الجزء الأول
مقدمة الناشر
احياء التراث العربي، بتحقيقه تحقيقا علميا دقيقا وضبطه وشرح ما غمض من معانيه ومراجعة نصوصه الأصلية؛ مهمة جليلة ومسؤولية بالغة تصدى لها العديد من أكفأ وأخلص رجالات الأدب في عصرنا الحاضر، وفي طليعتهم الدكتور زكي مبارك.
.. إن تحقيق هذه الروائع الأدبية وشرحها رسالة سامية ... وكذلك نشرها وتقديمها إلى القارىء العربي بالصورة اللائقة؛ رسالة يتصدى لحملها الناشر الواعي لأهمية تراثنا العربي المقدّر لقيمته، الحريص على إغناء الثقافة العربية، والباذل لكل جهد مهما عظم في سبيل تقديم روائع القديم في أبهى وأحدث حلة تبويبا وإخراجا وطباعة.
بين روائع التراث العربي يتألق كتاب «زهر الآداب، وثمر الألباب» كالدرة النادرة، وقد زاد من قيمته جهد لا يقارن به جهد بذله الأديب العملاق، الدكتور زكي مبارك في تحقيقه وضبطه وشرح نصوصه.
كتاب «جمع كلّ غريبة» . بل خزانة من خزائن الأدب العربي عامرة بأخبار الأدب والأدباء، حافلة بألوان البلاغة والشعر والانشاء وبكل ما يصور بصدق العصر الذي عاش فيه مؤلفه أبو اسحاق ابراهيم بن علي الحصري القيرواني في القرن الخامس الهجري، ويبين بوضوح العادات الاجتماعية التي كانت محمودة في عصره؛ حتى أن دارس الآداب المهتم بذلك العصر ليكتفي بدراسة هذا الكتاب كمرجع رئيسي شامل.
1 / 5
لذلك العصر من حياة الأدب طابع خاص، أظهر سماته إجادة الوصف؛ وصف ما تقع عليه العين من مرئيات أو ما يجري في الخاطر من أفكار، بل ووصف أهواء النفس ونزعاتها الوجدانية، وصفا مفصلا مقصودا، حتى أصبح العصر غنيا إلى درجة مميزة بالتعابير الرائعة الناضجة في معظم أبواب الوصف.. يرافقها تنظيم كامل للأفكار، مما يعوّد القارىء تذوّق الاسلوب البديع ويحبب اليه النثر الجيد وأصوله الفنية.
اننا إذا قسنا أعمال أدباء ذلك العصر بالمقاييس العصرية لانطبق عليها مفهوم النظرية الحديثة «الفن للفن» .. فقد عرفوا اللغة معرفة جيدة حتى وقفوا على أسرارها وطرائق تعبيرها، فجمعوا شتاتها لتصبح طوع أفكارهم وأقلامهم في نتاج منسّق متكامل.
وان دار الجيل التي تعتز بما قدمت من كتب التراث.. كتاب «العمدة» لابن رشيق تحقيق الاستاذ محيي الدين عبد الحميد، ليزيدها اعتزازا أن تقدم تباعا مجموعة أعمال الدكتور زكي مبارك: النثر الفني، الموازنة بين الشعراء، التصوف الاسلامي، المدائح النبوية، الاخلاق عند الغزالي..
ودرة هذه الأعمال هذا الكتاب الذي تقدمه الدار اليوم: زهر الآداب..
إنه دائرة معارف أدبية، لا غنى للقارىء الأديب الباحث عن المعرفة والمتطلع الى التزيد من بحور الفنون الأدبية، عن اقتنائه.
والله الموفق دار الجيل
1 / 6
مقدمة الطبعة الأولى
الحصرى القيروانى، أبو الحسن الحصرى، طرف من أخباره، حياته الأدبية، داليته ودالية شوقى، أبو إسحاق الحصرى: شعره ونثره، طريقته في التأليف، التعريف بزهر الآداب، إغفال المجون، تهذيب كتب المتقدمين، رأى الدكتور طه حسين، تهذيب زهر الآداب، تفصيله وضبطه وشرحه، قيمته الأدبية.
