كتاب الطهارة قسم المياه
Sayfa 21
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة على خير خلقه محمد وآله الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
وبعد، فهذه أوراق سودتها روما لشكره على إفاضة الإنعام، وسميتها ب " ينابيع الأحكام في معرفة الحلال من الحرام "، وأسأله أن يتخذها من فضله ذخيرة لي في يوم القيام.
ينبوع الماء ينقسم عندهم إلى مطلق ومضاف، ثم المطلق إلى جار وغيره، ثم غير الجاري إلى غيث وغيره، ثم غير الغيث إلى بئر وغيرها، ثم غير البئر إلى كثير وغيره، ثم غير الكثير إلى سؤر وغيره.
و ظاهر أن غير السؤر إنما يلحقه البحث هنا باعتبار حكمه الوضعي المعبر عنه بالطهارة والنجاسة، وإن كان المقصود بالأصالة من ذلك البحث التوصل إلى الأحكام التكليفية المترتبة عليهما - حسبما قرر في محله - بخلاف السؤر الذي يبحث فيه هنا عن حكم تكليفي، من كراهة شربه أو مطلق استعماله وعدمها، وإن كان قد يلحقه البحث عن حكمه الوضعي أيضا استطرادا، كما في سؤر الكافر و أخويه.
وفي دخول المضاف في تقسيمات الأصحاب، أو ما عنون به باب الطهارة إن لم يكن هناك تقسيم صريحا وجهان: من أن اللفظ لا يتناول بظاهره إلا المطلق، فيكون
Sayfa 22
البحث عن غيره واردا من باب الاستطراد لعدم كونه فردا منه، ومن أن المضاف يلحقه أحكام مقصودة أصالة كغيره من الأقسام فيبعد كون البحث عنه استطرادا، و لازمه كونه داخلا في المقسم، أو ما عنون به الباب، وإن توقفت صحته على نحو تجوز في الإطلاق بإرادة عموم المجاز.
ولكن الذي يساعد عليه الإنصاف: أن هذا المقام مما يختلف فيه الحال باختلاف مشارب الأعلام، فمن تعرض منهم لذكره صريحا في أصل التقسيم أو العنوان كما في نافع المحقق (1)، فلا محيص من الحكم عليه بالتجوز واعتبار عموم المجاز، ومن أعرض منهم عن ذلك كما في شرايعه (2)، فليس الحكم عليه بارتكاب التجوز مما ينبغي.
و ما قررناه من الاستبعاد في منع الاستطراد لا يصلح بمجرده قرينة على العدول عن الأصل والظاهر، خصوصا مع ملاحظة أن الاستطراد ليس بعادم النظير، بل واقع في كافة المسائل والأبواب.
Sayfa 23
ينبوع كون الماء من أظهر المفاهيم تناولا وأشيعها عند العرف تداولا مما يغنينا عن التعرض لشرحه، بإيراد ما يتعلق به من الضوابط المعمولة في تشخيص الموضوعات، لغوية أم عرفية.
نعم، هو باعتبار وصف كونه مطلقا في مقابلة المضاف عبارة - على ما في كلام غير واحد من الأصحاب - عن كل ما يستحق إطلاق اسم الماء عليه من غير إضافة، على معنى كونه بحيث لو أطلق عليه الاسم بلا قيد ولا إضافة كان ذلك الإطلاق باعتبار استناده إلى الوضع اللغوي أو العرفي في محله، الذي يكشف عنه عدم اشتماله على الغرابة في لحاظ الاستعمال، ولا صحة سلب الاسم عنه في نظر العرف، وإن فرض وقوعه في بعض الأحيان مقرونا بالقيد والإضافة، فخرج عنه ماء الورد والعنب واللحم ونظراؤه، كما دخل فيه ماء البحر والكوز والملح وأشباهه.
ووضوح كون ذلك التفسير من مقولة التعريف اللفظي - المقصود منه تفسير اللفظ لخفاء مسماه بأظهر ما يرادفه مما علم فيه بذلك المسمى، كالأسد بالقياس إلى الليث مثلا، وعلى قياسه ما عليه طريقة نقلة متون اللغة في ذكر معاني الألفاظ - مما يدفع حزازة اشتماله على لفظة " الكل " جنسا؛ نظرا إلى أن الماهية لمكان البينونة بينها وبين الأفراد لا تعرف بما لا يدل إلا على الأفراد، وعلى لفظة " الماء " فصلا بملاحظة أدائه إلى الدور، المستحيل معه حصول المعرفة، فإن كل ذلك إنما يمنع عنه في التعاريف الحقيقية المعبر عنها بالحدود والرسوم، التفاتا إلى أن المقصود فيها الكشف عن الماهية والتوصل من معلوم تصوري تفصيلا إلى مجهوله، وهو مما لا يتأتى بما يباين الماهية
Sayfa 24
ولا بإعادة المعرف.
