والحق أنني أعجب لهذا النفور بين الدكتور وشاعرنا العربي الكبير، وما أنا ممن يستحسنون كل شعره ولا كل عمله، ولكني أزن ما زاده في ثروة الآداب العربية، وما زاده في شرور الحياة بسوء عمله وسوء خلقه، فأعلم أن الحياة لم تفسد بفساد المتنبي، وأن الأدب قد صلح بصلاح شعره، وأن لأصغر الهلافيت من خلق الله لسيئات أكبر من سيئات المتنبي بكثير، واحتملتهم الدنيا مع ذاك ... أفتحتمل الدنيا هذا من أصغر الهلافيت، ولا تحتمله من الرجل الذي لو قبلنا حسناته بألف ضعف من سيئاته لكنا نحن الرابحين؟
هنا أيضا أعود إلى العاطفة والحجة، وأحسبني أقرب من الدكتور إلى وفاق الصداقة بيني وبين شيخ المعرة، وأقرب إلى الإنصاف. •••
أهذا كل ما أخالف به الدكتور من رأي أو هوى في حديثه عن صديقنا العظيم؟
كلا! بل هناك خلاف وخلاف، وأكثر من خلاف وخلاف.
هناك قول الدكتور تعقيبا على كلام الأديب الفرنسي بول فاليري في المصور ديجاس: «العجيب الذي لم أكن أتوقعه ولا أفترضه أن كثيرا من صفات هذا المصور الفرنسي الذي كنت أسمع اسمه، وأجهل من أمره كل شيء، تشبه ما ألفت وأحببت من صفات أبي العلاء، فشدة الرجل على نفسه إلى أقصى غايات الشدة، وشك الرجل في مقدرته إلى أبعد آماد الشك، وارتياب الرجل بأحكام الناس في أمور النفس، وزهد الرجل في الشهرة وبعد الصيت، وفي الثراء وسعة ذات اليد، وانصرافه عن الحمد الكاذب والثناء الرخيص، وتأجيله لذة الظفر بالفوز، وخلقه المصاعب لنفسه، وبغضه للطرق القصار والأبواب الواسعة، وإيثاره الطرق الطوال والأبواب الضيقة - كل هذه الخصال، التي يحدثنا بها بول فاليري عن صديقه وأثيره ديجاس قد حدثتنا بها القرون والأجيال عن أبي العلاء، إلا أن الأول كان مصورا رساما، والآخر كان شاعرا حكيما ...»
أفصحيح أن المعري وديجاس شبيهان في خليقة واحدة؛ لأنهما على نفسيهما صارمان؟!
هنا قسوة وهناك قسوة، وهنا تعذيب وهناك تعذيب، ولكن أين قلق الفنان في سبيل الخلق من قلق الناسك في سبيل الإحجام؟ أين تعذيب الجواد بالسوط لينبعث ويسبق من تعذيب الجواد باللجام ليسكن ويكف عن الوثوب؟
أين اللزوميات وهي قيود، من «الأمبرشنالزم» وهي انطلاق من القيود؟ أين رياضة الفقير الهندي المتقشف من رياضة الحسناء بالتقتير على جسدها في الشراب والطعام؛ لتزداد جمالا على جمال ونشاطا على نشاط؟ أين الزهد في المال انصرافا إلى الغنى من الزهد في المال انصرافا عن الدنيا؟ إن الفرق بين تعذيب وتعذيب ليبلغ أحيانا من السعة أبعد مما بين النعيم والعذاب، وهكذا كان الفرق بين صرامة المعري وصرامة ديجاس. •••
وثمة خلاف غير هذا الخلاف بيني وبين الدكتور في حديثه عن صديقنا القديم.
فالدكتور ينقل شذرة من فصول المعري وغاياته يقول فيها:
Bilinmeyen sayfa