الحصرى، القيراونى
الحصرى- بضم الحاء المهملة، وسكون الصاد المهملة وبعدها راء مهملة- نسبة إلى الحصر أو بيعها، كما ذكر ابن خلكان- والقيروانى: نسبة إلى مدينة القيروان.
ويعرف تاريخ الآداب رجلين بهذا الاسم، أولهما:
أبو الحسن الحصرى
وأبو الحسن هذا هو: على بن عبد الغنى، الفهرى، المقرىء، الضرير، القيروانى، وقد كان- كما ذكر ابن بسّام في الذخيرة- بحر براعة، ورأس صناعة، وزعيم جماعة.
طرأ على الأندلس- كما قال ابن بسام أيضا- في منتصف المائة الخامسة من الهجرة، بعد خراب وطنه من القيروان، والأدب بأفق الأندلس يومئذ نافق السّوق، معمور الطريق، فتهاداه ملوك الطّوائف تهادى الرياض بالنسيم، وتنافسوا فيه تنافس الديار بالأنس المقيم.
ولكنه، فيما نقل، لم يطمئن هناك، فاحتمل على مضض بين زمانه،
1 / 7
وبعد قطره، ثم اشتملت عليه مدينة طنجة بعد خلع ملوك الطوائف، وتوفى بها سنة ٤٨٨ هجرية.
طرف من أخباره
ذكر أنه لما كان مقيما بمدينة طنجة أرسل غلامه إلى المعتمد بن عبّاد صاحب إشبيليّة، واسمها في بلادهم حمص، فأبطأ عنه، وبلغه أن المعتمد لم يحفل به، فقال:
نبّه الرّكب الهجوعا ... ولم الدّهر الفجوعا «١»
حمص الجنّة قالت ... لغلامى: لا رجوعا
رحم الله غلامى ... مات في الجنة جوعا
وهذه الأبيات غاية في خفة الروح.
وحكى أن المعتمد بن عباد بعث إلى أبى العرب الزبيدى خمسمائة دينار، وأمره أن يتجهز بها ويتوجّه إليه. وكان بجزيزة صقلّية وهو من أهلها، وبعث مثلها إلى أبى الحسن الحصرى، وهو بالقيروان، فكتب أبو العرب:
لا تعجبنّ لرأسى كيف شاب أسى ... واعجب لأسود عينى كيف لم يشب
البحر للرّوم لا يجرى السّفين به ... إلا على غرر والبرّ للعرب
وكتب له الحصرى:
أمرتنى بركوب البحر أقطعه ... غيرى، لك الخير، فاخصصه بذا الداء
ما أنت نوح فتنجينى سفينته ... ولا المسيح أنا أمشى على الماء
حياته الأدبية
ذكروا أنه كان عالما بالقراءات وطرقها، وأنه أقرأ الناس القرآن الكريم
1 / 8
بسبتة وغيرها، وأن له قصيدة نظمها في قراءات نافع، عدد أبياتها ٢٠٩، وأن له ديوان شعر، وهو القائل:
أقول له وقد حيّا بكأس ... لها من مسك رقّته ختام:
أمن خدّيك يعصر؟ قال: كلا ... متى عصرت من الورد المدام؟
وأشهر قصائده تلك الدالية التي افتنّ في معارضتها الشعراء «١» ولنذكرها هنا لقيمتها وأثرها في تاريخ الآداب العربية، قال:
يا ليل الصبّ متى غده ... أقيام الساعة موعده
رقد السّمّار وأرّقه ... أسف للبين يردّده
فبكاه النّجم ورقّ له ... مما يرعاه ويرصده
كلف بغزال ذى هيف ... خوف الواشين يشرّده
نصبت عيناي له شركا ... فى النوم فعزّ تصيدّه
وكفى عجبا أنى قنص ... للسّرب سبانى أغيده
صنم للفتنة منتصب ... أهواه ولا أتعبّده
صاح والخمر جنى فمه ... سكران اللحظ معر بده
ينضو من مقلته سيفا ... وكأنّ نعاسا يغمده
