وهناك نزعات كثيرة أخرى، ولكنها ضعيفة تافهة، ليس لها من قوة الأثر ما يحملنا على تدوينها في كلمتنا هاته: نزعات غريبة، وأخرى ذابلة، وأخرى ميتة بالية، فلندعها تختلج اختلاجة الموت في أدمغة بعض غلاة القديم، وبعض متطرفي الجديد، ولندعها تقضي ساعة الموت في سكون الظلام؛ فهي ذاهبة لا محالة إلى هوة الفناء المحتوم ...
ولكن هناك نزعة غريبة يدين بها بعض الناس ممن يحملون التجديد على غير محمله، ويفهمونه على غير المراد منه، فهم يحسبون التجديد أن يأتي الشاعر في أسلوبه ومعناه بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشيء، وأن يخلق آثاره من عدم، ويأتي بها غير مسبوقة بصورة أو مثال! وهي فكرة غريبة لا نفهم كيف يستطيع اعتقادها فريق من الناس، ولكننا نسوق إليهم هاته الكلمة الصغيرة:
إن الحياة نفسها ليست إلا حرية ترسف في القيود، وسلسلة يتصل فيها الطريف بالتليد، وإننا حين نطالب الشاعر بالتجديد لا نطالبه بأكثر من أن يترسم خطى الحياة في فنها، فالزهرة - وهي فن من فنون الحياة - ليست إلا بعض ما في التراب والماء والسماء من روح الحياة، ولكنها مع ذلك فن منها جديد يخيل إلينا أنه بعيد عنها جد بعيد. ونحن - أبناء الإنسان - ننحدر إلى هاته الدنيا وفينا مشابه من آبائنا الأولين في الملامح والميول والأطوار، ولكن لكل منا روحه الخاصة، وطابعه الممتاز. وكذلك تتدفق الكائنات من قلب الحياة الأزلي الذي لا ينضب، وكأنها صور ممتازة متباينة رغم ما بينها من وشائج الرحم والقربى، ولولا ذلك التباين الحكيم لأصبح عمل الحياة عبثا متواصلا، وعناء معادا لا جدوى وراءه ولا متاع.
كذلك يصنع الشاعر الفنان، وكذلك ينبغي أن يصنع، فهو لا يستطيع أن يخرج عن نفسه التي بين جنبيه وما في هذا العالم من سحر ولذة وألم، وما خلفته الإنسانية من فن ورأي ودين، ولكنه حين يتحدث إلينا بذلك في آثاره لا يتحدث به إلا بعد أن يحيا في قلبه، ويتوهج في حياته، ويتضرج بأضواء نفسه المشرقة، فتبرز آثاره للدنيا موسومة بوسمه، ومطبوعة بطابعه الذي لا يزول، وذلك هو التجديد بمعناه الواضح الصحيح. •••
والشاعر ماذا يصنع بين هاته السبل المتعرجة، وفي لجة هاته الأصوات التي تهيب به من كل ناحية ومكان؟
أما إذا كان ضعيف النفس خوار العزيمة فإن مواهبه وألحانه تضمحل وتفنى في هذا الأفق الداوي بالأضواء، وتذهب حياته أباديد في مهاب هاته الرياح، وأما إذا كان موثق العزم قوي الإيمان برسالته، فهو يسلك سبيله في عزم وقوة غير آبه لتلك الأصوات الكثيرة المتباينة، وهو يمضي قدما، صاما سمعه إلا عن صوت «الحياة» المتردد في أعماق قلبه المتدفق في جوانب نفسه تدفق أمواج البحار، مطبقا بصره إلا عن نور السماء المشرق في آفاق روحه الحالمة، وفي أعماق الوجود. وهو يمشي وعلى شفتيه بسمة مشفقة ساخرة بكل هاته الأصوات التي تريد أن تحصر روح الشاعر في قفص مطبق محدود الجوانب؛ لأنه يعلم أن روح الشاعر روح حرة لا تطمئن إلى القيد، ولا تسكن إليه، حرة كالطائر في السماء والموجة في البحر، والنشيد الهائم في آفاق الفضاء، حرة فسيحة لا نهائية لا تحدها نزعة واحدة، ولا مذهب محدود، وإن كانت لا تضيق بكل هاتيك النزعات مجالات نفس الشاعر، ولا تتقيد بصورة أو مثال.
