وإذا أضفنا إلى ذلك أن هناك جامعات ومعاهد لغات في أوروبا وغيرها تقوم بتدريس اللهجات عوضا عن العربية، بل إنهم يخيرون الطلبة الراغبين في دراسة العربية بين الفصحى وإحدى اللهجات العامية، وهنا يتضح لنا مدى خطورة الموقف. بل إن مراكز تعليم اللغة في البلدان العربية تفعل نفس الشيء مع الأجانب المبتدئين في تعلم لغتنا.
والأكثر من ذلك أن هناك محاولات جادة لتقعيد اللهجات حتى تصير بمثابة لغات كاملة الأركان لها قواعد النحو والصرف الخاصة بها.
وكما نثبت في هذا الكتاب، فإن اللهجات كانت موجودة دائما. واللغة الفصحى التي نرمز إليها أحيانا بلغة سيبويه لم تكن في يوم من الأيام لغة تفاهم وتعامل يومي، اللهم إلا في فترة وجيزة جدا في رقعة جغرافية محدودة بالجزيرة العربية. فما الذي استجد حتى ننزعج اليوم من اقتحام اللهجات لحيز التعامل اللغوي بين العرب؟
الجديد هو أننا نعيش في عصر يعرف باسم عصر العولمة. وأيا كان موقفنا من تلك العولمة، فإن لها بالتأكيد آثارا سلبية على الثقافات الإقليمية، وعلى كل مقومات الحضارات، ومن بينها اللغات.
والعولمة بمعناها السياسي والاقتصادي ذوبان الحدود بين الدول والتجمعات الإقليمية. لكن معناها الثقافي عميق، وقد يكون أكثر تأثيرا على الشعوب. فالعولمة قد تؤدي إلى هيمنة ثقافة واحدة على العالم، مما يترتب عليه انكماش مقومات الثقافات الأخرى التي تبلورت من خلال حقب التاريخ المتعاقبة. وبالتأكيد إن اللغة من أبرز مقومات الشخصية الإنسانية، ولا بد بالتالي أن تتأثر بالعولمة.
الجديد أيضا هو أن وسائل الإعلام الحديثة جعلت أدوات التفاهم الشفهية تنافس المكتوبة، بل وتتفوق عليها أحيانا وتسحب من تحتها البساط. ففي الماضي كانت الوسيلة الوحيدة للاتصال وحفظ المعلومات هي الكتابة. أما منذ نهاية القرن العشرين، فقد ظهرت الوسائل السمعية والبصرية التي جعلت للكلمة المنطوقة أهمية كبرى لم تكن لها بهذا القدر منذ عرف الإنسان الكتابة، وانطوى عندئذ عصر الثقافات الشفهية؛ فالتسجيلات الصوتية والصورة صارت هي الأخرى وسائل حيوية لنقل المعلومات وتخزينها، كمراجع للمعرفة.
وأخيرا وليس آخرا، فمن المؤكد أن هناك من لا يريد للعالم العربي أن يكون واحدا، ويأمل في قرارة نفسه تمزيق أواصر هذا العالم. وحيث إن أهم ما يربط بين العرب هو لغتهم، فإن القضاء على هذه اللغة سيؤدي إلى نهاية عالمنا العربي، وربما كان هذا هو الهدف الخفي من وراء المشروعات الغربية المطروحة على الساحة في بداية القرن الحادي والعشرين.
وأمام هذه التحديات الخطيرة؛ فإن اللغة العربية تمر الآن بمفترق طرق حيوي؛ إما أن تجدد نفسها فتبقى دائما لغة العرب المشتركة، أو أن تتقوقع على نفسها، فتواجه بالفعل خطر الزوال لحساب اللهجات، كما حدث للغة اللاتينية في القرون الوسطى الأوروبية. وهذا الاحتمال، وإن كان بعيدا، إلا أنه ليس من دروب الخيال العلمي.
والمشكلة هي أن اقترابنا من قضية اللغة مغلوط من أساسه؛ فهو يقوم على فرضية نعدها من المسلمات، وهي أن مشكلة اللغة تكمن في الناطقين بها من العرب. وكل من يتصدى للحديث عن اللغة هذه الأيام يسخر من جميع من يخطئون فيها ويستهزئ بالآخرين، وكأنه معصوم من الخطأ في اللغة. فالمنطق السائد في هذا الموضوع يشابه ما طرحه الشاعر مرسي جميل عزيز في أغنية: «سيرة الحب» التي غنتها سيدة الغناء العربي أم كلثوم عن مشكلات الحب ومن هو المتسبب فيها؛ حيث تقول: «العيب فيكم يا في حبايبكم، أما الحب، يا روحي عليه.» فالخطأ إذا ليس في الحب وإنما في كل من يمارسونه بأسلوب خاطئ.
ولو كان من الممكن أن تنطبق هذه المقولة على الحب؛ لأنه قيمة مجردة، فإنه لا يمكن أن تنسحب على اللغة، فاللغة كائن حي لا بد أن تتغير بتغير الوقت وأن تجاري الزمان، وبالتالي فأنا أقول: إن الخطأ لا يقع بالكامل على مستخدمي العربية؛ لكنه يقع أساسا على عاتق اللغة نفسها.
Bilinmeyen sayfa