الإهداء
الجزء الأول: مدخل إلى عالم باول تيليش
1 - الالتقاء بين الوجودية والدين
2 - ما هي الفلسفة الوجودية؟
الجزء الثاني: مصادر فلسفة تيليش، النماء، والثمرة
3 - سيرة تيليش: تطوره الفكري وتشكل الأطر
4 - أعماله
5 - تحديث اللاهوت
الجزء الثالث: فلسفة تيليش: اللاهوت والوجودية
6 - تعامد القطبين: اللاهوت والفلسفة
7 - الوجودية الدينية
8 - المتعالي ... القصي
9 - اللاهوت الحضاري
الإهداء
الجزء الأول: مدخل إلى عالم باول تيليش
1 - الالتقاء بين الوجودية والدين
2 - ما هي الفلسفة الوجودية؟
الجزء الثاني: مصادر فلسفة تيليش، النماء، والثمرة
3 - سيرة تيليش: تطوره الفكري وتشكل الأطر
4 - أعماله
5 - تحديث اللاهوت
الجزء الثالث: فلسفة تيليش: اللاهوت والوجودية
6 - تعامد القطبين: اللاهوت والفلسفة
7 - الوجودية الدينية
8 - المتعالي ... القصي
9 - اللاهوت الحضاري
الوجودية الدينية
الوجودية الدينية
دراسة في فلسفة باول تيليش
تأليف
يمنى طريف الخولي
الإهداء
إلى الإنجيليين الأقباط ... والإخوة الأعزاء بالهيئة الإنجيلية القبطية للخدمات الاجتماعية، مودة وتقديرا لأنشطتها الثقافية الجادة.
ي. ط.
الفلسفة الوجودية تطرح بصورة جديدة وجذرية،
تساؤلات ... إجاباتها معطاة في الإيمان بالدين.
57
مقدمة
اللاهوت الوجودي
بقلم أ.د. حسن حنفي
كان مصير اللاهوت دائما معلقا بتاريخ المذاهب الفلسفية، يتغير بتغيرها. فعندما نشأت الفلسفات الحسية والتجريبية والطبيعية نشأ اللاهوت الطبيعي عند بالي وهيوم، وبعد نشأة المذاهب العقلانية الكبرى نشأ اللاهوت العقلي عند فولف وليبنتز وكانط.
وعندما ظهر الطريق الثالث في الفلسفة بين هذين التيارين المتعارضين اللذين جعلا الوعي الأوروبي أشبه بالفم المفتوح؛ أي طريق فلسفات الحياة والظاهريات وفلسفة الوجود، ظهر اللاهوت الوجودي عند فروم وتيليش وبارت وبولتمان، يرتبط بالإنسان، وليس بالله، ويحلل الوجود الإنساني في أبعاده المختلفة من هم وقلق وموت ويأس وأمل وزمان وجسم. ومنذ فيورباخ في «جوهر المسيحية» لم يعد اللاهوت «علم الله»، بل تحول إلى «علم الإنسان»، وتحول الموقف الزائف المغترب في الدين إلى موقف شرعي أصيل. فالله هو أعز ما لدى الإنسان، جوهره وماهيته، يقذفها الإنسان خارجا بدلا من أن يبقى فيه فينشأ اللاهوت المزيف المغترب القديم، أو يسترده الإنسان فينشأ اللاهوت الإنساني الوجودي الشرعي الأصيل.
وقد ساهم اللاهوت البروتستانتي في بلورة اللاهوت الوجودي أكثر من اللاهوت الكاثوليكي، وذلك منذ أن ربط لوثر بين الحقيقة الدينية والإيمان الشخصي في اللحظة وليس في التاريخ. فالإيمان علاقة رأسية بين الله والإنسان، وليس علاقة أفقية بين المسيح والكنيسة. فالإيمان شخصي وليس تاريخيا، والوحي في الكتاب وليس في التراث الكنسي. ويتم الخلاص بالإيمان وحده - التقوى الباطنية، وليس بالأعمال - أفعال الشريعة والمظاهر الخارجية.
وهنا تبدو الوجودية عند تيليش وبارت وبولتمان وجوجارتن وياسبرز ومارسيل وبيرديائيف وشستوف وروبنسون فلسفة إيمانية، بالرغم من أنها تركز على الوجود الإنساني، كما هو الحال في «لاهوت الأزمة» و«لاهوت الألم». وكما هو الحال في الوجودية، السؤال أهم من الجواب ووصف الأزمة أهم من حلها. ولا فرق بين وجودية مؤمنة من نوع وجودية تيليش، ووجودية أخرى عند نيتشه وهيدجر وسارتر لا تشير إلى البعد الإيماني صراحة، وإن كانت البدائل المطلقة موجودة، مثل: إرادة القوة والإنسان المتميز والحياة عند نيتشه، والوجود العام والزمان عند هيدجر، والحرية والعدم عند سارتر.
ولأول مرة في اللغة العربية تظهر هذه الدراسة، في فلسفة بول تيليش بعنوان: الوجودية الدينية عن اللاهوت الوجودي، في مجتمع ما زال يعلن أن اللاهوت علم مقدس ثابت لا يتغير، وأن الوجودية كفر وإلحاد وإنكار الدين والإيمان، وما زال يظن أن الحديث عن الوجود الإنساني دون ذكر الله صراحة أو البداية به أقرب إلى العلمانية الغربية منه إلى الإيمان الإسلامي، بالرغم مما قاله الصوفية من المقارنة بين الله والإنسان الكامل، وبالرغم مما ورد في الأثر الفلسفة الوجودية تطرد بصورةمن أن الله خلق الإنسان على صورته ومثاله.
وهي دراسة عامة وشاملة، تبدأ بمدخل إلى عالم بول تيليش، وتبين الالتقاء بين الوجودية والدين، وأن الوحي ليس فقط إجابة على أسئلة نظرية، بل يقدم أيضا حلولا لمشاكل عملية متجاوزا الوجودية الخالصة التي تقوم على التساؤل. ثم تعرض الدراسة لأهم ملامح الفلسفة الوجودية، مثل رفض الأنساق الفلسفية التي تقوم على الماهية، والتركيز على أبعاد الوجود الإنساني، مثل الفردية والذاتية والوجود الأصيل، والحرية الإنسانية، والموقف، والمسئولية والالتزام، مع بعض الاستطراد قبل الدخول في الوجودية الدينية عند تيليش.
كما تؤصل الدراسة اللاهوت الوجودي عند أوغسطين، والمعلم إيكارت، ويعقوب بوهمه، دون ذكر كبار الصوفية في العصر الوسيط، مثل القديسة تيريز من أفيلا، والقديسة كاترين من جنوا، والقديسة كاترين من سين. كما تؤصله عند بعص الفلاسفة المحدثين مثل بسكال ومين دي بيران، أو الذين يعطون الأولوية للتجربة الحية السابقة على التفكير. وقد كان سقراط من قبل إماما للجميع.
وتعرض الدراسة لمصادر فكر تيليش، ابتداء من عرض سيرة حياته وتطوره الفكري، وتأثره بشلنج الذي كانت فلسفته أيضا تحويلا للدين - في «مقدمة في علم الأساطير» - إلى تجارب إنسانية حية تعبر عن نفسها بالأسطورة، وكما فعل شتراوس ورينان في «حياة يسوع». فالأساطير الدينية في بدايتها تجارب حية فردية واجتماعية وتاريخية تتم صياغتها بالخيال من خلال البعد الفني، قبل أن تتحول إلى تصورات تقوم على التنزيه العقلي؛ لذلك ارتبط تيليش بكيركجارد، وشلنج ونيتشه، بفيلسوف الوجود، وفيلسوفي الأسطورة.
ثم تعرض الدراسة لفلسفة تيليش واللاهوت الوجودي لديه، ومدى تعاون اللاهوت والفلسفة في صياغة الفكر. الفلسفة تعطي الفكر، واللاهوت يعطي الأنطولوجيا. الفلسفة تعطي المعرفة، واللاهوت يكشف الوجود؛ وبالتالي، أصبح تيليش فيلسوف وجود وأحد مؤسسي الأنطولوجيا المعاصرة. وكان من الطبيعي بعد حربين عالميتين طاحنتين، كانت ألمانيا فيهما هي الخاسرة، أن يحاول تيليش إعادة بناء الأمة والوطن، على أساس ديني، آخذا في الاعتبار أزمة الواقع ومتطلبات العصر. فأسس «لاهوت الحضارة» كي يمكن إعادة بناء الحضارة الإنسانية على ماهية أو جوهر مستمد من الدين باعتباره حاملا للقيم الإنسانية الثابتة والمطلقة.
ويبدو أن عصر النهضة بعدما تحول من التصور المركزي حول الله
THEOCENTRISM
إلى التصور المركزي حول الإنسان
ANTHOROPOCENTRISM
انتهى إلى خسارة الاثنين معا؛ فقد كان الله أولا بلا إنسان، ثم أصبح الإنسان ثانيا بلا إله. وفي كلتا الحالتين ضاع الإنسان لغيابه أولا، ثم لحضوره وحيدا ثانيا. أعلن نيتشه «أن الله قد مات» في أواخر القرن الماضي حتى يحيا الإنسان. ثم أعلن رولان بارت «أن الإنسان قد مات». فمن الذي يعيش الآن؟ ومن ثم ضاعت القيم، وانهارت الحضارة، وعم العدم، وانتشر الموت في الروح، ما دام الإنسان هو النسبي، إنسان القوة والمصلحة، إنسان بروتاجوراس؛ لذلك حاول تيليش العودة إلى الأساس الإلهي لبناء الوجود الإنساني والحضارة الإنسانية على الشرعية الإلهية (الثيونومي).
ومن هنا أتت ضرورة إعادة بناء الفكر الديني طبقا لكل عصر. فقد عكس كتاب الأناجيل تصورهم للعالم، وأحوال عصرهم. فالإيمان منذ البداية كان يعبر عن حالة الجماعة المسيحية الأولى، تجربة معاشة، كما تشكلت العقائد في المجتمع وفي حياة الناس، وكما عرضت مدرسة «تاريخ الأشكال الأدبية» عند بولتمان وديبليوس. وهذا يستلزم تحديث اللاهوت حتى يعبر عن أوضاع كل عصر.
واللاهوت قادر على الاستجابة لمتطلبات كل عصر. فاللاهوت كالأيديولوجية السياسية وكالمذهب الفلسفي. وتستطيع الذاكرة أن تقوم بإعادة البناء هذه، بما لديها من رصيد تاريخي طويل. ولا فرق في ذلك بين المسيحية وسائر الأديان في ضرورة إعادة البناء طبقا لحاجات العصر.
لقد انتهت العلمانية الغربية إلى إنسان ومجتمع بلا إله؛ لذلك يعيد تيليش بناءها حتى تقوم على أساس من القيم الثابتة باسم الدين وليس ضده؛ لذلك يظهر الله باعتباره رمزا دينيا ليس كما يتصوره اللاهوت، بل كما يتصوره فيلسوف التعالي والمفارقة، أو ما أسماه المسلمون «التنزيه»، حتى يتجاوز الوعي ذاته باستمرار إلى ما هو أعلى وأشمل وأعم. وعلى هذا النحو يمكن تجاوز الاشتراكية المادية كما تمثلت في الماركسية، أو الاشتراكية القومية كما تمثلت في النازية، إلى الاشتراكية الدينية التي تقوم على الإيمان بالله وعلى المساواة بين البشر.
وتمتاز هذه الدراسة بقدرة على الفهم والتعمق للموضوع ووضوح العرض، وبالثقافة الواسعة والاعتماد على الدراسات السابقة، والإحالة إلى المراجع. تجمع بين تحليل المصادر الأصلية والدراسة المباشرة للنصوص الأولى. لم تكتف بما قيل في الموضوع، ولم تقتصر على التحليل المباشر للمادة العلمية، بل جمعت بين الاثنين؛ بين اجتهادات السابقين واجتهاد المحدثين.
ومع ذلك يكتفي البحث بالعرض دون التطوير، وبالتعاطف دون النقد، وبالحماس للموضوع دون التباعد عنه، الضروري للحكم عليه. وربما غاب عنه التركيز على قضايا المجتمع والعدالة الاجتماعية والسياسية كما غاب وضع الآخر خارج الحضارة الأوروبية، وضع الإنسان الوجودي في العالم الثالث . كما غابت المقارنات مع حضارات أخرى قد تكون قد اجتهدت أيضا في تأصيل اللاهوت الوجودي في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.
والدكتورة يمنى طريف الخولي صاحبة هذه الدراسة أستاذ بقسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة، تلميذة لي، تشرفت بالتدريس لها على مدى أربع سنوات في السبعينيات، وهي صاحبة وجهة نظر شاملة للفلسفة، لا تقتصر فقط على فلسفة العلوم - وهو تخصصها الدقيق - بل تمتد اهتماماتها إلى الفلسفة الإنسانية والاجتماعية بوجه عام، كما هو الحال عند فيلسوفها «كارل بوبر». تعيش فكرها وتخلص له، تؤمن بما تكتب، وتكتب ما تؤمن به. وعت الفكر منذ أن كانت طالبة، واجتهدت فيه في مرحلتي الماجستير والدكتوراه، حتى ترقيتها. ما زالت تعطي، في فلسفة العلوم، وفي الفلسفة العامة. الفكر لديها حياة، والفلسفة لديها التزام، والبحث قضية، والعلم موقف. الفلسفة لديها رسالة وليست مهنة، دعوة وليست حرفة، نبوة وليست كهانة. وبهذه الدراسة تفتح الطريق لمزيد من الدراسات اللاهوتية المعاصرة، حتى نتجاوز مفهوم اللاهوت الثابت الأبدي: نظرية الذات والصفات والأفعال، لاهوت كل العصور. فاللاهوت متغير بتغير العصر، يعبر عن روحه وثقافته واحتياجاته. اللاهوت علم إنساني، يكشف عن طبيعة الموقف الإنساني، وعن تغيره بتغير المجتمعات ومراحل التاريخ.
الجزء
مدخل إلى عالم باول تيليش
الفصل الأول
الالتقاء بين الوجودية والدين
باول يوهانس أوسكار تيليش
(1886-1965م)، قسيس بروتستانتي، ومنظر لاهوتي، وفيلسوف ديني من أعظم وأبرز فلاسفة المسيحية في القرن العشرين. آمن بأن الوحي ليس فقط إجابة عن تساؤلات نظرية، بل أيضا حلول مثلى للمشاكل العملية؛ فكان أقدر من عبر عن علاقة العقيدة الدينية بالحياة الحضارية للإنسان المعاصر وبموقفه الوجودي، وبصور جعلته من طليعة المعنيين بالإشكالية الحضارية المعاصرة، سواء لاهوتيون أو علمانيون؛ فهو على الحدود بينهما. وسوف نرى أن مجمل فلسفة تيليش - ككل وكأجزاء - إنما يلخصها الموقف: على الحدود.
تدور أعماله الجمة حول تأكيد قدرة اللاهوت الفذة والفريدة على تقديم الإجابات المرضية والمشبعة لتساؤلات الوجود الإنساني الملحة، وبالتالي على تقديم العلاج الناجع للأدواء المزمنة التي تعاني منها الحضارة الغربية في القرن العشرين. هذا شريطة الثورة على الميراث التقليدي، وتحديث اللاهوت وإعادة صياغته. وقد فعل تيليش هذا، لكن على أسس وجودية.
إن اللاهوت والوجودية يتآزران ويتلاحمان في فكر باول تيليش، ليمثلا نقطة انطلاق إلى غد أفضل، لحضارة أفضل ... إلى وجود جديد، لإنسان جديد؛ لذلك كان هذا الكتاب من أجل الوقوف على الوجودية اللاهوتية أو الدينية كما تحققت مع باول تيليش، في واحدة من أقوى وأخصب صورها.
والواقع أن ثمة أكثر من دافع وراء هذا الكتاب، وأكثر من هدف يزمع تحقيقه. فعلى الرغم من كثرة متكثرة من الفلاسفة والمفكرين والأدباء الذين يندرجون بصورة أو بأخرى تحت مصطلح «الوجودية
Existentialism » المراوغ؛ فإن القلة هي التي تعترف بالهوية الوجودية صراحة، ربما لأن القلة هي التي تدرك صراحة المعنى الدقيق لهذا المصطلح الواسع الانتشار، والكثير الالتباس. وعلى أية حال، فإن تيليش من الوجوديين الذين يؤكدون بمنتهى الإصرار والإمعان - قولا وفعلا - على وجوديتهم.
فهل هذا لأنه قسيس بروتستانتي؟ •••
فقد كان الأب الشرعي للفلسفة الوجودية هو البروتستانتي الدنماركي العظيم سرن كيركجور
Soren Kierkegaard (1813-1855م)، أكثر البروتستانتيين بروتستانتية، أو هو «بروتستانتي البروتستانتية»،
1
ومع هذا جرى العرف على تقفي أثره وتتبع مسارات ونمو الفلسفة الوجودية بعده في معاقل الفكر العلماني - في الفلسفة، وبعض التيارات والأعمال الأدبية.
ولكننا لاحظنا أن فلسفة اللاهوت البروتستانتي في القرنين التاسع عشر والعشرين كانت شد ما تأثر بالفلسفة الوجودية واستقطبها، وعرف كيف يستغل مقولاتها في إقامة دعاويه.
وعلى الفور يبرز في هذا الصدد اللاهوتي الوجودي المميز رودلف بولتمان
R. Bultmann (1884-1976م)؛ فقد رأى أن العهد الجديد في جوهره رسالة وجودية بأعمق ما في الكلمة من معنى، لكن الكوزمولوجيات البدائية المعاصرة له - ذات الأصل الغنوصي - قد ألحقت به الأساطير وشوهته، بحيث نجده لا يصلح البتة موضوعا للإيمان الحقيقي للإنسان في القرن العشرين - في أوج عصر العلم. من هنا كان بولتمان ناقدا تاريخيا قاسيا للعهد الجديد، بغية إعادة صياغته على أسسه الحقيقية - أسسه الوجودية - التي تجعله أجدر وأقدر على البقاء في الحضارة المعاصرة؛ أي هدف بولتمان إلى إعادة بناء المسيحية على أسس وجودية، تنتهي إلى قرار إنساني باختيار الوجود الأصيل دونا عن الوجود الزائف. وهذه رسالة يعجز عنها العقل المنطقي، وكانت وسيلة بولتمان لتحقيقها هي المفاهيم الوجودية، ومصطلحات مارتن هيدجر
M. Heidegger (1889-1976م) بالذات. وثمة - على وجه الخصوص - مفهومان، قدمهما هيدجر بالألمانية - لغته ولغة بولتمان - وليس لهما مقابل دقيق بالإنجليزية، اكتسبا أهمية خاصة بالنسبة لهيدجر، وقد جعلهما بولتمان هكذا بالنسبة للاهوت الوجودي. هذان المفهومان هما: «أولا
Fragestellung ؛ أي طريقة طرح التساؤل، التي تتناول التساؤلات اللاهوتية بوصفها قبل كل شيء تساؤلات عن وجود الإنسان في علاقته مع الرب، وتفسر الكتابات المقدسة بوصفها عبارات معنية أساسا بوجود الإنسان. وثانيا مفهوم
Begriffichkeit ؛ أي نسق من المفاهيم الأساسية، مشتقة من فلسفة الوجود.»
2
وبرفقة بولتمان يقف فردريش جوجارتن
F. Gogarten (1887-1967م)، الذي آمن بأن إمام البروتستانتية مارتن لوثر قد حطم من ثقل الميتافيزيقا على اللاهوت، ووجه تفكير الكنيسة إلى ما نسميه الآن ب «القنوات الوجودية». بيد أن استبصارات لوثر ضاعت في فترة أصوليات البروتستانتية التقليدية التي تلته، ونحن الآن في حاجة إلى إعادة توكيدها، وأفضل طريقة لفهمها ليست عن طريق اللاهوتيين، بل عن طريق فلاسفة علمانيين أمثال مارتن هيدجر،
3
والإيمان في نظر جوجارتن ينشأ على أساس التفسير الوجودي للتاريخ المقدس، الذي يجعلنا نراه فضا لمغاليق وجودنا نحن التاريخي، في ظل الثقة بكلمة الرب. وهذا شيء لا نتعلمه فقط من الوجودية الحديثة، بل وأيضا من الفهم السليم لتعاليم لوثر. أما فريتس بوري
Fritz Buri
فقد صدق بمجامع نفسه على دعوى بولتمان بالتفسير الوجودي للعهد الجديد، وتجريده من الأساطير، ولدرجة جعلته بولتمانيا أكثر من بولتمان نفسه؛ فقد سار في طريقه إلى أبعد مما سار. وأعمق صورة لتطبيق الوجودية على المشاكل اللاهوتية وأكثرها جذرية إنما نجدها في مشروع بوري ل «لاهوت الوجود».
4
إن بولتمان ومدرسته يقفون ضمن فيالق الثورة على اللاهوت الليبرالي أو اللاهوت المتحرر. واللاهوت الليبرالي بدوره حركة بروتستانتية انتشرت في القرن التاسع عشر، وذاعت وشاعت، حتى سادت الأجواء في مطالع هذا القرن، تفسر اللاهوت على ضوء الخبرة الإنسانية، وبالتالي المتغيرات الحضارية. واستمرت في ذيوعها حتى عام 1914م؛ أي قيام الحرب العالمية الأولى. فحتى هذا التاريخ كان اللاهوت الليبرالي - ومجمل الفكر الديني - يتطرف أكثر في اتجاه النزعة المتفائلة خصوصا بعدما تلقحت بروائح من الجدل الهيجلي والتطور الداروني. ولكن نواتج الحرب وما خلفته من كوارث جعلت أساسيات الحركة في حاجة إلى بعث وإعادة صياغة. وهذه هي المهمة التي تكفل بها باول تيليش، وأحرزها بنجاح ملموس. واللاهوت الليبرالي - قبل عام 1914م وبعده - يستند على خطوط وجودية واضحة، بل وإنه يستمد أولى أصولياته من القديس أوغسطين
St. Augustine (354-430م) أول المبشرين بإرهاصات الوجودية. وكان الاتجاه البروتستانتي المعارض للاهوت الليبرالي يستند أيضا على الوجودية. فكارل بارت
K. Barth (1886-1968م) هو أشد اللاهوتيين البروتستانتيين نفورا من اللاهوت الليبرالي ورفضا له وتبرؤا منه، قاد الثورة عليه وقدم لاهوتا مناقضا يبدأ من الله كما تجلى في المسيح لا من الخبرة الإنسانية والحضارة، ويفسر اللاهوت بصلب ذاته. وبارت هو الآخر وجودي صميم، توضح أعماله، وأهمها «رسالة إلى أهل روما»، وأضخمها «دوجماطيقيات الكنيسة»، مدى اقتفائه لخطى كيركجور وانتهاجه لأسلوبه في الكتابة. «وكان لوجودية كيركجور تأثير عظيم على لاهوت بارت الخاص، وربما أيضا على اللغة التي عبر بها. وهو على أية حال قد اعتقد فيما بعد أن طريق الوجودية سوف يؤدي لا محالة لنقطة بدء القرن التاسع عشر إلى الإنسان الديني [أي إلى نقطة بدء اللاهوت الليبرالي] فكانت الوجودية معه فقط لتعطينا وصفا أعمق وأثقب لهذه الدينية في أفضل صورها، بيد أنها لا تمنحنا الأساس العقلي للاهوت يريد أن يتحدث عن الرب بمصطلحات عقلانية ومتعلقة، كما كان بارت في نهاية الأمر يطمح لأن يفعل، ومع كل هذا كان كيركجور معبرا هاما عبر عليه بارت إلى العالم الجديد للاهوته المطور، وربما لم يفلح تماما في زعزعة تأثيره.»