فيريق دم العشاق به ... والويل لمن يتقلّده
كلّا لا ذنب لمن قتلت ... عيناه ولم تقتل يده
يا من جحدت عيناه دمى ... وعلى خدّيه تورّده
خدّاك قد اعترفا بدمى ... فعلام جفونك تجحده
إنى لأعيذك من قتلى ... وأظنك لا تتعمّده
1 / 9
بالله هب المشتاق كرى ... فلعلّ خيالك يسعده
ما ضرّك لو دوايت ضنى ... صبّ يدنيك وتبده
لم يبق هواك له رمقا ... فليبك؟؟؟ عليه عوّده
وغدا يقضى أو بعد غد ... هل من نظر يتزوّده؟
يا أهل الشوق لنا شرق ... بالدمع يفيض مورّده
يهوى المشتاق لقاءكم ... وصروف الدهر تبعّده
ما أحلى الوصل وأعذبه ... لولا الأيام تنكده
بالبين وبالهجران فيا ... لفؤادى كيف تجلّده
وممن عارض هذه القصيدة من المتقدمين نجم الدين القمراوى إذ يقول:
قد ملّ مريضك عوّده ... ورثى لأسيرك حسّده
لم يبق جفاك سوى نفس ... زفرات الشوق تصعّده
هاروت بعنعن فن السحر ... إلى عينيك ويسنده
وإذا أغمدت اللحظ فتكت فكيف وأنت تجرّده ... كم سهّل خدّك وجه رضا
والحاجب منك يعقّده ... ما أشرك فيك القلب فلم
فى نار الهجر نحلّده؟
وناصح الدين الأرّجانى إذ يقول:
هل أنت بطولك مسعده ... يا ليل فصبحك موعده
لا كان قصير الليل فتى ... ميعاد منيّته غده
فى صدرى من كلف بكم ... جند للشوق يجنّده
أعليل اللحظ وعلته ... منها المتألّم عوّده
عيناك لسفك دمى جنتا ... فالصّدغ علام تجعّده
ودمى لا يحسن محمله ... فى الناس فلم تتقلّده
لم أنس برامة موقفنا ... والشمل أظلّ تبدّده
1 / 10
رشأ قد أفلت من شركى ... والبين غدا يتصيّده
سرب قد عنّ بذى سلم ... وغدا بفؤادى أغيده
وتطاول يتبعهم نظرا ... صبّ قد طال تبلّده
حرّان القلب متيّمه ... حيران الطرف مسهّده
وأبرع من عارضها من المعاصرين فخر مصر والشرق أمير الشعراء أحمد شوقى (بك) إذ يقول:
مضناك جفاه مرقده ... وبكاه ورحّم عوّده
حيران القلب معذّبه ... مقروح الجفن مسهّده
أودى حرقا إلا رمقا ... يبقيه عليك وتنفده
يستهوى الورق تأوّهه ... ويذيب الصخر تنهّده «١»
ويناجى النجم ويتبعه ... ويقيم الليل ويقعده
ويعلّم كلّ مطوّقة ... شجنا في الدّوج تردّده
كم مدّ لطيفك من شرك ... وتأدّب لا يتصيّده
فعساك بغمض مسعفه ... ولعلّ خيالك مسعده
الحسن حلفت «بيوسفه» ... و«السورة» أنك مفرده
قد ودّ جمالك أو قبسا ... حوراء الخلد وأمرده
وتمنّت كل مقطّعة ... يدها لو تبعث تشهده
جحدت عيناك زكىّ دمى ... أكذلك خدّك يجحده
قد عزّ شهودى إذ رمتا ... فأشرت لخدك أشهده
وهممت بجيدك أشركه ... فأبى واستكبر أصيده
وهززت قوامك أعطفه ... فنبا وتمنّع أملده «٢»
1 / 11
سبب لرضاك أمهّده ... ما بال الخصر يعقّده
بينى في الحب وبينك ما ... لا يقدر واش يفسده
ما بال العاذل يفتح لى ... باب السّلوان وأوصده
ويقول: تكاد تجنّ به ... فأقول: وأو شك أعبده
مولاى وروحى في يده ... قد ضيّعها، سلمت يده!
