن يا جدي، جئنا من أجلك أيضا.
الرجل :
إنه عجوز مقعد.
الجرادة :
قلت اطمئن، نحن نحافظ عليه وعليك وعلى هذه ...
الرجل :
سامحها يا سيد، عجوز بلهاء تحب البيت وأهله.
الجرادة :
ونحن نحبه أيضا، وفي سبيل الحب والحرية.
ص. السيد (قادما) :
في سبيل الحب والحرية.
الجرادة :
هيا.
ص. السيد :
هيا.
الجرادة (لأفواج الجراد التي تقف على استعداد وتحيط بالسيد) :
هيا (يخرج الجميع كما يحدث في كابوس، يعود الرجل إلى كرسيه، تتثاءب العجوز وتصحو) .
الرجل :
ومرت السنون.
المرأة :
سبع سنين.
الرجل :
في كل شهر أختفي مع سيدي، ونذهب إلى هناك.
المرأة :
لم تقل لي أبدا إلى أين ...
الرجل :
نذهب ونعود ... نذهب ونعود.
المرأة :
والعجوز يسأل كل يوم.
الرجل :
والعجوز يموت كل يوم.
المرأة :
حتى كانت تلك الليلة.
الرجل :
صرخ ونادى ... كنزي ... بيتي.
المرأة :
حتى فاضت روحه على صدري.
الرجل :
حتى خرج السر.
المرأة :
وتحملنا الآلام.
الرجل :
وبكينا لما بكت السيدة.
المرأة :
على الزوج الغائب، والجد الغائب.
الرجل :
وفتحنا البوابة والحجر المغلقة للمعزين.
المرأة :
ولم أخلع ثياب الحداد.
الرجل :
حتى رجع السيد يوما من ذات الأيام.
المرأة :
فهم بغير كلام.
الرجل :
عانق زوجته وابنه.
المرأة :
وأتاني بملابس الحداد.
الرجل :
وبكينا لما مسح الدمع عن الخدين.
المرأة :
وكان الشتاء.
الرجل :
وامتد شتاء بعد شتاء.
المرأة :
برد وظلام.
الرجل :
مرض الابن المسكين.
المرأة :
ارتجف العصفور المسكين.
الرجل :
لم ينفع معه طب ولا حنان.
المرأة :
حتى كان صباح ...
الرجل :
يوم مشئوم.
المرأة :
أفقنا على صراخ الأم، نهجر هذا العش؟
الرجل :
والسيد يبكي، نترك بيتنا؟
المرأة :
والسيدة تولول: هل أتركه يحتضر أمامي؟
الرجل :
وتهاجر الطيور المذعورة.
المرأة :
وتبقى الكلاب المذعورة.
الرجل :
تبكي وجه الأحباب، وتنبح في وجه الأغراب.
المرأة :
ونقوم بالحراسة كل صباح، كل مساء.
الرجل :
الإنسان ضعيف أمام الشتاء.
المرأة :
وأمام الفراق.
الرجل :
وأنا أجري من البيت إلى الباب، ومن الباب إلى البيت. حاضر يا سيدي، أوامرك يا سيدتي (ينهض ويمشي نحو الدولاب، يفتحه ويضم يديه على شيء) .
هذا هو المعطف يا سيدي، المعطف الأسود الثقيل، إن كنت نسيته فلم أنسه.
المرأة :
يومها تخيلت أنك تحمل إناء أسود مليئا بكل الدموع.
الرجل :
على البيت ... والجد العجوز ... والصبي المريض.
المرأة :
وأنا أجري إلى الحديثة وأقطف الزهور الأخيرة ... الزهور الشاحبة.
الرجل :
وتقدمينها للابن العزيز.
المرأة :
لن أنسى منظره أبدا.
الرجل :
عصفور يرتجف من البرد.
المرأة :
يوشك أن يحتضر.
الرجل :
وتذكرين عينيه، والنظرات المذعورة في عينيه.
المرأة :
والشمس الصغيرة التي نورت وجهه حين ناولته باقة الورود.
الرجل :
الورود الأخيرة.
المرأة :
وذهبوا واختفت العربة.
الرجل :
ولوحوا بأيديهم من الزجاج.
المرأة :
واستندت إليك لأصعد السلم.
الرجل :
ذهبوا.
المرأة :
وعادوا في تلك الليلة.
الرجل :
من؟
المرأة (تنظر مذعورة إلى النوافذ، تشيح بيديها وقدميها) :
عادوا من جديد.
الرجل (لا يرى شيئا) :
سيعودون حتما، سيعودون إلى بيتهم.
المرأة (تنهض وتصرخ في النوافذ) :
اذهبوا ... اذهبوا، ماذا تريدون الآن؟
الرجل :
اهدئي يا عزيزتي ... اهدئي يا حبيبتي.
المرأة :
تركوه ... تركوا بيتهم، أهذا ما كنتم تريدون؟ لم يبق سوانا.
الرجل (يحاول تهدئتها) :
لم يبق سوانا، ولكنهم سيرجعون.
المرأة :
اذهبوا ... اذهبوا (تختفي الأقنعة )
نحن نحافظ عليه، الكلاب الأمينة تحرس البيت الذي تربت فيه، لن تغفل عيوننا ... لن تغفل أبدا.
الرجل :
تعالي يا زوجتي ... تعالي (يحملها إلى الكرسي، ينتفض جسدها، ثم تهدأ شيئا فشيئا، يحمل إليها كوبا من الماء، تشربه وتنظر في الفراغ) .
الرجل :
سيعودون يا عزيزتي الصغيرة ... سيعودون.
المرأة :
متى؟ متى؟
الرجل :
لا بد من الانتظار.
المرأة (تسوي الشال البنفسجي على كتفيها) :
يا سيدتي الغالية.
الرجل (يتأمل صورة السيد على الحائط) :
يا سيدي المبجل. (صمت. بعد قليل لزوجته)
ألا يخيل إليك أننا دخلنا الحجرة توا، حيث كان سيدي وسيدتي يجلسان بجوار المدفأة قبل أن يذهبا للنوم.
المرأة :
كأن ما رأيناه حلم.
الرجل :
كأنه حلم.
المرأة :
هنا كانا يشربان قهوة المساء.
الرجل :
وتتركينهما بلا قهوة؟ هيا يا عزيزتي. (المرأة تنهض وتمشي إلى المطبخ، يتمدد في كرسيه ويفتح علبة التبغ ويشعل سيجارة، تعود بعد قليل لتقدم له القهوة.)
الرجل :
عزيزتي.
المرأة (تجلس في كرسيها، وتسوي الشال على كتفيها وتمسك بإبرتها وجواربها) :
عزيزي.
الرجل :
ألا تعتقدين أن في إمكان الناس أن يعيشوا متقاربين.
المرأة :
ماذا تعني؟
الرجل :
أعني أن يمدوا أيديهم إلى بعضهم.
المرأة :
ربما يا عزيزي ... ربما.
الرجل :
وأن يحيوا في ثقة ومحبة.
المرأة (لنفسها) :
إلهي، كأنه سيدي نفسه، ممكن يا عجوزي الطيب.
الرجل :
بل واجب يا عجوزي المسكينة (يطفئ سيجارته في المنفضة، يشعل سيجارة جديدة، ويلقي بعود الثقاب فيها)
انظري، ما الذي منعهم من هذا؟
المرأة (لنفسها) :
أهذا ممكن؟ يطفئ السيجارة كأي سيد مهذب، ويضع عود الثقاب أيضا في المنفضة! ما الذي منعهم يا عزيزي؟
الرجل :
لأنهم نسوا الجنة التي طردهم منها الله، ولم يحاولوا أن يعودوا إليها.
المرأة :
حقا يا عزيزي، حقا.
الرجل :
لم يحاولوا أن يعودوا إليها، فهمت؟ ولم يبذلوا جهودهم ليوجدوها على الأرض.