5
وسوف نتعرض فيما بعد بالتفصيل للاهوت الليبرالي، والصورة التي اتخذها مع تيليش تحت اسم «اللاهوت الحضاري»، وأيضا لموقف بارت المعارض.
وما ينبغي أن نصوب عليه الأنظار الآن، كيف أن كبار أئمة اللاهوت البروتستانتي الممثلين لأهم اتجاهاته المعاصرة، بولتمان وبارت وتيليش، على الرغم من اختلاف مشاربهم البروتستانتية بل وتناقضهم بصدد قضية مبدئية حول تفسير اللاهوت أمن صلب ذاته أم من حيثيات التجربة الإنسانية؟ إنما يتفقون في الانطلاق من الأرضية الوجودية. وهذا ينطبق أيضا على رجالات الصف الثاني لفلسفة اللاهوت البروتستانتي المعاصر أمثال أوجدن
S. N. Ogden
ووليم كاملاه
W. Kamlah
من أتباع بولتمان. وإميل برنر
E. Brunner (1889-1966م) أعظم الممثلين لما أسماه كارل بارت بلاهوت الكلمة، وإن كان قد افترق مع أستاذه في بعض النقاط، ويزامله في اتباع بارت اللاهوتي أوسكار كلمان
O. Cullman . أما أخلص تلاميذ تيليش فهو الأسقف روبنسون
Bishop J. A. T. Robinson ، يوضح كتابه «مخلص للرب
Honest to God » كيف أنه أجاد استيعاب وتمثل فلسفة أستاذه، وأيضا تطويرها والإضافة إليها، حتى وصل إلى درجة أثارت عاصفة شديدة بين اللاهوتيين، حين صدوره عام 1963م. ولا يفوتنا ذكر أعلام لهم أهميتهم في اللاهوت الفلسفي البروتستانتي، ولهم أيضا استقلالهم، فلا هم رواد ولا هم أتباع. وأهمهم ديتريش بونهوفر
D. Bonhoeffer (1906-1945م) الذي ينافس تيليش في إيمانه بالقيمة العملية والفعالية الحية للاهوت، وأيضا ضرورة تحديثه، والعمل الذي توج حياته القصيرة «ثمن التبعية
The Cost of Discipleship » يذكرنا كل سطر من سطوره بروح كيركجور. وثمة أيضا راينهولد نيبور
R. Niebur (1872-1971م) الرافض للاهوت الليبرالي، «بحيث يعتبره البعض تابعا لبارت»،
6
أبدى اهتماما فائقا بالمسائل الاجتماعية والسياسية وعنى بنقد الليبرالية الديمقراطية للحضارة الأوروبية، مؤكدا على أهمية الدين الأخلاقية. وأهم أعماله في هذا «إنسان أخلاقي ومجتمع لا أخلاقي
Moral Man and Immaral Societyiet » سنة 1932م، «أبناء النور وأبناء الظلام
The Children of light and the children of darkness » وقد احتذى هو الآخر حذو كيركجور في اعتبار الإنسان معلقا بين التناهي والحرية، ولا مندوحة له عن تقبل كليهما كي يحيا بصحة روحية، وهذا التعليق للإنسان يتبدى من خلال القلق الذي هو ظرف مبدئي تنشأ عنه كل خطيئة.
7
كل هؤلاء اللاهوتيين البروتستانتيين، وسواهم ممن لا يتسع المجال لحصرهم، وجوديون صرحاء، ولكن طبعا بدرجات متفاوتة في مدى تمثلهم وتمثيلهم للفلسفة الوجودية. ولئن كان لاهوت بولتمان ومدرسته أكثر وأخلص وجودية من لاهوت تيليش، فإن تيليش هو أقدر من استطاع في آن واحد أن يجعل الوجودية تنساب في شرايين البروتستانتية، والبروتستانتية تنساب في شرايين الوجودية، والحياة تنساب في شرايين كليهما.
إن اللاهوت الفلسفي هو البحث في التضمنات الفلسفية للعقيدة الدينية، وليس يصعب إدراك الخاصة الوجودية للتضمنات الأساسية المميزة للبروتستانتية، فلا يدهشنا كل هذا الالتقاء بين اللاهوت البروتستانتي والفلسفة الوجودية، إنه مسألة تتبدى لكل من يمعن النظر في منطلقات ومضمون دعوة لوثر؛ أما عن الزاوية التاريخية لهذا الالتقاء، فقد أشار إليها تيليش نفسه، حين فرق بين ثلاثة وجوه للوجودية: الوجودية بوصفها وجهة نظر؛ وبوصفها اعتراضا أو احتجاجا
؛ وبوصفها تعبيرا. وهو يؤكد أن الوجودية كوجهة نظر حاضرة في القطاع الأعظم من اللاهوت، وأيضا من الفلسفة ومن الفكر، لكنها قد لا تكون على وعي بذاتها. أما الوجودية بوصفها احتجاجا فقد ظهرت كحركة واعية بذاتها منذ الميلاد الرسمي للوجودية مع كيركجور، لتصبح بوصفها تعبيرا خاصة مميزة للفلسفة والفن والأدب، وسادت أوروبا في مرحلة الحربين العالميتين،
8
وإذا كان ديكارت - كما هو معروف - قد شق الطريق المناوئ للوجودية، فإن تيليش يؤكد أن البروتستانتية برفضها للإثقالات الميتافيزيقية والأنطولوجية على العقيدة الدينية، كانت هي التي تحمل لواء وجهة النظر الوجودية. لكن البروتستانتية تراجعت عبر تاريخها عن الكثير من الأراضي الوجودية، وخصوصا تحت ضغط المجتمع الصناعي الذي تنامى في القرن الثامن عشر، الذي يتطلب لحسن إدارته لنفسه وللعالم فلسفة ضد الوجودية ولاهوتا ضد الوجودية، وفقط تحت تأثير الحركات الاجتماعية والتيارات السيكولوجية في القرن العشرين أصبحت البروتستانتية أكثر انفتاحا على المشاكل الوجودية للموقف المعاصر،
9
فكان ما أشرنا إليه من التقاء حميم بين اللاهوت البروتستانتي والفلسفة الوجودية.
وبعد كل هذا، يظل التوقف عند مثال تطبيقي وتمثيل عيني لهذا الالتقاء، هو فلسفة باول تيليش، ليس فقط وقوفا عند شريحة معبرة عن قطاع هام من الفكر اللاهوتي أو الغربي المعاصر، بل هو مسألة أعمق؛ إنه وقوف على طبائع وخصائص مميزة لعناصر أساسية. •••
فلئن كانت الطبيعة الخاصة للبروتستانتية تلقي بها توا في قلب الفلسفة الوجودية، فإن العكس ليس صحيحا، والطبيعة الخاصة للفلسفة الوجودية لن تلقي بها في قلب البروتستانتية فقط، بل كفيلة بجعلها تتوغل في أعطاف أي فكر لاهوتي رام وشائج فلسفية حية، وإذا كان المنشور البابوي الكاثوليكي لعام 1950م قد استبعد الوجودية بوصفها واحدة من الفلسفات المعارضة وغير المرغوب فيها، فإننا نرى هذا عندا في البروتستانتية وليس في الوجودية. وثمة فلاسفة وجوديون وكاثوليك، من الطراز الأول في وجوديتهم وفي كاثوليكيتهم، من أمثال جبريل مارسيل
G. Marcel .
إن الوجودية هي الأساس الفلسفي للنظر في الموقف الإنساني المتعين بمسئوليته الفردية الرهيبة؛ حيث لا ينفع المنطق البارد، ولا يشفع المنهج العقلاني الصارم؛ لذلك «يصعب أن يناقش أي لاهوتي متفلسف دعاويه بغير الاستعارة من القاموس الوجودي والالتجاء إلى المفاهيم والمصطلحات الوجودية، من قبيل الهم والقلق والتناهي والإثم والاغتراب، والوجود الأصيل أو الشرعي والوجود الزائف ... إلخ.»
10
وإذا كان ماكينتري صاحب هذه الملاحظة يقول في التعقيب عليها «إن الوجودية في حقيقة الأمر مبدأ لاهوتي محايد؛ لأنها تبرر الولاء للاعتقاد بأن الشخص قد اختاره، وهذا تبرير ينطبق أيضا على العقائد الإلحادية.»
11
فإننا قياسا على تعقيب ماكينتري نقول إن الفلسفة الوجودية هي فقط الكفيلة بإعطاء الإيمان الديني تعميقا وتفسيرا وتبريرا، لا بد أن تسلم بها جميع الأطراف، حتى وإن كانوا ملحدين؛ فالرأي عندي - وهو رأي سيعطينا تيليش المثال الحي والشاهد الأصدق عليه - أنه لا توجد وسيلة لا سبيل لدحضها لتفجير الحياة في اللاهوت وتعميق معايشة التجربة الدينية أنجح وأفضل من الفلسفة الوجودية أو حتى تباريها، خصوصا إذا ما أخذنا في الاعتبار أن الدين أولا وقبل كل شيء عقيدة، ثم يأتي تطبيق الشريعة كنتيجة ومحصلة للإيمان بالعقيدة، أو بالتعبير الوجودي لقرار اختيار العقيدة تحقيقا للوجود الشرعي (أو الأصيل في ترجمات أخرى نراها الأصوب). •••
وإذا تركنا الآن رحاب اللاهوت الفلسفي، ودلفنا بتوغل أكثر إلى رحاب الفلسفة ذاتها - لكن الفلسفة اللاهوتية أو المستعينة باللاهوت أو حتى مجرد الفلسفة المؤمنة؛ أي إذا تركنا باول تيليش اللاهوتي - سنجد أن باول تيليش الفيلسوف واحد من أربعة فلاسفة ممثلين لتيار هام من تيارات الفكر الغربي المعاصر هو تيار الفلسفة اللاهوتية، التي ترتكز على اللاهوت، وتستمد منه حلولا للمشاكل التي تتصدى لها. وجملتهم باحثون عن الانطلاقة أو الثورة الروحية للإنسان؛ بغية رأب الصدع العميق في بنيان الواقع الجاف ؛ منهم من عرف كيف يحطم الحدود التقليدية المستهلكة للملة اللاهوتية، من أجل تطويرها وتوسيعها وإثرائها ، فتكون أقدر على إنقاذ «الوجود الشخصي». وكانوا بهذا يعطوننا أمثلة نموذجية على الفلسفة الوجودية، وأسلوب ارتكازها على الدين واللاهوت، واستعانتها به، هؤلاء الأربعة هم: ماريتان بوبر
M. Buber (1878-1965م) ممثل الفلسفة اليهودية وذو التأثير الكبير على تيليش؛ وجاك ماريتان
J. Maritain (1882-1975م) ممثل الفلسفة الكاثوليكية؛ ونيقولا بيرديائيف
N. Berdyaev (1874-1948م) ممثل الفلسفة الأرثوذكسية. ويأتي باول تيليش ليمثل الفلسفة البروتستانتية. لقد انتقينا هؤلاء الأربعة فقط ليمثلوا الملل اللاهوتية الأربع في الفكر الغربي المعاصر، لكن من ورائهم يقف جمع غفير لفلاسفة تكفلوا بمثل هذه المهمة، ولعل إسبانيا تتقدم بأكفأ فيلسوفين في هذا الصدد، هما ميجل دي أونامونو
M. de Unamuno (1864-1936م)؛ وأورتيجاي جاسيت
Ortega Y Gasset (1883-1955م)؛ ويمثل إنجلترا جون مكموري
G. Macmurry ، وثمة أيضا كارل هايم
K. Heim (1874-1959م)، وسرجيوس بولجاكوف
S. Bulgakov (1870-1944م) ... ويوضح المؤرخ جون ماكوري أن هؤلاء الفلاسفة - خصوصا بيرديائيف وأونامونو اللذين يعتبرهما أعظم ممثلين للوجودية - حين أثبتوا أن الدين أساسا فعالية شخصية، إنما يمهدون لما تطور بعدهم في صورة اللاهوت الوجودي،
12
الذي رأيناه مع تيليش وبولتمان وزملائهما اللاهوتيين، حين اكتملت فلسفة الوجود الشخصي بفلسفة الأنطولوجيا.
وبالتوغل أكثر في رحاب الفلسفة، نلقى في النهاية الوجودية المؤمنة فحسب، وعلى رأسها الفيلسوفان الشهيران صاحبا البصمات الواضحة في بلورة وتطوير مفهوم الوجودية، وهما الفرنسي جبرييل مارسيل، والألماني كارل ياسبرز
K. Jaspers (1883-1969م) الذي فلسف للاهوت الليبرالي البروتستانتي، ومع هذا كان له تأثير على جورجاتن بقوله إن اللطف والوحي ليسا في فعل معين، وثمة كثيرون أقل شهرة، أهمهم الروسي ليون شستوف
Leon Shestov (1866-1938م) الذي جعل عنوان أهم كتب كيركجور (أما ... أو
Either ... Or ) أساسا أو هيكلا لفلسفته. وقد انشق شستوف بوجوديته المؤمنة عن الثورة البلشفية، فانضم مع بيرديائف إلى سرب الطيور المهاجرة التي غادرت روسيا طوعا أو كرها. •••
ومن الوقوف على لاهوت فلسفي ثم على فلسفة لاهوتية، نخلص إلى أن العلاقة تبادلية بين اللاهوت والدين وبين الفلسفة الوجودية؛ فكما استعان اللاهوت البروتستانتي بالفلسفة الوجودية ليكون أقوى وأكثر حياة، فإن الفلسفة الوجودية أيضا قد تستعين باللاهوت والدين لتكون أقوى وأكثر حياة ، بل ولتكون أكثر وجودية. فكما قال الرائد كيركجور: «الوجودية الحقة هي المسيحية، أو هي بتعبير أدق صيرورة الإنسان مسيحيا.»
13
إن صلب التفكير الوجودي يقوم على المقابلة بين «الوجود-لذاته»؛ أي الإنسان، وبين «الوجود-في ذاته»؛ أي الشيء. ولا مخرج من هذه المقابلة إلا بوجود-من أجل- ذاته، ومن أجله كل وجود آخر؛ أي الألوهية. وحين يحقق الإنسان مبدئيات الموقف الوجودي؛ أي حين يصوب تفكيره تجاه ذاته المتشخصة الوحيدة المحاقة بالقلق والاغتراب والتناهي والعدم، والمثقلة بعبء الحرية الرهيب؛ فالأرجح أن يلتجئ فورا إلى الموجود المتعالي، الله، أو كما يقول بيرديائيف: «عالم الذات كلما أحكم إغلاق الباب على نفسه، فإنه يكتشف فجأة وجودا متعاليا.»
وليست الألوهية فحسب، بل أيضا الدين بمعناه الحرفي، والمقصود الأديان السماوية؛ فحديثنا لا ينطبق على الكونفوشية أو البوذية مثلا - الدين السماوي له قدرة يصعب منافستها على تضخيم مسئولية الوجود الفردي إلى الحد الذي يجعله حقيقا بالنظرة الوجودية - ولنخطو خطوة أبعد، ونقول ليس التجربة الدينية في عموميتها، بل وأكثر من هذا التجربة الصوفية هي التي تحمل أقصى تحقق للفلسفة الوجودية، والمتصوفة الذين هم أكثر عباد الله عبودية - أو عبودة حسب المصطلح الإسلامي الدال على الدرجة القصوى - هم أيضا أكثر الوجوديين وجودية؛ فالوجودية فلسفة للذات لا الموضوع، والإنسان لا الطبيعة، والتجربة الحية لا العقل النظري، ولن نجد ذاتية تنبذ كل موضوعية، وإنسانية تزدري الطبيعة المادية، وتجربة ذوقية وجدانية تضرب عرض الحائط بمقولات العقل والعقلانية، مثلما نجدها مع المتصوفة. وهل يجادل أحد في أن الميستر إكهارت
Eckhart (1260-1327م) «طليعة عظام المتصوفة»
14
هو مفكر وجودي من الطراز الأول، وأن يعقوب بوهمه
J. Boehme (1575-1624م) أعظم المتصوفة، هو حامل لواء الوجودية في الفترة القبل ديكارتيه.
15
ومحصلة كل هذا ما نلمسه من أن الغالبية العظمى من الفلاسفة الوجوديين، كانوا ذوي علاقة متينة مع الدين. والوجوديون الملاحدة الممثلون لمعالم على طريق الوجودية قلة (نيتشه وهيدجر وسارتر وربما كامي) وإن كانت لهم فعلا أهمية كيفية تفوق كل كم، فليست تتعلق أهميتهم الكبيرة بمقولة الإلحاد في حد ذاتها، ولا هي أكسبت فلسفاتهم شيئا مما لها من قوة فائقة.
أما من الناحية الأخرى التي قدمنا بها الحديث؛ أي ناحية اللاهوت، فإن تيليش يعتبره «قد تلقى هبة عظمى من الفلسفة الوجودية»،
16
حتى إنه - أي تيليش - يؤلف مرجعا أكاديميا ضخما يحيط بتاريخ الفكر المسيحي منذ أصوله اليهودية والإغريقية وصولا إلى الفلسفة الوجودية أو انتهاء بها، مؤكدا أن الإنجيل يحمل عناصر مبكرة للتفكير الوجودي،
17
يقول تيليش إن المسيح أتى ليجلب دهرا جديدا
new eon ، وإن «الوجودية قامت بتحليل الدهر القديم؛ أي مأزق الإنسان وعالمه في وضع الغربة. والوجودية بإنجازها لهذا إنما هي حليف طبيعي للمسيحية. وذات مرة قال إيمانويل كانط إن الرياضيات هي الحظ السعيد للعقل الإنساني. وبنفس الطريقة يمكن أن يقول المرء إن الوجودية هي الحظ السعيد للاهوت المسيحي.»
18
أما بالنسبة للاهوت الإسلامي؛ أي علم الكلام، فإننا نلاحظ أن التصوف الإسلامي أنسب منه للاستفادة من الوجودية. ولكن لا تفكير في استفادة، بل فقط إفراغ الجهد في النيل من الوجودية لأنها فلسفة الانحلال والإلحاد! وذلك نتيجة لتعامل سطحي متسرع مع مظاهر بادية ورذاذ متناثر. •••
فبعد كل هذا الحديث في وجودية اللاهوت ولاهوتية الوجودية؛ أي العلاقة التبادلية الوثيقة بين الوجودية والدين، بقي أن نلاحظ أن الوجودية اللاهوتية أو حتى المؤمنة - وهي الأصل كما نشأت مع كيركجور توارت في الظل، وقنعت بالوقوف من وراء الوجودية الملحدة التي انشقت عنها، والتي حظيت بنصيب الأسد - إن لم نقل استأثرت بما لحق الوجودية من شهرة طبقت الخافقين، حين حطمت جدران الأروقة الأكاديمية وانسابت في تيار الحياة اليومية، كما لم تفعل فلسفة أخرى، لا من قبل ولا من بعد، باستثناء الماركسية طبعا.
ذلك أن الوجودية قد ظلت كائنة في مستويات البحث العميق والثقافة الرفيعة، يعبر عنها فلاسفة راموا أن يكونوا إنسانيين بمعنى ما، وتلقي بظلالها على أعمال أدباء وشعراء عظام أمثال دستويفسكي وهولدرلين وإليوت، ثم جيمس جويس وكافكا وبيكيت وغيرهم ... حتى كانت الأربعينيات من هذا القرن، وكان جيلها في أوروبا ليشهد أهوال حربين عالميتين، فرأى أن الدول والحكومات النظامية تتخذ قرارات من المفروض أنها عقلانية مدروسة، فتؤدي إلى الخراب والدمار والفزع واليتم والترمل والثكل. ساد هذا الجيل القلق والمعاناة والرفض لكل ما هو موضوعي جمعي عقلاني، وآمن بأنه لا أمل إلا في الخلاص الفردي؛ فكان المرتع الخصيب للوجودية، تفجرت في بلدان القارة الأوروبية، وأصبحت زاد الثقافة، بل الحياة اليومية. على أن وطأة أثقال الحرب أشاعت التشاؤم والسوداوية وفقدان المعنى والأمل والثقة في كل كيان أكبر من الفرد، مما جعل الأجواء، مهيأة أكثر للسير في مقولة الفردانية حتى الوصول إلى أن الإنسان مهجور في هذا الكون - أي إنكار وجود إله يلوذ برحمته الواسعة وقدرته الشاملة، وكتيار فرعي للوجودية التي رأيناها أصلا وأساسا مؤمنة - اشتدت الوجودية الملحدة التي يعد فردريك نيتشه
F. Nietzche (1844-1900م) رائدها، وهيدجر أعظم منظريها، وهو في الواقع أعظم منظري الوجودية على إطلاقها. أما الوجوديون الملاحدة في فرنسا بزعامة قطب الوجودية الأشهر جان بول سارتر
J. P. Sartre (1905-1980م) - ورفقة سيمون دي بوفوار وألبير كامي - فقد تميزوا بموهبة أدبية دافقة، فصاغوا وجوديتهم العبثية التشاؤمية في قوالب فنية جذابة؛ مقالات ومسرحيات وروايات وقصص رائعة، أكسبتهم - دونا عن سائر الوجوديين - شهرة واسعة وجمهور قراء غفيرا، ما كان أحد منهم ليقرأ حرفا واحدا في البحوث الفلسفية المتخصصة. لقد كانت كتاباتهم إنجيل جيل الأربعينيات والخمسينيات.
ووصل هذا المد إلى المكتبة العربية في الستينيات، وامتلأت بأعمال جمة تعرض للفلسفة الوجودية، بحثا ودراسة ونقدا وترجمة ومقارنة وتأصيلا وأحيانا إضافة، ولكن أيضا كان الذيوع من نصيب الوجودية الملحدة؛ سارتر ثم نيتشه ثم هيدجر. حتى وإن كانت قد ظهرت بعد ذلك بعض الدراسات القيمة والترجمات الرصينة لآثار الوجودية المؤمنة، وعروض شمولية للوجودية تستوعبها، فإنه لا تزال الوجودية الملحدة، خصوصا عند سارتر بالنسبة للمثقفين، وعند هيدجر بالنسبة للمتخصصين، هي التي تقفز إلى الأذهان كلما ورد المصطلح في الأوساط العربية. وقد تذكر أو لا تذكر الوجودية المؤمنة، ودع عنك الوجودية اللاهوتية والدينية.
وبلغ هذا الخلل الفلسفي حدا، جعل مصطلح الوجودية يرتبط عندنا في أذهان أنصاف المثقفين بالإلحاد، وقد يطابقه!
والواقع أن هذا الخلل لا يعود فقط إلى قدرات الوجوديين الملاحدة الفلسفية ومواهبهم الأدبية أو إلى ظروف حضارية لهم موئسة، فساعدت على رواج أعمالهم؛ بقدر ما يعود إلى غموض والتباس شديدين يحيقان بمفهوم الوجودية، وليس فقط في أوساط المثقفين أو حتى المتخصصين، بل وأيضا في أوساط الفلاسفة، والفلاسفة الوجوديين أنفسهم! فمن ينطبق عليهم هذا الاسم جمع غفير من الفلاسفة «ليس يجمعهم شيء بقدر بغضهم وتقاذفهم لبعضهم، وتبرؤ معظمهم من هويته الوجودية.»
19
حتى شك سارتر نفسه في أن لقب الوجودية قد أصبح خاليا من المعنى. وهيدجر وياسبرز ومارسيل الذين لا بد أن يشملهم أي نقاش للوجودية، رفضوا جميعا هذا اللقب حتى انتهى «روجرشن» إلى أن الوجودي الذي يحترم نفسه لا بد أن يرفض أن يطلق عليه لقب وجودي، وهو يقصد أن الوجودي الحقيقي يرفض التقولب في قالب معين بحيث يصبح فردا في فئة تعرف بالوجوديين.
