تاريخان
هذه المذكرات وما جرى مجراها تدخل في باب التاريخ «غير المقصود»، وهو في اعتماد الكثيرين أصدق وأولى بالثقة من التاريخ المقصود؛ لأن الفائدة منه منزهة عن التوجيه المدبر والأهواء التي تصطبغ بها أحكام المؤرخين، ولو أن صاحب المذكرات تعمد أن يكتب فصولا في تطور الأفكار والعادات وقضية اللغة الفصحى واللغة العامية وعلاقات الأسر التاريخية؛ لما استطاع أن يعطينا من الحقائق ما نأخذه من سطوره ومن بين سطوره على السواء.
والعبرة البينة في أسلوب الكتابة أن لغة العلم والثقافة تتشتت وتتشعب إلى عدة لغات، على حسب اللهجات والأزمنة ومبلغ المعرفة عند كتابها، لو لم تكن هناك لغة فصحى تعتمد في الكتابة العلمية والثقافية وتتخطى قيود البيئة المحدودة والزمن الموقوت، ولهذا يصح أن يقال إن الكتابة باللغة الفصحى تفهم الآن خيرا من الكتابة بلغة العصر الحاضر في قرية من القرى، ولو كانت اللغة الفصحى لغة الجاهلية قبل بضعة عشر قرنا أو نحوها؛ لأن غاية ما نجهله منها كلمة تفسرها المعجمات، أما لهجات القرى فتنحصر في حدود كل قرية وليست لها معجمات، ولا يتأتى أن توضع لها معجمات تحفظها جميع القرى للمراجعة والاستشهاد.
وحبذا لو حفظ في متاحف اللغة أثر من آثار اللهجات العامية جيلا بعد جيل؛ لتذكير الباحثين في اللغة بهذه الحقيقة كلما تعرضت للنسيان.
أين مذكرات سعد؟
وبين النظر في مذكرات الساسة ومذكرات الرحالين والسياح، يخطر لنا أن نسأل: هل قضي بالكتمان على أهم المذكرات الوطنية والسياسية التي كتبت في مصر في العصر الحاضر، وهي مذكرات سعد زغلول؟
لا نحسب أن سببا من الأسباب التي نظر إليها سعد عند كتابة مذكراته قد بقي الآن حائلا دون نشرها والاستفادة التاريخية منها؛ فقد ذهب الملك فؤاد وذهب وزراؤه من نظراء سعد ومنافسيه، وامتنعت العوائق التي كانت تقف في طريق ناشرها مهما يكن من حسن نيته أو سوئها، وليس في هذه العوائق بطبيعة الحال أن تشتمل المذكرات على آراء لا توافق مصالح النحاس، فإن سعدا لم يعلم أنها ستئول إلى يديه ولم يقيد نشرها بقيد من هذا القبيل.
فلماذا تطوى هذه المذكرات ؟ وإلى متى تظل مطوية عن أعين التاريخ وأعين المتطلعين إلى حقائقه وخفاياه.
لعله قد آن الأوان.
سحر الشرق1
Bilinmeyen sayfa