بينما كان مروان في عالمه الفردوسي في حالة دهشة مما يشاهده، كان حينها في عالمه الجحيمي مستلقيا على فراش الموت السريري. لم تفده التغذية الجيدة في البيت وبشرته تزداد جفافا، وتغير لونها إلى وردي فاتح . ولم تجد حميدة إجابة عند الطبيب لحيرتها، وبلغ منها اليأس من شفائه، لكن واجبها يحتم عليها الوقوف مع زوجها حتى النهاية. ومما يزيد من كربتها، هو الشجار بين علي ومعاوية، على إدارة السوبر ماركت الذي يواجه خسارة كبيرة. وهما لم يلتفتا إلى ذلك بقدر تنافسهما فيما بينهما، كأنهما ليس من بطن واحدة. وترى حميدة أنه إن لم يشف مروان لتناحر أولادها على التركة.
كانت أمه هي الوحيدة التي لم تيأس من شفاء مروان. راحت تبحث عن سبل أخرى لشفاء ابنها. بدأت طريقة العلاج بالقرآن، فأحضرت شيخا يقرأ القرآن عند رأس مروان، ويعوذه من الجن والشياطين، ورشه بالماء المقروء عليه بالقرآن الكريم. قال الشيخ للأم: «لا أظن أن ابنك يعاني من مس الجان، أو الحسد، بل إنه مصاب بالسحر الأسود، هذا السحر موضوع بجوار جثة أحد الموتى، قبر حديثا. وما أكثر الموتى هذه الأيام! لهذا سيبقى هكذا جثة هامدة حتى يزول السحر عنه.» سمعت شجارا بين علي معاوية في صالة البيت، فخرجت بعصاها تهزها نحوهما. تقول لهم: «أبوكما ينازع الموت، وأنتما تتنازعان على ثروة أبيكما دون حياء، يا طراطير، تف عليكم من رجال .. ألا تستحيان؟!» بكت غصون على ولدها الملقى كجثة هامدة على السرير. لكن إحساسها كان كبيرا، وهي ترى البسمة في شفتيه لم تفارقه.
بينما كانت غصون تبكي على مروان، كان هو في عالمه الفردوسي يتناول القات الذي أحضرته له النساء معهن، بعد عودتهن من العمل. سألهن إذا كان هناك من يبكي في هذا العصر، فردت فرضانا بأن الأطفال الذين لا يجدون وسيلة للتعبير غير البكاء هم الذين يبكون. أخبرهن بأنه سيريهن مشاهد من فيلم ذاكرته، وسيرى هل سيبكين أم لا؟
جلسن بجواره، ورحن يمضغن القات معه، وهو يبحث بنفسه في فيلم ذاكرته عن مشاهد جهاده في أفغانستان. ظهر في المشهد شاب كان يجلس بجوار مروان وهو يحدثه. ثم رأينه يقف أمام دبابة ويطلق عليها النار، لكنه خر صريعا. سألت سيرينا وقد انتفخ خدها بالقات: «من هو ذلك الشاب؟» فأخبرها أنه صديقه ناجي عمر المدحجي، كان من ضمن الذين قادوهم معا كالقطيع إلى أفغانستان. قتل اثنين ممن كنا نسميهم كفارا، ثم عرض نفسه للقتل في المعركة؛ ليلقى حور العين. الله لا رحمه. أزهق روحين دون وجه حق! وباشر يدعو الله أن يغفر له؛ فقد كان مخدوعا.
ضحك مروان وهو يشاهد خدودهن محشوة بالقات، وأثر الحزن على وجوههن، ويبدو عليهن الانتباه. ثم أخذ يبحث عن مشاهد اشتراكه في حرب الانفصال صيف 1994م. ظهر وهو في مقدمة الصفوف ضد الحزب الاشتراكي. كانت النساء تحدق إلى آلة الدمار، وهي تنفث حممها نحو الجانب الآخر، وأناس قتلى وجرحى، وتراشق الطرفين بالرصاص، وقذائف هنا وهناك. ومروان يهتف: «إلى الجنة يا أنصار الدين. كروا على الكفار، انصروا الله.»
بكت النسوة ولم يستطعن مشاهدة تلك المشاهد الدامية، ورحن يخرجن نثارة القات من أفواههن. كان بروسي صامتا طول فترة مضغ القات، ثم نطق وقال لمروان: «يا قاتل، ستفسد هذا المنزل. لماذا كنتم تتقاتلون فيما بينكم يا بشر؟!» تحدث مروان بأسف: كنت أرى أننا نحارب المرتدين والكفار. ولم نكن ندري أننا ننصر أعداءنا، نصرنا الرئيس الأسبق في حرب الانفصال ضد الحزب الاشتراكي، وانقلب ضدنا، نصرنا أمريكا في أفغانستان ضد الاتحاد السوفيتي، فساقوا من نجا من الموت إلى سجن «جوانتانامو» .. خدعنا كثيرا عبر الأزمان، خدعنا بكلمة «شهيد، وحور العين»، كنا نظن أننا ننصر الله، وما نصرنا إلا الشيطان!
كانت النسوة ينظرن إلى مروان بدهشة، وهو يقول: لأول مرة أشعر بحرية وأنني ملك نفسي، أقول ما لم أستطع قوله في حياتي، لست أدري يا حورياتي، هل كلما أحببنا أنفسنا كثيرا كرهنا الآخرين، وكلما أحببنا ديننا أكثر كرهنا الأديان الأخرى.
قالت فرضانا: نعم، يا شريكنا! هكذا هو الحب الأعمى يقابله كره أعمى مثله، عشت عالما تسوده الكراهية، أما الآن فقد انتهت النرجسية الدينية والجماعية والفردية، وأصبح العالم كله أمة واحدة.
10
لم تنم النسوة كالعادة، فجلسن يشربن عصير التفاح، ثم عدن يشاهدن مشاهد من فيلم ذاكرة مروان. كان هناك أناس يمشون في طابور طويل، بين جبال قاحلة، أمامهم ثلاثة رجال سود يضربون الطبول، تمشي خلفهم امرأتان .. قال مروان: «إنه يوم عرسي، كنت قد نسيت هذا الحدث، انتظرن قليلا، سترين زوجتي حميدة حين تكشف عن وجهها، سترين كيف كانت جميلة.» ثم قام رجل وامرأة ليرقصا معا، والبقية يتفرجون وهم يمضغون القات، وأمامهم نرجيلة طويلة وهم ينفثون دخانا من أنوفهم وأفواههم. استغرب بروسي، وقال: «كيف ينفثون كل هذا الدخان من داخلهم؟ هل يحترقون من الداخل؟!» دخل مروان هو وعروسه غرفة صغيرة ضوءها خافت، أعطاها مالا، فخلعت ثيابها، وأطفأت القنديل. لم تعد النسوة ترى المشهد، فسألت سناء: لماذا تطفئون النور عند النوم معا؟ - إنه الحياء عند المرأة في زماننا. - ماذا فعلت معها يا مروان؟! - سلقتها على ظهرها، ورفعت رجليها إلى الأعلى، وفضضت الخاتم. - ولماذا هي لا تفعل كما تفعل نساء هذا العصر عند التلقيح لحياة جديدة؟! ما دام لم يكن لديكم وسيلة اللقاء الروحي.
Bilinmeyen sayfa