20
ويبدو أن هذا هو السبيل الوحيد الذي تراءى لشن «كي يخرج من متاهات الوجودية» ساعد على تفاقم أحابيلها الهرج والمرج والضجيج والجلبة التي لحقت بالوجودية في أعقاب الحرب العالمية، ولكن مع أفول الستينيات شب عن الطوق جيل لم يشهد أوزار الحرب العالمية، واستعاد الثقة بالعقل، وإلى حد ما بالهيئات النظامية، فلم يلق هواه مع الوجودية. لقد انحسرت موجتها بعد طول مد، وتقلصت، بل تلاشت كبدعة شعبية، يتشدق بها عن وعي وعن غير وعي المثقفون وأنصاف المثقفين وأشباه المثقفين، وتبقى الأسس النظرية إثراء للإنسانية، وموضوعا للبحث الأكاديمي، الهادئ الرصين والمثمر، فتوضع نقاط على الحروف.
لكل ذلك وجدناه لزاما علينا قبل الدخول في عالم باول تيليش أن نبذل قصارى الجهد لتحديد مفهوم الوجودية تحديدا دقيقا، منذ نشأته مع كيركجور في النصف الأول من القرن التاسع عشر وحتى تبلور تماما في الربع الثاني من القرن العشرين، وبفضل لا يمكن تجاوزه للوجوديين الملاحدة. وسوف يلاحظ إلى أي حد روعي أن يكون هذا التحديد شموليا وموضوعيا، وبصرف النظر عن قضية إيمان الوجودية أو إلحادها؛ حتى لا يحمل شبهة المصادرة على المطلوب. وسوف نلاحظ أيضا كيف سيتجه المنحنى الموضوعي من تلقاء ذاته في اتجاه الوجودية الدينية، وبالتالي في اتجاه عالم باول تيليش.
الفصل الثاني
ما هي الفلسفة الوجودية؟
لعل أحد مصادر ذلك اللبس - الذي رأيناه - أن الوجودية ذاتها تتسم بقدر من الهلامية؛ فهي ليست البتة مذهبا فلسفيا دقيقا، منهاجا وتطبيقا. كلا، ولا هي مدرسة يمكن صياغة تعاليمها في قضايا محددة.
بل وأن صميم فعل المخاض الذي أنجب الوجودية، والذي سيظل دامغا إياها بمعالمه هو ذاته النفور من المذهب والمذهبية. وعلى وجه التحديد يمكن اعتبار الميلاد الرسمي للفلسفة الوجودية بمثابة رد فعل رافض لمذهب الماهية
Essence ، كما وصل إلى ذروته مع هيجل
F. G. Hegel (1770-1831م). قامت الفلسفة الوجودية لتناهضه وتقول إن تلك الماهية الثابتة موضوع الخبرة المعرفية العقلانية، ليست هي الحقيقة في تعينها واكتمالها. الحقيقة هي - بالأحرى - الوجود الذي نمر به في الخبرة الفورية الحية، وسوف نرى أن التمييز بين الوجود والماهية من الأسس الكائنة في صلب الفلسفة الوجودية.
وكدأب البحث الفلسفي، بذلت محاولات عديدة لتعقب جذور الوجودية في أعماق التاريخ الفلسفي، وصلت حتى مين دي بيران
Main de Biran (1766-1824م)
1
وبليز بسكال
B. Pescal (1623-1662م)، والقديس أوغسطين، بل وحتى سقراط العظيم،
2
ولكن المعتمد أكاديميا أن فلسفة كيركجور أول صورة ناضجة مكتملة لها، وصك شهادة ميلادها الرسمية التي لا بد أن يعترف بها الجميع. وفي عصر كيركجور، كان الافتتان بالعقل - الذي بدأه أبو الفلسفة الحديثة رينيه ديكارت ووصل إلى ذروته مع هيجل - قد بلغ مداه؛ فنجيب العقل الأثير - أي العلم - قد أحرز الذروة الشاهقة بنظرية نيوتن، إنها نسق شامل للعلم بالطبيعة، تجاهد بقية أفرع العلوم البيولوجية والإنسانية للدخول في أعطافها. يوازي هذا نجاح الفلسفة العقلانية - خصوصا الألمانية - في بناء أنساق شامخة، تحاول استيعاب الوجود بأسره في قلب فئة من التصورات؛ فأشرق القرن التاسع عشر في أحضان ما يعرف ب «عصر التنوير» - عصر الإيمان بقدرة العقل على فض كل مغاليق هذا الوجود.
وكرد فعل متوقع، تمخض عصر التنوير عن الحركة الرومانتيكية، من حيث تمخض عن فلسفة كيركجور الوجودية، التي كانت نقطة بدايتها رفض العقلانية التنويرية حيث سيادة المذاهب النسقية ، سواء العلمية أو الفلسفية؛ فهي في كلتا الحالتين باردة جافة مقطوعة الصلة بالتجربة الحية المعاشة، وتنظر إلى أية حقيقة واقعية - حتى الإنسان - كموضوع، كشيء ما غريب عنه، وتسحق فردانيته بما فيها من موضوعية وعمومية وتجريد.
ولسوف يظل ديدن الفلسفة الوجودية منذ البداية وحتى النهاية رفض كل ما يمس فردانية الفرد؛ «فهم يجعلون محور النظر الفلسفي السؤال: ماذا أكون»
3
من أجل إبراز قيمة الفرد، و«تحليل الوجود البشري من حيث أخص ما فيه من فردية وعينية»،
4
ومن حيث هو جزئي عارض لا يندرج تحت أية بنية نسقية عقلية، ليصلوا إلى الوجود كما يتجلى في مواقف التفرد الإنساني - مواجهة الموت مثلا وهو أقصاها. فبهذا يصبح العالم متأصلا في صميم الفرد، لا مفارقا عنه في مذهب عقلي مصمت، لا يعترف به ولا بفردانيته.
الوجودية إذن فلسفة للوضع الإنساني، على أن نميز بين اتجاهين لفلسفة الوضع الإنساني: الأول هو الماهوي الذي ينظر إلى الإنسان في حدود طبيعته الماهوية داخل الكون ككل؛ والاتجاه الآخر هو الوجودي الذي ينظر إلى الإنسان في معضلته في الزمان والمكان ويرى الصراع بين ما هو موجود فيهما، وما هو معطى في الماهية،
5
كإمكانية تنتظر التحقق.
والفيلسوف الألماني المنتمي للكانتية الجديدة هاينيمان
F. Heine mann
هو الذي قدم مصطلح «الوجودية
Existentialism » فقط عام 1929م،
6
وكان مصطلحا شديد الدلالة وصائبا جدا؛ فهو مشتق من الجذر
Ex-sistere
الذي يعني في أصوله اللاتينية «الانبثاق
To Emerge » والوجودية فعلا فلسفة الانبثاقة في هذا العالم، وليست فلسفة الكينونة
Being
فيه. فمع الكينونة لا توجد إمكانية غير متحققة؛ الكينونة تحقق خالص. أما الوجود الذي هو مقابل للماهية، فدائما إمكانيات مفتوحة، تنتظر الاختيار والقرار لكي تتحقق. وهذه الإمكانيات هي ما تصوب عليه الفلسفة الوجودية أنظارها، وليس اسمها (الوجودية) فقط، بل وكل مصطلحاتها نحتت في اللغة الألمانية؛ فالوجودية نبتة ألمانية نشأت أصلا من توتر موقف العقلية الألمانية في بدايات القرن التاسع عشر. وكما أوضحنا، كانت فلسفة كيركجور، وهو دنماركي، رد فعل لفلسفة الماهية مع هيجل الألماني.
7
الوجودية إذن مجرد اتجاه عام لتحليل الوضع الإنساني، بل واتجاه ظل مضمرا، ولم يخرج من الصحائف ويتبد إلا في أعقاب الحرب العالمية الأولى، في ألمانيا ثم في فرنسا، ولم يكتسب حتى اسما إلا عام 1929م. لا غرو إذن أن يضم الاتجاه الوجودي فلاسفة شتى تختلف مشاربهم أيما اختلاف وقد تتناقض، ليس فقط في قضايا الفلسفة العامة، بل وفي صميم القضايا التي تشكل صلب الاتجاه الوجودي، ولن نجد مقولة واحدة اتفقوا عليها، أو يمكن أن تنطبق عليهم جميعا بلا استثناء. فلا نتوقع مرسوما بتعاليم الوجودية، ولا سبيل إلى وضع تعريف جامع مانع لها، وبدلا من هذا، سنحاول تحديد الاتجاه الوجودي عن طريق نقطة البداية والمسار والهدف، وأبرز المعالم وأهم الخصائص.
8 •••
حينما نفكر في السؤال: ماذا أكون ومن أكون؟ سنلقي أنفسنا في دوائر مغناطيسية من التساؤلات كيف ولماذا ومن أين جئنا؟ وإلى أين نمضي؟ ... الواقعة الوحيدة الجلية هي «أننا موجودون» فبدأت منها الوجودية، وكان «ينبغي أن نبدأ من علاقتنا الأولية بما هو في ذاته: أي بوجودنا-في-العالم»
9
على أن أميز ما يميز الوجودية هو أنها لا تبدأ من الوجود كمقولة عامة-كماهية، بل منه كواقعة عينية متشخصة في فرد محدد. فالموجود البشري يمتاز عن سائر الموجودات بأن كل فرد ملقى في موقف وجودي معين خاص به، لا أحد يمكن أن يحل محله أو يشاركه فيه. إنه فرد فريد، لا يجوز اعتباره عينة في فئة. هكذا تبدأ الوجودية من الأنا ... الأنت ... الهو ... من الذات. فيغدو الوجود ذاتيا، لا يمكن أن نجرده ونعرفه من الخارج كمعطى موضوعي أو أن نرده إلى قوالب تصورية؛ فهو لا يرد إلى سواه، إنه يتصف بالذاتية العميقة من حيث يتصف بالسر الذي يجعله يتأبى على كل محاولة لجعله موضوعا.
وهذه الذاتية والفردانية لا تقلل من شأن العالم، ولا من شأن الآخرين، «فإذا كانت مشكلة وجود العالم قد أرقت فلاسفة الذات الذين وضعوها في جانب، والعالم في جانب آخر، ثم حاولوا الجمع بينهما، فإنها لا تشغل الوجودي البتة؛ لأن نظرته تقوم على وحدة الذات والموضوع.»
10
امتلاك الإنسان لجسد، والجسد كأداة للإنسان، يجعله يشارك في العالم، كظاهرة طبيعية وهو في الآن نفسه فائق للطبيعة المادية؛ لذا يرى الوجودي الإنسان كوحدة بدنية نفسية، فلا يبدأ من الذات الميتافيزيقية، أو من الماهية، بل من «الوجود-العيني -في-العالم»؛ حيث الذات البشرية والعالم حقيقتان أصيلتان متساويتان. لا ذات بغير عالم، ولا عالم بغير ذات، وهذا يفضي إلى «الوجود-مع-الآخرين» الذي هو سمة أساسية من سمات الموجود البشري. «وجود الإنسان في جسد يتبعه فعل الشعور، وفعل الشعور لا يمكن تفسيره إلا من خلال المشاركة
مع-الآخرين.»
11
هكذا نخلص إلى أن الوجودية تبدأ من وحدة «الوجود-مع الآخرين-في-العالم» التي يجسدها الوجود اللاعقلاني المحسوس، التجربة الحية الخفاقة في الصدور، لا المتجردة في العقول. هذه هي نقطة البداية والتي يلخصها ببراعة مصطلح هيدجر
Dasein «الموجود-هناك» الكائن الملقى به في العالم مع الآخرين.
أما نقطة النهاية، أو هدف الأهداف من الفلسفة الوجودية، فهو البحث المشبوب عن الوجود الأصيل (الشرعي) والحيلولة دون الوجود الزائف - الوجود أصيل بقدر ما يشكل الفرد نفسه، وزائف بقدر ما تشكله مؤثرات خارجية فيفقد ذاته. من هنا كان صون الوجوديين للحرية، ونقدهم للمجتمع وأعرافه، ودعوتهم الفرد للخروج على كتلة الجماهير، ورفض القيم الجاهزة وسائر العموميات ... وذلك ليحمل وحده مسئولية ذاته، فيكونها، ويحقق وجوده الأصيل. وهذا لن يتأتى إلا حين «الفعل المشتمل على الحرية والفكر والقرار».
ها هنا نضع الإصبع على العمود الفقري ودماء الحياة من الاتجاه الوجودي: حرية الإنسان «إنهم لا يحللون الوجود الإنساني إلا من حيث أنه أساسا فعل حرية، تتكون بأن تؤكد نفسها، وليس لها منشأ أو أساس آخر سوى هذا التوكيد للذات»؛
12
فعلى خلاف نهج الفلاسفة في القول بحرية الإنسان، لا يحاول الوجوديون وضع أية براهين تثبتها أو دحض أدلة تنفيها؛ فهذا نقض للوجودية التي تعني المطابقة بين كون الإنسان موجودا وكونه حرا. فكما يقول سارتر: «الحرية ليست وجودا ما، إنها وجود الإنسان.» ويستأنف موضحا: «إنني محكوم علي أن أكون حرا. وهذا يعني أنه لا يمكن أن يوجد لحريتي حدود أخرى غير ذاتها، أو إذا شئنا فنحن لسنا أحرارا في الكف عن أن نكون أحرارا.»
13
ولو كانت كل وقائع حياة إنسان ما تشهد بأنه ليس حرا، كأن يخضع لمشيئة غير مشيئته، أو حتى للعقل الجمعي في قرار ما، لقال الوجوديون إنه بفعل من أفعال الحرية اختار التنازل عن الحرية، وبالتالي عن الوجود الأصيل وقنع بالوجود الزائف؛ اختار أن يكون مشتتا ممزقا بلا إرادة - باصطلاح سارتر: سيئ النية، وسوء النية يعني أن الموجود الإنساني «يمكن أن يتخذ مواقف سلبية بإزاء نفسه»؛
14
فتقول رفيقة عمره وفكره سيمون دي بوفوار: «إن الإنسان لا يستطيع أبدا أن يتنازل عن حريته، وحين يزعم أنه يتخلى عنها، فإنه لا يفعل شيئا إلا أن يحجبها عن نفسه، وهو يحجبها بحرية؛ إن العبد الذي يطيع يختار أن يطيع، واختياره لا بد أن يتجدد في كل لحظة. إن الإنسان يخلص لأنه يريد ذلك بكل إرادته، وهو يريد ذلك لأنه يأمل بهذه الطريقة أن يستعيد كينونته.»
15
وبالطبع لا شيء مطلق؛ فثمة ما أسماه الوجوديون «بالمواقف الحدية» التي تمثل حدا لحرية الإنسان، فلا يستطيع أن يفلت منها، كالموت والقلق ... وأيضا الجنس واللون والطبقة ... فضلا عن قسوة المواقف الحدية الشاذة، كالعاهات وحالات المعوقين والأمراض المزمنة على أنها - جميعا وغيرها - تمثل حدود الموقف الذي تمارس الحرية داخله، ولا تنفيها. حرية الفرد غير قابلة للنفي، طالما لا شيء ينفي كونه موجودا.
إن الوجودية أصلا وفروعا فلسفة الموقف؛ لأن الموقف هو الحياة، والحياة هي الوجود في موقف، «والموقف هو ما يجعل الإنسان (الوجود-لذاته) لا يشابه بحال الشيء (الوجود-في ذاته).»
16
فكان المسرح الوجودي مثلا مسرح موقف لا مسرح دراما وأحداث ...
ونأتي للأخلاق الوجودية، فنجدها أخلاق موقف مشدود إلى المستقبل، لا قانون مستكن في الماضي؛ لذلك قيل إن «الاتجاه الأخلاقي للوجودية يحدد النظر إلى التاريخ على ضوء المستقبل.»
17
وأشباه المتعلمين ذوو النظرة العجلى المبتسرة يتصورون أن الحرية الوجودية ستجعلها فلسفة انحلال وإباحية، في حين أنها تحمل الإنسان أقسى مسئولية خلقية لا عن ذاته فحسب، بل عن الإنسانية جمعاء، على أساس أن اختيار قيمة معينة تأكيد لها، ودعوى للآخرين كي يختاروها، إنها اختيار للذات وللإنسانية جمعاء، التزام وإلزام.
18
فتتلخص أخلاقيات الوجودية في: تصرف بحيث يصبح فعلك أنموذجا للتصرف في كل موقف مماثل، في أي زمان ومكان، وكأننا وصلنا بالطريق المعكوس إلى أقصى صورة عرفتها الفلسفة للأخلاق الصارمة المتشددة؛ أي مبدأ الواجب المطلق عند إيمانويل كانط. ولئن كان الوجوديون، حتى بعض المؤمنين يحتقرون الأخلاق المتعارف عليها؛ لأن اتباعها الأعمى انقياد للآخرين وطمس للفرد، فإنه ليس في مقدور الإنسان أن يقف عند حد رفض القيم الجاهزة، إنما هو مقضي عليه أن يؤسس قيما يلتزم بها ويلزم بها الآخرين، لتصبح كلية على الرغم من أنها في أصلها ذاتية، هكذا يصبح الإنسان الأخلاقي مشرعا ومنفذا؛ فهو الخالق الوحيد لمعنى القيم في العالم. إنهم يبحثون عن مستوى أعمق للضمير، فيسلمون بحرية الإنسان ويرفعون من عليه كل وصاية أو إلزام مسبق؛ حتى لا يلتزم إلا بما يختار ويقرر هو الالتزام به، وبهذا تكون الأخلاق ذاتية نابعة من أعماق الفاعل متأصلة فيه، لا خارجية مفروضة عليه ربما بصورية فارغة، وتكون المسئولية عن الفعل من حيث كانت الحرية في الإقدام عليه. فالحرية والمسئولية وجهان لعملة واحدة كما تقضي مبدئيات التفكير، وكما يسلم كل دستور أو قانون؛ فلا يعد الفاعل مسئولا عن أية جريمة - مهما كانت بشعة - أرغم على ارتكابها بصورة أو بأخرى، وطبعا لا يوجد فيلسوف وجودي أو غير وجودي، مؤمن أو ملحد، يقول إن كل شيء مباح، ولن يوجد. والمفروض أن المسئولية الملازمة للحرية تقوم بعملية الضبط الأخلاقي المنشودة دائما، في كل موقف، فردي أو جمعي.
وتلك المكانة الفائقة للحرية من ناحية، وللموقف من الناحية الأخرى، جعلت الوجوديين شديدي العناية - على وجه الخصوص - بالمواقف التي يتجلى فيها معالم الحرية، كالتصميم والتعهد والالتزام والولاء، وعلى رأسها موقف الاختيار واتخاذ القرار - الطريق إلى الوجود الأصيل. من هنا كان «القرار» أحد محاور الفلسفة الوجودية، وكلنا نعلم صعوبته، وقد نحاول إرجاءه أو تجنبه، خصوصا حين القرارات الخطيرة التي يترتب عليها مواقف ذات دوام، كقرارات المهنة والزواج والصداقة. على أن القرار في كل حال يتضمن وثبة وتجاوزا للموقف المباشر، بحيث نكون قد ألزمنا أنفسنا بظروف لم تتعين وتتحقق بعد؛ فمن طبيعة الإنسان أن يلتزم وأن يراهن على المستقبل؛ لذلك لا بد أن يتخذ قرارات، وعنها تنبثق الذات.
19
الذات ليست معطاة جاهزة منذ البداية؛ المعطى حقل من الإمكانيات غير المتعينة، وبالقرار يختار الإنسان بعضا منها لتتعين وتشكل الذات. وعلى الرغم من أن القرار شاق ومؤلم، فإن النزعة الوجودية - على وجه الدقة - هي رفض كل ما يحول دون اتخاذ القرار حول الوجود الخاص، كالعرف والتقاليد والروتين؛ إنهم يحاربون كل ما يعمل على تشكيل حياة الأفراد في قوالب نمطية، تجعلهم يسيرون كالدهماء وراء قرارات اتخذت بالفعل، فيفقد الإنسان ذاته، ويقع في براثن الوجود الزائف.
وآية كل هذا يبلوره التمييز بين الوجود والماهية. ورغم أن هيدجر قال إن ماهية الإنسان كامنة في وجوده، فإنه يمكن اعتبار القول بأسبقية الوجود على الماهية من المعالم البارزة للوجودية، ذلك أن أي جماد أو نبات أو حيوان، ماهيته سابقة أو متآنية مع وجوده؛ المنضدة مثلا قبل وبعد أن تصنع، وفي أية مرحلة من مراحل وجودها مجرد منضدة؛ الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يسبق وجوده ماهيته، «إنه لا يأتي إلى الوجود كموضوع في مكان وزمان، بل كنشاط مستمر للحرية.»
20
فهو يوجد قبل أن نستطيع تعريفه بأية فكرة، «والمقصود بذلك أن الإنسان يوجد قبل كل شيء، وأنه يلقى ذاته، ويبرز إلى العالم، ثم يعرف بعد ذلك.»
21
فطبعا لا يمكن تحديد ماهية الوليد وقيمه وأهدافه ومثله والتزاماته ... أو على الإجمال علاقته بالعالم: «علاقتنا بالعالم ليست مقررة من قبل، نحن الذين نقرر.»
22
ألم نتفق على أن الذات معطاة كحقل من الممكنات؛ الإنسان مشروع وجود، ثم يقرر بنفسه ما الذي سيكونه، وفي النهاية لا يكون إلا بحسب ما ينتوي ويختار؛ ذاته ليست إلا مجموع قراراته وأفعاله، هذه هي حياته نفسها؛ وبالتالي لا مجال لتعليق الفشل على ظروف خارجية عن إرادته. إذن فالإنسان - لا عوامل البيئة والوراثة - هو الذي يصنع ذاته، و«أن يوجد الإنسان هو أن يختار بنفسه.»
23
في عملية مستمرة لا تنتهي أبدا، اللهم إلا بالموت. الإنسان وجود في الحاضر، فضلا عن مسئولية في مواجهة مستقبل مفتوح مليء بالممكنات، لتظل الأنا-الماهية هي مقبل أفعالها؛ إنها اختيار يجب ابتكاره مجددا ودائما.
لهذا كان الإنسان مسئولا عن ماهيته. إنها المسئولية التي سوف تتعدى ذاتيته إلى الإنسانية جمعاء، والتي لا يمكن الفرار منها لأن الإنسان حر. ولما كانت المسئولية الوجودية رهيبة إلى هذا الحد، حتى إنها تجعل فعل الاختيار والقرار مؤلما، فلا بد أن يلازمها قلق؛ من هنا كان الشعور بالقلق أساسيا في الوجودية.
ولكي يتحمل الإنسان هذه المسئولية تماما، تضعه الوجودية أمام كينونته؛ أي أمام كونه موجودا، وفي هذا استفادت كثيرا من الفينومينولوجيا (مذهب الظاهريات)، مذهب إدموند هوسرل
E. Hussrel (1891-1938م) الذي رام أن تصبح الفلسفة علما دقيقا، فدعاها لأن تقتصر على الوصف التفصيلي للظاهرة كما تعطى للوعي، شريطة أن يتخلص الذهن من الافتراضات والانحيازات المسبقة. ووضع هوسرل منهاجا دقيقا ومعقدا لهذا، يتلخص في ثلاث خطوات: تقويس الظاهرة؛ أي وضعها بين قوسين ليكون أمامنا كل الظاهرة ولا شيء سواها (التجريد-التطبيق) وقد أقام هوسرل بناءه على فكرة مجدية حقا للوجودية ألا وهي «القصدية» «البنية الجوهرية لكل وعي»
24
والتي تعني أن الوعي وعي بشيء ما يقصده؛ فهي فكرة ترتبط ربطا وثيقا بين الذات والموضوع، لما بينهما من «إحالة» متبادلة. هكذا نجد القصدية والإحالة يحققان وحدة الذات والموضوع التي حرصت الوجودية على البدء منها. بيد أن الفينومينولوجيا إحدى ذرى العقلانية؛ والوجوديون الذين أخذوا بها أو منها - وأهمهم هيدجر وسارتر وميرلوبونتي - قد أولوها تأويلا شديدا لتلائم أغراضهم، حتى إن هوسرل قد انتقد استخدام تلميذه هيدجر لأفكاره.
