وأيا كان موقفنا من هذا الوضع اللغوي فإن حالة الشيزوفرينيا التي نعيشها معرقلة للتقدم ومعطلة لطاقات العقل العربي. والعرب في هذا المجال هم حالة لغوية فريدة ووحيدة في عالم اليوم. فإذا كان لا بد أن نتفرد بشيء، فالأفضل أن نتفرد بما هو نافع ومتميز، وليس بما هو ضار ومعرقل.
الفصل الثامن
غاية اللغة
الأصل في اللغة أنها وسيلة للتعبير عن النفس والتفاهم مع الآخرين. وهناك نظريات متناقضة حول نشأة اللغة في الأطوار الأولى من الإنسانية يختلف حولها العلماء، لكن ما لا خلاف عليه هو أن الإنسان في مراحل تطوره الأولى استخدم أصواتا يرمز بها إلى معان حتى يفهمه الآخرون، وأن الحاجة إلى التفاهم هي التي أوجدت الكلام. وظلت الغاية من اللغة في مختلف الحضارات هي التواصل والاتصال بين أبناء البشرية.
لكنه من الواضح أن المجتمعات العربية تشذ عن هذه القاعدة؛ فاللغة عندنا هي غاية تنشد في حد ذاتها. هي تستخدم بالطبع للتفاهم والتعامل، لكن لها عندنا هدفا آخر نتميز به عن غيرنا: فالعربي يطرب وينتشي من الكلمات سواء في الشعر أو في النثر لدرجة جعلت استخدام التعبيرات والتراكيب الجديدة عليه غاية تفوق في أهميتها الغاية الأساسية من اللغة.
وفي قصور الخلفاء والأمراء كان الشعراء والعلماء يتسابقون لاستخراج كلمات ومعان مبتدعة، ويتفننون في اللعب بالألفاظ من أجل إرضاء القادرين على منح العطايا. وكان الخلفاء وأولو الأمر يصلون إلى درجة من الانتشاء باللغة تجعلهم يغدقون على الشعراء أموالا تفوق ما يصرف في أهداف أخرى مفيدة للمجتمع. وكان الزخرف والتزيين الكلامي وإيقاع الألفاظ ورنينها وطنينها هي حيثيات البلاغة التي يتيه بها العربي.
فالعربي عاشق للغة ومتيم بها لذاتها وليس لمجرد نقل المعلومات والتفاهم مع الآخرين. ونستخلص من هذا أن مفهوم اللغة لدى العرب يختلف عنه في الحضارات الأخرى؛ فهي وسيلة بالنسبة للآخرين وهي غاية بالنسبة لنا، ثم وسيلة بالدرجة الثانية.
ومنذ بداية القرن العشرين بدأ العلماء يدركون أن اللغة تؤثر في عقل المجتمعات وفي سلوكيات الأفراد، وتعتبر نظرية «سابير-وورف» أول دراسة تربط بصورة مباشرة بين اللغة وتشكيل عقل الإنسان. وظهرت بعد ذلك دراسات كثيرة لم تصل بعد إلى مستوى مطمئن تماما، لكنها تدل كلها على أن هناك صفات عامة للمجتمعات تتصل بقالب اللغة وتركيبها وروحها. واللغة تعبر بصدق عن المجتمع لكنها تؤثر فيه بالتوارث من جيل إلى جيل، فالعلاقة بين العقل واللغة هي علاقة تبادلية؛ فاللغة تعبر عن روح المجتمع بنفس القدر الذي تؤثر فيه.
وإذا أخذنا الإنجليزية مثلا يتضح لنا كم أنها تعكس الروح العملية التي تميز الأمريكيين والإنجليز، وسهولة الحياة وغياب التعقيد في ثقافتهم. والألمانية مرآة للدقة والانضباط، وهما أبرز سمات الشعب الألماني عبر تاريخه. أما الفرنسية فهي تتصف بالوضوح والسلاسة، وقد أفرزت هذه الثقافة وهذه اللغة الفكر الديكارتي العقلاني القائم على منطق محكم وواضح المعالم.
ومنذ نحو ألف ومائتي عام، تنبه رجل ذو بصيرة نافذة، هو الجاحظ لهذه الفروق بإحدى رسائله في «البيان والتبيين» فيقول: «إن الحكمة وقعت على ثلاث: عقل الإفرنج، وأيدي أهل الصين، ولسان العرب.»
Bilinmeyen sayfa