المرأة :
ماذا ... على الأرض؟
الرجل (يطفئ سيجارته في المنفضة) :
الجنة طبعا.
المرأة (لنفسها) :
لا يدوسها على السجاد كعادته، شيء يصعب تصديقه.
الرجل :
لماذا يصعب تصديقه؟ لقد حقت عليهم لعنته الأبدية بأن يأكلوا خبزهم بعرق جبينهم، أن يعيشوا في جحيم على الأرض.
المرأة :
صدقت في هذا يا عزيزي، جحيم على الأرض.
الرجل :
هل قلت يعيشون في الجحيم؟ إنهم في الحقيقة يصنعونه كل يوم، يشعلون ناره كلما انطفأت بوقود جديد (يطفئ السيجارة في المنفضة) .
المرأة :
عجيب؟ شيء لا يمكن تصديقه.
الرجل :
ليس عجيبا كما تتصورين، أتدرين ما السبب؟
المرأة (لنفسها) :
إلهي، كأني أسمع صوت سيدي، وما السبب يا عزيزي؟
الرجل :
إنها الشياطين التي تفرق الناس إلى شيع يحارب بعضها بعضا، وتؤلب الأبيض على الأسود، والبر على البحر.
المرأة :
غريب يا زوجي الطيب ... غريب.
الرجل :
ليس غريبا كما تظنين، لقد تصوروا أن الحي الذي لا يموت لم يخلف وراءه وصية، وماذا حدث؟
المرأة :
ماذا؟ ماذا حدث؟
الرجل :
فكري في الأمر معي، انقض الورثة المطرودون من الجنة على ممتلكاته كل من نهب أرضا أو زرعا أو حيوانا، وضع حوله سورا وقال: هذا ملكي، من يتعدى هذا السور عدوي.
المرأة :
وخطف كل منهم ما أمكنه خطفه.
الرجل :
تماما، واستعر الجحيم الذي أشعلوه بأيديهم.
المرأة :
صحيح يا زوجتي، ولم ينتظروا الجحيم في يوم الحساب.
الرجل (يرشف القهوة ويشعل سيجارة، ويطفئ عود الثقاب في المنفضة) :
ألم أقل لك.
المرأة :
صدقت يا عجوزي الطيب، ما أجمل حديثك الليلة، كأني أسمع ...
الرجل :
كأنك تسمعين سيدي، أليس كذلك؟
المرأة :
نعم ... نعم، حتى أعقاب السجائر.
الرجل (ضاحكا) :
أضعها في المنفضة، ولا أدعكها بقدمي. (ينهض ويذرع الغرفة جيئة وذهابا)
أتعرفين يا زوجتي الطيبة ...
المرأة :
ماذا تريد يا عزيزي؟
الرجل :
يخيل إلي أنني أرى سيدتي.
المرأة (ضاحكة) :
سيدتك؟ هذا لأنك ...
الرجل :
لأني أعمى لا أرى، قوليها ولا تترددي، ولكن جلستك ... حديثك ... الشال الأسود بالنقط البنفسجية، حتى القهوة التي رشفتها الآن، كأني أسمع سيدتي وأبصرها أمامي.
المرأة :
وكأني أسمع سيدي وأبصره أمامي.
الرجل :
فليرجعوا بسلامة الله.
المرأة :
ليرجعوا إلى بيتهم بسلامة الله، (الرجل لا يزال يذرع الغرفة، وهو سارح البصر مطرق الرأس)
ألم يحن موعد النوم يا عزيزي؟
الرجل :
بلى يا عزيزتي، بلى!
المرأة :
هيا ... ضع كل الصور في مكانها.
الرجل :
وأغلقي النوافذ، ولا تنسي الشال الأسود (تخطو المرأة نحو النوافذ، تتذكر الشال فترجع وتضعه في مكانه على الأريكة، وتحمل إناء القهوة والأكواب لتتجه بها إلى المطبخ، تسمع هتاف زوجها) .
الرجل :
انظري ماذا وقع مني؟
المرأة :
ماذا؟ قلت لك كن حذرا.
الرجل :
لم ينكسر شيء، وقع هذا من جيبي.
المرأة :
ماذا وقع؟
الرجل :
الخطاب.
المرأة :
إذن ضعه في جيبك وهيا.
الرجل :
لم تفهميني، كنت أنحني لأضع المنفضة في مكانها المعتاد، سقط الخطاب مني، ضغطت على مفتاح النور، وماذا رأيت؟
المرأة :
خطاب سيدي وسيدتي.
الرجل :
على الصفحة الأخرى ... على الصفحة الأخرى سطور بخطه.
المرأة :
هيا يا رجل، قل وأرحني.
الرجل :
لا، بل هي بخط عزيزنا الصغير.
المرأة (فرحة) :
العصفور المسكين، وماذا يقول؟
الرجل :
إنه بخير.
المرأة :
فلتحفظه يا رب، اقرأ يا رجل (تضع الآنية والأكواب على المنضدة وتسرع إليه) .
الرجل (مقربا المصباح من الخطاب) :
اسمعي يا عزيزتي (يتردد صوت الابن بمجرد أن يفتح العجوز فمه) .
ص. الابن :
عجوزاي العزيزان، صحتي تحسنت كثيرا.
المرأة :
الحمد لله ... الحمد لله.
ص. الابن :
سأعود إلى بيتنا قريبا.
المرأة :
عد يا حبيبي إلى بيتك، عد بسلامة الله.
ص. الابن :
كان مرضي شديدا، ولكني نجوت منه، لن أموت.
المرأة :
ستعيش يا حبيبي ... ستعيش بأمر الله.
ص. الابن :
سأعود وأقبلكما أنا وأبي وأمي.
المرأة (تلتفت إلى النوافذ، ترى أقنعة الجراد تملؤها وتكاد تصدر منها أصوات الضحك والاستنكار، تجري نحوها لتغلقها) :
سيعود ... سيعود (الأقنعة تضحك وتكشر في وقت واحد) .
سيعود ويطاردكم إلى آخر الدنيا. (الأقنعة تضحك وتكشر وتتراقص على النافذة، يسرع إليها العجوز ويهدئها ويغلقها معها.)
اذهبوا ... اذهبوا، سيعود سادتنا في يوم قريب، أقرب مما تتصورون.
الرجل :
اهدئي يا عزيزتي، اهدئي.
المرأة :
لن أهدأ حتى يعودوا.
الرجل :
سيعودون.
المرأة :
ويطاردونهم إلى آخر الدنيا.
الرجل :
ويختفون بلا عودة.
المرأة :
عد يا سيدي، عد يا حبيبي الصغير.
ص. الابن :
سأعود قريبا ... سأعود.
المرأة :
نحن وحدنا يا سيد، عد إلى بيتك وتمتع بحياتك.
ص. الابن :
كان مرضي شديدا، ولكني نجوت منه، لن أموت.
الرجل :
عد وستجد الحديقة كما هي، والزهور والأشجار. والقطة التي تعودت على الجلوس في حجرك، عد وستجدنا نحرس الحديقة والبيت.
المرأة :
نحرسها من الجراد، نحرسها من الجراد.
ص. الابن :
سأعود ولن أموت ... سأعود ولن أموت.
المرأة (نحو النافذة) :
وستذهبون بلا عودة ... ستذهبون ... ستذهبون.
الرجل :
هيا يا عزيزتي، هيا (يغلق النوافذ ويطفئ النور، يلمس الأرائك والكراسي لمسات أخيرة، ويطمئن على أن كل شيء في مكانه) .
المرأة :
هل ذهبوا؟
الرجل :
ذهبوا يا عزيزتي.
المرأة :
هل رأيتهم يا عزيزي؟ فظيع ومخيف.
الرجل :
صدقت يا عزيزتي، ذهبوا ولن يعودوا.
المرأة :
كأني أحلم.