وبعبارة اخرى: التعريف اللفظي إنما يقصد به بيان ما يطلق عليه اللفظ في اصطلاح التخاطب ولو كان مجهولا باعتبار الماهية، وهو مما يتأتى بكل ما يوجبه، بخلاف الحد والرسم المقصود بهما بيان أصل الماهية وتمييزها عما عداها من الماهيات المردد فيها، فلا يتأتى بما يدل على الأفراد، ولا بلفظ المعرف أو مرادفه، وإنما اقتصروا في المقام على مجرد التعريف اللفظي بينها، على أن الفقيه لا يتعلق غرضه في التعاريف إلا بتحصيل ما هو من موضوع بحثه؛ لضابطة أن الأحكام تدور مدار الموضوعات [العرفية وذلك يحصل] (1) بالتعريف اللفظي أيضا؛ لكون موضوعات الأحكام منوطة بصدق الاسم عرفا أو لغة، ولذا تراهم يقتصرون في تحصيل الموضوعات اللغوية على مجرد ما ذكره أئمة اللغة، فالماء الذي علق عليه من الأحكام الشرعية - تكليفية ووضعية - ما لا يعد ولا يحصى ما يطلق عليه الاسم على جهة الاستحقاق، ويصدق عليه اللفظ عرفا على وجه يأبى عن سلبه.
فما علم فيه بذلك فلا إشكال في إجراء الأحكام عليه، كما أن ما علم فيه بخلاف ذلك فلا إشكال في عدم إجراء الأحكام عليه، بل في إجراء أحكام المضاف عليه.
وأما ما اشتبه حاله فيرجع فيه إلى الاصول، مثل أنه لو كان ذلك الاشتباه عن حالة سابقة معلومة من الإطلاق والإضافة، يلحق المشكوك فيه بأحد الأولين استصحابا لما كان عليه سابقا، من غير فرق بين ما لو كان الشك ناشيا عن زوال وصف، أو حدوثه مشابها بما هو من أوصاف الطرف المقابل، أو مشكوكا حاله.
ولو لم يكن عن حالة سابقة، فبالنسبة إلى انفعال نفسه بمجرد الملاقاة أو تطهره باتصال الكر أو الجاري ما دام الوصف باقيا يحكم بالعدم، مع تأمل في الأول يأتي وجهه في مباحث المضاف، كما أنه بالنسبة إلى رفعه الحدث أو الخبث عن غيره يحكم بالعدم؛ للأصل في كل منهما، مضافا إلى أن الشرط في مشروط بالماء ولو من جهة نذر معلق عليه مما لا يحرز بالشك، فسبيله من هذه الجهة سبيل المضاف، وإن لم يكن منه بحسب الواقع.
Sayfa 25
نعم، عند الشك في إباحة استعماله في غير مشروط بالماء من شرب ونحوه، كما لو دار بين الماء والمضافات النجسة كالخمر ونحوها، كان سبيله سبيل الماء، وإن لم يكن ماء في الواقع، من غير فرق في كل ذلك بين ما لو كانت الشبهة مصداقية، أو ناشئة عن الشك في الاندراج.
والفرق بينهما مع اشتراكهما في الشك في الصدق، أن الشبهة في الثاني تنشأ عن الجهل بتفصيل المسمى، وفي الأول تنشأ عن أمر خارج وجودي أو عدمي غير مناف للعلم بالمسمى تفصيلا.
وإن شئت فقل: إن الشك في الأول نظير الشك في الصغرى بعد إحراز الكبرى، وفي الثاني نظير الشك في الكبرى بعد إحراز الصغرى، والمراد بالكبرى المشكوك فيها ما كان محموله شيئا معلوم الوصف مشكوكا في كونه ماء، كالمياه الكبريتية والنفطية، وبالصغرى المشكوك فيها ما كان محموله شيئا مشتملا على وصف وجودي أو عدمي شبيه بوصف المضاف، مع العلم بكونه ماء على فرض عدم الوصف، كمايع فيه رائحة الجلاب، مشكوك في كونه جلابا في الواقع أو ماء قد اكتسب الرائحة بالمجاورة ونحوها، أو مايع ليس فيه رائحة الجلاب، مشكوك في كونه ماء أو جلابا زال رائحته لعارض.
ومحصله: أن الشك في الصورتين هنا راجع إلى كون الوصف الموجود من الوجودي أو العدمي أصليا، ليكون المايع جلابا في الصورة الاولى وماء في الصورة الثانية، أو عرضيا ليكون ماء في الصورة الاولى و جلابا في الصورة الثانية.
Sayfa 26
ينبوع الماء بعنوانه الكلي المتحقق في ضمن جميع الأقسام المتقدمة حتى ما كان منه مذابا من الثلج أو البرد أو كان ماء بحر، ما دام باقيا على خلقته الأصلية - بعدم مصادفة ما يوجب فيه سلب الإطلاق، أو التنجس والانفعال - طاهر في نفسه مطهر لغيره من حدث - وهو الحالة المانعة من الصلاة المتوقف رفعها على النية، أو ما كان منشأ لتلك الحالة من الأسباب الآتي تفاصيلها، فيراد برفعها رفع الأثر المتعقب لها المعبر عنه بالحالة المذكورة - وخبث - وهو نفس النجاسة التي تفارق عن الحدث بما ذكر فيه من القيد الأخير - خلافا في ماء البحر لسعيد بن المسيب (1) المانع من الوضوء به مع وجود الماء، وعبد الله بن عمر القائل: " بأن التيمم أحب إلي منه " على ما حكي عنهما (2)؛ فإن خلافهما - مع إمكان تأويله إلى ما لا ينافي ما ادعيناه من الكلية، بإرجاعه إلى شبهة في الموضوع، حصلت لهما على حد ما فرضناه في مشكوك الحال المردد بين كونه مطلقا أو مضافا - وإن كانت شبهة في مقابلة البديهة - مضافا إلى عدم كون المحكي عن الثاني صريحا في المخالفة، لجواز ابتناء كلامه على الاحتياط الغير اللازم، كما هو ظاهر التعبير ب " أحب "، وإن كان ذلك الاحتياط في غير محله - محجوج عليه بما ستسمعه
Sayfa 27
من الأدلة القاطعة، مضافا إلى قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حينما سئل عن الوضوء بماء البحر: " هو الطهور ماؤه، الحل ميتته " (١).
