بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ـ[الوجوه والنظائر لأبي هلال العسكري (معتزلي)]ـ
المؤلف: أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعيد بن يحيى بن مهران العسكري (المتوفى: نحو ٣٩٥هـ)
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية - القاهرة -.
عدد الأجزاء: ١
أعده للشاملة/ أبو إبراهيم حسانين
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
_________
قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة:
يحتوي هذا الكتاب على اعتزاليات كثيرة، تبعا لمذهب المؤلف - غفر الله لنا له - وقد نبَّهنا عليها في مواضعها. فتأمَّلها.
كما توجد بالكتاب تصحيفات وأخطاء فاقت الحصر، تم تصويبها إلا مواضع يسيرة حال بيننا وبين تصويبها وجازة العبارة، وللأسف لم أجد أي جهد يذكر لمحقق الكتاب - سامحه الله - ولم يردَّ على شيء من اعتزاليات المؤلف.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية)
Bilinmeyen sayfa
مقدة المصنف
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وبهِ أسْتعينُ، وعَلَيه أتوكلُ
الحمدُ للَّه ذي النعمِ الجليلةِ والمِنَنِ الجزيلةِ، الداعي إلى الرشادِ، والهادِي إلى السدادِ، ذي الفَضْلِ الجسيمِ والإحسانِ العميمِ، الشاملِ لطفُه، الكريمِ عطفُه، الغالبِ سلطانُه، الواضحِ برهانُه، المتم نورَه: (وَلَو كرِه الْكافِرُونَ)، المعلي دينه ولو رغم المنافقون.
وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى، وبيده الآخرة والأولى، وما عنده خير وأبقى، لا يجلب الخير إلا بمعوته، ولا يدفع الضر إلا بمغوثته.
وأشهد أن محمدا عبده المجتبى ورسوله المرتضى، صلى الله عليه وعلى آله الذين اصطفى، وبعد،
فإنك - سددك الله - ذكرت أنك طالعت الكتب المصنفة في الوجوه والنظائر من كتاب الله جل ثناؤه، فوجدت فيها تأويلات تطرد على أصول أهل الحق من القائلين بالتوحيد والعدل.
فأردت أن يرد كل شيء منها إلى حقه، وألفيت في معانيها ما يدخل بعضه في بعض، فالتمست إيراد كل نوع منها على وجهه، وترخيت أن يكون ما تفرق منها مجموعا في كتاب واحد على وجه يقرب استخراج ما يراد منه عند الحاجة إليه، ويزاد عليه ما كان من جنه مما لم تتكلم فيه السلف.
فعملت كتابي هذا مشتملا على أنواع هذا الفن، محمولا على ما طلبت، ومسلوكا به طريق ما سألت، قد نفي اللبس عن جميعه، ويبين الصواب في صنوفه، وميزت وجوهه تمييزا صحيحا، وقسمت أبوابه تقسيما مليحا.
وذكر أصل كل كلمة منه واشتقاقها في العربية؛ لتكثر فائدتك به، ونظم على نسق حروف المعجم؛ ليتيسر الوصول إلى المطلوب من أنواعه، ويتسهل نيل ما ينبغي من أصنافه.
1 / 25
فابتدئ منه بما كان في أوله ألف أصلية أو زائدة، ثم بما كان في أوله باء، ثم كذلك إلى آخر الحروف.
والله المعين على ما فيه رضاه، وهو حسبنا ونعم الحسيب.
1 / 26
الباب الأول
في ما جاء من الوجوه والنظائر في أوله ألف إمام
قال - الشيخ أبو هلال الحسن بن عبد اللَّه بن هلال ﵀:
الإمَام أصله القصد.
1 / 27
وسمي الإمام إماما؛ لأنك تقصد قصده في أفعاله.
وقيل للخليفة: إمام؛ لأنك تقصد قصد أوامره، أو لأنه يتقدم، فتتبع أثره.
والطريق: إمام؛ لأنه يقصد. وقد أممت، إذا قصدت.