تقول سيمون دي بوفوار: «من المغالطة اعتبار الوجودية مذهبا يائسا؛ فهي أبعد ما تكون عن ذلك، إنها لا تحكم على الإنسان ببؤس لا علاج له»، «إن الإنسان لهو سيد مصيره الوحيد المستقل، إذا شاء فقط أن يكون كذلك، هذا ما تؤكده الوجودية، وإن هذا لتفاؤل»، «وإذا كانت الوجودية تقلق، فليس ذلك لأنها توئس الإنسان، بل لأنها تتطلب توترا مستمرا.»
25
والوجودية فعلا، حتى وإن كانت إلحادية تشاؤمية، فإنها ليست البتة موئسة، وهي أيضا ليست بالضرورة تشاؤمية، والأمل ظهر كثيرا في الوجودية الدينية المؤمنة، وخصوصا مع جبرييل مارسيل الذي وضع كتابه «الإنسان الجوال» وجعل له - كعادته - عنوانا فرعيا، هو «ميتافيزيقا الأمل»، وكأنه بهذا يواصل مسار إرنست بلوخ
E. Bloch (1885-1977م) الذي جعل «مبدأ الأمل» عنوان أهم أعماله، محورا لفلسفته اليوتوبية التي تجمع عناصر وجودية وماركسية وصوفية وعلمية وأنثربولوجية ... وهذا لا يمنع أن الروح العامة للوجودية هي بلا شك، رؤية سوداوية للحياة، وإحساس بمأساويتها وكآبتها وثقلها، وبالمعاناة الأليمة؛ فالوجودية في حد ذاتها، وفي أية صورة من صورها، فلسفة أزمة، فلسفة الموقف المتأزم للإنسان دونا عن سائر الموجودات؛ ليس هذا من صعوبة القرار ومسئولية الحرية والقلق فحسب، بل ومن مفاهيم أخرى كثيرة دارت حولها، مثل التناهي والموت والاغتراب والهم والإثم والخطيئة الأولى في المسيحية ... وغيرها؛ كلها مواقف حدية رهيبة، وأقساها التناهي، وهو خاصة أساسية للموجود البشري؛ فهو محدود من ناحية بلحظة الميلاد، والأفظع من الناحية الأخرى بلحظة الموت، حتى عرف هيدجر الإنسان (أو الآنية
Dasein ) بأنه «وجود-للموت»، من حيث أن الموت هو نهاية الحياة وقانونها المحتوم؛ الكائنات الحية الأخرى تنتهي، أما الإنسان فهو وحده الذي يموت؛ لأنه هو وحده الذي يهتم بأعلى إمكانيات وجوده وأخصبها، وهي إمكانية استحالته وانتهائه وموته.
26
فإذا كانت الذات حقلا من الممكنات، فإن الموت هو أصلب هذه الممكنات؛ لأنه الممكن الوحيد اليقيني، وهو في الوقت نفسه نهاية كل الممكنات التي تجعلها جميعا غير ممكنة؛ لذلك كان الموت عند الوجوديين الملاحدة - خصوصا ألبير كامي - برهانا نهائيا على عبثية الكون والناس، وهذه العبثية لا تنفي، بل لعلها تؤكد إعزاز الوجوديين الحميم لتجربة الحياة، وكامي نفسه يقول: «إن جزعي من الموت ينال من غيرتي الشديدة على الحياة.» و«إذا كنت أرفض رفضا باتا وعود العالم الآخر، فالسبب في ذلك أنني لا أرغب في التخلي عن خصوبة اللحظة الماثلة وما فيها من ثراء، كما أنني لا أوثر الاعتقاد بأن الموت يؤدي إلى حياة أخرى؛ فالموت بالنسبة لي باب موصد.»
27
إن الموت هنا يعبر عن اليقين الحسي والشك الروحي.
أما مع الوجوديين اللاهوتيين والمؤمنين، فقد اكتسب الموت دورا ودلالة مختلفة، ولكنه في كل حال يزيد من حدة الهم، الذي يأتي من التناقض بين كون الإنسان محدودا كواقعه، وكونه مشدودا للمستقبل؛ فهو مهموم بتحقيق إمكانياته، في بحثه الدائم عن الوجود الأصيل، المحفوف بالموت. •••
ولا مندوحة عن الاعتراف بأن الوجودية في منطلقاتها الفلسفية نزعة أرستقراطية، تبغي الرقي بالإنسان؛ فهي دائما الترفع والتميز عن الحشد وكتلة الجماهير؛ ولا شك أنها أتتنا باستبصارات عميقة ونافذة عن الموجود البشري، كانت صائبة إلى حد أنه قد نما مؤخرا علم النفس الوجودي والعلاج النفسي الوجودي، كمقابل للاتجاهات السيكولوجية التعميمية - خصوصا السلوكية الآلية - بصورة تجافي الواقع؛ «وأحرز العلاج النفسي الوجودي نجاحا ملحوظا في علاج الأمراض اللفظية وأمراض التخاطب، خصوصا التي لا تعود إلى أسباب عضوية.»
28
وقد بدأ هذا الاتجاه السيكولوجي بما يسمى بالتحليل النفسي الوجودي. ويعد لودفيج بنسفانجر
L. Binswanger
رائده، وكان يصف عوالم مرضاه بالاعتماد على تصورات أنطولوجيا هيدجر للوجود الإنساني.
وستظل الوجودية دائما حائزة لنوط شرف في صونها لفردانية الإنسان وحريته ضد أخطار قد تحيله إلى مجرد رأس في القطيع - بتعبير نيتشه - أبرزها الآن نظام الدولة الشمولية ذات السلطة الجامعة، ووسائل الإعلام الذائعة، والضغوط التي يمارسها مجتمع الجماهير، أو العقل الجمعي.
لكن لكل شيء حدودا؛ فأي خطر يتهدد المجتمع لو أن الوجودية أخذت مأخذا حقيقيا، وأصبح كل فرد يتصرف كما لو كان عالما مستقلا؟! ببساطة لن يظل مجتمعا، بل زحاما متنافرا. سيرد الوجوديون بأن كل وجود بشري محفوف بالمخاطر، وكما أن هناك إمكانية خطر الفوضى، بل وانعدام الأخلاق، فثمة أيضا إمكانية التقدم الأخلاقي الجذري؛ ربما. لكن حتى لو افترضنا مستوى الوعي اللائق وإخلاص النية وإصابة جادة الصواب من كل فرد وهو يبدع قيمه، فلا مندوحة عن عموميات يلتزم بها الجميع لكي تستقيم حياتهم معا؛ ثم لماذا يتصورون أن كل التجاء لعموميات وتجريدات جاهزة فيه مساس بالفرد؟! والواقع أنه - من وجوه كثيرة - فيه إذكاء، وسبيل إلى تجربة وجودية أفضل؛ أليس الوجوديون أشد من سواهم إدراكا لتناهي الموجود البشري ومحدوديته؟ حياته إذن قصيرة وإمكانياته قاصرة، لا تستوعب تقصي كل الأبعاد في كل موقف وصولا إلى القرار السليم، فلماذا لا يستفيد من المبادئ العمومية التي أسفرت عنها تجارب أخرى طويلة عريضة؟ على الفور سيرد الوجوديون بأن حرية القرار أهم من سلامته؛ لذا يؤخذ عليهم إعلاء التحمس للاختيار المتفرد فوق الإنصات لصوت الحكمة الرصين؛ إنهم ينشدون تحقيق ما أسموه بالوجود الأصيل، بأي شكل كان وبأي ثمن كان، في مغامرة أو مقامرة ليس من الصواب دائما الإقدام عليها بسهولة.
وبصرف النظر عن نقطة انطلاقهم - أي محاربة العقل وهو أداة إضفاء الرونق على الواقع - والسبيل الأمثل لحل كل المشاكل وتجاوز الكوارث ... كان تكثيفهم المأساوي للحياة بدلا من توسيع نطاقها، وصمهم الآذان عن جمالاتها الكثيرة، ثم دورانهم حول مقولات الموت والقلق والإثم والهم والاغتراب ... إلخ. أفلا نتوقع إذن من الوجوديين - لاهوتيين ومؤمنين وملاحدة - الطابع المأساوي الكئيب، والهم والغم والنحيب ... كان الله في عونهم!
كل هذا يبرر الحكم بأن الوجودية نزعة جانحة، خصوصا وأنها لا تزدهر إلا حين الاضطراب والانهيار وانعدام الشعور بالأمن؛ والمجتمعات المستقرة نسبيا - كما هو معروف، وكما يؤكد تيليش نفسه - لا تصغي للوجودية. •••
وبنظرة عميقة، نلاحظ أن هذه المآخذ الشهيرة على الوجودية تنداح كما تنداح دوائر بلجة ماء ألقي فيه بالحجر، فقط لو كانت لاهوتية أو حتى مؤمنة؛ أي حين يختار القرار الإيمان بالدين والألوهية لقهر العدم والتناهي والإثم والاغتراب ... ولتحقيق الوجود الأصيل، بكل ما يتضمنه هذا القرار من التزام وتعهد وولاء، وبهذا نعود إلى حيث بدأنا إلى الوجودية الدينية كمدخل لعالم باول تيليش.
وقبل الدخول إلى هذا العالم - وأي عالم - ينبغي أن نكون على حذر من أكذوبة تصنيفية تجعلنا ننظم الفلاسفة في صفوف أشبه بالجزر المنعزلة، ولعلها أشبه بطوابير الألعاب الرياضية، كل صف أو طابور يحمل بطاقة معينة، هذا مثالي ... وذاك تجريبي ... والآخر وجودي ... إلخ.
هذا الأسلوب الإجرائي التبسيطي لو أخذناه كقاعدة جامعة مانعة، كان ضلالة ضالة ومضللة، وأبعد ما تكون عن زخم الواقع الفلسفي الحي المتدفق المتلاحق بفعالية، وأحيانا بعنف، يرفض ويقبل ويطور ويصوب وينقد ويتراجع ويتقدم ... ولا يوجد فيلسوف ذو اعتبار؛ مصطلح فلسفي واحد كفيل بتحديد فلسفته من رأسها حتى أخمص قدميها. وانتماء الفيلسوف لاتجاه معين أو حتى لمدرسة معينة لا يعني أن كل ما سواها حرام عليه، ولا يعني أنه لزاما عليه أن يطبق تعاليمها حرفيا، فلا تفوته منها صغيرة ولا كبيرة، إن هذا ينطبق على المنتمين لأشد الاتجاهات الفلسفية إحكاما ورصانة منطقية ودقة في الأسس المنهجية، فما بالنا بالاتجاه الذي هو على النقيض من الإحكام والرصانة المنطقية - أي بالفلسفة الوجودية.
لقد حددنا بدقة - قصارى ما استطعنا - ماهية الاتجاه الوجودي بكل أبعاده وآفاقه؛ كي نكون على بينة من الحدود، ولكن ليس يعني هذا أن فلسفة الفيلسوف لا بد أن تكون، أو حتى يمكن أن تكون صورة طبق الأصل من هذا لكي يكون وجوديا؛ كلا بالطبع، يكفي الاشتراك في المنطلقات المبدئية، أو الدوران حول المحاور الأساسية؛ يكفي أيضا اقتفاء خطى أعظم الرواد كيركجور أو هيدجر أو سارتر. إن الوجودية ككل تيار فلسفي رئيسي، تضوي تحت لوائها وتسم بميسمها مدارس فلسفية كثيرة - وبعضها قامت لتستقل عنها فكانت بصورة معدلة أو مصغرة لها - كالشخصانية (ماريتان، بيرديائيف)، فلسفة الحياة (أونامونو)، فلسفة القوة والحياة أيضا (نيتشه)، فلسفة الوجود الشخصي (جاسيت وبولجاكوف) ... والملامح الوجودية الواضحة تجعلهم وجوديين شاءوا أم أبوا؛ وكل الفلاسفة الوجوديين - من ذكرناهم ومن لم نذكرهم - هم وجوديون فقط، بدرجات متفاوتة طبعا؛ أي لن يتحقق المفهوم الكامل الذي رأيناه مع أي منهم، وإن كانت أعلى درجة تسجل لكيركجور وهيدجر وسارتر؛ وهيدجر هو أقدر من استطاع أن يفلسف الوجودية، وأعمق روادها فكرا وأبعدهم تأثيرا، ومع هذا يرفض أن يسمي نفسه فيلسوفا وجوديا، ويفضل لقب فيلسوف وجود!
الخلاصة أن الوجودية كأي اتجاه فلسفي خصيب وثري، لا هي كفيلة بتحديد فلسفة الفيلسوف، ولا يوجد فيلسوف فلسفته بمفردها كفيلة بتحديدها.
إذن ليست الوجودية مصطلحا مرادفة لفلسفة باول تيليش المتعددة الأبعاد والمترامية الحدود؛ يقول تيليش موضحا موقفه - وهو قول يصلح قاعدة عامة مجدية جدا لمناهج البحث الفلسفي: «كثيرا ما يوجه إلي السؤال هل أنا لاهوتي وجودي؟ وإجابتي دائما مقتضبة، فأقول: إنني النصف والنصف
fifty-fifty ، وهذا يعني أن الوجودية والماهوية
Essentialism
بالنسبة لي ينتميان لبعضهما، ومن المستحيل أن يكون المرء ماهويا خالصا إذا كان في الموقف الإنساني بصفته الشخصية، وليس يجلس على عرش الله، كما نفهم ضمنا من هيجل وهو ينشئ تاريخ العالم الآتي لنهايته تبعا لمبدأ في فلسفته. تلك هي الغطرسة الميتافيزيقية للماهوية الخالصة؛ ومن الناحية الأخرى الوجودية الخالصة مستحيلة، فكي يصف الإنسان الوجود لا بد أن يستخدم اللغة؛ واللغة تتعامل مع الكليات، وباستعمال الكليات تكون اللغة بصميم طبيعتها ماهوية، ولا يمكنها التملص من هذا.»
29
ليست الماهوية فحسب، إنه على الحدود بين الوجودية وسائر المقاطعات المحيطة بها، وهو دائما وأبدا على الحدود، ولا يتقوقع في قلب المقاطعة فتستغرقه ويستغرقها، لا المقاطعة الوجودية ولا سواها، ولا حتى المقاطعة اللاهوتية بجلال قدرها.
لكننا وجدنا الوجودية اللاهوتية والدينية المنظور الأشمل والمدخل المثالي لعالمه، والذي يمكننا من الإحاطة به والتجول في سائر أرجائه، ولئن كانت موضوعا نناقش به ومن أجله فلسفة تيليش، فإنه نظرا لعمق وجوديته وأصالتها من ناحية، واتساق تفكيره وتشابك أطرافه وتلاقي عناصره من الناحية الأخرى، فلن يجدينا كثيرا وضع الإصبع على دعاويه الوجودية فحسب، وبدلا من هذا الأسلوب القاصر المبتسر، سنعرض لشخصية الفيلسوف ككل، ومقومات فلسفته بعامة، وسيكون هذا العرض المتكامل بدوره أكمل أسلوب لاستشراف نزعته الوجودية.
الجزء
مصادر فلسفة تيليش، النماء، والثمرة
الفصل الثالث
سيرة تيليش: تطوره الفكري وتشكل الأطر
باول تيليش ألماني، ولد في العشرين من أغسطس عام 1886م في قرية إشتارتسيدل
Starzeddel
بمقاطعة براندنبورج
Brandenburg
في بروسيا بألمانيا الشرقية،
1
أبوه منها، ولكن أمه من مقاطعة رينيلاند بألمانيا الغربية، ولعل هذا أول توتر له على قلب حدود - الحدود بين ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية؛
2
تحمل الأولى ميلا ما للتأمل، مرتبطا بكآبة ووعي حاد بالواجب والخطيئة الشخصية، ولا يزال بها احترام كبير للسلطة والتقاليد الإقطاعية؛ أما ألمانيا الغربية فتميزها الفتنة بالحياة، وحب التعين والحركية والعقلانية والديمقراطية، فأثرت هذه السمات المتصارعة على سياق حياته الداخلية والخارجية . وعلى الرغم من أن أمه ماتت مبكرا، وبالتالي كان تأثير أبيه هو المهيمن، فإن أطر ميراثه من بيئته لم تعرف أبدا الترابط والانسجام، بل دائما التوتر على الحدود، مما يفسر لنا رؤيته للتاريخ بأنه اختيار لخط يتجه صوب هدف، بدلا من الفكرة الكلاسيكية التي تراه دائرة مغلقة؛ فمضمون التاريخ في نظره تشكله فكرة الصراع بين مبدأين متعارضين. والحقيقة ديناميكية، نجدها في قلب الصراع أو القدر
3
أو على الحدود بين المبدأين المتصارعين.
وقد قضى سنوات صباه في شونفليس؛ حيث كان أبوه - وهو لاهوتي محافظ، وقسيس بروتستانتي كبير من رعاة الأبرشية اللوثرية - كان يعمل في منصب ديني رفيع كأسقف ومدير لكنيسة الإقليم. وشونفليس مدينة صغيرة وهادئة شرق الألب، أنشئت في العصور الوسطى، وما زالت محتفظة بشيء من طابعها، ومحاطة بمراع خصيبة وغابات كثيفة، مما ترك في الصبي باول انطباعا عميقا بالطبيعة وإحساسا رومانتيكيا بعبق التاريخ، فضلا عن الارتباط بالكنيسة بوصفها حاملة المعنى المقدس في قلب الحياة الإنسانية، «إنها المكان الذي ينبغي أن نعيش فيه الخبرة بالسر المقدس؛ نعيشها برهبة وجفول علوي.»
4
ومع هذا كان ينازعه دائما اشتياق لزيارة المدينة الكبيرة - برلين. وكان الخط الحديدي الذي ينقله إليها هو في حد ذاته نصف أسطورة؛ وهذه الفتنة التي حملتها المدينة قد وقته خطر الرفض الرومانتيكي للحضارة التقانية، وعلمته أن يقدر أهمية المدنية من أجل تطور الجانب النقدي للحياة العقلية والفنية؛ لقد ظل حتى آخر لحظة في حياته يشعر بالارتباط الأقوى بالريف والطبيعة عموما، وهذا الارتباط تنامى في ذهنه أكثر عبر رحلاته وسفرياته البحرية في عرض البحار، وهو يرى أن مشهد البحر الصاخب المترامي الآفاق الذي يفتئت دوما على الشاطئ الجامد قد ألهمه بالكثير من رموزه وأفكاره، ومعظمها تخلق إما تحت الأشجار وإما في عرض البحار.
5
ومع هذا فإن الريف لم يستأثر به، وظل على الحدود بينه وبين المدينة، أو بين الطبيعة والمدنية.
وهو على أية حال قد خرج من أعطاف حياة شونفليس الهادئة الوادعة المشبعة بزخم الدين، حين التحق بالمدرسة الثانوية في كونجسبرج
Köngisberg - موطن كانط - وتلقى تعليما علمانيا؛ فواجه لأول مرة المثل الكلاسيكية لليبرالية الأوروبية، مثل حرية التفكير الخاضع فقط لمعايير العقل؛ وعلى الرغم من رفضه لليبرالية الاقتصادية، فإنه يؤكد دائما ليبراليته في التفكير. لقد تلقى هذه المثل - والتي عايشها أكثر في برلين، حين انتقل والده للعمل هناك عام 1900م - بحماس شديد، لكن لا يخل إطلاقا من ولائه للدين وتحمسه الأعمق لحيثيات اللاهوت؛ فقيمة تيليش تتجلى في وقوفه على الحدود بينهما - حسب تعبيره الأثير - وجمعهما معا بحيث جعلهما القطبين المتعامدين والمشكلين لهيكل تفكيره؛ القطب الديني اللاهوتي الذي استقطبه في طفولته وصباه (شونفليس)، والقطب الفلسفي الناسوتي الذي استقطبه في مراهقته ويفاعته (كونجسبرج وبرلين)، على أن الأول بالطبع هو الأساس والجذر والجذع. إن تيليش ينشغل بالدين وبصره شاخص إلى الاشتراكية والعدالة الاجتماعية والحرية والقضايا الثقافية، أو مشاكل الحضارة المعاصرة، ومن قبل ومن بعد بالمعضلة الوجودية للإنسان الفرد.
ويخبرنا تيليش أن الخيال الذي تأجج في خاطره بين سن الرابعة عشرة والسابعة عشرة ثم لازمه طوال حياته، هو الذي حال بينه وبين الوقوع في براثن المدرسية - بالمعنى الحرفي للكلمة، وكان الخيال وأعظم تعبيراته - أي الإبداع الفني، له دائما تأثير كبير على أفكاره الفلسفية واللاهوتية؛ لقد تذوق الموسيقى منذ طفولته، وكان أبوه يؤلفها، ويؤكد أن الموسيقى الكنائسية شيء أكثر من ضروري لتتحقق التجربة الدينية، ولكن عشقه للفنون اتجه توا للأدب، فله سحر خاص وهو أكثر الفنون تضمنا للفلسفة، «ويرى تيليش أن تعاطفه الغريزي مع الفلسفة الوجودية يعود من ناحية ما إلى فهم وجودي لأعمال شكسبير التي ترجمها شليجل إلى الألمانية، خصوصا «هاملت».»
6
ولم يجد تيليش أبعادا وجودية في أعمال جوته؛ لذلك لم تجذبه كثيرا. ويعد ريلكه أكثر الشعراء الألمان تأثيرا عليه؛ لواقعيته المستقاة من التحليل النفسي، ولثرائه الصوفي والشحنة الشاعرية المشبعة بمضمون ميتافيزيقي ؛ على أن زوجة تيليش هي التي قادته حقيقة إلى عالم الشعر؛ ولم يكن الأب يبدي اهتماما بالفنون البصرية، فلم يلتفت إليها في طفولته وصباه، ولكن الخراب والقبح الذي خلفته الحرب العالمية الأولى جعل فن التصوير يجتذبه، وتطور الأمر إلى دراسة منهجية لتاريخه ومعايشة عميقة لاتجاهاته الحديثة، وتبقى فنون العمارة والموزيكو والفسيفساء، ولا شك أن التاريخ والمعمار الكنسي كفيل بها.
وقد تلقى تيليش تعليمه العالي في اللاهوت والفلسفة بجامعات ماربورج ودرسدن وفرانكفورت، ووجد في فلسفة شلنج
F. W. Schelling (1775م-1854م) للطبيعة، بغيته التي تتجاوب مع عشقه لها وتمنحه الإطار النظري لتفسيرها بأنها المظهر الدينامي لروح الخالق والهادف إلى إدراك الحرية المتعالية على الثنائية التناقضية القائمة بين الإنسانية والحتمية الكونية.
7
والواقع أن شلنج هو الوثن الفلسفي لتيليش؛ فهو يبالغ كثيرا في تقدير قيمته وتأثيره على الفكر الأوروبي، وكان قد حصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة من برسلاو
Breslau
عام 1911م برسالة موضوعها: (التصوف والوعي بالذنب في تطور شلنج الفلسفي
Mystik and Schuldbewusstein in Schellings philosophischer Entwiekluing )، وبعد هذا بعام (1912م) حصل من جامعة هال
Hall
على الدكتوراه وإجازة في اللاهوت، فعين في نفس العام قسيسا في الكنيسة اللوثرية الإنجيليكية، وعمل طوال الحرب العالمية الأولى كقسيس وواعظ في الجيش، في قلب الجبهة.