ناقوس القلب يدقّ له ... وحنايا الأضلع معبده
حسّادى فيه أعذرهم ... وأحقّ بعذرى حسّده
قسما بثنايا لؤلؤها ... قسم الياقوت منضّده
ورضاب يوعد كوثره ... مقتول العشق ومشهده
وبخال كاد يحجّ له ... لو كان يقبّل أسوده
وقوام يروى الغصن له ... نسبا والرمح يفنّده
وبخصر أو هن من جلدى ... وعوادى الهجر تبدّده
ما خنت هواك ولا خطرت ... سلوى بالقلب تبرّده
وإنما ذكرت حياة أبى الحسن الحصرى، وشيئا من أخباره، لأنى رأيت أكثر الناس يحسبونه صاحب زهر الآداب، ولأنى أحب دائما أن أقدم للقارىء ما يمتع عقله ووجدانه من المعارف الأدبية، لأيّة مناسبة؛ ولأن أبا الحسن الحصرى ابن خالة أبى إسحاق الحصرى صاحب زهر الآداب، وفي هذه القرابة ما يدعو للتنويه به في هذا المقام، والظّفر للقارىء على أىّ حال «١» .
1 / 12
أبو إسحاق الحصرى
أما أبو إسحاق الحصرى فهو إبراهيم بن على بن تميم، المتوفّى سنة ٤٥٣ هجرية وقد عنى به كثير من كتّاب التراجم: فتكلم عنه ابن رشيق في الأنموذج، وابن بسّام في الذخيرة، والرشيد بن الزبير في الجنان، وابن خلكان في وفيات الأعيان.
وقد كان شباب القيروان- فيما قالوا- يجتمعون عنده، ويأخذون عنه، وكان لديهم من المكرمين.
شعره ونثره
أورد ابن رشيق من شعره هذين البيتين:
إنى أحبّك حبّا ليس يبلغه ... فهم، ولا ينتهى وصف إلى صفته
أقصى نهاية علمى فيه معرفتى ... بالعجز منّى عن إدراك معرفته
وأورد له ابن بسّام هذين البيتين:
أورد قلبى الردى ... لام عذار بدا
أسود كالكفر فى ... أبيض مثل الهدى
واختار له ياقوت هذه المقطوعة:
يا هل بكيت كما بكت ... ورق الحمائم في الغصون
هتفت سحيرا، والربى ... للقطر رافعة الجفون
فكانها صاغت على ... شجوى شجى تلك اللحون
دكّرتنى عهدا مضى ... للأنس منقطع القرين
فتصرمت أيامها ... وكأنها رجع الجفون
1 / 13
واختار له أيضا:
كتمت هواك حتى عيل صبرى ... وأدنتنى مكاتمتى لرمسى
ولم أقدر على إخفاء حال ... يحول بها الأسى دون التأسى
وحبك مالك لحظى ولفظى ... وإظهارى وإضمارى وحسى
فإن أنطق ففيك جميع نطقى ... وان أسكت ففيك حديث نفسى
ولو نقلت إلينا من شعره طائفة صالحة لاستطعنا أن نعيّن منزلته بين الشعراء.
أما نثره فمستملح، ويغلب فيه السّجع المقبول، الخالص من شوائب الصنعة والتكلف، والسجع في الأصل حلية وزينة، وإنما يعاب عند الغلوّ والإغراق.
