والأستاذ شاهين قد سأل في خطابه سؤالا يشتمل على بعض الجواب الذي أجبناه حيث قال: «إذا كان الأمر أمر رؤية بعيدة، فهل تقف الرؤية عند الماديات أو تتعداها إلى الأفكار؟ فقد يحدث أن يذكر الإنسان شخصا ويذكر معه أمرا معينا ، ولا يلبث أن يلقى الشخص الذي ذكره فيبادره هذا بحديث عن ذلك الأمر المعين بنفسه، كما حدث لي مرارا، وهذا مما يغري بالميل إلى الفكرة القائلة بحركة الأجسام والإشارات الصادرة منها، والتي يلتقطها جانب ثان.»
فالتمثيل بمحطات الإرسال ومحطات الاستقبال هنا تمثيل مقبول لتقريب التصور وسهولة التشبيه، ولا مانع من اتصال النفوس على البعد، وهي تتصل على القرب اتصالا لا شك فيه، فإذا اتفق أن نفسين توجهتا كلتاهما إلى الأخرى - في وقت واحد - فذلك أحرى بتوافق الشعور وتوافق الخاطر، والجزم بإمكان هذا أصح من الجزم بامتناعه إذا لم يكن بد من أحد الأمرين.
يحدث كثيرا - كثيرا جدا - بين الصديقين المتفاهمين أن يطيلا الجلوس معا صامتين، ثم يعودا إلى الحديث فجأة، فإذا هما يطرقان موضوعا واحدا أو يسألان عن شيء واحد، ولو كان هذا الموضوع على اتصال بما كانا يتكلمان فيه قبل ذلك لقلت الغرابة في اتفاقهما عليه بعد صمت طويل، ولكنه يكون أحيانا بمعزل عن كل موضوع طرقاه ذلك اليوم.
فما تعليل ذلك؟
تعليله تقارب الشعور والتفكير، وهما لا يتقاربان هنا بأداة مادية، حتى يقال بالفرق بين حصوله في حجرة واحدة وحصوله على مسافة أميال.
فإنكار هذا الاتصال أصعب من إثباته، والقول بإمكانه قول تعززه احتمالات قوية ومشابهات مألوفة، وروايات متواترة، ولا يقف أمامها من ناحية النفي إلا مجرد الإنكار، أو سوء فهم الواقعيات والماديات.
وقد وصلنا في زماننا بالماديات إلى حدود الروحيات، فانتقلنا بها من هذه الأجسام التي تلمس وتدرك بالحس إلى الذرات، ثم إلى الطاقة، ثم إلى الإشعاع الذي يدركه الفكر ولا تمسكه الحواس، فمن الحيطة أن نقل من الإنكار بعد أن أسرفنا فيه، وقد جاء زمان كان الإنكار فيه حسنا بعد إفراط الناس في الإثبات، فهل ندور الآن دورة من تلك الدورات الفكرية المعهودة، فنسرف في القبول بعد إسرافنا في الإنكار؟
لا هذا ولا ذاك بالحسن المأمون، وإنما الحسن المأمون أن نأخذ بدليل ونرفض بدليل، وأن نعلم أن العجائب في الدنيا لا تنتهي، فلا نغلق على أنفسنا بابها مختارين.
الفصل السادس والعشرون
من طرائف المفارقات
Bilinmeyen sayfa