فليست المقارنة بين العلم والفن مقارنة بين طيارة تنفع في التجارة والحرب وتمثال لا ينفع لغير الزينة، بل هي مقارنة بين ملكة مستنبط لا تتم بغيره الحياة، وملكة مستنبط تتم بغيره الحياة!
وإذا فقدنا الفنون الجميلة فليس كل ما نفقده إذن هو تمثال الرخام الذي لا يصلح لغير الزينة، بل نحن فاقدون جزءا من حياتنا وجزءا من العلاقة بيننا وبين الدنيا، وعائشون عيشة الممسوخ الأبتر المحجوب عن جوانب دنياه.
إن الرجل البصير يرى الحجر كما يرى الجوهرة، ولكنه إذا عجز عن رؤية الحجر وهو أمامه، فليس الحجر وحده بالمفقود في نظره، بل المفقود كل شيء يتراءى لعينيه.
لقد حيينا في خدمة غيرنا عصورا طوالا حتى أوشكنا إذا قيل لنا: «اشعروا بالحياة.» أن نطلب أجرا على حياتنا.
فالرجل الذي يسأل: ما فائدة الفنون الجميلة؟ هو كالرجل الذي يسأل: ما فائدة العين؟ وما فائدة الأذن؟ وما فائدة الشعور؟ وما فائدة الحياة؟
وإن الإنسان لينظر إلى الروضة ولا يبسط يديه بعدها إلى أحد يعطيه أجرا على ما رآه، فلماذا يحس الجمال وهو يسأل عن فائدة الإحساس؟ ولماذا يعبر عن الجمال وهو يسأل عن فائدة التعبير؟ ولماذا يقتني التمثال وهو يسأل لماذا أقتنيه؟ ولماذا يسمع الغناء وهو يسأل لماذا أصغي إليه؟
إنه ينبغي أن يصنع ذلك لأنه يحس؛ وإنه يحس لأنه يحيا، فمن من يا ترى يريد أجرا على الحياة؟! إن كان عبدا فمن سيده فليطلب أجره لو كان سيد يغنى بتهذيب عبيده؛ وإن كان هو سيدا فهو مالك حياته، وكفى أنه يحيا تعليلا لكل عمل وترغيبا في كل مطلب وتقويما كل عزيز نفيس. •••
ولقد يخطئ بعض الفلاسفة المصلحين في تقويم الفنون، فيستكثرون ما أنفقت عليها الدول والملوك والسروات من مال وفير وجهد عنيف، كذلك أخطأ تولستوي في كتابه عن الفن الجميل، وهو نفسه قد أنفق عمرا مديدا في خدمة الفن الجميل.
على أن خطأهم قريب المأخذ سهل المراجعة من ناحية الحساب، إذ ليس القياس في هذا الصدد أن ننظر إلى مدينة مثل «هليوود»، كم تنفق من الملايين على الروايات والممثلين! وإنما القياس أن ننظر إلى مدن العالم كم عددها بالقياس إلى «هليوود» وحدها، أو كل مدينة جرت على مجراها.
وليس القياس أن ننظر إلى الموسر كم يبذل من الألوف في تمثال واحد ، وإنما القياس أن ننظر إليه وإلى كل فرد كم ينفق على خبزه وكسائه وسكنه وراحته، وكم ينفق على الفنون الجميلة التي يهواها من تماثيل وأغان وأشعار؟ ومتى نظرنا هذه النظرة علمنا أن الكماليات لا تجور على الضروريات، وأن قياس النفقات على ما يسمى بالكماليات والنفقات على ما يسمى بالضروريات أقل من قياس الآحاد إلى المئات.
Bilinmeyen sayfa