والدليل على الكلية المدعاة واضح، بعد ملاحظة الإجماع الضروري من العلماء كافة، ونقله على حد الاستفاضة المدعى كونها قريبة من التواتر الذي منه ما عن المعتبر (٢) والمنتهى (٣) وشرح الدروس للمحقق الخوانساري (٤)، ونقل كونه من ضروريات الدين عن المفاتيح (٥)، ولعله كذلك، بل مما لا يمكن الاسترابة فيه، والأخبار المتواترة معنا بل البالغة فوق التواتر بألف مرة الواردة في تطهير النجاسات وتعليم الطهارات، الآمرة بها وبتفاصيلها المتكفلة لبيان أجزائها وشروطها وموانعها وسائر ما اعتبر فيها.
وقد شاع عندهم الاستدلال من الكتاب العزيز بقوله عز من قائل: (وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به) (٦) وقوله الآخر: <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن-الكريم/25/48" target="_blank" title="الفرقان: 48">﴿وأنزلنا من السماء ماء طهورا﴾</a> (7) ولا كلام لأحد في دلالة الأول على المطهرية مطابقة والطهارة التزاما عرفيا بل عقليا؛ لا لأن فاقد الشئ لا يعقل معطيا له، فإن حكم التطهير مبني على التسبيب الشرعي [ولا يحكم العقل] (8) بامتناع أن يجعل الشارع شيئا غير طاهر سببا لتطهير الغير، كما في الأرض التي تطهر باطن النعل على القول بعدم اشتراط الطهارة فيها، ومثله ثلاثة أحجار الاستنجاء إن لم نقل باشتراط الطهارة فيها تعبدا، بل لأن الماء إذا كان نجسا فيسري نجاسته إلى المحل فلا يزيد فيه إلا نجاسة في نجاسة، ومعه لا يمكن التطهر.
نعم، ربما نوقش فيه بل وفي الثاني أولا: بمنع العموم في لفظة " الماء "؛ لكونها نكرة في الإثبات.
وثانيا: بعدم تناوله لمياه الأرض، فيكون الدليل أخص من المدعى.
Sayfa 28
ويمكن المناقشة أيضا بعدم تناوله رفع الحدث؛ لأن كونه تطهيرا إنما ثبت بالشرع، واللفظ الوارد في الخطاب إنما يحمل على ما يتداوله العرف و يساعد عليه اللغة.
ولكن دفعها بناء على القول بثبوت الحقيقة الشرعية فيه وفي لفظ " الطهارة " أيضا هين، وعلى القول بعدم ثبوتها فيه بالخصوص - كما هو الأرجح - بأن نقول: حمل اللفظ على المعنى العرفي اللغوي هنا لا يقدح في دخول رفع الحدث في مفهوم التطهير؛ فإن النظافة في مفهوم " الطهارة " لغة وعرفا في نظر العرف شئ وعند الشارع شئ آخر، ولعل بينهما عموما من وجه، فيكون الاختلاف بينهما إختلافا في المصداق دون المسمى، نظير ما لو اختلف زيد وعمرو - بعد اتفاقهما على أن لفظة " زيد " موضوعة لابن عمرو - في أن ابن عمرو هذا الرجل أو ذاك الرجل، فإذا حملنا التطهير الوارد في الآية على التنظيف بالمعنى الشامل لرفع الحدث والخبث معا، لم يكن منافيا لحمله على معناه العرفي اللغوي جدا.
وأجيب عن الأوليين: بأن ورود المطلق مورد الامتنان وإظهار الإنعام والإحسان مما يفيد العموم، فيمنع عن كون لفظة " الماء " حينئذ نكرة، بل هو اسم جنس منون، على حد ما في قول القائل: " في الدار رجل لا امرأة "، ومعه كان الحكم معلقا على الماهية الجنسية، فيسري إلى الأفراد قاطبة.
وأن مياه الأرض كلها من السماء، كما نطق به قوله تعالى: (وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون) (١)، وقوله تعالى: <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن- الكريم/39/21" target="_blank" title="الزمر: 21">﴿ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه﴾</a> (٢)، وقوله تعالى:
<a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن-الكريم/16/10" target="_blank" title="النحل: 10">﴿هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر - إلى قوله - ينبت لكم به الزرع﴾</a> (3).
وجه الاستدلال بالآية الاولى: أنها تقضي بذلك صدرا وذيلا.
أما الأول: فلكونه في معرض الامتنان، فلولا جميع مياه الأرض من السماء لما تأتي ذلك الغرض؛ لإمكان التعيش من الماء بما هو من أصل الأرض.
وأما الثاني: فلظهور قوله: (وإنا على ذهاب به لقادرون) (4) في إرادة التهديد على كفران النعمة، والعدول عن الطاعة إلى المعصية، فلولا إذهابه بماء السماء موجبا لخلو
Sayfa 29
الأرض عن الماء لما تأتي ذلك الغرض، هذا مضافا إلى ما عن القمي أنه روى في تفسيره عن الباقر (عليه السلام) أنه قال: " هي الأنهار و العيون و الآبار " (1).
