وكان من نتائج ذلك أن أصبحت مهنة الترجمة والتي كانت موجودة منذ قديم الزمان من أهم وأخطر المهن في العالم، وقد أصبحت أيضا من أكثر المهن المجزية من الناحية المادية؛ حيث يتقاضى المترجم الفوري في المؤتمرات الدولية مكافأة يومية مرتفعة نظرا لأنه من أهم مقومات نجاح الاجتماعات، ولولاه لما حدث تفاهم بين الحاضرين.
وقد أدرك الإنسان منذ أقدم العصور أن اللغة هي أداة توحيد وانسجام ووفاق. وتروي التوراة قصة تؤكد أهمية اللغة في ترابط المجتمعات، فتقول إن الناس كانوا في بدايات البشرية قوما واحدا يتكلمون لغة واحدة. ثم ظهر في بابل ملك طاغية يدعى نمرود تصور أنه قادر على مناطحة الآلهة.
وشرع هذا الملك في بناء برج شاهق يرتفع به إلى عنان السماء حتى يصل إلى الآلهة ويتحداهم؛ فقد كان هذا الملك يعتبر نفسه أقوى من الآلهة التي في السماء، وأراد أن يثبت ذلك لقومه، فما كان من الخالق إلا أن جعل العاملين في بناء البرج يتكلمون لغات مختلفة. وعلى الفور اختفى التفاهم فيما بينهم ودبت الخلافات وأخذوا يتشاجرون بدلا من العمل في بناء البرج، ولم يستطيعوا، بالتالي، إكمال البناء. وأخفق نمرود في وضع مشروعه المجنون موضع التنفيذ.
وخلاصة هذه القصة هي أن اللغة هي أساس التفاهم بين الناس، وأن وجود لغات مختلفة جعل الناس عاجزين عن السعي في مشروع مشترك وهو بناء برج بابل.
وبرغم هذه القصة الواردة في التوراة فمن المؤكد أن وجود لغات مختلفة هي نعمة من نعم الله؛ فكل لغة تعبر عن ثقافة بذاتها ورؤية للحياة تختلف عن غيرها، كما أنها تعكس منظومة فكرية تثري حضارات الإنسانية. وهناك آلاف اللغات التي اندثرت تماما ولم يعد علماء اللغات يعرفون عنها شيئا، ولا يستطيع علماء اللغة إحصاء عدد هذه اللغات لكنها اختفت عادة لحساب لغات أخرى أكثر تعبيرا عن احتياجات المجتمع. فكأن اللغات القديمة مثل السمك في الماء يبتلع الكبير الصغير.
حتى في الجزيرة العربية خلال الجاهلية كانت هناك عشرات اللهجات المختلفة إلى أن جاء القرآن فانزوت كلها ولم تبق إلا لغة قريش أداة للتفاهم بين العرب.
وهناك لغات اندثرت لكنها لازالت معروفة للمتخصصين. ولعل أشهرها اللاتينية التي تعد اللغة الأم لعدة لغات حية من أهم لغات عالم اليوم، مثل: الفرنسية والإيطالية والإسبانية والبرتغالية والرومانية. كما أن هناك اللغة اليونانية القديمة التي أبدع بها هوميروس وأفلاطون وأرسطو وسوفوكليس وغيرهم ممن غيروا نظرة الإنسان للحياة في القرون السابقة على ظهور المسيح.
وكان لكل حضارة من تلك الحضارات واللغة المعبرة عنها دور حيوي في تقدم الإنسانية ورقيها ووصولها إلى ما هي عليه الآن بفعل تراكم المعارف. ولولا اللغة لما كان ذلك متاحا. •••
ووعيا منه بخطورة اللغة في العلاقات بين الشعوب، طرأت على ذهن طبيب بولندي في نهاية القرن التاسع عشر فكرة عبقرية؛ فقد وضع لغة جديدة تماما هي مزيج من أهم لغات العالم، أطلق عليها اسم «إسبيرانتو» ونشرها عام 1887م باسم اللغة العالمية.
لكن الفكرة سرعان ما أهملت وسقطت في طي النسيان، فلم يكن وراءها ثقافة ولا دولة قوية تحميها.
Bilinmeyen sayfa