8
وكانت الحرب هي التجربة العميقة، التي حددت معالم تفكيره واتجاهه؛ فقد تركت بنفسه آثارا أليمة بما خلفته من دمار وخراب، خصوصا في وطنه ألمانيا، وقد قدمت له دليلا على إفلاس الحضارة
Kultur Culture
9
الغربية، وأنها في انتظار نهاية حقبة من تاريخها؛ هذا لأن إيمانها بالعقل فقط جعلها حضارة علمانية أوتونومية؛ أي معتمدة فقط على نفسها
Autonomous ، فكانت كل نواتجها التي جسدتها الحرب لتشهد عليها بالخواء والتناهي والعجز عن إشباع ذاتها، وأنها تعيش في قرنها العشرين نهاية هذه الحقبة، فبدت له الفرصة متاحة لإعادة بنائها على أساس جديد، هو الأساس الديني أو الثيولوجي، لتغدو حضارة ثيونومية؛ أي معتمدة على الدين
Theonomous
هذا هو المثل الأعلى المنشود الذي يحدد المهمة الإيجابية للاهوت في القرن العشرين؛ على أن الخروج من مرحلة الاعتماد على النفس؛ الأوتونومي
autonomy ، لا يعني العود فورا إلى النقيض المباشر، التبعية والاعتماد على الآخرين؛ الهترونومي
heternomy ، وقد كان تاريخ النهضة في أوروبا وبدء حضاراتها الحديثة، هو تاريخ لصراع دام وبطولي للخروج منها؛ وتيليش بلا شك يرفض أي تبعية، سواء دينية أو علمانية، إن ما ينشده هو وقوف يقظ واع على الحدود بينهما، ومركب جدلي من هترونومي العصر الوسيط وأتونومي العصر الحديث. إن التساؤل بشأنهما التساؤل بشأن المعيار النهائي للوجود الإنساني. فلا بد طبعا من الأتونومية، من الاعتماد على النفس، لكن بصورة هترونومية إلى حد ما؛ أي معضدة ومستفيدة ومشبعة بالبعد الثيولوجي؛ أي صورة ثيونومية، «بالثيونومي يتم قهر وتجاوز التناقض بين الأتونومي والهيترونومي.»
10
وقد مثلت فكرة الثيونومي محكا نهائيا يوجه فلسفة تيليش ويحدد تقييمه للفلسفات الأخرى. والفلسفة التي يعجب بها ويستفيد منها، يعتبرها ثيونومية، حتى ولو كانت إلحادية كفلسفات نيتشه وهيدجر!
ولم يبدأ تيليش عمله الأكاديمي إلا بعد انتهاء الحرب، وفي جامعة برلين؛ حيث حاضر فيما بين عامي 1919-1924م في تطور لاهوت الحضارة، معنيا بعلاقة الدين بالسياسة والفن والأدب والفلسفة وعلم نفس الأعماق والاجتماع، وكانت محاضراته هذه باكورة مشروعه الثيونومي، وجعل الدين مركزا تتصل به كل مجالات الحضارة.
11
وحاضر أيضا في جامعتي درسدن ولايبسج. وفي عام 1925م انتقل لتدريس اللاهوت في جامعة ماربورج؛ حيث زامل هيدجر وبولتمان، وبدأ في عمله الضخم «اللاهوت النسقي»، ولم يظهر الجزء الأول منه إلا عام 1951م، وفي عام 1929م قبل منصب أستاذ الفلسفة في جامعة فرانكفورت، وهي من أكثر جامعات ألمانيا حداثة وليبرالية، وليس بها كلية للاهوت، فحاول أن يتخذ من هذا فرصة لكي ينجز للفلسفة إنجازه للاهوت.
وحينما كان يدرس في الجامعات شارك بحماس في مناقشات نظامية كانت تدور من أجل فهم جديد للموقف الإنساني، فكتب ونشر فيما بين عامي 1919-1933م أكثر من مائة مقالة ودراسة حول هذا، مؤكدا أن الفهم الجديد للموقف الإنساني لا مندوحة له عن أن يكون دينيا ثيولوجيا؛ لتغدو الحضارة ثيونومية. إنها المنطلق لمجمل فكر تيليش، وإذا كان المعتمد أكاديميا أن هذا المنطلق هو «اللاهوت الحضاري» فإننا نرى المصطلحين اسمين لمسمى واحد هو علاقة تبادلية حميمة بين اللاهوت والوحي المنزل وبين الحضارة الإنسانية؛ لو نظرنا إلى هذه العلاقة من ناحية اللاهوت كان المشروع هو «اللاهوت الحضاري»، ولو نظرنا من ناحية الحضارة كان المشروع هو «الحضارة الثيونومية». وفي استيفائه لها، لم يهتم فقط بالمجالات الفعلية للحضارة كالفن والفلسفة والسياسة ... إلخ، بل اهتم أيضا بالأبعاد المعيارية؛ أي الأخلاق، فوضع تقابلا بين أخلاق الحضارة العلمانية فقط؛ أي الأوتونومية، وبين أخلاق الحضارة الثيونومية، مؤداه أن الأولى مشروطة وهي أخلاقيات السلطة والقانون والعدالة؛ أما الثانية فغير مشروطة وهي أخلاقيات المغامرة واللطف الإلهي
Grace
والحب.
12
وقد أردف هذا بمناقشة «التربية» في ضوء هذا الهدف - الحضارة الثيونومية. •••
ومن الناحية الأخرى، أو الجهة الأخرى للحدود، نجد أن تيليش ينتمي للبرجوازية الرفيعة، وأتاحت له مهنة والده - بوصفه الراعي الديني الكبير - أن يقيم علاقات شخصية وثيقة مع البرجوازية الرفيعة جدا - بقايا الأرستقراطية. ومع هذا نلقاه يتعاطف بشدة وإيجابية مع اليسار، مهتديا في هذا بأقوال المسيح ضد الظلم الاجتماعي وضد الأغنياء، وانضم عام 1918م للحركة الاشتراكية، وكان مناصرا للحزب الاشتراكي الديمقراطي. وتيليش شديد الإعجاب، بل متدله بماركس، ينسب إليه كل ما لذ وطاب من آيات التفلسف، بدءا من العلمية الصارمة، وانتهاء بالعنصر النبوئي وطابع الرسالة في فلسفته، ومرورا «بالوجودية» السياسية! مدعيا - مثلا - أن مفهوم الصدق عنده هو نفسه عند كيركجور، الصدق بالنسبة للوجود الإنساني، وما يخص موقف حياتنا ويقهر الاغتراب؛
13
ولكن لم يكن أبدا ماركسيا أو شيوعيا.
وفي عام 1920م تحددت هويته تماما بالاشتراكية الدينية
Religious socialism
وكان دائما من أبرز وأنشط أعضائها، وذلك على أساس ما تقدم من خطوط عامة في فكره؛ فالمجتمع المعاصر فقد تكامله وخسر جوهر وجوده، وطغيان الماديات جعله في خواء، وفي مسيس الحاجة إلى نوع من الخلاص، وهذا الخلاص يستلزم من ناحية قيم العدالة الاجتماعية، والتقارب الطبقي، وعدالة توزيع الثروة في المجتمع، أي الاشتراكية، ويستلزم من الناحية الأخرى - أو الجهة الأخرى للحدود - الدين ذا التجربة الروحية والأبعاد الوجودية العميقة؛ لذلك لا يتم الخلاص المنشود إلا بواسطة إحلال الاشتراكية الدينية محل الثقافة البرجوازية، إنها تستهدف إصلاح المجتمع بحيث يصبح الدين روحه، فيمكن أن تصبح الحضارة ثيونومية؛ يقول تيليش: «الاشتراكية الدينية ينبغي أن تفهم بوصفها حركة صوب الثيونومي الجديد؛ فهي أكثر من مجرد نسق اقتصادي حديث، إنها فهم شامل للوجود، صورة للثيونومي المطلوب والمتوقع الآن.»
14
إنها تبدو الحل الذي يفرض نفسه؛ فتيليش يرفض فكرة اليوتوبيا، ويرى أن مملكة الله لا تتحقق أبدا في المكان والزمان، فطالما يوجد إنسان على ظهر الأرض سيوجد دائما الخير والشر والصواب والخطأ؛ مملكة الله ومدينة الله فكرة متعالية ترانسندنتالية يمكن فقط أن تمثل معيارا للحكم على المجتمعات؛ أما الاشتراكية الدينية فهي البديل الواقعي والسليم.
وقد كانت حركة الاشتراكية الدينية منتشرة في أوروبا، وقوية في ألمانيا تصدر جريدة «أوراق من أجل اشتراكية دينية»
Blätter für Religiösen Socializmus ، فانضم إليها الشاب المتحمس باول تيلش، وشارك بمقالات في هذه الجريدة، ولكنه بدأ يستشعر روح الوهن والشيخوخة والدوجماطيقية فيها، فانفصل مع جمع من زملائه الشباب في حركة تروم أن تبث في اللاهوت الصارم للاشتراكية الدينية الألمانية حياة وعزما أنضر، وقدرة على مواجهة متغيرات الفكر والواقع؛ وأصدر بمعية زملائه مجلة «أوراق جديدة للاشتراكية
Neue Blätter für Socializmus » تهدف إلى إعادة قولبتها على أساس منظور ديني وفلسفي حديث، وهو شخصيا لم ينشغل بغير المسائل النظرية، ولكن المجلة بتأثير زملائه تصدت أيضا للمشاكل العملية والواقع السياسي الجاري.
15
وفي هذه الدعوى نجد الدين لتعضيد الاشتراكية، بقدر ما نجد الاشتراكية لتعضيده، مبدؤها أن الرب ذو علاقة، ليست فقط بالفرد وحياته الداخلية، أو بالكنيسة بوصفها كيانا اجتماعيا؛ الرب ذو علاقة بالكون وهذا يتضمن الطبيعة والتاريخ والشخصية؛ ولذلك يؤكد تيليش أن الكنيسة سوف تفشل في أداء مهمتها إن هي صاغت رسالتها بصورة مطلقة وبغير أن تضع الصراع الطبقي في اعتبارها، وأن الاشتراكية الدينية هي فقط التي تستطيع أن تحمل رسالة الكنيسة إلى كتل البروليتاريا التي لم تعد تدخلها اللهم إلا للتعميد والزواج والجنازات؛ لذلك فالاشتراكية الدينية، وليست الرسالة الداخلية، هي الشكل الضروري للنشاط المسيحي بين الطبقات العاملة. على هذا المحور انصبت جهود تيليش لجلو الصدأ عن المبادئ البروتستانتية الأصيلة وإعادة صياغتها لتواصل قدرتها على الاستمرار وعلى أداء دورها، ولم تكن مهمته سهلة؛ لأن البروتستانتية اللوثرية كانت من الأصول المكينة التي ارتكزت عليها نشأة الليبرالية والرأسمالية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، فضلا عن أن الاشتراكيين يخشون من تأثير الكنيسة على تثبيط الهمم النازعة إلى تحقيق الحكومة الاشتراكية؛ والكنيسة بدورها تخشى على رموزها المقدسة من مد الفكر الاشتراكي، فتقف في وجهه وتبدو مضادة أكثر للنزعة الإنسانية. وتجاهر طبقة الصفوة بإعجابها بالكنيسة لوقوفها في وجه الوثنية القومية، فيقوى موقف الكنيسة النائي عن مطالب الطبقة العاملة، وهي الكثرة الغالبة، وها هنا لنا أن نتذكر القول المأثور عن الاشتراكيين والشيوعيين الملاحدة من أن الله اختار الوقوف في صف الأغنياء، وعلى الفقراء البحث عن إله آخر! وعلى هذا تبدو جهود تيليش مسألة ملحة، وهي تتبلور في مقاله «المبدأ البروتستانتي والموقف البروليتاري»
16
حيث يعالج هذه الإشكالية معالجة هامة بالنسبة للاهوت وللاشتراكية وللفلسفة الوجودية على السواء.
والتقابل معروف بين الاشتراكية بنزعتها الجمعية التي تجعل الفرد يضيع في غمار الطبقة؛ وبين الوجودية بنزعتها الفردية، ولكن تيليش فيلسوف على الحدود، فيقول: «علينا ألا نخلط أحبولة انعدام المساواة
Riddle of Inequality ، مع واقعة أن كل فرد منا ذات فريدة لا تقارن. كوننا ذواتا ينتمي بالقطع لكرامتنا كبشر. هذه الكينونة منحت لنا، ولا بد أن نعملها ونكثفها، ولا نجعلها تغرق في المستنقع الآسن الذي يهددنا كثيرا هذه الأيام. لا بد أن يزود المرء عن كل فردانية، وعن تفرد كل ذات إنسانية، ولكن لا ينبغي أن ينخدع باعتقاد أن هذا هو حل لأحبولة انعدام المساواة؛ ولسوء الحظ ثمت الرجعيون الذين يروجون لهذا الخلط كي يبرروا الظلم الاجتماعي.»
17
وتمثل الاشتراكية الخلاص الوحيد من الظلم الاجتماعي، الخلاص المتكامل المتوازن؛ لأنها دينية - صوب الثيونومي. آمن تيليش بأنه بعد الوحي السماوي لا يوجد ما هو أسمى وأعظم من الاشتراكية الدينية، وكان على يقين دائما من أن اللحظة التاريخية لتحققها قد تأتي، ولم يفقد أبدا إيمانه بها، على الرغم من أنها لم تتحقق ولم تأت لحظتها التاريخية، بل أتت النازية إلى مقاعد الحكم في ألمانيا.
18
وإيمان تيليش بالحرية جعله يجاهر بنقد قاس وعنيف لهتلر، وبعدائه للنازية، فأبعد عن العمل في الجامعات ليكون أول أكاديمي غير يهودي تستبعده النازية من العمل في الجامعة. وفي صيف عام 1933م تصادف أن كان بألمانيا الألماني المهاجر إلى أمريكا راينهولد نيبور، الذي قام بترجمة بعض أعمال تيليش المبكرة من الألمانية إلى الإنجليزية، وهو يتفق معه في الاشتراكية الدينية، ويختلف في اللاهوت الحضاري. التقى نيبور بتيليش وأتاح له فرصة الهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية ففعل «وسفره لأمريكا وثق علاقته بحركة علم نفس الأعماق
Depth-Psychology
التي اهتم بها من منطلق اهتمامه بالعلاقة بين الدين والتحليل والعلاج النفسي.»
19
والملاحظ أن تيليش سعيد جدا بالتحليل النفسي مع فرويد وخلفائه، ويهتم به اهتماما بالغا ويعول عليه تعويلا كبيرا، وبغير أدنى إشارة إلى الاتجاهات السيكولوجية العلمية حقيقة! بصفة عامة ثقافة تيليش العلمية ضحلة جدا، وليس ذا إلمام بالتطورات العلمية، لا في الرياضيات ولا العلوم الطبيعية ولا الإنسانية. ولكن الدين والعلم مجالان ليس من الضروري أن يلتقيا فلسفيا؛ فهما منفصلان تماما، منهجا وموضوعا وغاية، فلا يدينه هذا كثيرا، المهم أن تيليش على الرغم من ميوله اليسارية، تلقى دعوة للعمل كأستاذ اللاهوت وفلسفة الدين في المعهد اللاهوتي الاتحادي بنيويورك، وظل بهذا المعهد حتى عام 1955م، ثم تقلد الأستاذية بجامعة هارفارد العريقة (من 1955م حتى 1962م) ثم جامعة شيكاغو منذ عام 1962م وحتى وفاته في الثاني والعشرين من أكتوبر عام 1965م، عن تسعة وسبعين عاما، وقد ظل محتفظا بنشاطه ومقدرته على العمل والإنجاز، وتأثيره على الأوساط الثقافية حتى آخر لحظة في حياته. والمحصلة رصيد ضخم من الأعمال اللاهوتية الفلسفية.
الفصل الرابع
أعماله
يعطينا مسار أعمال تيليش وسيرورة مؤلفاته الغزيرة رسما تخطيطيا لنماء تفكيره، وترعرع أفنان فلسفته.
وعلى الرغم من أن تيليش يميل - كدأب الألمان - إلى نحت مصطلحات جديدة، مما يضفي على كتاباته صعوبة ما بالنسبة للقارئ العادي، فإنها تتميز بسلاسة أخاذة، وعذوبة آسرة، وصدق حميم متوهج ومتبصر في آن واحد، يجذب مجامع القارئ؛ لذا حازت أعماله الكثيرة شهرة واسعة، وانتشرت انتشارا غريبا، حتى بين أوساط غير المعنيين لا بالمسائل الدينية ولا بالمسائل الفلسفية! وكان لها تأثيرها الكبير على الفكر والثقافة في العالم المتحدث بالإنجليزية، وأكثر من تأثيرها على العالم الألماني. وكما هو معروف، تيليش له فضل كبير في نشر - إن لم نقل تأصيل - الفكر الوجودي في العالم المتحدث بالإنجليزية.
المقالات والكتب في المرحلة الأولى من حياته، حتى عام 1933م، كانت طبعا باللغة الألمانية، ولما هاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية كتب بالإنجليزية، كما أن معظم أعماله ترجمت إلى الإنجليزية، وسوف نشير إلى ذلك تفصيلا فيما يلي:
أولا: الكتب
لما كان هذا الفصل أشبه بتوثيق ببليوجرافي لأعمال تيليش، فإننا سوف نتبع الأصول الببليوجرافية، ونورد كتب تيليش متسلسلة تبعا لتاريخ صدورها، وليس تبعا لأهميتها أو لتبويب موضوعاتها مثلا، ونحسب أن هذا الأسلوب الببليوجرافي أيسر السبل لطرح الصورة الكاملة لكتاباته؛ وعلى هذا الأساس نجد كتب باول تيليش كالآتي: (1)
Das System der Wissenschaften nach gegenstanden und Methoden: Ein Entwurf, 1923. «نسق العلوم تبعا لموضوعاتها ومناهجها: مشروع»: أو تخطيط عام، لتطوير مفهوم واضح للعلاقة المنطقية بين اللاهوت والفلسفة؛ «العلوم» هنا مقصود بها علوم اللاهوت والفلسفة. (2)
Religiöse Verwirklichung, Berlin, 1929. «التحقق الديني»: هذا الكتاب أول أعماله اللاهوتية الضخمة، أصلا مجموعة مقالات، وتحقيق البروتستانتية بالذات هو ما أوحى له بهذا العنوان. والحق أن الكتاب لاهوتي، لكن يتطرق أيضا للمسائل السياسية، وفيه استعمل لأول مرة التعبير «على الحدود»؛ إذ كتب يقول: على الحدود أفضل موقع لاكتساب المعرفة؛ وسرعان ما أدرك أن هذا التعبير خير ما يدل على موقفه جملة وتفصيلا، إنه رمز رامز لحياة تيليش وفلسفته وآرائه ... إلخ، ككل وكأجزاء. (3)
Die Sozialistische Entscheidung, potsdam, 1933. «القرار الاشتراكي»: في هذا الكتاب يوضح تيليش لماذا تقبل المذهب الاشتراكي بصورته الفلسفية؛ فهو يحوي فهما جديدا له عن طريق المقارنة بأقوال المسيح، وتبيان العنصر النبوئي والتضمنات الدينية للفلسفة الماركسية، وهذا ما تكرر كثيرا في أعمال تيليش بعد ذلك. (4)
The Religious Situation، New York, 1932. «الموقف الديني»: أشهر أعمال تيليش، وأكثرها تعبيرا عن فلسفته ككل وإجمالا لخطوطها العامة؛ أصلا مجموعة مقالات. والكتاب صدر في ألمانيا عام 1928م، ثم ترجمه راينهولد نيبور ليصدر في نيويورك قبل هجرة تيليش إليها. (5)
The Interpretation of History, 1936. «تأويل التاريخ»: وهو أيضا صدر في ألمانيا، ثم قام رازيتكسي
N. A. Razetiski
وتالمي
E. A. Talmey ، بترجمته ليصدر في نيويورك، وهو يقدم التفسير الوجودي للتاريخ من زاوية الاشتراكية الدينية الألمانية. (6)
My Diary Travel, 1936. «يوميات ترحالي»: خواطر عامة. (7)
The Protestant Era, 1948. «الحقبة البروتستانتية»: مجموعة مقالات، وبعد صدورها في ألمانيا بعشرين عاما، اختارها وجمعها وترجمها إلى الإنجليزية جيمس لوثر آدمز
J. L. Adams
لتدور حول تحديد الخطأ في الحضارة المسيحية، وهل البروتستانتية تحتاج إلى بعث وإعادة صياغة، أم أن الحقبة البروتستانتية ستنتهي إلى غير رجعة. (8)
The Shaking of the Foundations, 1948. «زعزعة الأسس»: وهو أصلا مجموعة مواعظ؛ لذا يأتي بلغة بسيطة يفهمها الجميع، بعيدة عن المصطلحات الفنية والتعبيرات المركبة والصياغات النسقية المعقدة، ليوضح التضمنات العملية والوجودية للاهوت؛ ويستغل - خصوصا في الفصل الأول الذي يحمل نفس العنوان - الظروف المأساوية التي خلفتها الحرب، ليطور ويخرج الصياغة النهائية للتساؤلات الوجودية والحضارية الملحة. (9)
The New Being, 1955. «الوجود الجديد»: أيضا مجموعة مواعظ، بلغة مبسطة، يقدم الإجابة عن التساؤلات التي صاغها في «زعزعة الأسس»، بحيث يمكن اعتباره بمثابة جزء ثان له. (10)
Morality and Beyond. «الأخلاق وما وراءها». (11)
Systematic Theology. «اللاهوت النسقي»: أضخم أعماله وأهمها على وجه الإطلاق؛ فهو معالجة فلسفية دقيقة لمسائل اللاهوت والاعتقاد، يقع في ثلاثة أجزاء؛ الجزء الأول بالذات له أهمية خاصة؛ لأن تيليش يطرح فيه تخطيط النسق ككل، ويحدد مقولاته الأساسية، ويطور منهجه - منهج التضايف. الأجزاء الثلاثة كالآتي:
Vol. I: Reason and Revelation, Being and God, 1951.
ج1 العقل والوحي، الكينونة والرب.
Vol. II: Existence and The Christ, 1957.
ج2 الوجود والمسيح.
Vol III: Life and the Spirit, History and the Kingdom of God, 1963.
ج3 الحياة والروح، التاريخ ومملكة الرب. (12)
The Eternal Now, 1952. «الآن الأبدي»: تحليل عميق للموقف الديني، يقتحم أعمق أغوار معضلة الإنسان المعاصر؛ لكي يمنحه في النهاية الحضور الدائم للأبدية الألوهية، وكحل ناجع للمعضلة. (13)
The Courage to Be, 1952. «شجاعة الكينونة»: هو أصلا مجموعة محاضرات «جيفور»، يحمل تحليلا وجوديا عميقا للموقف الروحي للإنسان المعاصر، يثبت مدى احتياجه للدين؛ وهو أهم أعمال تيليش بالنسبة للمعنيين بالفلسفة، وخصوصا الوجودية؛ إنه على وجه التحديد حجر الزاوية ونقطة الالتقاء التيليشة بين الفلسفة الوجودية والإيمان بالدين. وقد ترجمه إلى العربية كامل يوسف حسين تحت عنوان «الشجاعة من أجل الوجود» الذي قد يوحي بأن الشجاعة غاية أو سبيل وليست هي صلب الوجود ذاته. (14)
Love, Power, Justice, 1955. «الحب والقوة والعدالة»: هذه المفاهيم الثلاثة يعتبرها تيليش جذرية أساسية، لا يمكن تفاديها في كل منعطف من منعطفات اللاهوت والفلسفة على السواء. الكتاب يحدد فلسفة الأنطولوجيا لتيليش، وله ترجمة عربية مذكورة في الهوامش. (15)
Biblical Religion and The Search for Ultimate Reality, 1955. «الدين الإنجيلي والبحث عن الحقيقة القصوى»: يحدد من الإنجيل الدعاوى المطروحة فيه، ذات الصلة الوثيقة بمبحث الأنطولوجيا. (16)
Dynamics of Faith, 1957. «ديناميكيات الإيمان»: كتاب صغير الحجم كبير المضمون، يجيب عن تساؤلات حول: ما هو الإيمان، ما الذي لا يكونه الإيمان؛ أي ما الذي يفسده ويشوهه، رموز الإيمان، أنماط الإيمان، صدق الإيمان، حياة الإيمان. (17)
Theology of Culture, 1959. «لاهوت الحضارة»: مجموعة مقالات، تدور حول فحوى وجوهر فكر تيليش - أي الصلة الوثيقة بين الوحي والدين وبين أوجه الحضارة - اختارها وأعدها للنشر في صورة كتاب ر. س. كمبل
R. C. Kimball . (18)
Christianity and the Encounter of the World Religions, 1964. «المسيحية ومواجهة ديانات العالم»: حصيلة دعوة تلقاها لإلقاء محاضرات في اليابان حول هذا الموضوع. والمحاضرات أو الكتاب في حقيقة الأمر درس عميق في أصول وحيثيات وفلسفة التسامح الديني؛ إنه الإنجاز الذي أنجزه تيليش، وحضارتنا المعاصرة فعلا في أمس الحاجة إليه، وإن كان تيليش شخصيا لم يلتفت لهذا، وكأن تحديد نقطة الالتقاء، التي ينبغي أن تجتمع فيها كل الأديان في العالم، أمر يسير.
