لما فارق شريف الحياة اسودت الدنيا في عيني وحرت في أمري، ولقد كان منظر أسما وهي مغشية عليها بجانب شريف يذيب القلوب، وكلما أفاقت ونظرت إلى وجهه المصفر وعينيه المقفولتين بأهدابهما السوداء؛ ناحت وبكت بكاء الثكلى، ولم أر في حياتي مثل ذلك المنظر، ومن عرف الحب ولو قليلا يمكنه أن يتصور حالة هذه المسكينة التي حين بلغها خبر موت شريف وحكايته من الخادم الذي أطلق سراحه رجال شرف الدين، تركت بيتها ولم تسأل عن لوم أبيها وأمها. ومما زادني حزنا وقطع حشاشتي طفل صغير ابن أحد خدم شرف الدين كان يحبه شريف ويلاطفه كثيرا، كما بلغني، جالس بجانبه يبكي ويقول لمن حوله: لم ينام سيدي هكذا ويتركنا نبكي عليه؟ فمتى يستيقظ يا ترى من نومه؟
فقالوا له إنه نام ولن يستيقظ أبدا، فمد يده وأمسك بيد شريف وشرع يقبلها والدموع تسيل من عينيه عليها. وبعد تغسيله وتكفينه:
ساروا به والكل باك خلفه
صعقات موسى يوم دك الطور
وبعد ذلك اليوم لم يصف لي عيش ولم تهنأ لي الإقامة بمكة وعزمت على الرجوع إلى مصر، ولكن فضلت البقاء إلى موسم الحج؛ لأعود مع الحجاج المصريين، ولم أرجع إلى منزل الحاج علي الذي حينما بلغه أن شريفا كان شقيقي أسف أسفا لا مزيد عليه وسافر من مكة إلى الهند دون أن يقابلني وأرسل لي كتابا يعتذر، ولكن هل ينفع العذر؟ وهل ينفع البكاء؟
ولقد اتخذت لي محلا أقيم فيه مع الخادم الذي لم يشأ أن يتركني، وقابلت ذلك منه بالشكران وجعلته كأخ لي.
ومضى بعد ذلك شهران، ولم يبق على موسم الحج إلا زمن يسير، وبينا أنا جالس ذات ليلة وإذا بالخادم دخل علي وأعطاني ورقة ملفوفة في منديل مزركش بالذهب، وقال: هذه أعطتنيها وصيفة لأسلمها لك، ففتحتها وظهر لي قبل قراءتها أنها رسالة غرام، فقلت: هل نحن في سرور أو في غرام أو في أحزان؟! لكل شيء زمان، فقرأت ما يأتي:
أيها الشاب الجميل
قضى الله الذي خلقك جميلا أن تمتلك قلوب البرايا، وإنني أحببت أخاك كما كان يحبني، ولكن المقادير فرقت بيننا وتركتك خليفة له وملكتني لك، فمنذ رأيتك هويتك، وهؤلاء شبان مكة لم يعجبني أحد منهم كما أعجبتني أنت وأخوك، فإن تعطفت علي بقبول محبتي عددت نفسي سعيدة ومت تحت أقدامك، وإن أردت أن أسافر معك إلى بلادك فإني طوع أمرك. فبالله، ارحم فتاة يحييها وصلك ويميتها هجرك.
أسما
Bilinmeyen sayfa