والحق أننا نخطئ كثيرا إذا حاولنا أن نفرض على الشاعر آراءنا ومذاهبنا وأحلامنا فرضا، ولن نجني من وراء ذلك إلا تضليل المواهب الجديدة الناشئة، وسخرية المواهب الكبرى السائرة إلى النور، وأنه ليس لنا أن نطالب الشاعر في شعره بغير «الحياة»، وإذا جاز لنا أن نطالبه بأكثر من هذا فلنطالبه بأن تكون هذه «الحياة» رفيعة سامية، تتكافأ مع ما للشعر من قدسية الفن وجلاله، ففي الحياة كثير من الحماقات والدنايا، يتعالى الفن عن التدلي إليها من سمائه العالية.
فإذا قرأنا شعر الشاعر فوجدنا فيه إنسانا من لحم ودم، يحيا ويتنفس، ويشعر ويفكر، ويجاوبنا بالعطف والحس والخيال، وينسينا لحظة وجودنا المحسوس بما يخلعه علينا من جمال الفن وصوره، ويرتفع بمشاعرنا فوق دنايا هذا العالم ومحقراته، إذا وجدنا هذا الشاعر فلنقرأه في ثقة وإيمان بأنه الشاعر حقا، وليس بعد هذا أن يكون رمزيا أو رومانيكيا أو غير هذا وذاك. فما تلك في الحقيقة إلا أطوار نفسية يتشكل الشعر بما لها من ألوان وظلال وأضواء، وليست هي الشعر نفسه؛ فإن لباب الشعر «الحياة».
ولقد قلت مرة عن الفن بمعناه الواسع: إنه «حياة موسيقية مصطفاة»، سواء كان قطعة تنشد، أو لحنا يعزف، أو صورة ترسم، أو تمثالا ينحت، فهو «حياة»؛ لأن الفن في صميمه إنما هو صورة من تلك الحياة التي يحيا بها الفنان في هذا الكون الزاخر الرحيب، أو في دنيا خياله وأحلامه، وكيفما كانت تلك الصورة في اللون والشكل والعرض، وهو حياة «موسيقية»؛ لأن الفن في جميع صوره وألوانه إنما هو مجموعة نسب موسيقية، يوازن الفنان بينها موازنة حكيمة ملهمة، يحس بها في قرارة نفسه ويأتيها، وربما لا يفهمها كل الفهم أو بعضه؛ فالشاعر العظيم هو الذي يوفق في فنه إلى المعادلة بين نسب العاطفة والفكر والخيال والأسلوب والوزن، بحيث يحصل بينها التجاوب الموسيقي الذي ينسجم في القصيد انسجام النور والعطر والماء والهواء في الزهرة الجميلة اليانعة. والرسام العظيم هو الذي يوفق في الصورة إلى الموازنة الموسيقية بين الألوان والأضواء والظلال، والروح الفنية الشائعة في كل ذلك شيوع الضياء في السماء، وليقل مثل ذلك في بقية ضروب الفن وأصنافه.
وهو حياة موسيقية «مصطفاة»؛ لأن الفنان المخلص لفنه لا يعبر أو هو مكره على ألا يعبر بفنه إلا عن أرفع صور الحياة وأسماها، وعلى هذا فإن الشعر الرفيع حياة موسيقية مختارة تعبر عن نفسها في فن من الكلام. والموسيقى حياة موسيقية مختارة ترفرف بألحان مجنحة في جو منغم موزون، وكذلك يقال في سائر أنواع الفن. •••
Bilinmeyen sayfa