الرجل :
كأنه كابوس.
المرأة :
وسادتنا، أتظن أنهم ... (تستند عليه.)
الرجل :
سيعودون يا عزيزتي ... حتما سيعودون.
ص. الابن :
سأعود قريبا ... سأعود ... سأعود.
المرأة (تنحني) :
بسلامة الله يا حبيبي.
الرجل (ينحني) :
بسلامة الله يا ولدي (يأخذ بيدها وينصرفان) .
صوت الابن (يتردد) :
لن أموت، سأعود ... سأعود ... سأعود.
الكنز
مسرحية عن الأدب الصيني
الشخصيات
الفلاح.
الحارس.
مدير السجن.
القائد.
الوزير.
القيصر.
القصة التي استوحيت منها المسرحية من روائع الأدب الصيني، ترجمتها إلى الألمانية السيدة «إلزه كورن» مع مجموعة أخرى من القصص تحت عنوان «نواة ثمرة الكمثرى» كما صاغها الأستاذ «فالتر رشتر» صياغة مسرحية لفرق الهواة مع مجموعة أخرى من المسرحيات بعنوان «الحمير والحمقى» (صدرت عن دار النشر المركزية للثقافة، ليبزج 1975م) وهذه الصياغة تدين بالفضل والعرفان للمحاولات السابقة، كما تعد نفسها محاولة حرة ومختلفة. (تكفي لتصوير المشهد قضبان قفص حديدي أو زنزانة سجن انفرادي، يقف وراءها فلاح نحيل يرتدي ثوبا متواضعا من الكتان، ويخاطب من خلالها بقية الشخصيات. الملابس تتدرج في سلم الأبهة والفخامة من الحارس إلى مدير السجن إلى القائد والوزير، حتى تبلغ ذروتها لدى القيصر، الفلاح يهز قضبان القفص ويدقها بشدة.)
الفلاح :
يا حارس! يا حارس!
الحارس (يسمع صوت من بعيد) :
هدوء! هدوء!
الفلاح :
اسمعني يا حارس!
الحارس (من بعيد) :
هدوء ... قلت الزم الهدوء.
الفلاح (رافعا صوته) :
أريد القيصر ... أريد القيصر.
الحارس (متجها إليه) :
ما هذا؟ تريد أن أفقد عملي بسبب صعلوك مثلك؟ ماذا يحدث لو رآني مدير السجن أو سمعني أكلمك؟ قلت لك الكلام ممنوع.
الفلاح :
القيصر، أريد أن أقابل القيصر.
الحارس (يضرب كفا بكف) :
القيصر نفسه؟ هل التهم الجوع بقية عقلك؟ هل سكرت من العطش؟ ومع ذلك فلم أقصر في حقك.
الفلاح :
حقا، يمكنك أن تهنئ نفسك؛ لأنني لم أمت جوعا وعطشا أمام أطباقك الفارغة.
الحارس :
فارغة؟ ألم أقدم لك ما يكفي من الأرز والخبز؟ إن مدير السجن يتهمني بسرقة طعام المساجين، وهو الذي يعلم الجميع أنه يبيع طعامهم في السوق، بيني وبينك يا صاحبي، لقد أثرى ثراء فاحشا، وله بيت فخم كالكبار، وحتى لو كنت أسرق كما يقولون، هل أسرق طعام فلاح مسكين مثلك؟ شبح هزيل يرتعش أمامي؟
الفلاح :
احمد السماء؛ لأن هذا الشبح لم يمت جوعا. لو مت لقطعوا رأسك.
الحارس (ضاحكا) :
لن يقطعوه بسبب لص مثلك.
الفلاح :
لص؟ وماذا سرقت؟ أتسمي هذا ...؟ (مشيرا إلى جيب الحارس.)
الحارس :
هذا الغليون الذي ضبطتك وأنت تضعه في جيبك؟
الفلاح :
لست أنا الذي وضعته في جيبك، ثم إنه قديم ورأسه مشروخ. أتتهمني بالسرقة بدلا من أن تشكرني لأنني رفعته من التراب والوحل والطين؟ لأنه لم ينكسر تحت أقدام عابر سبيل أو تحت عجلات عربة مارة على الطريق، إن كان ملكا لك فقد أخذته، وإن لم يكن ملكا لأحد فلماذا تضعني في السجن؟
الحارس :
لأنها سرقة، لم يكن من حقك أن تمد يدك إليه.
الفلاح :
ولكنه ليس ملكا لأحد.
الحارس :
ما لا يملكه أحد يملكه القيصر، هذا هو القانون.
الفلاح :
قانون القيصر؟ إذن فدعني أقابله، أريد القيصر ... أريد القيصر.
الحارس :
رجعت لجنونك؟ أتظن أن القيصر لديه وقت لأمثالك؟ أتحسب أن مهام المملكة تترك له لحظة لمقابلة لص مثلك؟
الفلاح :
لست لصا، قلت لك وجدت شيئا على الطريق.
الحارس :
وجدت شيئا على الطريق؟ هذه حجتكم دائما، نسيت أن الطريق ملك القيصر، وكل ما يوجد على الطريق هو بحسب القانون ملك القيصر، ثم إنني ضبطتك متلبسا بالجريمة، ربما لا تعلم أنني ضبطتك بجوار سور القصر.
الفلاح :
قصر القيصر ؟ لماذا لم تقل لي؟
الحارس :
ولماذا تندهش؟ إن كل القصور ملك القيصر. وكل الأسوار ملكه أيضا.
الفلاح :
ليتني عرفت هذا ...
الحارس :
وعرفت أيضا أن الطريق ملك القيصر، والوحل الذي على الطريق، والعربات التي تسير على الطريق، والسائقون والخيول والأبقار التي تجر العربات، والأرز في حقول الفلاحين وفي أطباق طعامهم، والتفاح والكمثرى على رءوس الشجر، وأجور الموظفين والجنود التي يوزعها الوزراء والقواد، والذهب في خزينة الدولة وخزائن القصر. كلها ملك القصر، ومن يمد يده ليسرق غليونا تافها ملقى في وحل الطريق سيمد يده ...
الفلاح (ساخرا) :
ليسرق الأرز من حقول الفلاحين وأطباقهم. وثمار التفاح والكمثرى من على رءوس الأشجار، والعربات والسائقين والخيول والأبقار وأجور الموظفين والجنود، والذهب في خزينة الدولة وخزائن القصر.
الحارس :
فهمت أخيرا، ثم يمد يده في النهاية ليسرق التاج من على رأس القيصر.
الفلاح :
ولهذا أريد مقابلة القيصر.
الحارس :
لتسرق تاجه؟!
الفلاح :
بل لأهديه ألف تاج مثله، لأملأ خزائنه بالذهب، وأملأ قلبه بالسرور.
الحارس (يضحك) :
فلاح بائس مثلك يفعل كل هذا؟
الفلاح :
وأكثر منه.
الحارس (يخرج الغليون من جيبه ويتأمله، يضربه على كفه ثم يقول) :
يظهر أن الكلام معك مسل، برغم الأوامر المشددة من مدير السجن بعدم الكلام مع المسجونين، وأين هذا الكنز أيها الصعلوك؟ أين تخفيه؟
الفلاح :
أخفيه هنا في قلبي، سر لن أعلنه إلا للقيصر نفسه، ثم إنني لست صعلوكا.
الحارس :
لص من الريف، هل يرضيك هذا؟
الفلاح :
ولا هذا، لقد جئت من بلدتي البعيدة، وتحملت عذاب السفر والجوع.
الحارس :
لتتسكع في طرقات المدينة، حتى تبلغ سور القصر، وتنادي: يا قيصر، فيقول: لبيك.
الفلاح :
سيكون هذا في صالحه هو، إنني لن أكسب شيئا.
