وكنت أسأل نفسي وأنا أستمع إليهم: هل يمكن أن يكون جيش المسئولين والمثقفين والصحفيين والكتاب بهذه الدرجة من الجهل؟
وعندما كنت أقارن حالنا بالآخرين، كنت أجد نفسي مضطرا لأن أعترف بأنه لا يوجد مثقف واحد في فرنسا أو إنجلترا أو إسبانيا، أو حتى البرازيل يخطئ في لغته الأم بهذه الصورة. فهل كل الشعوب العربية بمثقفيها ومفكريها أصبحت معوقة ذهنيا بحيث لا تستطيع تعلم اللغة والإلمام بها إلماما سليما؟
وإذا وسعنا باب المقارنة مع الآخرين، نجد أن أية سكرتيرة متواضعة حاصلة على شهادة متوسطة في أية دولة غربية، قادرة على أن تكتب بنفسها خطابا دون أخطاء لغوية. وقد تعاملت خلال عملي في منظمة اليونسكو الدولية مع أكثر من سكرتيرة فرنسية، وفوجئت بأنهن يكتبن مذكرات وخطابات رسمية دون أي خطأ. أما في الوطن العربي، فإن أعلى القيادات الوظيفية من الحاصلين على أعلى الشهادات الجامعية، عاجزون عن صياغة مذكرة أو خطاب خاص بعملهم، دون أخطاء لغوية في العربية.
فهل السكرتيرة الفرنسية تمتلك قدرات ذهنية أرقى من المثقفين، وأصحاب الشهادات العليا في العالم العربي؟ بالطبع لا. إذا فالخلل يكمن في الطرف الآخر من المعادلة، وهو اللغة المستخدمة للتعبير عند كل من الطرفين: السكرتيرة الفرنسية والمثقف العربي؛ فاللغة الفرنسية طيعة وسهلة ومباشرة، كما أن السكرتيرة مثلها مثل كل من يجيد الفرنسية، لديها أدوات تسهل مهمتها وتجعلها قادرة على تجنب الخطأ. وعلى رأس هذه الأدوات قاموس اللغة الفرنسية الذي يقوم على ترتيب الحروف الأبجدية، بالإضافة إلى ترسانة من القواميس الخاصة بالقواعد وبالمترادفات، وغير ذلك من الكتب التي يتعلم أي تلميذ فرنسي كيفية استخدامها في المدرسة. •••
وقد يكون أول رد فعل لمن يقرأ هذا الكلام هو الاعتراض بأن العربية قد طرأت عليها تطورات كبيرة بالفعل، وأنني أغفلت ذلك في تحليلي لإشكالية العربية في العصر الحديث، لكنه لم يفتني أن العربية التي نستخدمها اليوم تختلف كثيرا عن اللغة التي كان يستخدمها أجدادنا في الماضي البعيد وحتى القريب. لا أشك أن العربية قد عرفت تطورا ضخما خلال القرن العشرين، لكن هناك فرقا جوهريا بين التطور والتطوير؛ فمنذ ظهور الصحافة بصفة خاصة، بدأت العربية مرحلة جديدة من التطور الطبيعي المنسجم مع ضرورة الاتصال بالناس وتقديم المعلومات للقارئ بالصورة التي يقدر على استيعابها.
لكن ما أقصده ليس التطور، وإنما التطوير. وهناك فرق جوهري بين الاثنين؛ فالأول هو ظاهرة طبيعية لا يستطيع أحد أن يقاومها لأنها سنة من سنن الحياة، لكنها تحدث دون تدبير محكم يضعها في سياق منهجي. أما التطوير فهو جهد إرادي جماعي للخروج من حالة السكون، وذلك من خلال تقنين التطور وإيجاد الآليات اللازمة للوصول به إلى مداه.
ولغتنا الجميلة أصبحت في حاجة ماسة إلى التطوير الطوعي؛ حتى لا نجد أنفسنا في خلال عقود قليلة أمام معضلة مخيفة وهي خطر الانقطاع عن ثقافتنا وتراثنا بسبب تعنت بعض العقول المتحجرة الرافضة لكل جديد.
إن اللغة كائن حي يحتاج على الدوام إلى تغذية وعمليات إحلال وتبديل، كما يحتاج الإنسان إلى الغذاء وإلى تجديد خلايا جسده.
ومن يطالب بتحنيط اللغة وعدم المساس بها فكأنه يطالب بموتها؛ لأن التحنيط لا يكون للأحياء وإنما للأموات وحدهم. والذين يرفضون تطوير اللغة يرفضون فكرة أنها كائن حي ويغلفونها بهالة الدين فتصبح في عيونهم لغة ليست ككل لغات العالم، وإنما نسيج لا مثيل له.
والواقع يقول عكس ذلك، فالأدب العربي عظيم لا شك في ذلك، لكنه ليس الأدب الوحيد في العالم. وقد أبدع شيكسبير بالإنجليزية وجوته بالألمانية وموليير بالفرنسية روائع تباري ما أبدعه المتنبي وأبو العلاء وطه حسين. وأنا من الذين يرون أن الشعر العربي القديم يفوق في رقته وجماله ما أبدعه فطاحل الأدب الغربي، لكنه رأي شخصي، والأرجح أنه رأي غير موضوعي؛ لأن ثقافتي الأولى التي نشأت عليها هي العربية.
Bilinmeyen sayfa