لقد كان أولئك الجنود الفاشيون أسبق المقاتلين إلى الفرار في ميدان الصحراء وفي ميدان اليونان، وكانت هذه التربية مجبنة لهم، ولم تكن سبيلا إلى الشجاعة ونهوض العزيمة؛ لأن العزيمة والجعجعة قلما تجتمعان.
ثم ذهب موسوليني - إمام الفاشية - بين عشية وضحاها، فلم يسرع إلى نجدته أحد من جنوده في طول البلاد وعرضها، سواء ما وقع منها في قبضة الحلفاء الديمقراطيين، وما بقي منها في قبضة الألمان النازيين، وجاءه المدد حين جاءه من هؤلاء، ولم يجئه من أبطاله الذين دربهم على نظامه سنوات بعد سنوات.
وتعليل ذلك غير بعيد على من يكلف نفسه مئونة النظر وراء المواكب والصيحات؛ لأن الشجاعة خلق من الأخلاق، وليست نظاما من النظم المدروسة، وكل خلق من الأخلاق فلا بد له من الشعور بالتبعة ومن الحرية التي يقتضيها الشعور بالتبعة؛ لأنك لا تحمل الإنسان تبعة خلقية وأنت توثق مشيئته بوثائق الطاعة العمياء، ولا تعوده خلقا قط، وهو ملقي التبعة على سواه.
وأظهر من هذه العلة البدهية علة الإحجام عن معونة الدولة المدبرة، ومن حولها أولئك الأنصار الناشئون على يديها.
فإن جنود الفاشية قد نبتوا في حمايتها وقاموا على يديها، فهي التي تحميهم وهي قوية، وهم العاجزون أن يحموها يوم تزول عنها القوة، ومن قام على يد فهو يضرب بها ولا يضرب دونها، ويسقط معها ولا يقيمها بعد سقوطها.
وهكذا صنع الجنود الفاشيون بالدولة الفاشية، وهكذا يصنع أمثالهم بأمثالها في كل زمن وبين كل قبيل.
فالتربية على الشعور بالتبعة - أو على الشجاعة الأدبية بعبارة أخرى - هي حاجتنا اليوم نحن المصريين أو نحن الشرقيين على التعميم، وأمثولة رومان رولان ألزم لنا من أمثولة العسكرية المزعومة، التي رأينا قصارى جهدها في تاريخ قريب لا نزال نشهده، ولا حاجة بنا إلى التاريخ البعيد.
الفصل الثامن والثلاثون
الشعر والقصة
حين يقول القائل: إن الذهب أنفس من الحديد يقرر شيئا واحدا، وهو أن الحديد لا يدرك ثمن الذهب في سوق البيع والشراء، ولكنه لا يقرر إلغاء الحديد ولا استخدام الذهب في المصانع والبيوت بديلا منه، ولا يعني أن الذهب يغني عن الحديد، أو عن غيره من المعادن في غرض من أغراضه.
Bilinmeyen sayfa