الحارس :
نسيت أن أسألك: من أي بلد أنت؟
الفلاح :
مع أن السؤال من حق القيصر وحده، ومع أنني عاهدت نفسي وأهل بلدتي ألا أفضي بالسر إلا للقيصر نفسه، فإن وجهك الطيب يشجعني على القول بأنني من بلدة هان هان.
الحارس :
في المقاطعة الشمالية، أليس كذلك ؟
الفلاح :
نعم.
الحارس :
وما الذي جعلك تتحمل السفر الطويل لتأتي إلى هنا؟
الفلاح :
عيناك تقولان إنك طيب، لكن لا تقولان إنك غبي.
الحارس :
حاذر في كلامك، لا تنس أنني حارسك، ويمكن أن ...
الفلاح :
يمكن أن تأمر بجلدي أو حتى قطع رقبتي، ولكنك لن تستطيع أن تجلد السر الذي أحمله في قلبي أو تقطع رقبته، ألم أقل لك إنه سر خطير؟
الحارس :
وما هو؟
الفلاح :
كيف أقوله لك وهو سر؟ ألم تسمع أنني عاهدت نفسي ...
الحارس :
وعاهدت أهل بلدتك ألا تعلنه إلا للقيصر نفسه، ومع ذلك يا صاحبي يمكننا أن نتكلم عنه من بعيد.
الفلاح :
هل أفهم من هذا أنك ستساعدني؟
الحارس :
ربما، إذا اقتنعت بأنه يستحق أن يبلغ إلى هناك (يشير إلى أعلى) .
الفلاح :
إذن ستكلم مدير السجن، ومدير السجن ...
الحارس :
ومدير السجن يكلم القائد، والقائد يكلم الوزير، والوزير يكلم رئيس الحرس، ورئيس الحرس ...
الفلاح :
اعلم يا صاحبي أنه كنز، كنز أثمن من كل الكنوز التي تتخيلها. كنز لا يصلح أن يلمسه إلا أرفع إنسان وأطهر إنسان.
الحارس :
ولماذا لم تبحث عن هذا الإنسان في بلدتك؟ ألا يمكن أن تجده فيها أو في البلاد المجاورة؟
الفلاح :
مستحيل ... لا أنا ولا أهل بلدتي ولا البلاد المجاورة إلى ما وراء حدود المملكة، لو كان الأمر بهذه السهولة لاحتفظت به لنفسي، أو لأحد أولادي، أو أحد أقاربي.
الحارس :
هذا ما يقوله العقل السليم، أو لحارسك الذي يتكلم معه الآن برغم أوامر مدير السجن.
الفلاح :
لو أمكن هذا ما ترددت.
الحارس :
ولو فعلت لأمكنه أن يفعل شيئا من أجلك.
الفلاح :
قلت لك إن الشخص الوحيد الذي ...
الحارس :
القيصر، سمعت هذا من قبل، ولكن القيصر أيها الغبي ليس فقيرا مثلي أو مثلك، ما قيمة كنز يضاف إلى كنوزه التي لا تعد ولا تحصى؟ ثم إنه لا ينفعك الآن وأنت وراء القضبان، أما أنا فيمكنني مثلا أن أخفف عنك، أزيد كمية الأرز التي تصرف لك، بدلا من أن تذهب إلى زكائب مدير السجن الذي يبيعها في السوق، أقدم لك وعاء به ماء عذب بدلا من الطين الذي تشربه كل يوم، أسمح لك بنزهة أطول في فناء السجن، أستعطف المدير ليخفف عنك العقوبة التي تنتظرك.
الفلاح :
لتكن العقوبة ما تكون، لن يمكنكم أن تمنعوني من مقابلة القيصر.
الحارس :
وما الذي يؤكد لك هذا؟
الفلاح :
سأصرخ بأعلى صوتي، حتى لو كنت على أعلى درجات المشنقة، أريد مقابلة القيصر، أريد ...
الحارس :
اخفض صوتك، عرفت ما تريد، سمعته حتى أصبت بالصمم.
الفلاح :
لن يرحمكم إذا بلغ مسامعه أنني اختفيت أو مت ومعي السر، سيعلقكم جميعا على المشانق إذا عرف أنكم حرمتموه من أغلى كنوز المملكة، وستصرخ روحي من القبر.
الحارس :
لم تصل روحك ولا جسمك إلى القبر بعد، هيا نتكلم كأصحاب، لم تقل لي لماذا لم تأخذ الكنز لنفسك أو تعطه لأحد من أقاربك أو أهل بلدك؟
الفلاح :
لأن أحدا لا يستحقه، لا أنا ولا هم.
الحارس :
ولماذا؟
الفلاح :
قلت إنه لا يصلح إلا لأطهر إنسان وأرفع إنسان في المملكة، نظرت في نفسي، وراقبت جيراني وأهل بلدتي «هان هان» فلم أجد أحدا يصلح له.
الحارس :
لم تجد أحدا؟ عجيب.
الفلاح :
وما وجه العجب في هذا؟ إننا جميعا فقراء ... فقراء غارقون من رءوسنا إلى آذاننا في مستنقع الذنوب، قد تكون ذنوبنا صغيرة حقا، ولكننا لسنا الأتقياء الطاهرين، هل تعرف ما قاله لي صاحب اليد المباركة التي أعطتني الكنز؟ قال لي صوته العميق الذي لم أستطع أن أرى وجه صاحبه: اذهب وابحث عن أطهر إنسان، ابحث عنه في كل مكان. لا تيئس أبدا وستجده حتما، سألت زوجتي فقالت مذعورة: لا يمكن أن تكونه أنت، لا يمكن أبدا أن تكونه. لقد كسرت اليوم ذراعي من الضرب. ورأيتك أمس وأنت تسرق التفاح والكمثرى من بستان جارنا، ثم إنك تنظر خفية إلى زوجته، هل تظن أن هذا يخفى علي؟ لا ... لست أطهر إنسان في المملكة ولا في البلدة، قلت: يا امرأة وماذا أفعل؟ قالت: استشر أهل البلدة. قلت: أتظنين أني واجد بينهم من أسلمه الكنز وأستريح؟ قالت: من يدري؟ اسألهم وافعل ما يمليه عليك الواجب. قلت لنفسي: ربما يكون هذا الإنسان الطاهر شحاذا مسكينا، أو فلاحا مغمورا، أو راهبا في مغارة بالجبل، أو سائق عربة صغيرة أو حمالا عليه ثوب يكشف عريه، ودرت على الجميع، لم أستثن حتى لصوص الجبال والهاربين في الغابات من وجه القانون. ضحكوا جميعا من سذاجتي، وقال لي الراهب الذي ألححت عليه بالكنز: اذهب يا ولدي، لن تلقى أطهر إنسان إلا في المهد، في طفل ولد حديثا، طفل يبتسم ويبكي كملاك صاف، قلت: يا سيدي وماذا يفعل طفل في المهد بهذا الكنز؟ الصوت المبارك قال: لا بد أن يكون رجلا ... رجلا طاهر القلب. كالثلج على قمة الجبل والنور في الفجر، قال: اذهب وابحث عنه في كل مكان، ولما ضاقت بي الحال قال لي الفلاحون وهم يضحكون: اذهب للمدينة، سألتهم: وإن لم أجده هناك، هل أعود يائسا وأنا أنفض كفي وأقول: ألم أقل لكم؟ قالوا: ربما تجد أرفع الرجال وأطهرهم هناك، سألت: تقصدون القيصر؟ تقصدون أكبر الكبار؟ قالوا: من يدري؟ ربما يكون كذلك، وإذا أخذ منك كنز الكنوز فربما يتذكرنا، ربما يحضر بنفسه وينتشلنا، وهكذا يا صاحبي.
الحارس :
هكذا جئت إلى المدينة؛ لأضبطك متسكعا حول أسوار القصر.
الفلاح :
نسيت أن أقول لك ما قاله الراهب: ابحث يا ولدي عن الحقيقة، إن لم تجدها فيكفيك أنك تعبت في البحث عنها.
