Ey Kardeşlerim
يا إخوتي: قصائد مختارة من شعر أنجاريتي
Türler
لم يكونوا بعيدين تماما عن الصواب؛ فلم يكن مجرد صوت حي فحسب، وإنما حاول استعادة البراءة والرعشة الأولية، أو البدئية والحضور الشعري المنقى الخالص في «ديمومة» الشعور الحي واللغة المفارقة. (8) يمثل أنجاريتي نقطة تحول بارزة في الشعر الإيطالي الحديث، ويمكن القول بأنه هو الأب الشرعي الذي انحدر التجديد عنده وعند تلاميذه وزملائه الكثيرين من صلب رؤيته الجديدة للعالم والإنسان واللغة. هؤلاء الزملاء الذين ذكرتهم هم: مونتاله وبونتمبللي وسابا وكوازيمودو الذين اتهمهم النقاد في الأربعينيات بتكوين مدرسة الغموض أو الألغاز (الهيرميتزم)، وقامت - كما سبق القول - مجلات للدفاع عنهم وشرح غوامض شعرهم، أو للجهوم عليهم وعلى أنجاريتي بوجه خاص. كانت آذان القراء النقاد قبل عيونهم قد تعودت على الأشكال والقوالب التقليدية ذات الإيقاع المتجانس، والتراكيب المكتملة والمعاني المفهومة، واللغة المثقلة بالبلاغة والزخرفة والتكلف. ألفوا الاستماع إلى «الخطاب» الشعري الطنان الرنان عند جبرييل دانو نزيو (الذي راح يمجد البطولة والقوة، ويتغنى بالأساطير والأمجاد القومية الغابرة؛ مما جعله ركنا من أركان الفاشية الإيطالية التي أيدها بكل قوة، ودمرت البقية الباقية من مواهبه الأدبية قبل موته في سنة 1938م)، واعتادوا على الأشكال الكلاسيكية القديمة التي تصور شاعر كبير آخر، وهو جوسوي كاردوتشي (1835-1907م)، أن استلهام القيم الشكلية والجمالية والأخلاقية التي قامت عليها عند اليونان والرومان هي الكفيلة بإنقاذ التفكير والتعبير من التحلل والضعف الرومانسي، والإيذان بنهضة جديدة تعوض عن النهضة المفقودة. وفوجئ القراء والنقاد بقصائد أنجاريتي المتقطعة المبتورة، وأبياتها المتشذرة المتوحدة، كالصرخات المتكومة والرعشات العفوية، واختراق العدم أو الصمت لأنغامها المهموسة التي ترتفع وتسقط كأنوار السفن الغارقة، وتسطع وتخبو وتتجلى، ثم تتوارى في عمق البحر أو الليل الكوني ...
هكذا انطبع خاتم «الغموض» على شعر أنجاريتي ولم يزل يطبعه إلى اليوم. والغموض في الشعر الحديث، سواء عندنا أو عند غيرنا، مشكلة ضخمة وشائكة، وهي تحتاج لتناول مفصل لا يتسع له هذا المجال المحدود، ولكنها لا تعفينا في نفس الوقت من إبداء بعض الإشارات والملاحظات المجملة التي سبق أن توسعت في شرحها في مواضع أخرى.