وأصل التيمم: التأمم، وهو تفعل من ذلك. وأمر أمم: قصد، وهو ما بين القريب والبعيد.
وأم الشيء: أصله، ترجع إلى هذا؛ لأن كل من يريد الشيء فإنما يقصد أصله، فيبتدئ به في أكثر الحال.
وأم الدماغ: الجلدة الرقيقة التي تجمعه.
وسميت الأم أما؛ لأن ولدها يتبعها.
وسميت سورة الحمد: أم الكتاب؛ لأنها تتقدم الكتاب، فهو تابع لها كما يتبع الولد أمه.
والإمام في القرآن على أربعة أوجه:
أولها: بمعنى القائد، قال الله تعالى: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا)، أي: قائدا في الخير مقتدى بك.
1 / 28
والجعل هاهنا بمعنى القضاء، أي: قاض لك بالتقدم على الناس بالنبوة ليقتدوا بك،: (قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي)، يجوز أن يكون سؤالا: (أن يجعل من ذريته أنبياء، ويجور أن يكون استخبارا، فقال: (قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)، أيِ: - ينال عهدي المؤمنين من ذريتك دون الظالمين لأنفسهم.
والعهد هاهنا: النبوة والوحي، وقيل: الرحمة، وقيل: الوعد، والأول الوجه.
ْ .. ومثله: (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا)، أي: الطُف بنا حتى
نصير من التقوى والصلاح بحيث يقتدي بنا المتقون. ويجوز أن يكون المعنى: حتى نكون يوم القيامة في أئمة المتقين نتقدمهم في المضي إلى الجنة ويتبعوننا.
وقال: إماما،، وأراد أئمة، سمَّاهم بالمصدر.
أمَّ يؤم إماما وإمامة، كما تقول: جل جلالا وجلالة، ومثله: الكتاب والكتابة، وقيل: معناه: اجعلنا للمقين بالائتمام بهم، أي: اجعلنا أتباعا لهم.
ونحوه قوله تعالى: (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً)،، يعني: التوراة يقتدى بها.
الثاني: الكتاب، قال الله تعالى: (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ)، أي: بكتابهم الذي فيه أعمالهم. وقيل: بداعيهم الذي دعاهم إلى الهدى أو الضلالة. وقيل بدينهم.
الثالث: قوله تعالى: (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ)، يعني: اللوح المحفوظ، والشاهد قوله: (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ)، أي: نكتب ما سلف من أعمالهم، وما أثروه في الدنيا من سنن الخير أو الشر، ثم قال: (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) أي: وكتبنا كل شيء في اللوح المحفوظ؛ لتعتبر الملائكة بما يكون من ذلك لأوقاته، لا لمخافة النسيان؛ لأن النسيان لا يجوز على الله.
1 / 29
الرابع: الطريق، قال الله تعالى: (وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ). أي: بطريق واضح تمرون عليها في أسفاركم، يعني: القريتين المهلكتين؛ قرية قوم - لوط وأصحاب الأيكة.
1 / 30
الأمة
راجعة إلى القصد، وهي: الجماعة التي تقصد الأمر بتضافر وتعاون. وقولنا: أمة محمد ﷺ، معناه: الجماعة القاصدة لتصديقه، المتفقة في أصول دينه، وإن اختلفت في الفروع.
ويجوز أن يكون أصل الكلمة الجمع. فقيل للرجل: (أمة؛ لأنه يسد مسد الجماعة.
والإمام: إمام؛ لاجتماع القوم عليه. والأم؛ لجمعها أمر الولد.
- والأمة: الدهر؛ لأنَّهَا جماعة شهور وأعوام، وهو قوله: (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ). وقيل: يريد بعد حين أمة فحذف.
وأمه: إذا قصد الاجتماع معه. وفلان حسن الأمة، أي: القامة؛ وذلك لاجتماع خلقه عل الاستواء.
والأمي: قيل: عن الأمة الجماعة، أي: على أصل ما عليه الأمة، وقيل: هو من الأم. وهي في القرآن على عشرة أوجه:
1 / 31
أولها؛ الجماعة، قال الله تعالى: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ)، أي: جماعة، ومثله: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ)، وقوْله تعالى: (أُمَّةٌ قَائِمَةٌ)، وقوله: (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ)، وقوله: (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ).