الحارس (ضاحكا) :
وهل قال لك أيضا أن تبحث عن هذا الغليون وتضعه في جيبك؟
الفلاح :
ألا زلت تتهمني بالسرقة؟ أأنا الذي وضعته في جيبي؟
الحارس (يتأمل الغليون) :
إنه مكسور كما تعلم، ومع ذلك فهو خدش بسيط، لا بأس ... لا بأس، يمكنني أن أستعمله قبل النوم، حين أنظر لأولادي الخمسة المكومين في حضن أمهم على بقايا الفرش البالي.
الفلاح :
أنت أيضا؟
الحارس :
بالطبع يا صاحبي، كنت أظن أنك ستعترف لي بسرك.
الفلاح :
وهل تظن أنك تصلح ...
الحارس :
لا أخفي عنك أنني لست من تبحث عنه، أنا أيضا لا أخلو من ذنب هنا وذنب هناك ، ثم إنني أقول لك من الآن ...
الفلاح :
ماذا تقول ؟
الحارس :
أقول: لا تتعب نفسك، ولكن ما شأني أنا بهذا؟ إنني مجرد حارس صغير.
الفلاح :
وضعني وراء هذه القضبان كأني لص.
الحارس :
إنني أنفذ القانون، وقانون القيصر يقول إن ما لا يملكه أحد يملكه القيصر، حتى الوحل ...
الفلاح :
حتى الوحل على الطريق، والأرز في حقول الفلاحين وأطباقهم (فجأة يرفع صوته)،
ولكنني لست لصا، لست لصا. لقد سافرت ثلاثة أشهر لأقابل القيصر، أريد مقابلة القيصر.
الحارس :
اسكت اسكت، تريد أن تقابل القيصر أم تريد أن يطردني مدير السجن؟ (يدخل مدير السجن، يفاجأ الحارس وينحني نصف انحناءة.)
المدير :
جميل ... جميل، ماذا أسمع؟ ماذا أرى؟
الحارس :
إنه يا سيدي، هذا الفلاح الصعلوك.
المدير :
أعرف أعرف، أتظن أن عيني مغمضة؟ أتظن أن أذني لا يصل إليها دبيب النمل على الجبل والفئران في الجحور؟
الحارس :
إنه يا سيدي.
المدير :
سرق من الطريق ما لا يملكه أحد، والطريق كما يقول القانون ملك القيصر، وكل ما على الطريق ... (الحارس يقدم إليه الغليون، فيأخذه منه عنوة، ويتأمله قبل أن يلقي به من يده، ويلتقطه الحارس.)
المدير :
غليون، مشروخ من رأسه أيضا، أتظن أني لا أعرف؟ ووضعته في جيبك كما تضع حفنة أرز من طعام المساجين، لا تنكر، تظنني لا أعرف؟ ثم من سمح لك بالكلام مع هذا الرجل؟ ألم أمنع الحراس من الكلام مع المساجين؟
الحارس (يزداد انحناؤه) :
نعم.
الفلاح :
أنا الذي بدأ الكلام يا سيدي.
المدير :
ومن أمرك بفتح فمك؟
الفلاح :
أنا الذي ناديت بأعلى صوتي: أريد مقابلة القيصر.
المدير (يتفرسه في هدوء) :
هكذا؟ فلاح مثلك.
الفلاح :
نعم يا سيدي، وصعلوك وفقير وجائع وعطشان. (الحارس ينظر إليه مستعطفا فيستطرد.)
الفلاح :
لا تخش شيئا يا صاحبي، لقد قمت بواجبك وقدمت لي طبقا مملوءا بالأرز، ووعاء شربت منه الماء الصافي، ولكن هذا لم يمنعني من الصياح في طلب القيصر؛ لأنني يا سيدي المدير أملك أنفس شيء في الوجود.
المدير :
تملك أنفس شيء؟
الفلاح :
أجل يا سيدي، أملك أغلى كنز في المملكة، كنز الكنوز.
المدير :
سمعت يا حارس؟
الحارس :
نعم يا سيدي، هذا ما يردده طول الوقت.
المدير :
تملك كنز الكنوز، أنت؟
الحارس :
ويصر على ألا يقدمه إلا للقيصر نفسه.
المدير (يتفرس في وجهيهما قليلا ... يتفكر ثم يقول لنفسه) :
من يدري؟ ربما يكون هذا الفلاح صادقا، ثم إنه لو ظل يصرخ هكذا فلا بد أن يبلغ صوته القيصر. ولو عرف القيصر أننا منعناه من مقابلة جلالته فسيعاقبنا حتما، لا أريد أن أضيف جريمة إلى جرائمي التي يعلمها، فلأجرب مع هذا، أنت!
الفلاح :
نعم يا سيدي.
المدير :
أتقول الحقيقة؟
الفلاح :
كل الحقيقة يا سيدي.
المدير :
وتصر على أنك تملك كنزا.
الفلاح :
وأصر على تقديمه للقيصر.
المدير :
القيصر لديه من الكنوز ما يكفي، استمع إلي ...
الفلاح :
أريد أن يستمع القيصر نفسه إلي، سيجعله الكنز غنيا بلا حدود.
المدير :
أيها الأحمق، إنه غني بلا حدود، ثم إنه لن يكترث بفلاح مثلك لا يختلف عن ملايين الفلاحين، وحتى لو حدثت معجزة وتكلمت معه، فسيأخذ منك الكنز دون كلمة شكر، ويتركك هنا تحت تصرفي. إنني أنا مدير السجن، إن سلمتني الكنز فسوف أختصر مدة عقوبتك أياما أو أسابيع، وربما زدت في إكرامك وحصلت لك على بعض المال من خزينة القائد الذي يسرق أجور الجنود، أليس من مصلحتك أن تقدمه لي بدلا من القيصر؟ (يظهر القائد الذي كان يتسمع منذ قليل للحوار، ينحني الحارس انحناءة شديدة، يلتفت مدير السجن فينحني نصف انحناءة.)
القائد :
يقدمه لك بدلا من القيصر؟ ما هذا الذي تتحدث عنه يا مدير السجن؟
المدير :
لا شيء يا سيدي القائد ... لا شيء.
الحارس :
فلاح مجنون يا سيدي، وسيدي المدير.
القائد :
اخرس أنت. (للقائد)
منذ سنين وأنت تهرب الأرز من السجن إلى السوق. أتريد الآن أن تحول السجن إلى سوق؟ هيا تكلم.
المدير :
هذا الفلاح الأحمق يا سيدي يزعم أن معه شيئا نفيسا يصر على تقديمه إلى القيصر نفسه.
القائد (للفلاح) :
أنت؟
الفلاح :
نعم أنا. كنز لا أقدمه إلا للقيصر نفسه.
القائد :
كنز لا تقدمه إلا للقيصر نفسه. (متفكرا وحده ثم بصوت عال)
أنا لا أعرف إلا كنزا واحدا يمكن أن يقدمه فلاح مثلك للقيصر، هذا الكنز هو حياتك. ولا أعرف إلا مكانا واحدا يمكنك أن تقدمه له فيه، هذا المكان هو ميدان الحرب، ولكن من الذي ينفق على الحرب التي ترفع الوطن لأعلى القمم، وتخفض الفلاحين إلى الحضيض! إنه أنا، لهذا فإن الكنز لا يقدم إلا لي، هيا ... مد يديك، وسوف أنظر في أمر الإفراج عنك قبل الموعد المحدد والإغداق عليك من خزينة المملكة.
الوزير (يدخل فجأة) :
خزينة المملكة لا يتصرف فيها سواي. لا أحد سواي، أنا وزير المال أيها القائد.
القائد :
بالطبع بالطبع (ينحني نصف انحناءة) .
الحارس :
يقينا يا سيدي (ينحني انحناءة عميقة تقترب من الركوع) .