وبالثانية والثالثة: أنهما واردان أيضا في معرض الامتنان، فلولا جميع ما في الأرض من الينابيع وما يحصل به الشراب والشجر والزرع والنبات منزلا من السماء من أصله - وإن كان نابعا فعلا من الأرض - لما أعطى الله سبحانه بكلامه الغرض حقه، بل كان الامتنان في غير محله، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
وربما يتأمل في دلالة الآيتين، أو هما مع ما تقدم من الرواية في تفسير الآية الاولى، كما أشار إليه في الرياض (2)، آمرا به بعدما أوردهما عقيب الرواية المذكورة.
ولعل وجهه قصور الجميع عن إفادة تمام المطلب؛ فإن أعظم مياه الأرض إنما هو ماء البحر، ولا دلالة في شئ من ذلك على كونه من السماء.
ويمكن دفعه: بأنه إنما يتجه لو لم يكن ماء البحر نابعا من الأرض، وإلا فيرجع إلى عنوان " العيون " الوارد في الرواية والآية الاولى من الأخيرتين - ولو من جهة أصله - ولعله الظاهر، أو بأن ماء البحر على ما يشاهد بالحس ما يجتمع فيه من الأنهار العظيمة المخرجة إليه عن العيون والأمطار والثلوج، فلا يكون خارجا عنها، أو بأن المطلب يتم بملاحظة عموم الامتنان أيضا، إذ لو كان ماء البحر من نفس الأرض لما احتاج العباد إلى مياه السماء، فيكون الامتنان واردا في غير محله. فتأمل (3).
نعم، هاهنا مناقشة اخرى واردة على الثاني خاصة، وهي: أن لفظة " طهور " لا تقضي إلا بوصف الطهارة، والعمدة في المقام إنما هو إثبات المطهرية، وأصل هذه المناقشة عن أبي حنيفة (4)، فإنه منع عن دلالة الآية على كون الماء مطهرا، ومستنده إما
Sayfa 30
ما حكاه في الرياض (1) والحدائق (2) من عدم جواز كون " طهور " على بابه من المبالغة في أمثاله؛ لأن المبالغة في " فعول " إنما هي بزيادة المعنى المصدري وشدته فيه، ك " أكول " و " ضروب "، وكون الماء مطهرا لغيره أمر خارج عن الطهارة - التي هي المعنى المصدري - فكيف يراد منه، بل هو حينئذ بمعنى الطاهر.
أو ما قرره الشيخ في التهذيب من: " أنه كيف يكون الطهور هو المطهر، واسم الفاعل منه غير متعد، وكل فعول ورد في كلام العرب متعديا لم يكن متعديا إلا وفاعله متعد، فإذا كان فاعله غير متعد ينبغي أن يحكم بأن فعوله غير متعد أيضا، ألا ترى أن قولهم: " ضروب " إنما كان متعديا لأن الضارب منه متعد، وإذا كان اسم الطاهر غير متعد يجب أن يكون الطهور أيضا غير متعد " (3).
ولا يذهب عليك: أن هذا لا يرجع إلى الوجه الأول، لأن مبناه على منع دعوى المبالغة في تلك اللفظة بخصوصها رأسا، بتوهم أنها مبنى الاستدلال على كون الماء مطهرا، ومحصله يرجع إلى أن المبالغة إنما هي للدلالة على الزيادة في أصل المعنى المصدري، وهذه الزيادة في خصوص تلك اللفظة إما أن تعتبر بالقياس إلى معنى الطهارة، أو بالقياس إلى معنى التطهير، ولا سبيل إلى شئ منهما.
وأما الأول: فلأن الطهارة في الماء لا تكون إلا على نمط واحد، فلا تقبل الزيادة والتكرار.
وأما الثاني: فلخروج معنى التطهير عما هو معنى مصدري لطهور، فلا يعقل منه الدلالة على المبالغة بالقياس إليه، بخلاف الوجه الثاني الذي مرجعه إلى منع كون المبالغة في تلك اللفظة بالقياس إلى المعنى المتعدي، وهو كما ترى لا ينافي كونها للمبالغة بالقياس إلى المعنى اللازم.
وملخصه: أن المبالغة بالقياس إلى ما عدا المعنى اللازم مبنية على كون " طهور " متعديا وهو باطل؛ لمكان التلازم فيما بين الفاعل و الفعول لغة في وصفي التعدية واللزوم، و " الطهور " إذا كان فاعله وهو " الطاهر " لازما - كما هو المسلم المتفق عليه - فكيف يمكن التفكيك بينهما بجعل " فعوله " متعديا، وهو كما ترى مما لا تعرض فيه
Sayfa 31
لمنع المبالغة بالقياس إلى المعنى اللازم.
فما ذكره الشيخ في دفع هذا الوجه من: أنه لا خلاف بين أهل النحو أن اسم " فعول " موضوع للمبالغة وتكرر الصفة، ألا ترى أنهم يقولون: " فلان ضارب "، ثم يقولون: " ضروب " إذا تكرر منه ذلك وكثر، وإذا كان كون الماء طاهرا ليس مما يتكرر ويتزايد، فينبغي أن يعتبر في إطلاق " الطهور " عليه غير ذلك، وليس بعد ذلك إلا أنه مطهر، ولو حملناه على ما حملنا عليه لفظة الفاعل لم تكن فيه زيادة فائدة (1)، ليس مما يتوجه إليه بل هو بظاهره أجنبي منه.
نعم، يتوجه إلى الوجه الأول الذي سمعته عن الرياض (2) والحدائق (3)، وكلام الشيخ (رحمه الله) خلو عن الإشارة إليه.