وبعد وفاته عام 1965م، نشرت له الكتب الآتية: (19)
On the Boundary, 1966. «على الحدود»: السيرة العقلية الذاتية لتيليش، يوضح فيها كيفيات ومبررات تطوره العقلي؛ فكان لا بد أن يكون عنوانه هذا التعبير الأثير لتيليش. (20)
My Search for Absolutes, 1967. «بحثي عن المطلقيات»: الجزء الأول منه سيرة ذاتية لحياته، وبقية أجزائه مناقشة لقضية المطلق والنسبي في مجالات الحقيقة والأخلاق والدين. والكتاب مزود برسوم سيريالية وكاريكاتورية بريشة سول شتاينبرج
Saul Steinborg ، ومقدمة توضح أوجه التلاقي بين فكر تيليش، وفن شتاينبرج، خصوصا في تصورهما للمطلق أو بحثهما عنه؛ يلفت نظرنا رسم ص59، ويصور الواقع كواقع سيزيف كما يوحي حجر متدحرج، وفي مقابله المطلق في صورة نصف دائرة لا نهائية، تحوي بداخلها الهرم المصري الخالد وبجواره النخلة المصرية الرشيقة؛ إنه يترسب في وجدان كل مكان من العالم المتحضر: مصر بحضارتها الفرعونية العظيمة رمزا لبداية وغاية المطلق الذي استطاع الإنسان أن يصل إليه، وقد تكرر رمز الهرم والنخلة في رسوم أخرى. (21)
A History of Christian Thought: From Its Judiac and Hellenistic Origins to Existentialism, 1967. «تاريخ الفكر المسيحي منذ أصوله اليهودية واليونانية وحتى الوجودية»: مرجع ضخم وممتاز للباحثين؛ فهو كتاب مدرسي أو أكاديمي بالمعنى الحرفي للكلمة، حتى إنه مزود بأسئلة وإجاباتها النموذجية، يقدم مسحا شاملا لتاريخ الفكر الأوروبي من الزاوية اللاهوتية، وهو أصلا محاضرات لتيليش أعدها للنشر في كتاب س. إ. براتن
C. E. Braaten .
ثانيا: المقالات
يقول تيليش إن حيثيات الفكر ومتطلبات الواقع تجعل عمله أساسا في صورة مقالات؛ وبعض كتبه - كما أشرنا - تجميع لمقالات؛ إنها كثيرة جدا تفوق الحصر، لكن المقالات الآتية لها أهمية خاصة: (1)
Logos und Mythos det Technik, Logos (Tübingen), XVI, No. 3 (November, 1927). «لوجوس التقنية وأسطورتها»: اللوجوس يرمز إلى الجوانب العقلانية أو الخاضعة للعقل في الحضارة التقانية؛ أما الأسطورة فترمز إلى كل ما يفوق أو ينقض العقل فيها. (2) “Die Technische Stadt als symbol”, Dresdner Neueste, Nachrichten, No. 115, 17 May, 1928. «المدنية التقانية بوصفها رمزا»: هاتان المقالتان الألمانيتان - أي المبكرتان - توضحان كيف أعطى المدنية حق قدرها، فوقف على الحدود بينها وبين الطبيعة، ولم يفتنه حب الأخيرة أو يعم أبصاره عن منجزات الحضارة الحديثة التي تبلورها المدنية. وبالنسبة للاشتراكية الدينية ثمت. (3) “Masse und Geist: Studen Zur Philosophie der Masse”, Volk und Geist, No.1 Berlin Frankfürt a. M: Verlag der Arbeitsgemein schaft, 1922. «الكتلة والروح: دراسة في فلسفة الكتلة»، وهي المقالة الأولى من كتاب «الشعب والروح» الصادر عن دار نشر العمل الجماعي: يوضح تيليش في هذه المقالة نظرية «الكتلة الديناميكية»؛ أي ذات القوة المؤثرة، التي استوحاها من أجواء البحر. المهم أن نلاحظ التورية التي يحملها مصطلح «الكتلة بالألمانية
die Masse ، وبالإنجليزية
mass »؛ فهي تعني الكتلة بمعنى فيزيائي هو قطعة المادة، أو بتعبير أدق مقدار ما يحتويه الجسم من مادة، ويعني أيضا الجماهير، وهذا هو المعنى المقصود، وعلى وجه التحديد كمقابل للصفوة أو الإنتليجنتسيا
Intelligentsia
فالمقال مناقشة فلسفية للعلاقة بين الشخصية الفردانية وكتلة الجماهير، من النواحي السياسية وأيضا الوجودية. (4) “Grundlinien des religiösen Socializmus: Ein systematischer Entwurf”, Blätter für religiösen Socializmus, Berlin, IV, No. 8110-1923. «مبادئ الاشتراكية الدينية: مشروع نسقي» وكما هو مذكور منشورة في مجلة «أوراق من أجل اشتراكية دينية»: التي كانت تصدرها حركة الاشتراكية الدينية القديمة في ألمانيا؛ والمقال يحمل تخطيطا عاما لتصور تيليش للاشتراكية الدينية. (5) “Das Problem der Macht: Versuch einer philosophischen Grundlegung”. Neue Blätter für den Socializmus, potsdam, Alfred Protte, 1933. «مشكلة القوة: محاولة تأسيس فلسفي» وهي في مجلة «أوراق جديدة للاشتراكية»: التي أصدرها تيليش مع زملائه الشباب؛ وهو في هذا المقال لا يتخذ الموقف الاشتراكي العادي المناهض للبرجوازية، بل يحاول أن يقف على الحدود بينها وبين البروليتاريا؛ فأساء فهمه كثير من الاشتراكيين، حتى من أخلص أصدقائه.
أما بالنسبة للاهوت، فالمقالات الألمانية الهامة هي: (6) “Rechtfertigung und Zweifel”, Vorträge die theologischen Konferenz zu Giessen, 39 folge, Gissen: Alferd Töpelmann, 1924. «التبرير والشك»: يقارن فيها بين الشك والخطيئة، كلاهما متأصل في الطبيعة الإنسانية. وكما أن غفران الخطيئة بدوره متأصل في المسيحية، فلا بد أن يكون الأمر كذلك بالنسبة للشك. (7) “Religionsphilosophie” Lehrbuch der Philosophie, ed. Max Dessior, Vol. 2: Die
1925. «فلسفة الدين»: فصل من كتاب فلسفي ضخم ، وضع بهدف التدريس. (8) “Die Idee der Offenbarung”, Zeitschrift für theologie und Kirche (Tübingen) N. F. VIII, No. 6. (1927). «فكرة الوحي»: يقول فيها إن الوحي مسألة متناقضة ظاهريا، لكنها تماما مثل فكرة غفران الخطيئة. (9) “Protestantismus als Kritik und Gestaltung”, Darmstadt: Otto Reichl, 1929. «البروتستانتية بوصفها نقدا وبناء»: المقال فصل من كتاب اشترك فيه مع آخرين؛ لبحث إمكانية تحقيق البروتستانتية. (10) “Kirche und humanistische Gesellschaft”, Neuwerk (Kassoel), XIII, No1. (April-May. 1931). «الكنيسة والمجتمع الإنساني»: يناقش العلاقة بينهما، ويميز بين الكنيسة المعلن عنها والكنيسة في باطنها؛ وكان هدفه أن يجذب حركة المسيحية الإنسانية المنشقة عن الكنيسة أو الكائنة خارجها.
ويمكن ملاحظة أنه في المرحلة الأولى من حياته - في وطنه ألمانيا - كان أكثر اهتماما بالاشتراكية، وبعد أن هاجر إلى أمريكا أصبح أكثر اهتماما بالوجودية، لكنه دائما اشتراكي ووجودي معا، ومن قبل ومن بعد لاهوتي بروتستانتي، أولم نره [الفصل الأول: الالتقاء بين الوجودية والدين] يبرر تراجع البروتستانتية عن الأراضي الوجودية بضغط وتأثير الليبرالية الرأسمالية، التي هي على وجه الدقة الحضارة الأوتونومية.
ولأهمية الرمز في فلسفة تيليش اللاهوتية، فإن أهم مقالاته التي كتبها بالإنجليزية، هما المقالتان: (11)
The Religious Symbol, in: Journal of liberal Religion, Vol. 2, No1., Summer 1940. Pp. 13-33. «الرمز الديني». (12)
Theology and Symbolism, in: F. Johnson (ed.), Religious Symbolism, New York, 1955. «اللاهوت والرمزية»: مساهمة تيليش في هذا الكتاب «الرمزية الدينية».
هذا بخلاف العديد الجم من المقالات الصحفية السريعة في المجلات والجرائد اليومية، والمحاضرات في المجامع العلمية. على أن هذا الكم الهائل من الأعمال لا يوازيه نفس الكم في مضمون فلسفة تيليش؛ فبعض كتبه تلخيص أو تبسيط للبعض الآخر، أو بالكثير دخول من زاوية أخرى، ولك أن تتوقع نفس المضمون تقريبا في الغالبية العظمى من هذه الأعمال، حتى إن «اللاهوت النسقي» يغني عن ثلاثة أرباعها. إنه يكرر نفسه كثيرا، لكن أسلوبه في الكتابة لا يجعل الملالة تقترب؛ وظل محتفظا باتقاده حتى آخر لحظة في حياته.
إن حياة بول تيليش الزاخرة، وتطور فكره الخصيب وأطره المتسقة، وأعماله الجمة ... كل هذا يصب في محصلة نهائية، جعلها تيليش المهمة المطلقة التي آلى على نفسه تحقيقها، ونذر لها حياته وعلمه وعمله وفكره جملة وتفصيلا، ألا وهي «تحديث اللاهوت»، حتى حق لنا أن نعد «تحديث اللاهوت» بمثابة الثمرة المجتناة من فكر تيليش.
الفصل الخامس
تحديث اللاهوت
يمكن اعتبار فكر باول تيليش بأسره نتيجة لازمة عن مقدمتين: الأولى أنه «لا يمكننا البتة الدخول في نظرة كتاب للإنجيل يقع بيننا وبينهم قرابة ألفي عام من الفكر.»
1
أما المقدمة الثانية فقد وقفنا عليها، وخلاصتها أن اللاهوت يقدم العلاج الناجع لأدواء الحضارة المعاصرة وتردياتها وعجزها عن إشباع الإنسان؛ فصحيح أن التناقضات الناجمة عن كون الإنسان موجودا متناهيا تطرح على العقل أسئلة، الوحي يقوم بالإجابة عليها بحيث يمثل خلاص الإنسان من تناهي عقله؛ إلا أن العقائد المسيحية ليست مجرد إجابة عن تساؤلات نظرية، بل هي حلول مثلى للمشاكل العملية؛ أي أن الدين من أجل الحضارة.
من هنا تقوم فلسفته على تبرير المسيحية وإثباتها بمقولات الحضارة، ومن منطلق احتياجاتها، ومن منظور مشاكلها؛ إنه يقف على الحدود بين العقيدة المسيحية وبين الحضارة العلمانية المعاصرة، معلنا أن هدفه إقامة الجسور بينهما؛ كي تصب التقاليد المسيحية الروحية الخصيبة الدافئة في قلب الحضارة المعاصرة؛ لتصبح ثيونومية، وعساها أن تخضوضر بعد أن شابها اصفرار.
وقد لاحظ تيليش أن مكمن قوة الاتجاه العلماني هي ممارسته المستمرة للنقد الذاتي؛ فرام أن تكتسب الكنيسة بعضا من هذه القدرة. ومن هنا دأب على تصويب النقد لأخطاء الكنيسة، ولا يفوته أن يقول مؤكدا: «على الرغم من أنني أوجه النقد كثيرا لمبادئ الكنيسة وممارستها، فإنها ظلت دائما موطني.»
2
فقد نشأ في أعطافها، وبلا شك يهيم بها عشقا بالقلب وبالعقل وبالنفس وبالروح، ومع هذا عرف كيف يقف على الحدود بينها وبين المجتمع بعلمانيته، وهو يعترف بأن «المسيحية استغلت إنجازات العلمانية حيثما وجدتها، سواء في مصر أو اليونان أو روما»؛
3
لكي تبني نفسها؛ فلا يني أبدا عن محاولاته لاستدراج العلمانيين إلى داخل الكنيسة، كي يكون العالم العلماني أفضل وأخصب - ثيونوميا.
4
ولكن يسلم بتقسيم الأراضي بين العلمانية والكنيسة؛ فيعترف للعلمانية بإنجازاتها العظيمة وإضافاتها الفذة في العلم والتقنية والمناهج والمذاهب الفلسفية، والفن والسياسة والفكر الاجتماعي ... إلخ، ولكنه بالمثل يطالب العلمانيين باحترام الرموز الدينية، وأن يعترفوا بقدرات اللاهوت الوجودية والنفسية الفائقة، التي تتمكن من تحقيق أبعاد حضارية أصبحت ملحة في عصرنا هذا، وبات واضحا استحالة تحقيقها بغير الالتجاء، لآفاق الأبدية ... آفاق الألوهية والإيمان الديني.
هكذا يفلسف تيليش للاهوت، وعيونه مفتوحة على الواقع المعاصر؛ على الإنسان والحضارة والبناء الثقافي بصميم المشاكل المميزة للقرن العشرين، مما أدى إلى راديكالية - تجديد جذري في مفاهيمه اللاهوتية والميتافيزيقية - فكان حقا معاصرا وليس كدأب اللاهوتيين مجرد مواصل لميراث السابقين.
والحق أن تحديث اللاهوت - وخصوصا مفهوم الألوهية - بلغ من تيليش مبلغا من الجرأة، قد لا تورثه إلا النزعة الوجودية، ولكنها على أية حال جرأة محسوبة وبعناية بالغة تذكرنا دائما بأنه قسيس محترف، ورجل دين ابن رجل دين، وليس يستمد الجرأة إلا من رغبة عارمة في أن يفجر الحياة في اللاهوت، ويفجر اللاهوت في الحياة؛ وإذا كان يبرر جرأته ويحسب حدودها على أسس وجودية، فإنها تبريرات وحسابات تلقي بنا في قلب مستقبل أفضل للاهوت بأن يغدو «لاهوتا حضاريا»، وبالتالي أقدر على البقاء؛ وللحضارة بأن تغدو حضارة لاهوتية، ثيونومية، وبالتالي أقدر على الاستمرار.
أما عن الأسس الوجودية لتحديث اللاهوت فتتلخص فيما وهبه الله للإنسان من قوة النسيان وقوة التذكر، إنهما ملكتا التعامل مع الماضي؛ النسيان من أجل تجاوز ما ينبغي تجاوزه؛ والتذكر من أجل الاحتفاظ بما ينبغي الاحتفاظ به. ولنتعلم من حكمة الله وبديع صنعه وننظر في نماء أي وكل نبات وحيوان، لنرى المراحل السابقة تنتهي ويتم تجاوزها، لكي تفسح الطريق للمستقبل الآتي؛ فالحياة ناضرة متجددة دوما من حيث هي حياة، ولكن طبعا ليس الماضي بأسره يروح في الماضي، بل يبقى منه دائما شيء ما في الحاضر يمثل أساس قوة النماء في اتجاه المستقبل، تلك سمة عامة للحياة تنطبق على الإنسان مثلما تنطبق على كل كائن حي آخر؛ لكن الإنسان فقط هو الذي يدرك هذا، ويدرك أنه يملك قوة النسيان وقوة التذكر،
5
وتعلو النبرة الوجودية، حتى نجد تيليش يعلي من قيمة النسيان الذي يحرر الإنسان من ماضيه فيجعله مشدودا أكثر نحو المستقبل والموقف الآتي، مصدقا على أن قوة شخصية الفرد تعتمد على كم الأشياء التي يستطيع إلقاءها في الماضي، بحيث تفقد تأثيرها على الحاضر؛ ما حدث قد حدث ولا يمكن تغيير هذا، لكن الدين يمنحنا القوة على تغيير معناه وقيمته حين يفتح أمامنا طريق التوبة الكفيل بإبراء أمراض يعجز الطب النفسي عن إبرائها؛ التوبة الحقيقية القوية ليست الوقوع في براثن الندم والجزع على ما ارتكبنا من أخطاء، بل هي الانفصال التام عن الخطأ، وإلقاؤه بمجمل عناصره في غياهب النسيان، والتوبة يوازيها أصل من أصول الدين هو «الغفران»، الذي يعني الموافقة الإلهية على إلقاء القديم في قلب الماضي؛ لأن ثمة جديدا آتيا؛ الغفران إذن مقدمة شرطية وضرورية لتحقيق الوجود الجديد، هدف الديانة المسيحية الأخير
6
وكل ما يصدق على الفرد يصدق على الأمة.
إن النسيان قوة مجدية لأقصى الحدود، ولا خوف منه البتة؛ لأنه لا شيء أبدي سرمدي أو إلهي مقدس يمكن أن ينسى؛ ليس ينسى إلا ما هو خاو ووقتي زائل، باختصار ليس ينسى إلا ما هو خليق بالنسيان، يقول تيليش إن الحياة لا يمكن أن تستمر بغير إلقاء الماضي في قلب الماضي وتحرير الحاضر من عبئه، وبغير هذه القوة يمكن أن تغدو الحياة بغير مستقبل سوف يستعبدها الماضي؛ ويستشهد بأنه كان ثمة أمم عاجزة عن أن تلقي بأي شيء من ميراثها في قلب الماضي، وبهذا حرمت نفسها من النماء، طالما أن ثقل ماضيها يسحق حاضرها ويوردها موارد الانطفاء والانقراض، وفي بعض الأحيان قد نسأل عما إذا كان هذا هو حال المسيحية، وأيضا الأديان الأخرى؟ أليست ترتبط كثيرا بماضيها ولا تترك منه إلا ما ندر؟ يجيب تيليش بأن نسيان الماضي فعلا أصعب بالنسبة للدين؛ لكن الله ليس فقط البداية الذي أتينا منها، سبحانه أيضا النهاية التي سنئوب إليها؛ إنه الأول والآخر ، المبدئ والمعيد، خالق الماضي القديم، وأيضا المحدث الجديد؛ وهبنا الوجود الحاضر الذي يرتكز على الماضي ولكنه مشدود للمستقبل. ووهب الإنسان نعمة النسيان؛ والكنيسة التي تتنكر لهذه النعمة، تقع في مهاوي الإغراء التي وقعت فيها الكنائس السابقة؛ أي تجعل من نفسها بمثابة إله سرمدي. إن الإنسان لا ينسى اسمه وهويته، كذلك الكنيسة ليس مطلوبا منها أن تنسى أسسها؛ لكنها إذا كانت عاجزة أن تخلف وراءها الكثير مما تم بناؤه على هذه الأسس فسوف تفقد مستقبلها.
7
من حديث تيليش هذا، الذي تعمدنا أن نضع فيه «الله» لأنه ينطبق على كل الأديان بقدر ما ينطبق على المسيحية، فضلا عن البروتستانتية، يغدو واضحا أن غايته من كل تحديث هي ضمان المستقبل الآتي للكنيسة وللدين، ومن الجهة الأخرى لفلسفته أو للحدود، ضمان المستقبل الآتي للحضارة. إن تيليش مشدود صوب المستقبل مبرأ من خطر التدله بالماضي والوقوع في براثنه، وهو خطر داهم رجال الدين واللاهوت أيسر مراميه وفي طليعة ضحاياه. وأحسب أن اللاهوت الليبرالي الحضاري البروتستانتي هو الذي كفل له هذه الحماية وجعله على وعي بالعلاقة التي ينبغي وأن تكون بين الدين وبين المتغيرات الحضارية. يقول تيليش إن مشكلته اللاهوتية الأساسية تأتت من تطبيق العلاقة بالمطلق المتضمن للألوهية، على نسبية الديانة الإنسانية؛ لأن الدوجماطيقية الدينية نشأت حين ارتدى الدين التاريخي عباءة الصحة غير المشروطة للمقدس، كما يحدث حينما يطالب كتاب أو شخص أو جماعة أو مؤسسة أو مبدأ ... بالسلطة المطلقة وبإخضاع كل واقع آخر؛ لأنه لا يمكن أن يوجد مطلب آخر بجوار المطلب غير المشروط للمقدس. ولكن كون جذور هذا المطلب في الواقع التاريخي، فإن هذا هو أصل كل تبعية (هترونومي
Heteronomy )؛
8
أي كل انقياد خاطئ ومرفوض أدت إليه الكاثوليكية، وقامت البروتستانتية أصلا لترفضه.
والحق أن تيليش ليس فريدا أوحد في هذا الصدد، إنه يندرج مع بولتمان ونيبور وبونهوفر وسواهم من اللاهوتيين البروتستانتيين المعاصرين - على الرغم من الخلافات الشديدة بينهم - في زمرة واحدة، هي زمرة الباحثين عن مفهوم جديد للألوهية والوحي والعقيدة، وبصفة أكثر عمومية، يلاحظ جون ماكوري في مسحه للفكر الديني الغربي للقرن العشرين، أنه على الرغم من التعدد الضخم في تياراته وتضاربها وأحيانا تناقضها، فإن سمته المميزة هي الرغبة في التحديث والتغيير والانقلاب، أو على الأقل الافتراق عن القديم؛ نظرا لأنه قرن تغير فيه كل شيء تقريبا، ولا مندوحة عن الاعتراف بأن تغيرات الفكر الديني كانت بدورها جذرية حقا؛
9
ومع هذا فإن أحدا لم يبذل مثل ما بذله تيليش من أجل تحديث اللاهوت والتعبير عن العقيدة المسيحية تعبيرا جديدا مصوغا وفقا لتقاليد ومصطلحات الفكر الغربي الحديث، بحيث يحافظ على جوهر الديانة المسيحية الفريد،
10
وفي الوقت نفسه يجعلها معقولة وملائمة تماما لإنسان هذا العصر ولأزمته الراهنة.
إن تيليش لاهوتي أولا وفيلسوف ثانيا؛ وكان فيلسوفا دينيا يتفلسف من الداخل من قلب التجربة الدينية، أكثر منه فيلسوفا للدين ينظر إليه من الخارج؛ «ومنذ البداية وعلم التعليل اللاهوتي للمسيح
Christology
مركز تفكير تيليش»
11
وإذا كان هو نفسه يقول إنه دائما على الحدود بين اللاهوت والفلسفة، ومنذ أن كان في المرحلة الثانوية وهو يحلم بأن يكون فيلسوفا، فإننا نرى أن رغبته في تحديث اللاهوت هي لا سواها التي دفعته إلى الإيغال في رحاب الفلسفة.