الوزير :
يقينا وبالطبع، فكما أن الأرز ليس ملكا للحقل ولا للفلاح، وكما أن الثور ليس ملكا للعربة ولا للسائق، كذلك خزينة المملكة لا تملكها المملكة ولا الشعب، وإنما أتحكم فيها أنا، أنا وحدي.
القائد :
صحيح!
المدير :
تماما!
الحارس :
لا شك في هذا.
الوزير :
لا شك في هذا! من الذي يجرؤ إذن على أن يمد أصابعه إليها؟ مهما طالت كأشعة الشمس في المساء، أو قصرت كظل المشنقة في الصباح فلا بد أن أقطعها.
القائد :
من يتجرأ على هذا؟ لا أحد.
المدير :
ومع ذلك تريد أن تمد يدك إليها؟
القائد :
لا لأقلل منها يا سيدي، بل لأملأها بالكنز الذي يقدمه هذا الفلاح.
المدير :
من؟ هذا الفلاح؟
الفلاح :
لن أقدم شيئا إلا للقيصر.
الوزير :
ما هذا الذي تقدمه؟ أي كنز هذا؟
الفلاح :
ولن أرد إلا على أسئلة القيصر.
الوزير (للفلاح) :
هكذا؟ اسمع أيها السجين، إنني أستطيع أن أحررك.
الفلاح :
القيصر وحده هو الذي سيحررني.
الوزير :
قلت اسمع وكفى ثرثرة. كما أن الشمس لا تغيب في الصباح، ولا تشرق في المساء، كذلك ليس لفلاح مثلك أن يقدم شيئا، وإنما عليه أن يعطي. وليس للوزير أن يرجو وإنما الوزير يأمر. إن الثلج يوجد على قمم الجبال، والتاج الذي سرقه القيصر يحمل من الكنوز فوق كفايته، هيا ... هيا ... هات كنزك المزعوم، إن مكانه الصحيح في خزينة المملكة، وخزينة المملكة أنا المتصرف فيها. وأنا الذي يمكنه أن يطلق سراحك أسرع من أي إنسان آخر، ويمكنه أن يغدق عليك أكثر من مائة قيصر.
أصوات تنادي :
القيصر ... القيصر. (يظهر القيصر الذي استمع في غفلة من الحاضرين إلى العبارات الأخيرة.) (يركع الحارس، ثم تصبح ركعته سجودا خاشعا أمامه، يركع مدير السجن، ينحني القائد انحناءة عميقة، أما الوزير فينحني نصف انحناءة. القيصر يدور عليهم ويتفرس طويلا في وجوههم.)
القيصر :
شيء مدهش! لا لا شيء يدعو للحزن. أليس كذلك؟
الوزير :
صاحب الجلالة.
القائد :
فداء العرش.
مدير السجن :
في خدمة مولاي.
الحارس :
مولاي.
القيصر :
شيء محزن، محزن. مؤامرة على تاجي في قبو السجن، وخيوطها السوداء أمام عيني يا وزير.
الوزير :
افتراءات يا صاحب الجلالة! محض افتراءات من أعداء المملكة، تنتفخ كالفقاقيع فوق سطح المستنقع، ثم لا تلبث أن تختفي كالحشرات في الجحور.
القيصر :
حسن ... حسن، وقائدي الهمام؟ هو أيضا بالقرب من الحشرات؟
القائد :
لا أعرف يا مولاي إلا نوعا واحدا من الحشرات، أعداء مولاي.
القيصر :
عظيم.
المدير :
أنا أؤدي واجب الطاعة نحو العدالة. وطاعة العدالة هي طاعتكم (يركع أمامه مرتعد الفرائص) .
القيصر :
اخجل من نفسك وانهض، الشعور بالذنب متوقع من مساجينك وحراسك لا منك (يركل الحارس بقدمه) .
الحارس :
الرحمة ... الرحمة يا مولاي.
المدير :
صدقت يا مولاي، إنه الحارس هو المسئول ولا أحد سواه.
القيصر (للحارس) :
وأنت أيها الحارس، من هذا الذي تحرسه؟
الحارس (وهو لا يزال ساجدا) :
هذا يا مولاي؟ هذا الفلاح؟
المدير :
نعم يا صاحب الجلالة، هذا الفلاح التعس.
القيصر :
وماذا فعل حتى تتجمعوا حوله؟
المدير :
سرق غليونا من الطريق.
القائد :
من أمام السور المحيط بقصر مولاي.
القائد :
ومن يمد يده إلى شيء بجانب السور ...
الحارس (وهو يقدم الغليون للقيصر) :
ولو كان غليونا مشروخ الرأس ولا نفع فيه (القيصر يتأمل الحارس والغليون ووجوه الحاضرين باحتقار) .
القائد :
فيمكنه أن يمد يده إلى الصناديق التي أحفظ فيها أجور الجنود.
الوزير :
أو إلى الخزينة التي أحافظ فيها على كنوز المملكة.
القيصر :
وأخيرا إلى تاج القيصر نفسه، شيء محزن ... شيء محزن أيها الفلاح.
المدير :
ولهذا أمرت بوضعه وراء القضبان ليكفر عن ذنبه.
القائد :
كان من رأيي أن يداس بالأقدام كما يداس أعداء القيصر.
الوزير :
اليوم يمد يده إلى غليون قديم، من يدري إن كان سيمدها غدا إلى خزينة المملكة.
القيصر :
لص خطير، بل وباء ينهش جسم المملكة، أليس كذلك أيها الفلاح؟
الفلاح :
معهم الحق يا مولاي. قانونك أيضا معه الحق، ما لا يملكه أحد يملكه القيصر. وأنا وامرأتي وأولادي وأهل بلدتي «هان هان» وأهل البلاد والمدن جميعا ملكك، إن ذنبي في عيني القانون فظيع، ولهذا طلبت من عبيدك هؤلاء أن يساعدوني على التكفير عنه.
القيصر :
وكيف تكفر عنه؟
الفلاح :
طلبت منهم أن يسمحوا لي بمقابلتك.
القيصر :
أهذا صحيح يا وزير؟
الوزير والقائد والمدير :
صحيح يا مولاي!
القيصر :
ولماذا تريد مقابلتي؟
الفلاح :
لأقدم لك شيئا نفيسا؛ أنفس شيء في الوجود، كنز.
القيصر :
كنز؟ أنت تملك كنزا؟
الفلاح :
بل كنز الكنوز أيها القيصر. لا يليق إلا بأرفع إنسان تحت الشمس. لا يمسه إلا أطهر إنسان تحت السماء. ناديت وصحت وصرخت، ولكنهم أرادوا أن يستولوا عليه.
الحارس :
أنا؟ بريء والله يا مولاي.
المدير :
كذاب ومنافق.
القائد :
يريد أن ينجو بجلده؟
الوزير :
لا تصدقه يا صاحب الجلالة، إن أمثاله يزيد كذبهم كلما قل طعامهم.
القيصر :
اسكتوا، إنها مؤامرة. وكل واحد يريد أن يستولي عليه، يستأثر به لنفسه. هل يحسب كل منكم أنه أرفع إنسان في المملكة وأطهر إنسان تحت الشمس؟ أنت؟ وأنت؟ أم أنت؟ أم أنت أيها الحشرة؟
الحارس :
بريء، الرحمة!
المدير :
العدل يا مولاي!
القائد :
أتصدق فلاحا ولا تصدق قائدك يا مولاي؟
الوزير :
وإذا صدقته وكذبتني فافتح خزائن المملكة لفئرانهم وبراغيثهم، وألق بتاجك وصولجانك في أجرانهم وحقول أرزهم.
القيصر (للجميع) :
متآمرون ووقحون أيضا أيها الرعاع. (للفلاح)
ناولني كنزك أيها الفلاح، هات أيها العبد الطيب.