نعم، إنما يتوجه إليه ما قرره من العلاوة بقوله: " إن ما قاله السائل: إن كل اسم للفاعل إذا لم يكن متعديا فالفعول منه غير متعد فغلط أيضا، لأنا وجدنا كثيرا ما يعتبرون في أسماء المبالغة التعدية، وإن كان اسم الفاعل منه غير متعد، ألا ترى إلى قول الشاعر:
حتى شآها كليل موهنا عمل * باتت طرابا وبات الليل لم ينم (4) فعدى " كليل " إلى " موهنا " لما كان موضوعا للمبالغة، وإن كان اسم الفاعل منه غير متعد " (5) انتهى.
ثم، إن بعد الغض عما ذكرناه، فالذي يقتضيه التدبر ويساعد عليه النظر، ورود كل من الوجهين على خلاف التحقيق؛ لا لما قرره في المدارك (6) - كما عن صاحب المعالم (7) أيضا - في دفع الوجه الأول، من أن ذلك إثبات للغة بالاستدلال، وترجيح لها بالعقل، فإن ذلك أيضا وارد في غير محله؛ لما تنبه عليه في الحدائق (8)، وأشار إليه
Sayfa 32
في الرياض (1) أيضا، بل لابتنائهما على المغالطة والاشتباه من جهات اخر.
أما الأول منهما: فلعدم كون الخصم بصدد إنكار ورود صيغة " فعول " لغة للمبالغة، حتى يدفع كلامه بما ذكر من قضية عدم الخلاف بين أهل النحو في وضع " الفعول " لغة للمبالغة وتكرر الصفة، بل غرضه إنكار كون " طهور " بالخصوص مندرجا في " الفعول " بهذا المعنى، فحينئذ يتجه أن يقال: كما أنه لا خلاف بين أهل النحو في وضع " فعول " للمبالغة وتكرر الصفة، فكذلك لا خلاف بينهم في وضعه لمجرد الوصف قائما مقام الفاعل فيما كان من فعل يفعل بضم العين، على قياس ما هو الحال في الصفات المشبهة، فأي شئ يستدعي لحوق " طهور " بالأول دون الثاني؟ بل قضية ما أشرنا إليه من الضابط كونه من الفعول بمعنى الفاعل، لا مما هو مبالغة في الفاعل.
ومع الغض عن ذلك، فالعدول عن جعله للمبالغة في المعنى اللازم إلى جعله لها في المعنى المتعدي مما لا داعي إليه، بعد ملاحظة أن " الطهارة " باعتبار معناها اللغوي - وهو النظافة والنزاهة - مما يقبل الزيادة والشدة والضعف، كما يشير إليه ما عن الزمخشري من " أن الطهور: البليغ في الطهارة " (2)، وتنبه عليه صاحب المدارك أيضا فأشار إليه في دفع ما حكاه عن الشيخ من الوجه الأول، وقال: " وابتنائه على ثبوت الحقيقة الشرعية للمطهر على وجه يتناول الأمرين، فهو أولى مما ذكره الشيخ في التهذيب " - إلى قوله -: " لتوجه المنع إلى ذلك، وعدم ثبوت الوضع بالاستدلال " (3).
فإن قوله: " لتوجه المنع إلى ذلك "، مراد منه المنع عن عدم صلاحية " طهور " بغير المعنى المتعدي للتكرر والتزايد.
ووجهه: أن النظافة في الماء باعتبار الصفاء والكدورة، أو خلوصه عن الأوساخ والأقذار وعدمه، أو عن الأرياح النتنة والألوان المكرهة وعدمه لها مراتب، لأن كلا من ذلك قد يضعف وقد يتضاعف، وقد يقل وقد يتكثر على وجه ينشأ منه صحة إطلاق " فعول " للمبالغة في ذلك عرفا كما نشاهده بطريق الحس والعيان، وبذلك ينقدح أيضا
Sayfa 33
فساد الأول [الذي] (1) تقدم تقريره.
نعم، الطهارة بالمعنى الشرعي غير صالحة لهما، لعدم كونها متصورة إلا على نمط واحد، وكأن مبنى كلام الخصم على توهم إرادته، وهو كما ترى مما لا ضرورة في المقام دعت إلى اعتباره، إلا على تقدير ثبوت الحقيقة الشرعية في لفظ " الطهارة "، أو ثبوت القرينة على اعتباره مجازا على التقدير الآخر، وكلاهما ممنوعان.
ومع الغض عن ذلك أيضا فاعتبار المبالغة بالنسبة إلى المعنى اللغوي مما لا يكاد يعقل بعد فرض كون " طهور " أو " فعول " من المشتقات، لمكان كونه مخالفا للقياس وقانون الاشتقاق، فإن المشتق في تعديته ولزومه تابع لمأخذ اشتقاقه، والمفروض أنه لازم، وإلا كانت التعدية سارية في جميع التصاريف، وهو باطل ومخالف لضرورة العرف واللغة.
ودعوى أن كون الماء طاهرا مما لا يتكرر ولا يتزايد، فينبغي أن يعتبر المبالغة في كونه مطهرا.
يدفعها: أن هذا الاعتبار لابد وأن يثبت من الواضع، وهو ليس بثابت إن لم نقل بثبوت خلافه، بملاحظة كون الوضع في المشتقات نوعيا - على ما قرر في محله - فإن خصوص لفظ " طهور " ليس مما وضعه واضع اللغة، حتى يقال: بأنه إذا وضعه للمبالغة بدليل مثبت له فلا محالة اعتبر المبالغة في كون الماء.