وقد أعلن صراحة أن مهمته الأساسية هي توضيح العقيدة المسيحية توضيحا منهجيا نسقيا بواسطة التحليل الفلسفي، وإخضاع المفاهيم اللاهوتية للمنظور الفلسفي؛ فلما فعل هذا في كتابه التخصصي الأعظم «اللاهوت النسقي» ثار في وجهه اللاهوتيون المحترفون بحجة شائعة ومستهلكة، مؤداها أن اللاهوت أبسط وأصفى وأنقى من الفلسفة التي يريدها أن توضحه. ولكن أين هو اللاهوتي العميق ذو الفكر الجدير بالاعتبار واللافت للانتباه، والذي لم يستفد من الفلسفة؟
وتيليش نفسه يؤكد أن المحاولات الشائعة للتملص من الفلسفة ورفضها جملة وتفصيلا، سواء من قبل الطب أو من قبل اللاهوت - وكلاهما إبراء وشفاء - كلها محاولات يبدو جليا أنها غير ناجحة، سواء أدركت هذا أو لم تدرك،
12
ويقول: «ثمة ضلال عميق في الاتهام الموجه ضد استخدام البحوث التاريخية والفكر الفلسفي في اللاهوت؛ إن المرء في الحياة اليومية ينعت بالضلال حين يقذف ويشهر بأولئك الذين يستفيد من خدماتهم؛ ولا ينبغي أن نرتكب مثل هذا الضلال في أعمالنا اللاهوتية، ولن نلقى محيصا بالقول: لنستخدم القليل (من الفكر الفلسفي) ولكن لا نستخدم الكثير؛ وهذا لكي نهرب من الخطر المتضمن فيه.»
13
ويستشهد بقول القديس بولس إن كل العالم ملك لنا، لتجربتنا الدينية؛ لأنه ملك لله، «ولكننا نخاف أن نقبل ما هو ممنوح لنا؛ إننا في عزل ذاتي قهري بإزاء عالمنا، ونحاول الهروب من الحياة بدلا من أن نتحكم فيها، ولسنا نتصرف كما لو كان العالم كله ملك لنا؛ الكنيسة ذاتها ليست أقل في هذا، والسبب أننا نحن وكنائسنا لا نعرف كما عرف بولس معنى: أن نكون للمسيح ولأننا للمسيح فنحن نكون لله.»
14
والحق أن وهج الحيوية الذي استطاع تيليش تفجيره في التجربة الدينية وتحديثها، وعن طريق الاستعانة بالفكر الفلسفي على العموم والوجودي على الخصوص، لهو أعظم مصداق على قوله هذا، أو على موقفه اللاهوتي/الفلسفي، والذي يصر على أنه تعبير عن اللاهوت بما هو لاهوت؛ حيث يستحيل أن يتجرد من الفلسفة.
الجزء
فلسفة تيليش: اللاهوت والوجودية
الفصل السادس
تعامد القطبين: اللاهوت والفلسفة
يقول تيليش: «وقفت بحذر على الحدود بين اللاهوت والفلسفة، معنيا بألا يضيع أحدهما في الآخر»، و«بوصفي لاهوتيا حاولت أن أبقى فيلسوفا، والعكس بالعكس، ربما كان أيسر أن أهجر الحدود بينهما، وأختار أحدهما أو الآخر. داخليا، كان ذلك هو المستحيل بالنسبة لي. ولحسن الحظ كانت الظروف الخارجية مواتية لميولي الداخلية.»
1
فقد أتيحت له - كما رأينا - الفرصة النظامية لدراسة وتدريس اللاهوت والفلسفة معا، وأن يصول ويجول في كليهما، والمحصلة أن نلقاه يبز اللاهوتيين بتملكه لناصية الفلسفة، ويبز الفلاسفة بتملكه لناصية اللاهوت.
وثمرة هذا نلمسها منذ البداية في عمله المبكر (بالألمانية) «نسق العلوم تبعا لموضوعاتها ومناهجها» سنة 1923م؛ فقد كان الهدف النهائي من هذا العمل هو تقديم الإجابة عن التساؤلات الآتية: كيف للاهوت أن يكون علما بمعنى «علم
Wissenschaft »
2
وكيف تتصل أنساقه العديدة بالعلوم الأخرى؟ ما هو الشيء المميز بشأن منهجه؟ وقد أجاب بأن صنف كل الأنساق المنهجية بوصفها علوما للتفكير، وللوجود، وللحضارة
Kultur ، وتمسك بأن أساس نسق العلوم ككل هو فلسفة المعنى
Sinnphilosophie ، وعرف الميتافيزيقا بأنها محاولة التعبير عن غير المشروط في حدود الرموز العقلية. وعرف اللاهوت بأنه الميتافيزيقا الثيونومية. وبهذه الطريقة حاول أن يكسب للاهوت مكانا في قلب كلية المعرفة الإنسانية. ونجاح هذا التحليل يفترض مقدما أن الخاصة الثيونومية للمعرفة ذاتها لا بد من الاعتراف بها؛ أي أن جذور التفكير كائنة في المطلق بوصفه أساس ولجة المعنى؛ ويغدو موضوع اللاهوت افتراضات مسبقة لكل ولأية معرفة (والمعرفة هنا بالمعنى الفلسفي، أما المعرفة بمعنى العلوم الرياضية والتجريبية فلا ترد على بال تيليش)، وهكذا نجد أن اللاهوت والفلسفة، أو الدين والمعرفة، يتضمن كل منهما الآخر، وبالوقوف على الحدود بينهما، نتبين أن تلك هي العلاقة الحقيقية بينهما.
3 •••
وكل نبضة من نبضات فكر تيليش تؤكد أن اللاهوت والفلسفة متآزران؛ إنهما يقفان في مربع واحد وجبهة ثقافية حضارية واحدة، ومسلحان بسلاح مشترك أو أداة واحدة.
المربع الواحد يعني أن الموضوع واحد هو الحقيقة
Reality
والوجود
Being
على أن الفلسفة هي التناول المعرفي للحقيقة؛ حيث تكون موضوعا مفارقا للذات. أما اللاهوت فيثير نفس المشاكل التي تثيرها الفلسفة بشأن الحقيقة، لكن بأسلوب يجعلنا نعايش هذه المشاكل بوصفها متضمنة فينا ونابعة منا، لا منفصلة عنا مفارقة لنا كما تطرحها الفلسفة. الفلسفة تبحث في بنية الوجود، أما اللاهوت يعنى بمعنى الوجود بالنسبة للإنسان واهتمامه القصي. وعلى الرغم من هذا القدح المعلى للاهوت - خصوصا من الزاوية الوجودية - فإن المبحثين متداخلان؛ الفيلسوف يهتم بمعنى الوجود، واللاهوتي يبدأ ببنية الوجود.
4
اللاهوت والفلسفة أيضا رفاق سلاح، أو أن أداتهما واحدة هي العقل الأنطولوجي؛ ذلك أن تيليش يحلل العقل في حدود نمطين متقابلين له، هما العقل الأنطولوجي الذي نستخدمه في التحليلات الميتافيزيقية، والعقل التقني الذي نستخدمه في حل المشاكل العملية.
5
وفي عصرنا الأوتونومي يحتل العقل التقني قصب السبق، فأصبح الاهتمام فقط بالوسائل المؤدية إلى الأهداف الجزئية، وأهمل العقل الأنطولوجي؛ أهملت بنية العقل التي تمكننا من استكناه الحقيقة ومن تشكيلها. ولأن العقل الأنطولوجي هو مصدر القيمة والمعنى، فقد ضاعا من إنسان هذا العصر، ويغدو الدين هو الوسيلة الفعالة لرأب هذا الصدع؛ فهو الذي سيعرض علينا مباشرة وبحيوية جوهر العقل الأنطولوجي، ويعيده إلينا ويعيدنا إليه عودة حميمة معاشة؛ لأن جوهر العقل الأنطولوجي في ذات الهوية مع مضمون الوحي المنزل، وما هو أنطولوجي وما هو لاهوتي يتطابقان في نقطة واحدة؛ إذ إن كليهما يعالجان الوجود كما هو، وتيليش يتحدث عنهما بمصطلحات واحدة.
على هذا النحو نجد أن حال الحضارة المعاصرة، وتطوراتها، أو بالأحرى تردياتها، تجعلها في حاجة ملحة للدين، للوحي المسيحي كأساس ثقافي لها؛ أي لأن تصبح ثيونومية، هذه هي الأطروحة الرئيسية لتيليش، وكما نرى أيا كانت زاوية تفكيره، فإنها تحيلنا إليها. •••
ويبقى التأثير الكبير على فكر تيليش، للفلسفة المثالية الألمانية العتيدة؛ إنه ترعرع في أجوائها وتشبع بها، وامتلأ حماسا لها، وعانى من كارثة الحرب العالمية الأولى حين كرثت بها وبفلسفته المثالية الأثيرة، فلسفة شلنج. ثم إن المثالية الألمانية كانت دائما فلسفة الانشطار على العقل والعلم والعالم من أجل الحرية الإنسانية التي هي ضرورية لفكر تيليش، اللاهوتي والفلسفي على السواء؛ لذلك كان تفكير تيليش الذي يصطبغ بالصبغة الوجودية، هو أيضا تفكير مثالي، فقيل إن المثالية والوجودية تتنازعان عقليته، أو إنه يقف على الحدود بينهما، فحين يفكر في الله يفكر تفكيرا مثاليا، وحين يفكر في الإنسان يفكر تفكيرا وجوديا، وليس يوجد موضوع من موضوعات تفكيره لا يندرج بصورة أو بأخرى تحت لواء العلاقة بين الله والإنسان.
وتيليش نفسه يؤكد أنه فيلسوف مثالي «على أن نفهم المثالية بمعنى دخول الوجود والفكر في ذات الهوية، وكمبدأ للحقيقة.»
6
أي أن الأبستمولوجيا (فلسفة المعرفة) ترد إلى الأنطولوجيا (فلسفة الوجود)، هي مجرد فرع منها، وكل تقرير أبستمولوجي هي ضمنا أنطولوجي. إن مفهوم الفلسفة عنده دائما يدور حول الأنطولوجيا.
لذلك فنحن نرى أن تيليش فيلسوف مثالي بمعنى أنه فيلسوف أنطولوجي، وليس بالمعنى الحرفي لمصطلح المثالية الذي يفيد أسبقية الفكر على الوجود، وهو فيلسوف أنطولوجي بكل ما في الكلمة من معنى؛ الأنطولوجيا هي إطار تفكيره وطريقته التي يمكن من خلالها العثور على المعنى الجذري لكافة المبادئ حتى رأى أن فلسفة الأخلاق - مثلا - «هي علم الوجود الأخلاقي للإنسان، الذي يسعى للوصول إلى جذور الالتزام الأخلاقي ومعيار صحته ومنابع مضامينه وقوى تحقيقه. وتعتمد الإجابة على هذه الأسئلة بصورة مباشرة على مبدأ الوجود.»
7
أي على فلسفة الأنطولوجيا. كان لا بد أن يبقى أنطولوجيا من حيث هو لاهوتي.
فقد لاحظنا من حديثه عن الرفقة المشتركة بين اللاهوت والفلسفة، أن الأنطولوجيا هي حلقة الربط بينهما، بل وإننا نرى أن الأنطولوجيا عند تيليش هي حلقة الربط بين اللاهوت وبين العقل على الإجمال. إنه بطبيعة الحال - كلاهوتي وكوجودي - لا عقلاني إلى حد ما، يرى أبعادا تند عن سلطان العقل ونطاقه، وهو لم يعتقد أبدا بصحة البراهين الميتافيزيقية أو المنطقية على العقائد الدينية المعينة، خصوصا على وجود الرب، وأكد أن جوهر الإنجيل لا يمكن استنباطه من المبادئ الفلسفية، بل وكان شديد العناية بالدلالة العميقة جدا للعقائد اللاعقلانية في الديانة المسيحية، وأهمها الكريسماس: ميلاد المسيح ... الرب الذي هو طفل رضيع ... ثم مدان مصلوب، وعلى الرغم من هذا فإنه كما يقف على الحدود بين المثالية والوجودية، يقف على الحدود بين العقلانية واللاعقلانية، لم يفعل ما فعله كيركجور الذي أكد أن الإيمان جملة وتفصيلا هو الخروج من دائرة المعقول الخانقة المميتة، هو عينه «اللامعقول» أو ما يسميه الإغريق الجنون الإلهي!
8
كلا، لم ينكر تيليش كل وأية علاقة بين الدين والمباحث العقلية، ولم يخرج التجربة الدينية بأسرها من عالم المعقول، أو جعلها حراما على العقل، وليس صحيحا في نظره «أن العقيدة الدينية هي الإيمان بأشياء بغير دليل»
9 ... وهذا بسبب التطابق الذي ذكرناه بين ما هو لاهوتي وما هو أنطولوجي، والذي يجعل المباحث الأنطولوجية تستطيع أن تؤيد الدين، فقط إذا ما بدأت من مصادره، أو أكدت على محصلة مؤداها أن الرب هو الوجود ذاته
Being-itself ، وبهذا «يصبح الوحي هو العقل متوغلا في النسيج العقلاني، كما أن كلمة الرب هي الكلمة متوغلة في كافة الكلمات.»
10
الحقائق الدينية لا تقتصر على حياة الفرد ومشاعره واتجاهاته وسلوكه، بل تتضمن إشارة إلى الواقع الخارجي المستقل عنه، إشارة يمكن التحقق منها تحققا عقليا وفلسفيا؛ لهذا تمثل الأنطولوجيا تأييدا للدين، ولهذا أيضا كانت إطار تفكير تيليش.
إن الأنطولوجيا هي التي تميز تيليش عن الوجوديين اللاهوتيين والدينيين الذين جعلناهم رفاقا له [الفصل الأول: الالتقاء بين الوجودية والدين] أمثال مارتن بوبر وبيرديائيف وأوناونو وجاسيت ... إلخ؛ فقد انصبت عنايتهم على الوجود الشخصي فحسب. ووجودية تيليش بذلك الأساس الأنطولوجي أعمق من وجوديتهم وأقرب إلى اللاهوتيين الوجوديين، خصوصا بولتمان ومدرسة جوجارتن وبوري ...
ولأن تيليش فيلسوف وجودي، فليست تحمل الأنطولوجيا معه الدلالة القديمة من حيث أنها بحث ميتافيزيقي مطلق في مجردات ثبوتية ساكنة كالجوهر والماهية ... الأنطولوجيا عنده من أجل تحقيق «المهمة التي تنتهي، والمتحصلة في إيضاح الوجود، باعتباره كذلك، أو باعتباره ذلك الذي يشارك فيه كل ما هو كائن.»
11
وقد ظلت دائما أنطولوجيا إنسانية، إن صح التعبير.
فتيليش فيلسوف وجودي؛ لذلك كان لا بد أن تكون نقطة بدئه للنظرية الأنطولوجية هي الموقف الإنساني، وأكد أن تحليل الوجود الإنساني هو الطريق الوحيد لفهم البنية الأنطولوجية للحقيقة، أما بقية الكائنات أو الأشياء فنفهمها عن طريق المماثلة
Analogy
بالإنسان - ذات الإنسان وذات كل نفس حية - ويمتد منهج المماثلة إلى كل فرد حتى في المملكة غير العضوية.
وأساسه أن الإنسان هو الموجود الوحيد الذي تتحد فيه كل مستويات الوجود؛ فليس الإنسان محض موضوع فائق بين الموضوعات، بل إنه الوجود الذي يطرح السؤال الأنطولوجي، والذي يمكن أن نجد الإجابة الأنطولوجية في وعيه بذاته؛ لأنه يمر بخبرة فورية ومباشرة ببنية الوجود وعناصره، خبرة تعني التداخل بين النفس والعالم، والاعتماد المتبادل بينهما؛ إنهما القطبان المشكلان لبنية الوجود، وبالتالي لبنية الأنطولوجيا؛
12
وهذان القطبان بدورهما يعنيان أن وجود الإنسان يرتد إلى مبدأي التفرد والمشاركة مع الآخرين.
إنها عين النقطة التي حددناها للفلسفة الوجودية في الفصل الثاني، والتي يلخصها مصطلح هيدجر البارع
Dasein (الوجود هنالك) في العالم بمعية الآخرين.
وتتوغل وجودية الأنطولوجيا التيليشية، حتى نجد أن العناصر الأنطولوجية هي ذاتها عناصر أو مقولات الموقف الإنساني؛ أي الفردية والمشاركة، الديناميكية والصورة، الحرية والمصير؛
13
فالذات ذات؛ فقط لأنها في عالم، في كون له بنية، تنتمي إليه، ولكن أيضا تنفصل عنه. إن أنطولوجيا تيليش، أو فلسفته بعامة، أو بصفة أكثر عمومية، العلاقة التي ارتآها بين اللاهوت والفلسفة، فقد أفضت بنا - وكان لا بد وأن تفضي - إلى قلب نزعته الوجودية.
الفصل السابع
الوجودية الدينية
يقول تيليش: «حين قدمت الفلسفة الوجودية إلى ألمانيا، توصلت أنا إلى فهم جديد للعلاقة بين اللاهوت والفلسفة.»
1
هذه العبارة توضح بجلاء كيف أصبحت الوجودية بمثابة حجر الزاوية والعمود الفقري لفكر تيليش الذي رآها تطرح تساؤلات جذرية عميقة، لا توجد إجاباتها إلا في الإيمان باللاهوت، وأصبح تيليش من أقدر المعبرين عن الوجودية المؤمنة والدينية، كأنه يواصل مسارها الشرعي، كما بدأت مع سرن كيركجور - أقوى المؤثرين عليه، والذي يشترك معه في العناية بالمغزى الديني للموقف الإنساني، وفي تأكيد أن التساؤلات الدينية لا يمكن إثارتها بصورة ملائمة إلا من حيث هي متأصلة بالموقف الإنساني - أي أن كيركجور وتيليش يشتركان معا في العناية بدينية الوجودية، وكرس تيليش لهذا كتابه «شجاعة الكينونة»؛ وأيضا يشتركان في تأكيد وجودية الدين، وكرس تيليش لهذا الجزء الثاني من كتابه «اللاهوت النسقي». على أن تيليش أكثر من رائده كيركجور ارتباطا بتاريخ ونصوص ومؤسسات الديانة المسيحية؛ فهو دونا عنه لاهوتي محترف رسميا، وهو بلا شك أكثر الوجوديين طرا تأثيرا وانتشارا في العالم المتحدث بالإنجليزية، والذي لم يكن مرعى خصيبا من مراعي الوجودية التي تفجرت فقط في قلب القارة الأوروبية، خصوصا في غربها.
ويحدد لنا تيليش ثلاثة فلاسفة، أحبهم وعايش فكرهم بعمق، فمثلوا أساسا انطلق منه تحمسه الشديد للفلسفة الوجودية، وهم شلنج وكيركجور ونيتشه. وهو لم يقرأ نيتشه إلا بعد أن بلغ سن الثلاثين، ومع هذا كان ذا تأثير ضخم عليه، وكثيرا ما يستشهد بأقواله ويجعلها محورا للنقاش؛ وجد تيليش في نيتشه وجوديا عظيما، ومن أهم الوجوديين «إذ يكشف عن شجاعة أن ينعم النظر لهاوية العدم، في تفرده الكامل الذي تقبل رسالة موت الله .»
2
وتحمس بشدة ل «فلسفة الحياة» معه؛ حيث الحياة في هذا المصطلح هي العملية التي تحقق بها قوة الوجود ذاتها، ورآها ضرورية لمرحلة ما بعد الحرب، وكرد فعل للموت والجوع في سنواتها ساد بعدها التفكير التواق لتأكيد الوجود، والذي جعل تأكيد نيتشه للحياة شديد الجاذبية؛ ثم يقول تيليش: «لما كان هذا التأكيد النيتشوي للحياة يعود من ناحية ما إلى جذور في فلسفة شلنج ، فقد كنت على استعداد لتقبله.»
3
وشلنج كما ذكرنا هو الوثن الفلسفي لتيليش، وإذا كان المعتمد أنه رائد المثالية الذاتية، فإن تيليش يصر على أن شلنج بهذا الرائد الحقيقي للوجودية، والذي سار في ركابه كيركجور؛ وذلك لأنه أول من قاد الهجوم الوجودي على «فلسفة الماهية» لصديقه هيجل، والتي هي قمة الفلسفة التي تلغي الاتجاه الوجودي، وسماها «فلسفة سلبية»؛ لأنها تتجرد من الوجود الحقيقي، وجعل «الفلسفة الإيجابية» هي فلسفة الفرد الذي يمر بالخبرة ويفكر ويقرر من داخل موقفه التاريخي، ليس فحسب بل أيضا كان شلنج هو أول من أهاب بمصطلح الوجود
Existenz
ليناقض فلسفة الماهية، وكان هذا في سلسلة محاضرات عن فلسفة الأسطورة، ألقاها شلنج خلال شتاء 1841-1842م في جامعة برلين، وأمام مستمعين مميزين: كيركجور وإنجلز وباكونين؛ فانفجر المصطلح في الأجواء الألمانية خلال العقد الخامس من القرن الماضي حتى احتوته الكانتية،
4
وصاغت منه عام 1929م المصطلح الدال على هذا الاتجاه الفلسفي، كما ذكرنا. والحق أن تيليش لا يغالي كثيرا في تقدير قيمة شلنج؛ فقد كتب كيركجور في يومياته بتاريخ 22 فبراير سنة 1842م يقول: «أنا سعيد سعادة لا توصف لسماعي محاضرة شلنج الثانية حتى إنني تنهدت طويلا بما فيه الكفاية، وتنهدت الأفكار بداخلي.»
5
ولا يغيب عن بال تيليش الفوارق بين الأصول والإرهاصات التاريخية الواسعة النطاق، وبين الريادة الموحية وبين النشأة وبين النضج؛ فقد قام في كتابه «شجاعة الكينونة» بمسح تاريخي سريع - كعادته كرره في كتب أخرى - استخرج فيه عناصر وجودية من فلسفة كل فيلسوف تقريبا من الفلاسفة العظام، حتى أبعدهم عن الوجودية، بدءا من أفلاطون وأفلوطين، وطبعا أوغسطين، ومن معظم الاتجاهات الكبرى في الفلسفة الوسيطة حتى الاتجاهين الواقعي والاسمي، ثم كوميديا دانتي ومدرسة فلورنسا حتى كانط نفسه بل وهيجل!
وصولا إلى شلنج وشوبنها ووماكس شتيرنر وكارل ماركس وطبعا نيتشه؛ وانتهاء بالبرجماتية وجيمس، ودلتاي وبيرجسون، وصمويل ألكسندر، وماكس فيبر وغيرهم، وطبعا الأدباء العظام أمثال بودلير ورامبو في الشعر؛ وفلوبير ودستويفسكي في الرواية؛ وإبسن وشتريندبيرج في المسرح. وهو في هذا يسلم قطعا بأنهم ليسوا وجوديين بالمعنى الدقيق للمصطلح، فقط حملوا اعتراضا ضد تشيؤ الإنسان وتموضعه. وفي النهاية يؤكد أن الفلسفة التي ظهرت في القرن العشرين شيء آخر، إنها أسطع وأقوى وأخطر معنى للوجودية، وهي فقط التي تنشغل بمشكلة المعنى حين تتحدث عن التناهي والذنب، وهي التي حين قدمت إلى ألمانيا - المنبت والموطن للوجودية - مثلت له فهما جديدا للعلاقة بين اللاهوت والفلسفة.