وإليكم أنموذجا مما جاء من نثره في مقدمة كتابه، قال:
«ولم أذهب في هذا الاختيار، إلى مطولات الأخبار، كأحاديث صعصعة ابن صوحان، وخالد بن صفوان، ونظائرهما؛ إذ كانت هذه (يريد الفقر الصغيرة) أجمل لفظا، وأسهل حفظا، وهو كتاب يتصرف فيه الناظر من نثره، إلى شعره، ومطبوعه، إلى مصنوعه، ومحاورته، إلى مفاخرته، ومناقلته، إلى مساجلته، وخطابه المبهت، إلى جوابه المسكت، وتشبيهاته المصيبة، إلى اختراعاته العريبة، وأوصافه الباهرة، إلى أمثاله السائرة، وجده المعجب، إلى هزله المطرب، وجزله الرائع، إلى رقيقه البارع» .
وهذا كما ترى سجع يجمع بين دقّة الصّنع، ورقّة الطبع، فهو في دقته مطبوع، لا مصنوع.
طريقته في التأليف
الأدب لا موضوع له، كما يقول أستاذنا الجليل الشيخ سيد المرصفى، وكذلك كان يفهمه أبو إسحاق الحصرى، فهو لا يحفل بترتيب المسائل، ولا بتبويب الموضوعات. وإنما يتصرف من الجد إلى الهزل، ومن الأوصاف
1 / 14
إلى التشبيهات، ومن الشعر إلى النثر، ومن المطبوع إلى المصنوع، وهذه الطريقة من أهم الطّرق في التأليف، وإن عابها من لا يفرق بين الموضوعات العلمية، والموضوعات الأدبية.
ذكروا أنه ترك كتابا اسمه «المصون في سر الهوى المكنون» فى مجلد واحد، فيه ملح وآداب، أما كتابه الخالد فهو «زهر الآداب، وثمر الألباب» وإنه ليسجع حتى في تسمية كتبه، وكذلك كان يفعل في عهده المؤلفون.
التعريف بزهر الآداب
كان المتقدمون لا يصفون زهر الآداب إلا بأنه «جمع كلّ غريبة» وهو وصف صادق، وإنى ذاكز هنا بعض صفات هذا الكتاب، وعلى الأخص الصفات التى تعين منهج مؤلّفه، وتميز اتجاه بعض الأفكار في العصر الذى عاش فيه.
وإنا لنجده:
أولا: يهتم ببراعة المطلع، وحسن الختام، فيبدأ كتابه بهذه الجملة:
«الحمد لله الذى اختص الإنسان بفضيلة البيان، وصلى الله على محمد خاتم النبيين، المرسل بالنور المبين، والكتاب المستبين، الذى تحدّى الخلق أن يأتوا بمثله، فعجزوا عنه، وأقروا بفضله، وعلى آله وسلم تسليما كثيرا» ويختمه بهذه العبارة:
«وقال ابن الأعرابى: أمدح بيت قاله المحدثون قول أبى نواس:
أخذت بحبل من حبال محمّد ... أمنت به من طارق الحدثان «١»» .
ثانيا: يعنى عناية خاصة بالكلام عن الصحابة والتابعين، فينقل أخبارهم، ويدوّن آثارهم، وكانت هذه فيما يظهر عادة إسلامية، فى ذلك الحين.
1 / 15
ثالثا: يجعل الكلام في المصيبة بأبناء النبوة بابا من أبواب الأدب؛ فينقل هذه التعابير:
قد نعي سليل من سلالة النبوة، وفرع من شجرة الرسالة، وعضو من أعضاء الرسول، وجزء من أجزاء الوصىّ والبتول.
تجدّد في بيت الرسالة رزء جدد المصائب، واستعاد النوائب.
إنها لمصيبة تحيّفت جانب الوحى المنزل، وذكّرت بموت النبى المرسل.
إلخ إلخ:
ويتصل بهذا عنايته بأوصاف الأشراف، كنقله هذه العبارات:
«استقى عرقه من منبع النبوة، ورضعت شجرته من ثدى الرسالة، وتهدّلت أغصانه عن نبعة الإمامة، وتبحبحت أطرافه في عرصة الشرف والسيادة، وتفقّأت بيضته من سلالة الطهارة، قد جذب القرآن بضبعه، وشقّ الوحى عن بصره وسمعه» إلخ.