مطهرا لعدم صلاحية ما عداه للتكرار والزيادة، بل الذي تصدى لوضعه الواضع إنما هو صيغة " فعول " مجردة عن خصوصيات المواد التي منها مادة " طهر "، و هذه الصيغة إنما تعتبر مفيدة لما وضعت له من المبالغة في كل مادة تكون صالحة للزيادة والتكرار، وقد فرضتم خلافه في مادة " طهر "، ومعه لا محيص عن اعتبار كون " طهور " من الفعول الموضوع للمعنى الوصفي، المعبر به عن الفاعل - حسبما أشرنا إليه - على حد ما يقال في أفعل التفضيل: من أنه يصاغ عن مادة قابلة للتفاضل، وأما ما ليس كذلك فالأفعل بالقياس إليه وصفي كما في أعمى ونحوه.
وما ذكرناه من أن الواضع لم يتصد لوضع " طهور " بخصوصه للمبالغة، لا ينافي ما
Sayfa 34
يأتي في كلام كثير من أهل اللغة من تفسير " الطهور " بالطاهر المطهر، أو المطهر فقط؛ لعدم ابتناء كلامهم على دعوى كونه من جهة المبالغة، كيف ولا إشارة في كلام [واحد منهم بذلك] (1) و إن سبق إلى بعض الأوهام كما ستعرفه، بل أقصى ما يقضي به نصهم إنما هو كون ذلك من مقتضى الوضع الشخصي الثابت له بإزاء المطهر، ولعله وضع عرفي محدث وارد على الوضع اللغوي النوعي، بل الالتزام به في تصحيح كلامهم مما لا محيص عنه عند التحقيق، كما ستعرفه.
ومن جميع ما قررناه ينقدح حينئذ فساد الوجه الثاني الذي ذكره الشيخ، فإن ما ذكره مخالف لقانون الاشتقاق، المقتضي لسراية مأخذ الاشتقاق في المشتق، المقتضية لكون المشتق تابعا لمأخذ اشتقاقه، حتى في التعدية واللزوم، ولزوم الفاعل دليل محكم وشاهد عدل على لزوم المأخذ، وهو ملازم للزوم المشتق الآخر وهو " فعول "، وإلا حصل التخلف، وهو كما ترى غير معقول.
وأما ما استشهد به من كثرة اعتبار التعدية في أسماء المبالغة وإن فرض الفاعل لازما، فليس مما يشهد له بكون " طهور " أيضا من هذا الباب، إن أراد به اعتبارها مطلقا ولو على سبيل التجوز؛ ضرورة أن ثبوت التجوز في موضع لقرينة دلت عليه لا يقضي بثبوته في سائر المواضع، ولا سيما في الموضوعات النوعية التي أشخاصها ألفاظ مستقلة في حد أنفسها تباين بعضها بعضا، فلا ينبغي مقايسة بعضها على بعض في وصفي الحقيقة والمجاز.
وإن أراد به اعتبارها على سبيل الحقيقة، فهو يخالف قانون الاشتقاق، مضافا إلى ما ثبت في المشتقات من الوضع النوعي، هذا مع ما في الاستشهاد بقول الشاعر من الغفلة عن حقيقة الحال.
أما أولا: فلتوجه المنع إلى كون " كليل " في الشعر المذكور متعديا، عاملا على المفعولية في " الموهن "، الذي هو عبارة عن ساعات الليل، أو نحو من نصفه، أو ما بعده بساعة، وإن توهمه سيبويه - على ما حكاه عنه الشارح الرضي (2) - فيما ادعاه من أن:
Sayfa 35
فاعلا إذا حول إلى " فعيل " أو " فعل " عمل، متمسكا بذلك الشعر، بل " الموهن " - على ما يساعد عليه الذوق، ونص عليه غير سيبويه - نصب على الظرفية متعلق ب " شأها " بمعنى ساقها، أو سبقها راجعا ضميره إلى " للاتن " وهي حمير الوحش، وعلى فرض كونه معمولا ل " كليل " فهو نصب على الظرفية أيضا، وهو على التقديرين لازم مراد منه العجز والتعب، اللذين اعتبرا وصفين للبرق الذي هو السائق.
غاية الأمر، استلزام ذلك مجازا في الإسناد، من باب الإسناد إلى السبب؛ نظرا إلى أنهما في الحقيقة وصفان للاتن، و إنما أسندا إلى " البرق " - الذي اريد من الكليل - لكونه سببا لهما فيها، نظير إطلاق " القاتل " على سبب القتل، وهذا كما ترى باب وسيع العرض يجري في فنون كثيرة، ولا سيما المقام الذي لابد فيه من اعتباره بملاحظة الفقرات الاخر الواردة فيه من باب المجاز في الإسناد، التي منها: إسناد السوق إلى " البرق " الذي لا يلائم إلا كونه من باب التسبيب؛ لعدم كون السوق بالقياس إليه من الأفعال المباشرية، ضرورة ابتناء المباشرة على الشعور والإرادة، وظاهر أن " البرق " ليس من ذوات الشعور والإرادة.
ومنها: إسناد البيتوتة إلى الليل، فإنها في الحقيقة وصف " للاتن " والليل ظرف له، فإسنادها إليه من باب الإسناد إلى الظرف.
ومنها: إسناد عدم النوم إليه، بناء على كون قوله: " لم ينم " عطفا على قوله: " بات " بإسقاط العاطف للضرورة، والتقريب ما تقدم.
