فقد كان قوام المذهب كله على فكرة واحدة؛ وهي أن القضاء على رءوس الأموال يبطل الاستغلال، ويفضي بالأمم إلى مجتمع لا طبقات فيه ولا داعية فيه، من ثم، للتصارع على السلطان.
وهذه فكرة سخيفة نقضها الباحثون الاقتصاديون من وجهتها العملية الواقعية منذ عشر سنين، ولخصنا مباحثهم هذه في كتابنا عن فلاسفة الحكم في القرن العشرين الذي صدر منذ أربع سنوات، فقلنا في الصفحة ال (106) من ذلك الكتاب إن حساب كارل ماركس اختل في هذه المسألة، وإنه «من هنا نشأت طبقة غير طبقة أصحاب الأموال وغير طبقة الصناع والعمال تشرف على أدوات الإنتاج، ولا يتأتى الاستغناء عنها في المجتمع القائم على الصناعات الكبرى، وهذه هي طبقة المديرين الفنيين الذين حذقوا أسرار الصناعة، أو حذقوا أساليب تنظيمها وتصريفها وترويج مصنوعاتها، وهم بين مهندس وعالم طبيعي وخبير بتسيير العمل في المكاتب أو نشر الدعوة.»
ثم مضينا في التلخيص فقلنا إنه متى تداعى رأس المال ، فتلك علامة من التطور الطبيعي الذي لا يرجع إلى الوراء، وسينقضي عهد الشيوعية في روسيا وفي غيرها، فلا يلزم من زواله أن تعود الأمم إلى نظام رأس المال كما كانت قبل التجربة الشيوعية، وإنما تبطل التجربة الشيوعية لتعقبها ولاية المديرين الفنيين حيثما وجدت الصناعة الكبرى، فإن لم توجد فالبلاد التي تخلو منها تظل معلقة بدولاب من دواليب الأمم الصناعية الكبرى إلى أن تتمالك قواها وتتمكن من الوقوف على قدميها.
فالذي يحصل في روسيا اليوم نتيجة معروفة للذين ينظرون إلى هذه المسائل العالمية في مدارها الكبير، الذي لا ينفصل من تاريخ الإنسانية في جملتها، وإنما هو صراع بين نفوذ الصناعة الكبرى ونفوذ الساسة والمستوزرين، وما كان مالنكوف في الواقع غيورا على معيشة العامة والفقراء حين أراد تحويل الصناعة الكبرى إلى إنتاج اللوازم المعيشية وتيسير الضروريات للمحتاجين والمعوزين، ولكنه أراد أن يهدم منافسيه بهدم الأساس الذي يقومون عليه، وهو أساس الصناعات الثقيلة والمصنوعات التي تخرجها، وفي مقدمتها الأسلحة الضخام والطيارات والدبابات والمصفحات، وسائر هذه المصنوعات التي يهتم بها القادة العسكريون كما يهتم بها المهندسون والمديرون والفنيون.
فلا جرم إذن يتفق بولجانين وخروشيشيف سكرتير الحزب الأول، والرجل الذي يدل اسمه أو لقبه الشائع بين الروس على أنه يترقى على عجل، ويتقدم بسرعة كأنها سرعة الدواليب!
ومن الواجب أن يحسب بولجانين من المديرين والخبراء الفنيين قبل أن يحسب من القادة العسكريين؛ لأنه كان مدير مصرف الدولة أو «الجوسبانك» الذي يتبعه ثلاثة آلاف فرع في البلاد الروسية، وكان قبل ذلك مدير مصلحة التعمير التي تممت مهمتها على يديه في ثلاث سنوات بدلا من السنوات الخمس المقررة في المشروع، ولا شك أن القوم قد اصطنعوا الدهاء إذ نقلوا مالنكوف من السياسة إلى إدارة المصانع الكبيرة؛ لأنهم بذلك قد وضعوه على اللولب الذي يدور به حيث تدور الصناعات الثقيلة، فيعمل لها في مستقبله أو يقضي على نفسه بيديه ولماذا أعتقوه؟
والسؤال الذي يسأله الناس في عجب: كيف نجا مالنكوف من الموت؟ ولماذا سقط من أعلى مراكز النفوذ وهو بقيد الحياة، خلافا «للعرف المرعي» في روسيا الحمراء؟
وجواب هذا السؤال يهدم المذهب الماركسي من جانب آخر؛ وهو جانب العلل التي تدفع بطلاب الجاه والسلطان إلى التنافس عليهما والاستئثار بهما في كل مكان.
فعند كارل ماركس أن هذه العلل محصورة في استغلال «الفلوس» ... وعند الواقع في روسيا كما في غيرها أنها هي أهواء النفوس وأواصر القرابة، وما إليها من وشائج الصداقة والوفاق.
فالرفيق خروشيشيف صهر مالنكوف، والجنرال بولجانين زميله في مدرسة كاجانوفتش منذ اختاره ستالين لتدريب الشبان المرجوين لخدمة الدولة في المستقبل، فكان مالنكوف وبولجانين في مقدمة النخبة المختارين، وربما كانت المودة «الأوثق» من هذه المودة بينهما أنهما اشتركا في كراهة بريا، والتآمر على إسقاطه وقتله وتفريق شمله.
Bilinmeyen sayfa