وهذا الاتجاه يدل على وجهة سياسية خاصة، فصّلتها بعض التفصيل في كتاب «الأخلاق عند الغزالى» وإلّا فإن النبى يقول: «من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه» بل الله يقول: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ.
رابعا: يبدىء الحصرى ويعيد في الكلام عن البلاغة والبلغاء، والشعر والشعراء، والإنشاء والمنشئين، وكذلك كان أهل عصره يهتمون بدر النثر والشعر، ونحن مدينون لهم بما يتصل بهذا الباب من المعارف الأدبية.
خامسا: يذكر كثيرا من الآداب الاجتماعية التي كان يحمدها الناس لعهده، فيذكر ما يجمل في معاملة الملوك، ويتحدث عن فضل الليل، والحرص على الأدب، وواجب النّسّاخ، وما إلى ذلك مما يتصل بما على المرء من الواجبات، وما له من الحقوق.
1 / 16
إغفال المجون
وقد جرى أبو إسحاق الخصرى في زهر الآداب على إغفال المجون، فنحده يقول عن راشد بن أرشد:
«وله مذهب استفرغ فيه أكثر شعره، وصنت الكتاب عن ذكره» .
وقد صرحت بإنكار هذا المهج فى «مدامع العشاق» وبينت هناك أن حرص الحصرى على الأخلاق ضيّع علينا ما أعرض عنه من الآثار الأدبية، وكنا في حاجة إلى أن نعرف كل ما ترك الأولون! وأحب أن يعلم القارىء أن المجون لون من ألوان الغذاء التي تحيا بها العقول، فكما أن الأجسام تحتاج في تغذيتها إلى المواد المختلفة، والعناصر المتنوعة: من الملح، والحلو، والمرّ، كذلك العقول تحتاج في تغذيتها إلى المعارف المتباينة:
من جدّ القول وهزله، وحلوه ومرّه، ولكنّ أكثر الناس لا يفقهون! على أن الحصرى لم يخل كتابه من المجون، بل ومن فاحش المجون، وللقارىء أن يتتبع ما وقع من ذلك في ألفاف الكتاب ليرى كيف غلب لمؤلف على أمره، فأباح ما لا يباح!
1 / 17
تهذيب كتب المتقدمين
يهتم كثير من علماء العصر بتهذيب كتب المتقدمين، وهذا التهذيب ينحصر في حذف المجون وضم بعض الموضوعات إلى بعض، وأنا أنكر هذا الأسلوب، والعهد قريب بما كتبه أستاذنا الدكتور طه حسين في نقد مهذّب الأغانى الذى أظهره الأستاذ الكبير محمد بك الخضرى منذ أسابيع، ويرجّح أن يترك المعاصرون هذه الطريقة المنكرة، بعد تلك الحملة التي أصماهم بها صاحب حديث الأربعاء.
1 / 18
تهذيب زهر الآداب
ولقد رأيت أن أترك تلك الطريقة في تهذيب زهر الآداب؛ لأن المؤلف لم يرد أن يكون كتابه ذا فصول وأبواب، وإنما أراد أن يتصرف القارىء فيه من الشعر إلى النثر، ومن الجد إلى الهزل، إلى آخر ما قال.
وقد ظلّ بين يدىّ نحو تسعة أشهر، وأنا معتقل في سنة ١٩٢٠، فقرأته، ثم قرأته، وعنيت بضبطه، وتصحيح ما وقع فيه من الأغلاط؛ ثم رأيت أن أفصله، والتفصيل فيما أريد سو أن أضع عنوانا لكل موضوع، وما أكثر ما في الكتاب من الموضوعات؛ لأن المؤلف وضع قليلا من العناوين، ثم أخذ يستطرد من معنى إلى معنى، ومن غرض إلى غرض، من غير أن يهتم بالترتيب والتبويب.
وأرجو أن لا يجد القارىء في هذا الصّنع تشويها لعمل المؤلف فقد أبقيت الكتاب كما هو، وأبقيت على عناوينه وأبوابه، وفقره وفصوله، ووضعت ما أبدعت من العناوين في بنط خاص، فإذا شاء القارىء أن يعرف كيف وضع الكتاب مؤلفه فليرفع فقط ما جدّ من العناوين.