الثاني: الملة، قال الله تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً).
يعني: (أهل أمة واحدة، أي: ملة؛ فحذف لبيان المعنى، كما قال: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ).
وسُمِّيتْ الملة أمة؛ لاجتماع أهلها عليها، ويجوز أن يقال: إنها سميت أمة؛ لأنَّهَا تقصد وتتبع.
والمراد أن الناس كانوا على الكفر فيما بين آدم ونوح، أو ما بين نوح وإبراهيم، فبعث الله النبيين ﵈ بالأوامر والنواهي والبشارات والزواجر،: (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ): - الذي فيه الحق؛ لكون فصلا بين المختلفين بما فيه من التمييز بين الصواب والخطأ، وهو مثل قولك: ذهب به، وخرج به، وما أشبهه.
1 / 32
الثالث: أهل الإسلام بعينه، قال الله تعالى: (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا)، يعني:. حالهم على عهد آدم، وما كانوا عليه في سفية نوح. ومثله: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً)، ومثله في المائدة، أي: لو شاء الله لجعلكم متفقين على الإسلام قهرا، كما قال تعالى: (فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ).
الرابع: قوله: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً). أي: ملتكم، فهي هاهنا الملة بعينها، وفي الأول: الجماعة المتفقة على الملة الواحدة كما بينا.
قال الزجاج: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً): (أُمَّتُكُمْ)، رفع؛ لأنه خبر هذه، المعنى: (أن هذه أمتكم في حال اجتماعها على الحق، فإذا افترقت فليس من خالف الحق داخلا فيها، فنصب: (أُمَّةً وَاحِدَةً) على الحال.
وقرئ: (أمة واحدة) على أنها خبر بعد خبر، ومعناه: إن هذه أمة واحدة [ليست أمما]، ويجوز أن يكون نصب: (أمتكُم)، على التوكيد كأنه قال: إن أمتكم كلها أمة واحدة.
الخامس: قوله تعالى: (وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ). يعني: سنين.
ومثله قوله تعالى: (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ). أي: بعد حين ..
وسمي الحين أمة؛ لأنه جماعة أوقات وشهور. وقيل: هو على حذف: (أي: بعد حين أمة، أي: جماعة.
1 / 33
وقرئ: بعد أمه، أي: بعد نسيان. وقيل: (إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ)، أي: جماعة معدودة، بأنه ليس فيها من يؤمن، فإذا صارت كذلك أهلكت بالعذاب.
السادس: قوله ئعالى: (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ)، يعني: قوما يكونون أربى من قوم؛ أيْ: (أكثر عددا، ومنه الربا؛ لأنه زيادة في أصل المال.
ومثله (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا). أراد أنه جعل لكل أمة من الأمم التي خلت فيها الرسل مَنْسَكًا؛ وهو الذبائح التي كان أمرهم أن يتقربوا بها إلى الله - ونتكلم في ذلك فيما بعد إنْ شاء الله - ولم يرد جميع الأمم؛ لأنه لم يجعل للمجوس وعباد الأصنام مناسك.
السابع: الإمام، قال الله تعالى: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ).
أي.: إماما يقتدى به في الخير.
وقيل الأمة الرجل العظيم، وسمي بذلك؛ لأنه يؤم في الحوائج؛ أي: يقصد.
1 / 34
الثامن: أمة كل رسول؛ يعني: من بعث إليه الرسل من أمثال عاد، وثمود، وقوم لوط " وهو قوله تعالى: (مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا)؛. يعني: من هذه الأمم لم تبق أجلها في العذاب.
وقوله تعالى: (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ). يعني: الأمة من هذه الأمم؛ لأن الفرس والسند والهند والزنج أمم ولم يبعث فيها نذير، وإنما كانوا متعبدين بتصديق من بعث في غيرهم من الأنبياء، " على حسب ما يعبدوا بتصديق محمد ﷺ، ولم يعت فيهم.