هذا مضافا إلى أنه لولا إطلاق " الكليل " هنا من باب المجاز في الإسناد - حسبما قررناه - لزم على تقدير كونه متعديا مجازان:
أحدهما: ما يلزم منه فيه باعتبار المادة، من حيث إنه بالوضع الأصلي اللغوي من المواد اللازمة.
وثانيهما: ما يلزم منه في تعديته إلى " الموهن "، فإن الإعياء بمعنى الإعجاز و الإتعاب مما يقع في الحقيقة على " الاتن "، و " الموهن " ظرف لهما، فيكون الإسناد إليه من باب قولهم: " أتعبت يومك، وساهرت ليلتك "، ولا ريب أن المجاز الواحد أولى من مجازين.
وأما ثانيا: فلأن " الكليل " إذا كان متعديا فهو مبالغة في الفاعل بمعنى الفعل، وقضية
Sayfa 36
ذلك اعتبار التعدية في كل من " الفاعل " و " الفعيل "، وهو - مع أنه خلاف ما استشهد له - مما لا يجري في " الطهور " إذا فرض كونه مبالغة في الطاهر، إذ لم يقل أحد بكون " طاهر " بمعنى المطهر حتى في موضع الاستدلال.
وأما ثالثا: فلأن غاية ما هنالك، ثبوت استعمال على الوجه المذكور، ولعله في هذا الموضع وارد على سبيل المجاز، محافظة على القاعدة النحوية من " أن المفعول به لا يعمل فيه إلا المتعدي " ولا يلزم من ذلك اعتبار التجوز في كل " فعول " ورد مجردا عن القرينة، ونعم ما قال الشارح الرضي - [في نفي] (١) كون " الكليل " متعديا من المكل من -: " أنه لا استدلال بالمحتمل ولا سيما إذا كان بعيدا " (٢).
وبالجملة : هذه الكلمات مما لا ينبغي التفوه بها في منع الدليل المحكم المطابق للعرف واللغة، والقواعد المحكمة المتفق عليها.
نعم، لو كان منع كلام الخصم وهدم استدلاله مما لابد منه، فليقل: بمنع ابتناء الدلالة على كون الماء مطهرا على كون " طهور " في الآية مرادا منه المبالغة، وسند هذا المنع وجوه جمعناها عن كلام الأصحاب، وإن كان بعضها واضح الضعف:
منها: ما حكاه صاحب المصباح المنير، في عبارة محكية عنه عن بعض العلماء، أنه قال: " ويفهم من قوله: <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن-الكريم/25/48" target="_blank" title="الفرقان: 48">﴿وأنزلنا من السماء ماء طهورا﴾</a> (3) أنه طاهر في نفسه مطهر لغيره، لأن قوله: " ماء " يفهم منه أنه طاهر، لأنه ذكره في معرض الامتنان، ولا يكون ذلك إلا بما ينتفع به، فيكون طاهرا في نفسه، وقوله: " طهورا " يفهم منه صفة زائدة على الطهارة، وهي الطهورية " (4).
وقد يقال: بأن " الطهور " لو لم يرد منه المطهرية، بعد ما كانت الطهارة مفهومة من الماء بملاحظة الامتنان، كان ذكره عبثا تعالى الله عن ذلك.
وفيه: أن الامتنان وإن كان يقتضي كون الماء مما ينتفع به، إلا أن جهة الانتفاع به لا تنحصر فيما يقتضي الطهارة الشرعية، بالمعنى المقابل للنجاسة، بل له جهات اخر كثيرة
Sayfa 37
غير متوقفة على الطهارة بهذا المعنى، كسقي الدواب والبساتين والمزارع والأشجار واتخاذ الطين للأبنية والمساكن، ولو سلم فذكر الوصف بعده لا يقتضي كونه لصفة زائدة، غاية الأمر كونه - على تقدير إرادة الصفة المفهومة أولا - للتوضيح، وهو ليس مما يمنع عنه في الكلام، وإن كان الأصل الناشئ عن الغلبة يقتضي خلافه، وهذا الأصل كما ترى مما لا ينبغي إجراؤه في المقام، بعد ملاحظة دوران الأمر فيه بين الأخذ به أو الأخذ بأصالة الحقيقة بالنسبة إلى مادة " طهور "، فإن العدول عن الحقيقة يستدعي قرينة معتبرة، والأصل المذكور غير صالح لها.
هذا إذا كان انفهام المطهرية مبنيا على التجوز، وإلا - فمع أنه في حيز المنع - فأصالة الحقيقة كافية في إفادة الحكم المذكور عما ذكر من الوجه الاعتباري.
وأما ما عرفته من الزيادة، ففيه: أنه كلام فاسد قد هدمنا بنيانه في مباحث المفاهيم من فن الاصول (1)، فلا يعبأ به، والعجب عن شيخنا في الجواهر (2) أنه استوجه هذا الوجه.
ومنها: ما حكاه أو احتمله في المدارك، من أن " الطهور " في العربية على وجهين:
صفة، كقولك: " ماء طهور " أي طاهر، واسم غير صفة، ومعناه: ما يتطهر به، كالوضوء والوقود بفتح الواو فيهما لما يتوضؤ به ويوقد به، وإرادة المعنى الثاني هناك أولى، لأن الآية مسوقة في معرض الإنعام، فحمل الوصف فيها على الفرد الأكمل أولى وأنسب (3).