1 / 19
أهمية هذا التفصيل
على أننى مطمئن إلى ما صنعت؛ فقد كان الكتاب متقاذف الأرجاء، بسبب ما كثر فيه من الاستطراد، فأصبح بفضل هذا التفصيل، محدود الموضوعات، بحيث يهتدى فيه القارىء إلى مئات المسائل الآدبية، من غير أن يكلف نفسه عناء البحث والتنقبب.
ولم أحجم عن تكرار العنوان الواحد حين يقتضى المقام ذلك، وربما أضفت كلمة يتميز بها العنوان الجديد «١» .
الضبط والشرح
كان زهر الآداب مطبوعا على هامش العقد الفريد «٢»، من غير ضبط ولا شرح، وكان يكفى أن يطبع الكتاب طبعة أزهرية ليصبح مثالا في المسخ والتشويه، ولتقذى في قراءته العيون، وتضل في فهمه العقول؛ فأنفقت من جهدى ومن وقتى، فى تحقيق ما جناه مرّ السنين وعبث الجاهلين، ما لا أمنّ به على القارىء إلا وأنا آسف محزون؛ لأنى مدين لمن طبعوه أول مرة على أىّ حال، أحسن الله جزاءهم، وتجاوز عمّا رماهم به الزمن من ألوان الضعف والقصور.
فى الطبعة القديمة كثير من الأغلاط، ولا غرابة في ذلك، فقد كان الأدب يوم ظهرت قليل الأنصار، وقد اعتمدت في ضبط هذه الطبعة على مراجعة الأصول التي أخذ منها زهر الأداب، وعلى ما أثق به من مختلف المعاجم والقواميس، فإن استطاع القارىء أن يلفتنى إلى خطإ فاتنى إصلاحه، فإنى بشكره خليق.
1 / 20
أما الشرح فقد اجتهدت في أن يكون غاية في الإيجاز؛ لأن الإطناب في شرح الكتب الأدبية من جملة العيوب، وقد تمر الصفحة بلا شرح، حين تستغنى عن ذلك؛ لأنى أمقت التكلف، وأبغض المتكلّفين.
وقد قسمت الكتاب إلى أربعة أجزاء، وكان المؤلف قسمه إلى ثلاثة، وهي مسألة اعتبارية؛ لأن الكتاب في الأصل مبنى على التنقل والاستطراد.
1 / 21
قيمة زهر الآداب
كان المتقدمون يعنون بدراسة الكامل للمبرد، والبيان والتبيين للجاحظ، وأدب الكاتب لابن قتيبة، والنوادر لأبى على القالى، وكانت هذه الكتب أصول الأدب عندهم كما ذكر ابن خلدون، وعندى أن زهر الآداب أغزر مادة، وأكبر قيمة من جميع تلك المصنّفات؛ لأن ذوق الحصرى ذوق أدبىّ صرف، أما أولئك فقد كانت أهواؤهم موزعة بين اللغة، والرواية، والنحو، والتصريف.
إن زهر الآداب دائرة معارف أدبية، شاء الله أن تسلم من جناية الليالى، والحمد لله على أن كنت الموفّق إلى إحياء هذا الأثر النفيس.
محمد زكى عبد السلام مبارك ٢٢ فبراير سنة ١٩٢٥
1 / 22
مقدمة الطبعة الثانية
موضع زهر الآداب، الوصف عند كتاب القرمه الرابع، نماذج من التعابير الوصفية، نظرية الفن للفن وقيمة الزخرف والصنعة، الخصوصات الأدبية في القرمه الرابع رأى القارىء في مقدمة الطبعة الأولى إشارات إلى الخصائص التي امتاز بها زهر الآداب، ونريد في هذه الكلمة أن ننص على أن هذا الكتاب أريد به أن يكون صورة للعصر الذى عاش فيه مؤلفه ﵀، وإنه ليذكر أن أبا الفضل العباس بن سليمان رحل إلى المشرق في طلب الكتب «باذلا في ذلك ماله، مستعذبا فيه تعبه، إلى أن أورد من كلام بلغاء عصره، وفصحاء دهره، طرائف طريفة، وغرائب غريبة» ثم سأله أن يجمع له من مختارها كتابا يكتفى به عن جملتها، وأن يضيف إلى ذلك من كلام المتقدمين ما قار به وقارنه وشابهه وماثله إلخ فغاية الكتاب إذا تخيّر ما طاب من ثمرات العقول في أواخر القرن الرابع وأوائل القرن الخامس.
