وليس الأمر كما قال الأديب؛ لأن ما نظمه كبلنج إنما كان من قبيل الأناشيد التي قلنا: إنها اجتماعية وليست فردية، فحكمها في هذا الصدد كحكم الخطب والمقالات.
وقد حضر الثورات والحروب شعراء فحول في الذروة العليا بين أقوامهم، فلم ينظموا فيها إلا قليلا جدا بالقياس إلى سائر الأغراض والمعاني.
فهذا ملتون كان أشعر أبناء عصره من الإنجليز، وكان في حومة الثورة الإنجليزية، فماذا نظم بالقياس إلى ما نظمه في الأغراض الأخرى؟
وهذا فكتور هوجو كان أشعر أبناء عصره من الفرنسيين، وقد حضر الثورة وحرب السبعين، فماذا نظم فيها؟ وماذا نظم في سائر الموضوعات؟ وما يقال عن هوجو يقال عن شاتوربريان ولامرتين وشينيه، وجملة الشعراء الذين لابسوا الثورة الفرنسية في عهد من العهود.
وكذلك كارودتشي الإيطالي كان أشهر شعراء قومه، وحضر الثورات الإيطالية وكان ثائرا ابن ثائر، ولكنه فضل الإعراب عن آرائه السياسية في نشيد الشيطان على تسجيل الحوادث التي لا تنحصر في الحروب.
وكذلك جيتي وشيلر وهيني أعظم شعراء الألمان في زمانهم لم ينظموا في حروب عصرهم - وهو عصر نابليون والثورات الوطنية - إلا شذرات مهملة من شعرهم القيم المقدم على غيره.
ولقد شغلت الحرب الماضية أقطار العالم قاطبة أربع سنوات، وفيه مئات الشعراء من غربيين وشرقيين، ثم لم يعقبوا جميعا من الشعر القيم ما يضارع ديوانا واحدا، وجاء الشاعر الناقد ييتس الذي عهد إليه في اختيار مجموعة أكسفورد من الشعر الإنجليزي في خمسين سنة، فلم يثبت من قصائد الحرب إلا النادر الذي نظم بعد انتهائها، وقال في مقدمة المجموعة: إنه أهمل تلك القصائد؛ لأن الموضوع بحذافيره لا يستحق الإثبات.
وتلك هي الحقيقة التي تنجلي لنا من مراجعة دواوين الفحول، ومن مراجعة أوقات الحروب الكبرى، فمن أين نأتي بزعم من يزعمون أن النظم في الحروب شرط من شروط الشاعرية، وأن إهماله معيب في أساطين الشعراء؟! •••
ولكن طالبا أديبا في الجامعة كتب إلي يلفتني إلى رأي للأستاذ أحمد أمين أذاعه في يوم ذكرى حافظ - رحمه الله - وقال فيه عن قراء الصحف: إنهم «يقلبونها اليوم فلا يجدون فيها شعرا في غارة، ولا في هجرة الريف، ولا في طاقة البترول كما لم يجدوا فيها ما هو أهم من ذلك في آلام مصر والشرق وآمال مصر والشرق ... قد كان يقول حافظ بذلك كله، ثم لم نجد له خلفا.»
ويسألني الطالب رأيي فيما أفتى به الأستاذ أحمد أمين، ورأيي أنه كان أولى به أن يسأل أستاذه: علام اعتمد في هذه الفتوى التي قرر بها أن ميزان الشاعرية هو النظم في الغارات وبطاقات البترول والهجرة إلى الريف؟
Bilinmeyen sayfa