Ey Kardeşlerim
يا إخوتي: قصائد مختارة من شعر أنجاريتي
Türler
لكن صرخاتي
تحفر نفسها،
كالصواعق
في الجرس الضعيف
للسماء،
ثم تتهاوى
وهي تغص بالقلق.
والمفارقة الكامنة في كل ما قلناه عن هذه المجموعة: أن مضمون قصائدها يناقض عنوانها، وهو الفرح. وإذا كان الشاعر - كما سبق - قد عدل العنوان الأصلي الذي ظهرت به في سنة 1919م، وهو: «فرحة الغرقى» (أو السفن الغريقة)، وركزه في الكلمة العسيرة الموحية، فإن الروح التي تسود المجموعة بأسرها هي روح الحرب التي جرفت معها «أنا» الشاعر في مستنقعها الدموي الموحل، وارتفعت لغة الشعر بالحرب؛ كحدث تاريخي لتصبح استعارة دالة على الزمن المدمر، والشعر المحطم الذي يعبر عنه ويرتفع به - كلما قلنا من قبل - في لغة شعرية تحولت بدورها إلى شذرات وشظايا وحطام منثور، أي: إلى أبنية لغوية وشعرية متكسرة مبتورة، كأنما هي أصداء وحيدة تتردد مكتومة في فضاء الصمت الكوني. (5) انتهت الحرب العالمية الأولى، وتحرك شوقه إلى باريس التي رجع إليها، وعقد قرانه على زوجته جان دوبوا، ثم عاد إلى روما في سنة 1921م، واستقر فيها وتولى العمل في وزارة الخارجية التي كلفته بالإشراف على تحرير مجلة، أو نشرة تصدر باللغة الفرنسية وتلخص الأحداث الثقافية والسياسية المهمة في كلا البلدين.
كان في هذه الأثناء قد حقق شهرة واسعة بعد صدور مجموعتيه السابقتي الذكر، وهما: «الميناء المدفون» (1916م)، و«فرحة الغرقى» (1919م) اللتين ظهرت بعدهما مجموعة أخرى رسخت دعائم شهرته، وهي: مجموعة «عاطفة الزمن» (1933م)، بجانب ظهور عدد من ترجماته الأولى التي شهدت على عبقريته اللغوية، مثل: ترجماته عن شكسبير وراسين ومالارميه وسان جون؛ بيرس وجونجورا. وانقسمت الآراء حوله واحتدم الصراع بين المتحمسين له والساخطين عليه، حتى أدى الأمر - كما ذكرت من قبل - إلى تأسيس مجلات للهجوم عليه أو للدفاع عنه. أما الشاعر نفسه الذي ثقلت عليه أعباء الأسرة فاضطر للعمل مراسلا صحفيا لإحدى الجرائد السيارة، وهي: جريدة الشعب (جاتزيتا دال بوبولو) التي تصدر في مدينة تورين، وأتاح له هذا العمل الصحفي فرصة السفر وكتابة التحقيقات والمقالات المتنوعة من الجنوب الإيطالي ومن معظم البلدان الأوروبية؛ مما ساعد من ناحية أخرى على تدعيم شهرته وذيوع اسمه مرتبطا بريادة حركة التجديد في الشعر الإيطالي بعد دانو نزيو (مات: 1938م)، وكاردوتشي (مات: 1907م). (6) واستجاب أنجاريتي في سنة 1936م للدعوة التي وجهتها إليه جامعة ساوباولو بالبرازيل؛ لتولي وظيفة أستاذ الأدب الإيطالي بها، وأقام الشاعر ست سنوات في مقر عمله الأكاديمي الجليل، حفلت فيما يبدو بصفاء المحبة ودفء المودة التي ربطت بينه وبين عدد كبير من الأدباء والأصدقاء والتلاميذ البرازيليين، الذين حافظوا على عهود الزمالة والأبوة حتى آخر أيامه، ولكن هذه الفترة نفسها كانت تخفي له سرا داميا لم يتكشف إلا بعد وقوع الكارثة؛ فقد فجع في وفاة ابنه أنطونيو الذي لم يكمل تسع سنوات من عمره، مما اضطره إلى الرجوع لروما، حيث بدأ في تدوين مجموعة قصائده أو بكائياته القاتمة في رثاء طفله الحبيب، تحت هذا العنوان الدال على كونها يوميات شعرية وهو: «يوم بيوم». وقد نشرت مع قصائد أخرى عن الحرب في سنة 1947م، تحت عنوان «الألم» (وتجد هذه القصيدة المؤثرة مع القصائد التي بين يديك) ...