التاسع: قوله: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ).
يعني: أمة محمد ﷺ خاصة.
وقوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا). أي: عدلا.
وهو من واسطة القلادة، وليس من قولهم: هذا شيء وسط. إذا كان بين العالي والمنحط، ومنه قول النبي ﷺ: " أنا أوسط قريش نسبا ".
وله وجه آخر: وهو أن الوسط: العدل، وسمي بذلك؛ لأنه بين غلو الغالي وتقصير المقصر.
1 / 35
ومعنى الآية على هذا: إنكم لم تغلوا في الأنبياء. كغلو النصارى في عيسى، إذ قالوا: إنه إله. ولم تقصروا فيهم تقصير اليهود؛ إذ قالوا: إنه كذاب.
ومن الأول قولهم: فلان وسيط في حسبه، أي: هو الكامل المتناهي.
وفي الآية دليل على أن الأمة لا تجتمع على الباطل.
والوسط بالإسكان: الموضع.
والوسط بالتحريك: ما بين طرفي كل شيء، وأصل الكلمة العدل، فالمكان لا يمتد إلى المسافة إلى أطرافه.
والرجل الأوسط في قومه: الذي تكللُه الشرف من نواحيه.
العاشر: قوله تعالى: (كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا).
يعنى: الكفار من أمة محمد ﷺ، وقد تقدم ذكر الأمم والرسل في القرآن، فعطف قوله: (كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ). على أولئك الرسل، فكأنه قال: كما أرسلنا إلى أمم رسلا من قبل أرسلناك إلى أمة، يعنى: هذه الأمة، و: (خَلَتْ) أي: مضت ولم تبق منهم باقية.
وفي هذا التزهيد في الدنيا والحث على الاعتبار بمن سلف. ثم قال: (لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ). أي: لتتلوه عليهم وتدعوهم إلى العمل به فحذف ذلك.
وقوله: (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ) موصول بقوله (أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ). الكفر بالرحمن دينهم.
والأصل في هذا كله واحد إلا أن موضع الاستعمال يختلف.
1 / 36
وهاهنا وجه آخر، وهو قوله: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ). لما جعلها أمثالهم في الخلق والموت والبعث جعلها أمما.
1 / 37
الأخذ
أصله: الجمع، ومنه يقال للموضع الذي مجتمع فيه ماء السماء: الأخذ، والجمع إخاذ، ويقال له؛ وخذ - أيضا، ويقال: ولي على الشام وما أخذ إخذه؛ أي: اجتمع مع أعماله. ومآخذ الطير: مصائدها؛ لأنَّهَا تجتمع فيها، والاتخاذ: أخذ الشيء لأمر يستمر.
واستعمل في القرآن على ستة أوجه:
أولها: القبول، قال اللَّه تعالى: (إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ). أي: اقبلوه. وقوله: (وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ)، أي: يقبلها، ومعنى قبوله لها إثابته عليها. وقوله تعالى: (وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا). أي: لا يقبل منها فدية، والعدل: الفدية، وسنذكره إن شاء الله.
ومثله قوله: (خُذِ الْعَفْوَ). أي: اقبل الفضل من أموالهم.
1 / 38
قال ابن عبَّاس: العفو ما عفا من أموالهم؛ وهو الفضل منها بعد الكل والعيال، ثم نزلت آية الزكاة، وهو قول مقاتل:
وقال الحسَن ومجاهد: أمر النبي ﷺ أن نأخذ العفو من أخلاق الناس.
والعفو هو التيسير والتسهيل، والمعنى: استعمال العفو، وقبول ما سهل من الأخلاق، وترك الاستقصاء في المعاملات، وقبول العذر من المذنب، وإلى نحو هذا ذهب أبو علي ﵁
وقال بعضهم: خذ ما أتاك عفوا من إيمان قومك وغيرهم، وينبغي أن يكون هنا قبل فرض السيف.
وقوله: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ). أي: اقبلوه واعملوا به.