7 (أ)
إن تجربة الشاعر الجديد أو المجدد تجربة جديدة، وهي تستلزم بالضرورة لغة جديدة، تقوم على نظرة مختلفة للوجود والإنسان والمكان والزمان، كما تعكس - في بنية الجملة وتركيب البيت والصورة والموسيقى - تفتت العالم وانهيار النظم التقليدية وقلق الإنسان المبدع وغربته ووحدته مع لغته ونفسه، (وسط عالم معاد، يحتشد دائما لاغتياله، ثم وضع الغار على رأسه والنياشين على صدره). (ب)
لا بد من التفرقة من ناحية بين الغموض الأصيل والغموض الزائف، ومن ناحية أخرى بين الغموض والتعقيد؛ إذ ليس كل الشعر المعقد غامضا، ولا كل الشعر الغامض معقدا. إن الشعر الحقيقي يتسم في جوهره ووفق طبيعته الأصيلة بالغموض، ولكن الغموض الزائف قد يأتي من عجز في اللغة أو الموهبة، وجهل الشاعر بتراثه بحجة تجاوزه أو اختراقه وإعلان القطيعة معه، واستخدام الأطر والأشكال الجديدة مع إفراغها من الروح والنظرة الجديدة. أما الغموض الأصيل، الغموض الكاشف فهو يرتبط كما قلت بالحقيقة الشعرية، ويرفع الحجاب عن سره المكشوف - على حد تعبير جوته في ديوانه الشرقي - لكل من يملك الصبر الكافي على قراءاته وإعادة قراءته، بل إبداعه إبداعا خاصا به. (ج)
الغموض لا يعني أبدا الإلغاز إلى حد السخف والتعقيد المتعمد والمقصود لذاته، أو للرغبة في صدم القارئ واستفزازه؛ فالغموض الأصيل له سحره، وله عند الشاعر الحقيقي ما يبرره في البوح أو الصمت في الصورة، أو الرؤية في الفكرة الشعرية ووحدة الشعور الأصيلة السابقة على التجسد في الكلمة، والنغمة داخل شكل معين أو بلا شكل، وبمنطق خاص أو بلا منطق ووراء المنطق. والأمر الحاسم هو التمكن والصدق؛ لأن كل ما ذكرناه يمكن أن يصبح في يد العاجزين ميدانا للألغاز والادعاء والشذوذ والنشوز المتعمد والسخف الممجوج، الذي يثير السخرية أو الرثاء. (د)
إن الشعر الأوروبي الجديد منذ عهد أعلامه المؤسسين لبنيته الجديدة (وهم بودلير ورامبو ومالارميه، بالإضافة إلى عدد كبير من عظام الشعراء التالين لهم، مثل فاليري وإليوت وألبرتي وجين وسان جون بيرس وغيرهم من «الأبولونيين» و«الديونيزيين»،
8
ومن «الرمزيين» و«السيرياليين» و«المستقبليين» ... إلخ) هذا الشعر يعتمد على السحر والإيحاد والإيماء، لا على المعنى المنطقي المفهوم أو البناء المعقول، وهو يحطم البنى التقليدية لتركيب البيت والجملة والوزن والموسيقى، بحيث يغلب الصمت على الكلام، والكتمان على الإفصاح، والهمس على الأصوات الجهيرة، والتقطع على التواصل، والتكثيف على التزيد، والمراوغة المستمرة بين التجلي والخفاء، والظهور والاحتجاب، والإضاءة والإظلام. لكأني بالشاعر الجديد يقدم لنا حطام العالم والنفس، وأشلاء اللغة والفكر، وهو يقول: هذا هو عالمكم، وهذه هي لغتكم، وعليكم أن تبنوها بأنفسكم، أو تتقبلوها وتتعايشوا معها بأمانة وشجاعة. (ه)
سيعرف القارئ من النظرة الأولى أن أشعار أنجاريتي تتميز بالتركيز «البرقي» التام، وأنها أشبه بشذرات وألحان لم تتم. الكلمة عنده شق أو صدع قصير للصمت، «مونادة» (أو كيان حي وجوهري وحيد بتعبير ليبنتز!) تقف وحيدة مرتعشة داخل عالم الأسرار الذي لا تكاد تلمسه إلا من بعيد، وفي لحظات باطنية خاطفة - صوفية أسطورية - وسط الصمت الذي لا يلبث أن يطبق عليها؛ لاستحالة القول أو لأنه لم يتبق شيء يمكن أن يقال أمام تجارب الألم والفقد والاغتراب. (و)
Bilinmeyen sayfa