الفلاح :
في الحال يا مولاي، (هاتفا)
أين أنتم لتروني وتسمعوني يا أهل هان هان؟ ألم تقولوا ستجد أرفع إنسان وأطهر إنسان تحت الشمس؟ ها هو ذا، وها هو الكنز. (يحفر بيده عميقا في جيبه، يستخرج لدهشة العيون المحملقة لفافة من قماش متسخ وضع فيها النواة. يأخذها القيصر متأففا ويناولها للوزير الذي يناولها بدوره للقائد، ويسلمها هذا لمدير السجن الذي يضعها أخيرا في يد الحارس المذهول.)
القيصر :
أف. افتح اللفافة.
الوزير :
افتحها.
القائد :
افتحها.
المدير :
قلت لك افتحها. (يفتحها الحارس ويستخرج النواة. يناولها لمدير السجن حتى تصل إلى القيصر الذي يتفحصها مأخوذا.)
الحارس :
عجيب، نواة كمثرى.
المدير :
نصب واحتيال! نواة!
القائد :
وقاحة! نواة!
الوزير :
لا خجل ولا حياء، نواة!
القيصر (للفلاح) :
نواة؟ نواة كمثرى؟
الفلاح :
أجل، نواة كمثرى.
القيصر :
وهي الكنز؟
الفلاح :
بل كنز الكنوز، أنفس شيء في الوجود.
القيصر :
إنها نواة كمثرى عادية؟
الفلاح :
لأجل أطهر إنسان تحت الشمس، لتهديه أعظم ثروة تحت السماء.
القيصر :
لا بد أنك جننت، لا بد أنك تكذب، كيف يمكنني أن أتصور هذا؟
الفلاح :
عفوا يا مولاي، إنها ليست نواة عادية. تفضل بغرسها في الأرض وسوف تنمو وتصبح شجرة في نفس العام.
القيصر :
شجرة؟ وما قيمة شجرة؟
الفلاح :
عفوا يا مولاي. ليست شجرة عادية، إنها شجرة تطرح كمثرى ذهبية. كمثرى من ذهب خالص.
الجميع (يتدافعون على النواة) :
آه ... آه، من ذهب خالص.
الفلاح :
ابتعدوا ... ابتعدوا، لا يلمسها إلا أطهر إنسان تحت الشمس.
القيصر :
ابتعدوا أيها الرعاع.
الفلاح :
هذا هو سرها يا مولاي. لا يلمسها إلا صاحب قلب كالثلج الأبيض على قمم الجبال، كالنور الصافي في الفجر.
القيصر :
قلت ابتعدوا، ولكن أيها الفلاح ...
الفلاح :
مولاي.
القيصر :
لماذا لم تغرسها بنفسك في الأرض؟
الفلاح :
حاشاي يا مولاي، لو فعلت لنمت ببطء ككل الأشجار، لو لمستها يدي لما أثمرت غير كمثرى عادية.
القيصر :
أنا لا أفهم هذا، كيف؟
الفلاح :
لا بد لكي تطرح ثمرات ذهبية أن يتحقق شرط ...
القيصر :
أي شرط هذا؟
الفلاح :
لا يحققه سواك يا مولاي القيصر.
القيصر :
لا يحققه سواي؟ تكلم.
الفلاح :
لقد ذكرته منذ قليل يا مولاي ، إن هذه النواة لن تنمو شجرة تطرح الكمثرى الذهبية حتى تغرسها في الأرض يد إنسان طاهر، إنسان شريف، ولكن هذا لا يكفي؛ إذ يمكن أن يدعي كل إنسان ...
القيصر :
مفهوم ... مفهوم، أكمل.
الفلاح :
لا بد أن يكون أطهر إنسان سطعت عليه الشمس.
القيصر (كأنه يكلم نفسه) :
صحيح، قلبه كالثلج فوق قمم الجبال، كالفجر.
الفلاح :
إنسان لا يسرق، ولا يرتشي، ولا يمد يده إلى ما يملكه سواه، لا يحقد على أحد.
القيصر :
أكمل ... أكمل.
الفلاح :
وأنا لست هذا الإنسان يا مولاي، لست هذا الإنسان، وإلا ما رأيتني الآن وراء القضبان، إنني غارق في الذنوب. ولست أخجل من الاعتراف بهذا. أما أنت يا مولاي القيصر ...
القيصر :
مفهوم ... مفهوم.
الفلاح :
أما أنت فتجلس فوق العرش كالشمس في سماء يوم من أيام الربيع. مثل أعلى للناس وقدوة، أنت وحدك يا قيصر، أنت وحدك أرفع إنسان وأطهر إنسان تحت الشمس. أنت وحدك الذي يمكنني أن أهديه النواة، ولهذا أقدمها إليك ومعي أهل بلدتي هان هان.
القيصر (مضطربا) :
أجل، أجل. أنت وأهل هان هان. (ينتحي جانبا ويكلم نفسه)
ورطة حقيقية، ومن الذي يوقعني فيها؟ فلاح مجهول من بلدة، ماذا كان اسمها؟ أف لذاكرتي. بلدة حقيرة مجهولة، قطرة ضائعة في بحر مملكتي الشاسعة، ويريد مني أن أكون أطهر إنسان. أنا؟ أنا الذي سرقت كل شيء من الشعب، كل ثروتي، كل شيء، حتى التاج والنساء، والحصان النبيل الذي أمتطي صهوته في رحلات الصيد، ألم يكن ملك فلاح كهذا؟ لا ... لا، ليس من حقي أن أغرس النواة في الأرض. لن أستطيع هذا أبدا. وماذا يكون مصيري إذا لم تطرح الشجرة إلا الكمثرى العادية؟ ماذا أفعل إذا أشار الناس إليها وإلي وقالوا: هذا هو أطهر إنسان! (للفلاح)
اسمع أيها الفلاح. إن جلالة القيصر يشكرك بنفسه، هذه هدية رائعة أيها الفلاح الطيب. وهي تدل على أن مملكتي لم تخل من الرعايا المخلصين، ولكن قصري غني بالذهب، حيثما تلفتت عين جلالتي رأيت الذهب في التحف والأواني والأثاث وفي الخزائن العامرة. لهذا فكرت في وزيري المخلص العجوز. (للوزير)
لقد كنت أفكر منذ فترة طويلة في مكافأتك على خدماتك للقصر والمملكة. والآن وقد حان وقت إحالتك للمعاش، فقد جاءت الفرصة تسعى إليك. خذ يا وزيري الأمين (يناول النواة للوزير الذي ينزعج ويتراجع للخلف)
جاء اليوم الذي كنت أنتظره منذ سنين، خذ هذه النواة العجيبة، اغرسها بنفسك لتطرح الثمار الذهبية التي تستحقها أنت وأولادك وأحفادك! (القيصر يعانق الوزير بحماس وتأثر مبالغ فيهما. الوزير يخلص نفسه من بين أحضانه وينتحي جانبا) .
الوزير :
هذه العاطفة غريبة عليه وعلي. لقد ألهبت جسدي كأنها بركان صب حممه علي. آه ضعت وانتهى الأمر.
القيصر :
ماذا قلت يا وزيري الأمين؟
الوزير :
كنت أقول شكرا يا مولاي، شكرا من قلب عبدك المخلص طول العمر، ولكن ألا ترى جلالتك أن السن قد تقدمت بي كثيرا وأنني ...
القيصر :
وما المانع من قبول الهدية؟ ستحصد الفاكهة الذهبية في شيخوختك المباركة، ثم يحصدها ...
الوزير :
أقصد يا صاحب الجلالة أن المرء في الشيخوخة لا يتطلع للذهب والمال. إن قلب الشيخ المحنك الذي غمرته بهداياك يشتاق إلى الحكمة كما يشتاق النهر للبحر. اعذرني يا مولاي، هذا القلب الذي طالما خفق في طاعتك لم يعد نزقا كالجدول الصغير الذي يعبث بالحصى والرمال، وهو يتمنى أن يخفق من أجلك حتى آخر لحظة. وأنا الذي أمضيت العمر حارسا على خزائن مملكتك أعرف من هو أحوج مني للذهب الذي ستحمله الشجرة وأكثر منه.