الثاني: الحبس، قال اللَّه تعالى: (فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ). أي: احبس،: (قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ). أي: نحبس، ومثله: (مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ). وذلك أنه إذا حبس فقد حصل محصل الأسير، والأسير، يقال له: الأخيذ.
الثالث: العقاب، قال اللَّه تعالى: (فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ). أي: عاقبتهم. وقوله: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى). أي: عقابه. وقوله: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ). أي: عاقبنا، وفي هذا دليل على أن من لم يفعل ما وجب عليه فقد فعل ذنبا.
الرابع: القتل، قال الله تعالى: (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ). أي: ليقتلوه. كذا قيل، والصواب: ليتمكنوا منه، فإما أن يقتلوه، أو يخرجوه، أو يحبسوه، وذلك أن ما أخذته فقد تمكنت منه.
1 / 40
الخامس: الأسر، قال الله تعالى: (وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ). أي: أسروهم واحبسوهم عن وجوههم فإن أسلموا وإلا فاقتلوهم، وإنما أمر بقتلهم وأسرهم وحبسهم ليخافوا النكال فيؤمنوا.
والأشهر الحرم في هذه الآية: رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم؛ فواحد منها فرد، وثلاثة متوالية، وليست هذه الأشهر الأربعة المذكورة في قوله تعالى: (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ). لأن آخر تلك انقضاء عشر من شهر ربيع الأول، وانقضاء الأشهر الحرم انقضاء المحرم والأربعة الأشهر الأولى، وهي أشهر العهد، والكلام في هذا طويل ليس ذا موضع ذكره.
السادس: الإصابة بالمكروه، قال. اللَّه تعالى (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ).
كذا قيل، والصحيح أنه بمعنى الإهلاك؛ أي أهلكتهم هذه الصيحة، ويجوز أن يكون نظير قوله: (فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ)؛ لأن الصيحة عقاب.
1 / 41
الاعتداء
أصله تجاوز الحد، ومنه قيل عداء جاوزه إذا جاوز قدره، وسمي العدو عدوا لتجاوز حد السعي والمشي، ويجوز أن يكون أصله من الميل، ومنه قيل: عدوة الوادي وهي جانبه، وفي القرآن: (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى).
1 / 42
ومن ذلك قيل: العلو لميله عمن يعاديه، وسمي الظلم اعتداء؛ لأنه ميل عن الحق، كما سمي جورا؛ لأنه ميل.
وهو في القرآن على وجهين:
أولهما: التجاوز، قال الله تعالى: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا). أي: لا تجاوزوها إلى غيرها،: (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ)، أي: يتجاوزها، ومثله: (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ).
الثاني: الظلم، قال اللَّه تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ). أي: فمن ظلمكم فجازر. بظلمه، سمي الجزاء على الظلم ظلما.
قال الشاعر:
ألَا لَا يجهَلَن أحَدْعَلينَا ... فنجهَلُ فَوقَ جَهلِ الجاهِلِينَا
لم يفتخر هنا الشاعر بالجهل وإنما أراد الجزاء على الجهل.
والجهل هاهنا: ركون الرأس في السر، وليس هو ضد العلم.
وأول الآية: (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ).
والمعنى: أن المشركين سألوا النبي ﷺ عن القتال في الشهر الحرام، فأنزل اللَّه: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ).
فأرادوا أن يغزوه في الشهر الحرام طمعا أن تكف عنهم فسألوا منه، فأنزل الله: (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ): إن استحلوا منك في الشهر الحرام شيئا فاستحل منهم مثله فيه، وأكد ذلك بقوله: (وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ). أي: لا يجوز ذلك بالمسلمين إلا قصاصا. ثم قال: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ). والمعنى: إنهم إن اعتدوا فقاتلوكم في الشهر الحرام فلا تقصروا عن قتالهم فيه، فيكون الاعتداء من المشركين الظلم، ومن المسلمين الانتقام.
1 / 43
وقوله: (فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ). أي: فمن قَبِل الدية ثم قتل فله العذاب؛ لأنه ظالم. وفي قوله تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ). دليل على أن الحر يقتل بالعبد؛ لأن من قتل وليه فقد اعتدى عليه.
1 / 44