ولنذكر أولا أن الحصرى توفى سنة ٤٥٣، ولكننا نرجح أنه وضع زهر الآداب قبل وفاته بأكثر من عشرين عاما، فقد حدثنا في أثناء كتابه أنه يعاصر الثعالبى؛ إذ قال «وأبو منصور يعيش إلى وقتنا هذا» حين أشار إلى مختار ما كتبه الميكالى إليه. والثعالبى توفى سنة ٤٢٩؛ وإنما عيّنا أواخر القرن الرابع وأوائل القرن الخامس لأن الحصرى أشار إلى أن فيمن نقل عنهم من أدركه بعمره، أو لحقه أهل دهره. ولذلك العهد من حياة الأدب طابع خاص، فصلت خصائصه ومميزاته في كتابى الذى وضعته بالفرنسية عن النثر في القرن الرابع، وإنى لمشير هنا إلى بعض الجوانب البارزة في أدب ذلك العصر؛ ليكون القارىء
1 / 23
على بينة من الروح الذى استوحاه مؤلف زهر الآداب.
أظهر ميزة في ذلك العصر هي إجادة الوصف، فقد اهتم كتّابه اهتماما عظيما بوصف ما وقعت عليه أعينهم أو جرى في خواطرهم، ولم يكن الوصف عندهم مما يأتى عفوا عند المناسبات الطارئة، كما كان الحال في أوائل العصر الإسلامى، لا، بل تعمدوا استقصاء الموضوعات الوصفية: فأطالوا الحديث عن الأزهار، والرياض، والنبات، والنسيم، والرياح، والليل، والنجوم، والجداول، والغدران، والأنهار، والبحار، والأحواض، والقصور، ومنازل اللهو، ومجالس الشراب، والنساء، والغلمان، والجوارى السود، والقيان، وآلات الطرب، ومحاسن الشباب، وأهوال المشيب، والرعد والبرق، والمطر والثلج، والصحو، والبلاغة والشعر والنثر، والخيل، والسيوف، والنار، والأفاعى، والثعابين، والطيور، والأطعمة، والفواكه، والسكاكين، والكؤوس، والخواتم، والحلى، والقلائد، والمحابر، والأقلام، والسفن، والذواب، والجيوش، والأساطيل، وأيام الصيف والشتاء والربيع.
وأطنبوا في وصف المعانى الوجدانية، كما أطنبوا في وصف المرئيات، فتكلموا عن أهواء النفوس ونزعلتها، فوصفوا الحقد، والبغض، والكرم، والنبل، وعرضوا لما يقع لأهل المهن وللرؤساء من الهنات والعورات. كل ذلك بطريقة مقصودة تدل على أنه كان لهم برنامج خاص لم يعرفه أسلافهم. وهذا المذهب له عيوبه ومزاياه: فعيبه أنه حملهم على التكلف والإسراف، وحسنه أنه حملهم على تنظيم أفكارهم، وترتيب أغراضهم، فإن القارىء يرى لهم قوة في تصوير المرئيات والمعنويات لا يراها لمن سبقوهم، وذلك بفضل هذا الاتجاه الذى جعل في عصرهم مدرسة وصفية لا نراها في عصر الخلفاء ولا عهد بنى أمية ولا أوائل أيام بنى العباس.
ولا ننكر أن الكتّاب السابقين أجادوا الوصف في كثير من الموضوعات
1 / 24