رجع أنجاريتي إلى روما سنة 1942م، والحرب والخراب على أشدهما ليجدها في أسوأ أحوالها. صحيح أن جامعة روما دعته لتولي كرسي الأدب الإيطالي المعاصر الذي شغله حتى سنة رحيله، كما كرمته الأكاديمية الإيطالية بتعيينه عضوا فيها، وبدأت أشهر دور النشر الإيطالية - وهي دار موندا دوري - في نشر أعماله الكاملة في مجلدين يحملان هذا العنوان الدال على طبيعة إبداعه كله في الشعر والنثر على السواء، وهو «حياة إنسان»؛ غير أن كل صور التكريم والاحتفاء به لم تستطع أن تخفي عن عينيه ولا قلبه المأساة المتجددة التي تعيش فيها بلاده. كانت الجيوش الألمانية قد احتلت روما وجعلتها تركع تحت سياط الرعب النازي بدعوى الدفاع عنها وحمايتها من الحلفاء الذين أخذوا يستعدون لإنزال قواتهم على الشواطئ الإيطالية. ولا بد أن الشاعر قد اختزن أنهارا من الحزن في مستودع وجدانه على المصير الذي آلت إليه بلاده، على يد طاغيتها المهرج موسوليني وعصاباته الفاشية المهزومة (كان الشاعر في شبابه - فيما قرأت عنه في المراجع القليلة المتاحة - صديقا لموسوليني الذي كتب بنفسه مقدمة الطبعة الثانية لمجموعة قصائده الباكرة، وهي: «الميناء المدفون» التي ظهرت سنة 1923م، كما أن الشاعر أعلن في سنة 1933م تأييده الصريح للفاشية، قبل سفره إلى البرازيل بسنوات قليلة. ولست أدري، هل عضه الندم على موقفه، بعد أن رأى بعينيه وبصيرته ذل بلاده وإذلالها وخرابها؟! ولا أشك في أن ضميره استيقظ على خطئه الرهيب بعد أن عرف بنهاية صديقه السابق، الذي تدلى مشنوقا من فرع شجرة قبل نهاية الحرب بقليل). مهما يكن الأمر الذي لا يمكنني الحسم فيه، فإن عذابه تزايد مع عذاب بلاده وفقد أعز أصدقائه ، وتحولت الفرحة السابقة على الرغم من الحزن الذي كساها بضبابه، إلى الألم الذي جعله عنوانا لمرثياته السابقة الذكر لولده ولمصير بلاده وأحبابه في ليل الحرب المدلهم بالصواعق والرعود والزلازل. وصدر «الألم» سنة 1947م ليحفر - بلغة الشعر - أحزانه الشخصية مع أحزان وطنه وأهله وإخوته، ثم ظهرت مجموعته «الأرض العجوز» (1960م) التي سرعان ما لحقت بها «المحاورات والمداخلات» (1968م) التي تعبر جميعها عن أعمال الشيخوخة المتأخرة. وتدور حول موضوع الذاكرة التي تحاول أن تجعل من الماضي حاضرا، كما تتحول - على طريقة شاعرين من آبائه التراثيين، وهما: بتراركا (1304-1374م)، وليوباردي (1798-1837م) - إلى استعارة دالة على الكلمة الشعرية التي تنتزعها «اعترافات» الشاعر من مجرى الزمن المتدفق، لتضعها في المكان «الباطن» الذي يقول عنه «رلكة» بحق: «ما من مكان يا حبيبتي يتحقق فيه العالم إلا في الباطن ...» (7) سبق أن قلنا: إن كلمتي «حياة إنسان» مكتوبتان على غلاف كل مجموعات أنجاريتي الشعرية، بل لقد حرص على إثباتها على غلاف المجلدين الكبيرين، اللذين ضما لأول مرة طبعة أعماله الكاملة من أشعار وترجمات ومقالات ورسائل ومحاورات ومداخلات (وقد ظهرت بين عامي 1969 و1974م). هل نفهم من هذا أن كل ما يتركه الأديب وراءه هو في المحصلة النهائية نوع من السيرة الذاتية؟ إن الخلاف ليطول ويحتدم فيه الصراع بين من يفرقون بين السيرة الذاتية، أو قصة الحياة الشخصية وبين الأعمال الفنية الخالصة، لا سيما الأعمال الروائية. ولكن أليست هناك في أدبنا وآداب غيرنا من الأمم سير ذاتية خلدت على مر الزمان، وحققت الشروط الضرورية لما يمكن أن يدخل في نطاق الأدب والفن؟ ألا نجد عندنا وعند غيرنا سيرا ذاتية استطاع أصحابها أن يتجاوزوا الوقائع والأحداث الشخصية والتاريخية والمحلية، ويختاروا المواقف والتجارب التي تنبعث منها دلالات كلية ذات أبعاد وآفاق إنسانية وجمالية واجتماعية وسياسية عامة ؟ ألم نقرأ جميعا نماذج رائعة من هذه «السير» التي التحم فيها الصوت المنفرد للأديب مع الصوت العام لمجتمعه أو للبشر عموما، في سعيهم الدائب وكفاحهم اليائس؛ من أجل السعادة والحب والسلام والتقدم والمستقبل الأفضل والأعدل؟ ربما يكون هذا المعيار الأخير؛ أي: انطباق الخاص والعام ومقدرة الكاتب على تجاوز الزمني والنسبي والشخصي، والعلو به بلغة الفن إلى دلالات وأبعاد ورموز وصور حية وشاملة، أقول: ربما يكون هذا المعيار في تقديري المتواضع على الأقل هو الفيصل في الحكم على قيمة السيرة ومدى حظها من الفن الحقيقي. ومع ذلك ففي ظني أن الحد الشفاف سيبقى قائما بين ما نسميه سيرة وما نسميه رواية، وإن كان هذا الحد لم يمنع أبدا من أن تسمو بعض السير الذاتية إلى مصاف الأعمال الروائية العالمية.
Bilinmeyen sayfa