وفيه: - مع رجوعه إلى إثبات الحكم الشرعي بالاستحسان ومجرد الاعتبار العقليين، لحصول المقصود من الامتنان بمجرد الطهارة المقتضي للحمل على المعنى الوصفي - أن الحمل على المعنى الاسمي لا يستقيم إلا مع ارتكاب ضرب من التجوز، كما تنبه عليه غير واحد من الأصحاب، وهو تجريد اللفظ عما يدل على الذات المأخوذة في مفهومه، إذ لولاه لما صح الوصف به، وهذا التجوز كما ترى مما لا شاهد له في الكلام،
Sayfa 38
وما ذكر من الأولوية الاعتبارية بمجرده لا يصلح لذلك بعد قيام احتمال معنى غير موجب له، ومرجعه إلى أن الاحتمال ولو ساعد عليه الاعتبار لا يعارض أصالة الحقيقة.
وأما عدم جواز الوصف على المعنى الاسمي بدون التجرد، فقد يعلل: بكونه من جهة جمود اللفظ بهذا المعنى، وهو أيضا ليس بسديد؛ فإن أسماء الآلة يعد عندهم كأسماء المكان والزمان من المشتقات الاسمية، فكيف يلائمه الحكم على " الطهور " بالجمود.
فالأولى إرجاع ذلك إلى قاعدة التوقيف، نظرا إلى أن الأوضاع مجازية أو حقيقية، شخصية أو نوعية، إفرادية أو تركيبية، لا تتلقى إلا من الواضع، ومن الأوضاع النوعية التركيبية توصيف شئ بشئ في الكلام، وهذا مما لم يثبت في خصوص أسماء الآلة، كما أنه لم يثبت في أسماء الزمان والمكان، والذي يفصح عنه إنما هو الاستهجان العرفي فيما لو أخذ شئ من هذه وصفا بلا ارتكاب تجريد كما لا يخفى.
ثم العجب عن شيخ الحدائق (1) وسيد الرياض (2) أنهما تعرضا لذكر احتمال إرادة المعنى المذكور، وظاهرهما الارتضاء به ، بل ظاهر الثاني الاعتماد عليه، مع أنه تنبه على ابتناء ذلك على التأويل المذكور.
ومنها: ما يظهر عن المدارك (3) من ابتناء ذلك على ثبوت الحقيقة الشرعية في لفظ " طهور " للمطهر - كما أشرنا إليه آنفا - وظاهره أنه لا خصوصية للفظ " طهور " في تلك الدعوى، بل الحقيقة الشرعية لو كانت ثابتة فيه فإنما هو لثبوتها في مبدأ اشتقاقه وهو الطهارة، كما أشار إليه قبل ذلك عند شرح " الطهارة " لغة وشرعا، فقال - بعد ذكر معناها اللغوي -: " وقد استعملها الشارع في معنى آخر مناسب للمعنى اللغوي، مناسبة السبب للمسبب، وصار حقيقة عند الفقهاء، ولا يبعد كونه كذلك عند الشارع أيضا على تفصيل ذكرناه في محله " (4).
وهذه الدعوى في خصوص تلك اللفظة - بناء على القول بثبوت الحقيقة الشرعية -
Sayfa 39
وإن كانت خلافية، ولكنها في غاية الإشكال، وإن قلنا بها في غيرها؛ لعدم جريان الضابط - الذي قررناه في محله (1) - لإثبات الحقيقة الشرعية نوعا في خصوص هذه اللفظة؛ إذ لم يثبت من الشارع الاستعمال في معنى مغاير للمعنى اللغوي ولو مجازا، بل لو استعمله في المعنى اللغوي لم يكن منافيا للمعنى الشرعي، بل غاية ما حصل من الاختلاف بينهما هو الاختلاف في مصاديق هذا المعنى؛ فإن " النظافة " عند أهل اللغة تصدق على شئ، وعند الشارع على شئ آخر مغاير له كشف عنه الأدلة الخارجية، ولا ريب أن الاختلاف في المصداق لا يوجب الاختلاف في أصل المسمى - كما أشرنا إليه سابقا - فحينئذ لو وجدنا " الطهارة " مستعملة في كلام الشارع حملناها على " النظافة "، ثم نراجع الأدلة الشرعية في استعلام ما يصدق عليه " النظافة " عند الشارع، كما أنه لو وجدنا " المطهر " مستعملا في كلام الشارع حملناه على المنظف، فنراجع الأدلة الشرعية لمعرفة ما يصدق عليه " التنظيف " في نظر الشارع، ومعه لا داعي إلى التزام النقل الشرعي، كما هو لازم القول بثبوت الحقيقة الشرعية، مع كونه في حد ذاته مخالفا للأصل.
نعم، يمكن دعوى الحقيقة الشرعية في خصوص " طهور " بإزاء المطهر، لا لأجل ضابطنا المقرر في محله، بل بملاحظة كثرة ما استعمله الشارع في هذا المعنى، كما يكشف عنه روايات كثيرة.
منها: قوله (صلى الله عليه وآله): " جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا " (2).
ومنها: " أيما رجل من امتي أراد الصلاة فلم يجد ماء ووجد الأرض، لقد جعلت له مسجدا وطهورا " (3).
ومنها: قوله - وقد سئل عن الوضوء بماء البحر -: " هو الطهور ماؤه " (4).
ومنها: ما عن الصادق (عليه السلام) " كان بنوا إسرائيل إذا أصابتهم قطرة من بول، قرضوا لحومهم بالمقاريض، وقد وسع الله عليكم بما بين السماء والأرض، وجعل لكم الماء
Sayfa 40