القائد (مفزوعا) :
لا تقل إنه الجيش والجنود!
الوزير :
قائدك الأمين.
القائد :
لا يا مولاي، لا وألف لا. فالجيش لديه من السلاح ما يكفيه. ومن الذي يسهر على تسليحه؟ أنا! ومن الذي يمكنك الاعتماد عليه أكثر من أي شجرة؟ إنه أنا، لهذا فإن مدير السجن أولى بالهدية السامية، ثم إن عمله لا يضطره للسفر والتنقل، كما أن لديه الوقت الكافي لغرس النواة ورعاية الشجرة، هيا تقدم لمولاك؟ (مدير السجن يطيع أمر القائد مترددا خائفا)
تعال، لا تتردد. صحيح أنه معروف بقسوته على المساجين، ولكنه في النهاية رجل أمين ونفسه طاهرة . ولهذا أفضله على نفسي وأدعوه لغرس النواة.
القيصر :
عظيم ، كنت أقول هذا لنفسي.
مدير السجن (ينتحي جانبا ليكلم نفسه، بينما يصفق القيصر والوزير والقائد إعجابا) :
معنى هذا أن أضع نفسي وراء القضبان؟ هذا القائد النظيف يعلم تمام العلم أنني أنهب من المساجين نصيبهم من الأرز وأبيعه في السوق، (ثم يواجه الحاضرين ويقول)
شكرا لكم على هذا الشرف العظيم. إنكم بهذا تخجلونني وتعطونني أكثر مما أستحق، ولكنني وهبت حياتي لخدمة العدالة. والعدالة تطالبني بأن أرد الفضل لأصحابه، هل يمكنني أن أنسى حراسي الساهرين على ميزان العدل؟ ماذا أكون بغيرهم؟ ماذا يكون البرج الشامخ بغير قاعدته؟ وما قيمة الشجرة بدون جذورها؟ هل كنت أقدر على شيء بغير حراسي الأمناء؟ تعال أيها الحارس الطيب، تعال فأنت أحق مني بتكريم مولاي ومولاك.
الحارس (صارخا) :
لا ... إلا هذا.
المدير (للقيصر) :
اسمح لي يا مولاي بأن أناوله وسامك الرفيع.
الحارس (باكيا) :
مصيبة، هذه مصيبة، ماذا أفعل ولا أحد تحت سلطتي؟ لمن أسلم النواة ولا أحد تحتي؟ لا أحد.
المدير :
انظروا، إنه لا يصدق. الفرحة جعلته يهذي.
الحارس (يسرع نحو القيصر ويركع تحت قدميه) :
إلا هذا يا مولاي، إلا هذا، افعل بي ما شئت. ضعني مكان هذا الفلاح إذا أحببت، لكن أعفني من هذه النواة، إنني رجل عادي، رجل ضعيف وصغير. اليوم في الصباح شتمت جاري ولعنت زوجتي وأولادي وحظي وصفعت مسجونا عجوزا، وسرقت من هذا الفلاح غليونه. نعم ها هو ذا، نهبته منه وسقته إلى السجن وهو بريء. أعترف بهذا يا مولاي، أعترف أمامكم يا سادتي. سولت لي نفسي الخبيثة أن أحتفظ به لنفسي. ها هو ذا إن شئتم، لا ... لا إلا النواة يا مولاي، لن تحمل شجرتي الكمثرى الذهبية ولا الخشبية. كيف يكون حالي حين أصبح سخرية الناس؟ كيف أعيش؟ أي إنسان آخر أولى بها مني. أصدر أمرك يا مولاي فأناولها لهذا الفلاح. إنه رجل طاهر.
الفلاح :
من كان يظن هذا؟ أنا يا مولاي؟
الجميع :
نعم أنت.
الفلاح :
إذن فلن تنمو الشجرة الذهبية أبدا.
المدير :
تنمو أو لا تنمو. المهم أن تغرسها بنفسك في الأرض.
الحارس :
إنه لم يفعل شيئا يا مولاي. غليون قديم كان ملقى في الوحل.
المدير :
صحيح، وجريمته لا تساوي شيئا بجانب الكمثرى التي سيحصدها.
القائد :
ومن أحق منه بغرسها في الأرض؟ أليس هو الذي عثر عليها؟
الفلاح :
لا يا مولاي القيصر، لا ... إنني مذنب، لص حسب قانونك المقدس.
الوزير :
ما الداعي للمبالغة؟ وما قيمة غليون قديم مشروخ؟ ما أهميته؟ حبة رمل في صحراء السرقة، قطرة ماء في بحر الذنوب؟ لا ... لا، أنا لم أر في حياتي أشرف من هذا الفلاح. لماذا انحنى على الطين والتقط الغليون؟ لأنه تعود أن يغوص بقدميه ورجليه في الطين. فلتأمر بإطلاق سراحه يا مولاي، إن هلاهيله المرقعة تثبت براءته. أكثر من ألف حارس ومدير سجن، مره بأن يغرس النواة في الأرض، ثم إن هذه هي مهنته.
الفلاح :
لا ... لا يا مولاي، بحقك وبحق الأرض. إنني مذنب ... مذنب.
القيصر (بعد أن يمر عليهم واحدا واحدا وهو يتفكر) :
ليكن ما تقول يا وزيري المخلص الأمين، اسكت يا رجل، أنت من الآن حر (القيصر يشير بإصبعه فيطلق سراح الفلاح، النواة تنتقل من يد الحارس إلى يد مدير السجن فالقائد فالوزير فالقيصر الذي يناولها له بنفسه) . (الفلاح يمسكها في يد ويتأملها طويلا قبل أن يلفها بعناية في الخرقة البالية. يتتابع عليه القيصر والوزير والقائد والمدير، يلقون عباراتهم الأخيرة، وينصرفون واحدا بعد الآخر.)
القيصر :
ستبقى الكمثرى الذهبية ملك القيصر. القانون هو القانون!
الوزير :
ولا بد من تسليمها إلي، أقصد إلى خزينة المملكة التي ستظل كالبئر عميقة وبغير قرار.
القائد :
من يحتاج إلى الذهب والمزيد من الذهب؟ من يحرسك ويحرس بلدتك وكل بلاد المملكة؟ إنه الجيش ... إنهم الجنود. لا تنس هذا.
المدير :
إذا تذكرتني من وقت لآخر ببعض الكمثرى، فسوف أغمض عيني في المرة القادمة. (ينصرف الجميع، يبقى الفلاح الذي لا يزال يقلب اللفافة في يده وأمامه الحارس. ينظران إلى بعضهما لحظات يسودها الصمت، ثم يقول الفلاح.)
الفلاح :
وأنت؟ ألا تريد أن تحجز نصيبك من الكمثرى الذهبية؟
الحارس (يمد يده بالغليون ) :
خذ يا أخي، هذا هو غليونك، أنت أولى به.
الفلاح (ضاحكا) :
من كان يظن هذا؟ (يفتح اللفافة البالية بعناية، يرفع النواة إلى فمه، ثم يقضمها ويقدم بقيتها للحارس.)
الحارس :
ما هذا؟ ماذا تفعل؟!
الفلاح :
خذ يا صاحبي، هذا نصيبك من الآن.
الحارس (يتناولها منه وتغيب في فمه، ثم يقول ضاحكا) :
ألم أقل لك؟
الفلاح (وهو يتوجه للجمهور) :
ألم أقل لكم يا أهل هان هان؟ (يواصلان الضحك، ثم ينصرفان ويسدل الستار.)
Bilinmeyen sayfa