ألم يجدك يتيما فآوى * ووجدك ضالا فهدى * ووجدك عائلا فأغنى ، فلما كفي مئونة الفقر استطاع أن يتفرغ للتأمل، فكان يخرج إلى غار حراء، ويقيم فيها الليالي ذوات العدد، يتأمل فيما عليه العالم عامة، وقومه خاصة من ضلال مبين ولكن أين الصواب؟! وفي ليلة سمع صوتا يقول:
اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق ، ثم تتابع عليه الوحي، وذهب إلى بيته وقلبه يضطرب خوفا، حتى دخل على خديجة، وهو يقول: «زملوني زملوني »، ودخل عليها مرة أخرى، وهو يقول: «دثروني دثروني»، فآمنت به. وليس أدل على صدق الرجل من أن يؤمن به أقرب الناس إليه كخديجة وعلي بن أبي طالب، وقد أمر أن يبلغ قومه رسالته فبلغهم، فاستخفوا به وقالوا: ساحر أو مجنون، وما زال يدعوهم ويعذبونه، فلما ضاق صدره أمر بعض أصحابه أن يهاجر إلى الحبشة، فخرجوا في هجرتين؛ كانوا في الأولى إحدى عشرة أسرة، ثم لحقت بهم ثلاث وثمانون أسرة أخرى من بينهم أسرة عثمان بن عفان، فتلقاهم النجاشي بقبول حسن، ثم أسلم عمر بن الخطاب فأعلن إسلامه فوجد الإسلام فيه ناصرا قويا، وفي هذه الأثناء كانت حادثة الإسراء والمعراج. وفي سنة 620 قدم سوق عكاظ نفر معظمهم من الأوس والخزرج، فعرض عليهم محمد الإسلام فقبلوا وبايعهم، ووفد إليه في سنة 622 خمسة وتسعون منهم امرأتان، فبايعوه واحتكموا إليه في الخلاف الناشب بين الأوس والخزرج، فوفق بينهم، واتخذ يثرب مسكنا له ولقومه. وقد أمر نحو مائتين من أصحابه أن يهاجروا إلى المدينة، وأعد العدة بعد ذلك هو وأبو بكر للهجرة أيضا، وأوجد في المدينة لما هاجر إليها توحيدا سياسيا نظاميا، وآخى بين المهاجرين والأنصار، ثم اعترضوا قافلة تجارية كانت عائدة من رحلتها إلى الشام، فخاف أهل مكة؛ لأن هذا الطريق هو سبب معيشتهم، وانهزموا في بدر، ولم تصبر قريش على عار بدر، فحاربت المسلمين من جديد في غزوة أحد، وجمعت جموعها وعلى رأسهم أبو سفيان، وأصيب النبي
صلى الله عليه وسلم
في هذه الموقعة، فشج رأسه، وسال دمه، وهزم المسلمون فقالت قريش إن هذه بتلك. وفي سنة 627 تألفت أحزاب كثيرة من قبائل مختلفة توالي القرشيين، فنصح سلمان الفارسي بحفر خندق حول المدينة، فمكثت الأحزاب شهرا تتناوش ثم انصرفت، وعاد محمد
صلى الله عليه وسلم
إلى المدينة، وناصب اليهود العداء؛ لأنهم كانوا يتآمرون مع الأحزاب، عرض عليهم الإسلام فلم يقبل بنو قريظة، فحكم الرسول بضرب أعناقهم، وأمر بني النضير بالجلاء. ونظمت حياة المسلمين بالمدينة تنظيما اجتماعيا قويا، وفي سنة 628 سار محمد يصحبه 1400 من المؤمنين إلى مكة ، وجرت بينه وبين القرشيين مفاوضات انتهت بتوقيع صلح الحديبية، وبعد سنتين من ذلك فتحت مكة، فدخل محمد الكعبة، وأمر بأصنامها فحطمت، وطهر البيت الحرام منها، وكان عددها على ما قيل يبلغ نحو 360 صنما، ولما أمكنه الله من قريش عفا عنهم وأطلق سراحهم. وفي السنة التاسعة من الهجرة أقام محمد
صلى الله عليه وسلم
حامية في تبوك على حدود غسان، وكثرت الوفود على المدينة حتى سميت: سنة الوفود، وفي السنة العاشرة للهجرة دخل محمد مكة ظافرا منتصرا في موكب الحج.
هذا من ناحية الأحداث، أما من ناحية ما عمله من إصلاح؛ فإنه بتعاليمه وتنظيماته استطاع - مع ما نشأ عليه من جو خانق وعبادات متعفنة - أن يوحد بين جزيرة العرب في لغتها ودينها، وأن يجعل الأمة العربية أمة بعد أن كانت قبائل لا تعرف معنى «أمة»، ورفع من شأن نصف المجتمع وهو المرأة، ولاقى في سبيل ذلك كثيرا فلم ييأس. وتعاليمه التي أتى بها تعاليم إنسانية لا تخضع لظروف الزمان والمكان، ومن أجل هذا كانت تعاليمه خالدة؛ فالإنسان أخو الإنسان والأبيض أخو الأسود، والملك أخو الرعية. وأوعز إلى المسلم أن يكون قوة فعالة لاستئصال الشر، وتعميم الخير، وتمام الانسجام بينه وبين من يعيش معهم، وطالب المسلم أن يحقق العدل، وأن يعيش لخير نفسه وخير من معه،ولأن تعاليمه إنسانية كانت دعوته موجهة إلى الناس جميعا؛ لا فرق بين شرقي وغربي، فالاجتهاد الذي شرعه كاف في تعديل التعاليم حسب البيئة والظروف، وهو بهذا مصلح لما فسد من الأديان، مقوم لما مال منها، ومن أجل هذا استطاع الإسلام أن يبقى مع مثل هذه الهزات التي أصيب بها المسلمون في مختلف العصور، وقد تعرض القرآن الكريم لبعض صفات الرسول مثل:
النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم ،
Bilinmeyen sayfa