ومن ثم أحس تيليش بروح تلك الفلسفات الثلاث: شلنج - كيركجور - نيتشه، وقد انصهرت واندمجت معا في فلسفة هيدجر. وإذا كان تيليش يجاهر بولائه لشلنج، فإن أسلوب ومضمون فلسفته، بل وطبيعة مصطلحاته تؤكد أن هيدجر هو في الواقع أعظم المؤثرين عليه، ونحسب أن هيدجر هكذا بالنسبة لكل وجودي ذي اعتبار، خصوصا إذا كان لاهوتيا؛ وتيليش على أية حال يرى أن كتاب هيدجر (الوجود والزمان
Sein und Zeit ) أهم ما أخرجه الفكر الألماني في القرن العشرين، بعد كتاب إدموند هوسرل (دراسات منطقية
logische Untersuchungen ) الذي أسس به الاتجاه الفينومينولوجي، وقد استفاد تيليش كثيرا من الفينومينولوجيا، وكما سبق أن رأينا العلاقة التي توثقت بينها وبين الوجودية، يؤكد تيليش على العلاقة الوثيقة بينها وبين اللاهوت، فيقول: «لا بد أن يطبق اللاهوت التناول الفينومينولوجي على كل مفاهيمه الأساسية»؛
6
لأنه مقدمة تمهيدية ضرورية لمناقشة صحتها وفعاليتها. •••
وتيليش كأي فيلسوف وجودي، ينطلق من واقعة أن الإنسان وحيد في الكون، فرد فريد لا يمكن أن يشاركه في موقفه الوجودي أو يحل محله آخر؛ فيستهل كتابه «الآن الأبدي» بالفقرة التالية:
لقد كان هناك بمفرده، وكذلك نحن. إن الإنسان بمفرده لأنه إنسان أو بمعنى ما نلقى كل مخلوق بمفرده. وبانفراد مهيب يرحل كل نجم عبر ظلام الفضاء اللامتناهي ، وتنمو كل شجيرة وفقا لقانونها هي الخاص محققة إمكانياتها الفريدة. وتحيا الحيوانات، تقاتل، تموت من أجل ذاتها، وهي بمفردها؛ بعضها جماعيا، بيد أنها جميعا بمفردها! وأن تحيا يعني أن توجد في جسد؛ جسد منفصل عن كل الأجساد الأخرى، وأن تكون منفصلة يعني أن تكون بمفردها. يصدق هذا على كل مخلوق، ويصدق على الإنسان أكثر مما يصدق على أي مخلوق آخر. إنه ليس فقط بمفرده، لكن يعلم أيضا أنه بمفرده ولكونه على وعي بما هو عليه، فإنه يثير التساؤل عن وحدته. يسأل لماذا هو بمفرده، وكيف يستطيع الانتصار على كونه بمفرده؛ فهو لا يستطيع تحمل هذه الوحدة
aloneness ، ولا هو يستطيع الفرار منها. إن قدره أن يكون بمفرده، وأن يكون على وعي بهذا، ولا حتى الرب يستطيع أن يرفع عنه هذا القدر.
7
يقول تيليش هذا وهو يناقش مأزق الإنسان، في فصل بعنوان «الانفراد والتفرد»، فيوضح براعة اللغة؛ حيث إن المصطلح الأول (الانفراد
Loneliness ) يشير إلى الجانب المأساوي من الوحدة والذي يبلغ ذروته في موقفي الذنب والموت؛ فلا أحد يشارك في رفع وزرهما؛ أما المصطلح الآخر (التفرد
Solitude ) فيشير إلى الجانب النبيل الجليل الجميل للوحدة المحتومة على الإنسان، ويوضح لماذا لا يستطيع الله بجلالته أن يخلصه منها، ذلك أن عظمة الإنسان في أنه يتفرد: يتمركز داخل ذاته وينفصل عن عالمه، فيكون قادرا على أن يعلو عليه وينظر إليه ويعرفه ويحبه؛ وفي التفرد يتحقق أسمى أشكال وتعيينات الوجود الإنساني؛ أي الإبداع؛ وأيضا تنمو وتترعرع أعظم قوة قادرة على مقاومة الوحدة والانفراد؛ أي الحب وأيضا التواصل الجنسي، وإن كانت قوة محدودة بإمكانيات رفض الحب أو موت وفقدان المحبوب. «الإنسان وحيد» إذن سلاح ذو حدين، وهو أولا وأخيرا قدر الإنسان المحتوم - فقط الإنسان. ويؤكد تيليش أن الذي يستطيع أن يكون وحيدا بمفرده، هو فقط الذي يمكنه الزعم بأنه إنسان؛ ذلك هو مجد الإنسان، والحمل الذي ينوء بكلكله.
والآن، لقد رأينا في المقدمة أو المدخل أن ويلات الحرب جعلت الأجواء مهيأة للوجودية كي تستأنف طريق نيتشه، وتسير في مقولة الفردانية إلى منتهاها، إلى الهجر، الإلحاد، الإنسان وحيد تماما مهجور في هذا الكون، لا إله يقيم معه شيئا من التواصل. تلك هي الوجودية الملحدة التي شاعت وذاعت، والجرح الذي قامت لتداويه جعلته يفغر فاهه بشراسة أكثر. ولكن حين التعرف على سيرة تيليش وجدنا أن ويلات الحرب هي نفسها التي جعلته يؤكد الاحتياج لحضارة ثيونومية، للألوهية، ولوجودية دينية كي يلتئم الجرح. ونحن نتساءل: أي الطريقين الوجوديين - طريق الإلحاد وطريق الإيمان - أكثر تحقيقا لحيثيات التجربة الوجودية؟ أكثر وجودية؟ نحسب أنه الطريق الثاني.
بداية، يوضح تيليش أن الوجودية التي قويت وتألقت في القرن العشرين هي: تعبير عن قلق الخواء واللامعنى ومحاولة قهره بشجاعة تحتويه داخلها. وبهذه الشجاعة حدث الانفصال في مفترق الطرق بين الوجودية الدينية والملحدة. ولا شك أن قلق اللامعنى ليس فقط معلولا مباشرا للحرب العالمية، بل يعود أيضا إلى رفض الألوهية في القرن التاسع عشر، والذي بلوره نيتشه بقوله «الله مات.» فمات معه نسق القيم والمعاني التي يحيا عليها الإنسان. هذا أمر محسوس بوصفه خسارة وفقدانا، وبوصفه تحررا وانطلاقا، فإما أن يؤدي إلى شجاعة العدمية، وإما إلى شجاعة تحتوي العدم داخلها. ويحمل نيتشه قمة التعبير عن الشجاعة العدمية الموئسة المحطمة للذات، إنها شجاعة اليأس
Courage of Despair ، وأعمق تعبير فلسفي عنها في كتاب هيدجر (الوجود والزمان)، هي بلا شك شجاعة جسورة، تفصح عن قدرة على مواجهة العالم كما هو، ولكنها تدفع ثمنا باهظا هو فقدان المعنى والخواء - فقدان كل شيء؛ فاليأس هو الموقف الحدي القصي والذي لا يمكن أن يتجاوزه المرء. صميم معنى كلمة اليأس: لا أمل، لا طريق يبدو إلى المستقبل.
8
هكذا أفضت الوجودية الملحدة إلى شجاعة اليأس؛ أما الوجودية الدينية فقد أفضت مع تيليش إلى شجاعة الكينونة وتأكيد الذات
Self-Affirmation ، فكيف ذلك؟
ذلك في كتاب تيليش الذي يحمل هذا الاسم: «شجاعة الكينونة
The Courage to Be »، وهو مكرس لتحليل جدلي وتوصيف فينومينولوجي للشجاعة كمقولة بنائية للظرف الإنساني. وتبعا لما رأيناه في فلسفته الأنطولوجية، ستكون الشجاعة واقعا أخلاقيا، وتضرب بجذور قصية في بنية الوجود ذاته؛ أي أنها أيضا مفهوم أنطولوجي. والشجاعة كواقع أخلاقي تشير إلى فعل عيني وإلى قرار يعبر عن مضمون قيمي. أما بوصفها مفهوما أنطولوجيا فإنها تشير إلى تأكيد-الذات للفرد تأكيدا جوهريا، وكليا في حضور التهديد بالعدم. ويذهب تيليش إلى أن هذين المفهومين للشجاعة يجب أن يتحدا إذا أردنا تفسيرا ملائما للظاهرة.
9
ثم أعطى تيليش تخطيطا يتتبع مفهوم الشجاعة طوال تاريخ الفكر الغربي منذ أفلاطون حتى الوجودية في القرن العشرين ، معتبرا مبدأ المسيحية في الغفران من أمجد صور شجاعة الكينونة. ومفهوم الشجاعة لا يمكن فهمه وإدراك قيمته إلا في علاقته بالقلق؛ وما هو القلق
Anxiety ؟ إنه ذلك المفهوم الشهير في الفلسفة الوجودية والمقترن بها، يعرفه تيليش بأن الخوف له موضوع محدد كالفشل أو الموت أو رفض الحب؛ أما القلق فهو خوف من مجهول؛ وثمة مجهولات كثيرة، لكن لا نواجهها بقلق. إن مجهولا من نوع معين هو الذي نقابله بقلق، مجهولا بصميم طبيعته لا يمكن أن يعرف؛ لأنه عدم
Nonbeing .
10
القلق خوف غير محدد الموضوع، خوف من مجهول هو العدم الذي ينفي كل موضوع، هو الوعي الوجودي بتهديد العدم، بالتناهي المتأصل في الإنسان. والشجاعة هي التصميم على مواجهة هذا القلق بطريقة تحتوي العدم تماما وتتضمنه داخل الوجود، وهي بهذا تمثل الفارق بين القلق الوجودي والقلق العصابي الذي يتفادى العدم بواسطة تفادي الوجود أو تقليل نطاقه؛ فالشخصية العصابية تبحث عن تأكيد لما تبقى من ذاتها المنقوصة، فتؤكد شيئا ما أقل جوهرية، تأكيدا سلبيا موهوما.
ويميز تيليش بين ثلاثة أنماط للقلق: (1)
القلق الأونطيقي
Ontic ،
11
قلق المصير والموت. (2)
القلق الأخلاقي، قلق الذنب والإدانة. (3)
القلق الروحي، قلق الخواء واللامعنى.
في القلق الأونطيقي: نجد المصير يهدد التأكيد-الذاتي لوجود الفرد تهديدا نسبيا، أما الموت فيهدده تهديدا مطلقا؛ ينشأ قلق المصير من الوعي بالعرضية التي لا يمكن استئصال شأفتها، والتي تتخلل أعمق أعماق وجود المرء، ويقف الموت من وراء المصير بوصفه التهديد المطلق لتأكيد-الذات الأونطيقي. يفضح الموت العدمية الكلية للوجود، وغالبا يحاول الإنسان تحويل هذا القلق إلى خوف، قد ينجح إلى حد ما، لكن يدرك أن التهديد لا يمكن أبدا تجسيده في موضوع معين، إنه ينشأ عن الموقف الإنساني بما هو كذلك، فيحيرنا السؤال: هل ثمة شجاعة كينونة، شجاعة تأكيد-الذات، على الرغم من التهديد الأونطيقي لتأكيد الذات، المحاق بالإنسان؟
ويهددنا العدم على مستوى آخر، حين ينشأ عنه قلق أخلاقي، يحمل قلق الذنب تهديدا نسبيا، وقلق الإدانة تهديدا مطلقا، تبحث النفس عن تأكيد ذاتها أخلاقيا، عن طريق تحقيق إمكانياتها ، لكن العدم يعبر عن نفسه في كل فعل أخلاقي، بأن يعجز الإنسان عن التحقيق الكامل لكل ممكناته، فيظل مغتربا عن ذاته الجوهرية. ويتخلل الالتباس الأخلاقي كل أفعاله؛ والوعي بهذا الالتباس ذنب؛ والذنب قد يؤدي بالذات إلى الرفض الكامل لذاتها، إلى التهديد المطلق الذي تحمله الإدانة. ويثار السؤال: هل ثمة شجاعة كينونة، على الرغم من التهديد الأخلاقي لتأكيد الذات؟
وأخيرا، قلق الخواء واللامعنى، التهديد الروحي لتأكيد الذات. الخواء تهديد نسبي؛ واللامعنى تهديد مطلق. ينشأ الخواء عن موقف تفشل فيه الذات في أن تجد إشباعا من خلال المشاركة في مضمونات حياته الحضارية والثقافية، فتفقد معتقدات الإنسان واتجاهاته وأنشطته معناها، وتتحول إلى موضوعات للامبالاة. نحاول في كل شيء، ولا نجد إشباعا من أي شيء، فتضمحل القوة الخلاقة المبدعة، تهدد الذات بالملالة والسأم. ويصل الخواء إلى ذروته في قلق اللامعنى، يشعر الإنسان أنه لم يعد يستطيع أن يمضي قدما، لا في تأكيد مضمونات حضارته ولا في تأكيد قناعاته الشخصية. هكذا تصبح الحقيقة ذاتها موضوعا للتساؤل، ويهدد الحياة الروحية شك كلي، ويثار التساؤل: هل ثمة شجاعة كينونة تؤكد-ذاتها على الرغم من تهديد العدم؟ والعدم هنا هو الشك الذي يهدد تأكيد الذات الروحي.
12 «الأنماط الثلاثة للقلق» من أخصب وأمتع أفكار تيليش، وتوضح مدى اتساق وتشابك أطر فلسفته المترامية الحدود؛ فتوضح مدى عمق وتغلغل وجوديته، إنها أساس فلسفته للوجود الإنساني الفردي، وأيضا أساس فلسفته الحضارية؛ فهذه الأنماط الثلاثة حاضرة في كل شخص وفي كل الأزمنة الحضارية، بيد أن واحدا منها هو الذي يسود ويصبغ العصر والشخص بصبغته، ويضوي النمطين الآخرين تحت لوائه، وكما أشرنا، في هذا العصر يسود القلق الروحي، قلق الخواء واللامعنى.
ولا سبيل البتة إلى محو القلق الوجودي، بأشكاله الثلاثة؛ فهو متأصل في صميم الموقف الإنساني بتناهيه؛ وليس يستطيع مواجهته واحتواءه إلا هؤلاء الذين يملكون شجاعة الكينونة، شجاعة تأكيد الذات على الرغم من تهديد القلق بوصفه وعيا وجوديا بالعدم ذي الأشكال الثلاثة.
وطالما أن النفس والعالم هما القطبان المشكلان لبنية الموقف الوجودي الفردي وأيضا لبنية الأنطولوجيا - كما أوضحنا - فإن شجاعة الكينونة لا بد أن تتضمن كليهما؛ فتتضمن شجاعة أن يكون المرء ذاته ويحقق وجوده الأصيل (النفس)، وتتضمن شجاعة المشاركة والتواجد بمعية الآخرين (العالم)؛ وباستفاضة يناقش تيليش محاولات الحضارة المعاصرة، التي هي علمانية أوتونومية، لمواجهة قلق الخواء واللامعنى الذي يهددها، وينتهي إلى أنها جميعها فاشلة، تعجز عن تحقيق شجاعة تتضمن الفردانية والمشاركة معا؛ الرأسمالية تنجح تماما في تحقيق شجاعة أن يكون المرء ذاته ولكنه يفقد شجاعة المشاركة؛ والاشتراكية تحقق شجاعة المشاركة، وتعجز عن تحقيق شجاعة أن يكون المرء ذاته، وبالمثل كل الاتجاهات الأخرى كالرومانتيكية والفاشية والنازية ... إلخ، لا سبيل إلى شجاعة الكينونة الحقيقية التي تتضمن الذاتية والمشاركة - النفس والعالم، إلا بشجاعة تضرب بجذورها في الألوهية، الوجود-ذاته، الذي يعلو على تضايف النفس/العالم فيحتويهما ويتجاوزهما. باختصار شجاعة الكينونة شجاعة دينية. والإيمان بالعناية الإلهية يقهر القلق الأونطيقي، والإيمان بالغفران يقهر القلق الأخلاقي، والإيمان بالرب ذاته - بالوجود ذاته - يقهر القلق الروحي.
هكذا نجد حيثيات الفلسفة الوجودية تصب توا في سويداء قلب الإيمان الديني، فيعطينا تيليش أقوى تفسير ديني للوجودية. •••
وإذا انتقلنا إلى الوجه الآخر للعملة، التفسير الوجودي للدين، سنجد أن تيليش يكرس الجزء الثاني من «اللاهوت النسقي» وعنوانه الفرعي «الوجود والمسيح» لكي يعطي كل العقائد المسيحية الأساسية دلالة وجودية، بحيث نجده يصب الديانة المسيحية بأسرها في قلب الفلسفة الوجودية؛ فالسقوط
Fall ، سقوط آدم من الجنة إلى الأرض، يعني الانتقال من الماهية إلى الوجود.
13
تحطيم الذات الوجودي هو مبدأ الشر في العالم، والاغتراب الذي هو مسألة دنيوية بحتة حتى ولو ارتبط بالذنب، يعمل تيليش على إبراز التماثل والتشابه بينهما وبين فكرة الخطيئة في اللاهوت المسيحي. باختصار الحقيقة الدينية بأسرها حقيقة وجودية، لا تنفصل عن الممارسة - أو الفعل كما يقول إنجيل يوحنا - فهي رهان بصميم وجود المرء. وهذا التفسير الوجودي للدين يتبعه أن تغدو وظيفة الدين وجودية، هي قهر القلق والخوف اللذين هما ميراث البشر أجمعين، كما اكتشف كيركجور.
وبهذا التفسير الوجودي للدين ينقذ تيليش العقائد المسيحية التي مستها التغيرات الحديثة، وأهمها الإيمان بعناية إلهية تحرك التاريخ نحو الأفضل، ليحقق في النهاية مدينة الله على الأرض؛ وهي عقيدة ميزت المسيحية منذ أوغسطين، لكنها تحطمت تدريجيا مع الحرب العالمية الأولى، ومع العام الخامس منها كان الإيمان بها قد تلاشى تماما، وشبيه بهذا ما حدث خلال وبعد الحرب العالمية الثانية. ويأتي التفسير الوجودي للدين ليعيد إليها الحياة؛ يوضح تيليش أولا أن الصورة القديمة للعناية الإلهية ليست نتيجة للعقيدة المسيحية، بل للتفكير التواق المتفائل؛
14
فهي لا تعني أن الله يسير العالم بلا مآس أو مشاكل وكأنه آلة بالغة الكمال، بل تعني فقط قدرة على التحقيق قائمة دوما ويستحيل نفيها، فيكون الإيمان الحقيقي بالعناية الإلهية هو شجاعة تقبل الحياة بصدر مفتوح ونفس مطمئنة على الرغم من كل شيء.
15
إن الشك في المعتقدات الدينية قائم دائما؛ والإيمان هو الشجاعة التي تقهره، ليس بأن تزيحه، بل بأن تحتويه داخلها.
والمسيحية حين تدعو إلى الوجود الجديد والدهر الجديد تكون هي الطريق لتحقيق الوجود الأصيل والحيلولة دون الوجود الزائف. ضغوط العقل الجمعي المؤدية للوجود الزائف لا ينفذ منها الثوريون التقدميون أكثر من الرجعيين المحافظين، فإن اختلفت الجماعتان، فإن العضو في أي منهما مقولب بقوالب جماعته، ولا ينفذ منها المثقفون أكثر من البسطاء؛ فالمثقفون خاضعون للقيم والمعايير الثقافية السائدة ... إلخ، ولا الكنيسة نفسها تنفذ منها. لكن أصول العقيدة المسيحية تنفذ منها وترسم الطريق إلى الوجود الأصيل؛ فالمسيح نفسه وقف في وجه أسرته وروابطه العائلية وأعلن أن من يعجز عن هذا لا يصلح مسيحيا حقيقيا؛ ويخرج تيليش من هذا إلى أن ما فعلته الكنيسة طوال التاريخ من تكريس للنظم والروابط يناقض الوجودية، هو «فهم خاطئ بل مضاد للرسالة المسيحية الحقيقية.»
16
أما عن صلب الوجودية المتمثل في حرية الاختيار والقرار، والذي تعارضه المؤسسات الدينية فإن تيليش يقول: «منذ زمن بعيد نسيت الكنيسة كلمة الإنجيل بأن المسيح هو الحق، وادعت أن تعاليمها عنه هي الحق، هذه التعاليم مهما كانت ضرورية وخيرة، فقد ثبت أنها ليست ذات الحق الذي يحررنا وسرعان ما أصبحت أدوات القهر والإخضاع للسلطات؛ لقد أصبحت وسائل لمنع البحث المخلص عن الحق، ونصلا لشطر أرواح البشر بين الولاء للكنيسة وبين الإخلاص للحق، وبهذا قدموا أسلحة فتاكة للهجوم على الكنيسة وتعاليمها باسم الحق؛ وليس كل شخص يشعر بهذا الصراع؛ فثمة كتل من الجماهير تشعر بالسكينة في كنف التعاليم والقوانين؛ إنهم آمنون، لكنه أمان الذي لم يجد تحرره الروحي ولم يجد نفسه الحقة. ذلك هو مجد البروتستانتيين وأيضا خطورتهم؛ إنهم يتحملون مغبة السؤال عن الحق بأنفسهم، وهم بهذا يتلقون حرية ومسئولية القرارات الشخصية، والحق في الاختيار بين الوسائل المؤدية للرب الذي هو الحق المجرد.»
17
ويا للأسف! بعد نجاح تيليش الشديد في التفسير الوجودي للدين، والذي مكننا من أن نعزف عن العقائد الخاصة بالمسيحية كالتثليث وصلب المسيح ... إلخ، ويقع في المطب المتربص باللاهوتيين وهو التعصب، وتيليش حريص دائما وناجح على تفاديه، لكنه بعد كل هذا يأتي ليؤكد أن التفسير الوجودي للدين «مجد البروتستانتية فقط»! لا شك أنها في مناهضتها للكاثوليكية كانت أكثر وجودية، ولكننا كنا ننتظر من لاهوتي تنساب في دمائه رحيق الفلسفة ذات الشمولية والعمومية، وحريص على الحوار والتلاقي بين الديانات كما سنرى؛ كنا ننتظر منه أن يحرز خطوة أبعد ويرى التفسير الوجودي للدين من حيث هو دين. •••
إن هذا المثلب لا ينفي أن تيليش - كما رأينا - أقدر وأبرع من عبر عن التجادل والتواؤم والتلاحم العميق بين النزعة الدينية والنزعة الوجودية؛ وهذا يتبلور فيما أسماه بالاهتمام القصي الذي لا بد أن يطالعنا في كل أعمال تيليش تقريبا؛ إنه محور من محاور فلسفته الدينية، وأساس تعريف كل مفاهيمها ، ويمكن تناولها بأسرها من خلاله. والاهتمام القصي
Ultimate Concern - كما فهمناه - هو ببساطة التفسير الوجودي للإيمان. ولعل الإيمان هو الذي دفع تيليش أصلا لمغامرة تحديث اللاهوت؛ فقد لاحظ أن الإيمان «فقد معناه الحقيقي واتسع حتى أصبح يدل على الاعتقاد في أشياء لا يمكن الاعتقاد بها»، و«أنه في حاجة إلى إعادة التأويل أكثر من أي مصطلح ديني آخر.»
18
ومثلما قال القديس أوغسطين إن الإنسان خلق بحيث يوجهه حب فائق، يقول تيليش إن الإنسان خلق بحيث يوجهه اهتمام قصي،
19
ما معنى الاهتمام بشيء؟ معناه أننا منشغلون به، ونشارك فيه بمجامع النفس، بل وأكثر من هذا، يعني الطريقة التي نشارك بها؛ أي بقلق
Anzious . وبراعة اللغة تطابق بين الاهتمام والقلق في هذا اللفظ (وأيضا في العربية: الشخص المهموم، المشتقة من نفس مصدر الاهتمام، تعني الشخص القلق). هذا الاهتمام القلق قد يكون بالعمل وأدائه والنجاح أو الفشل فيه، أو بالآخرين ... بالأصدقاء وحبهم وتشاركهم الروحي معنا والخوف من أن نفقدهم أو نضرهم، والخوف مما قد يكون مخبوءا في نفوسهم من غيرة وحسد أو حتى كراهية ... الاهتمام القلق قد يكون بأنفسنا بمسئولية التطور تجاه القوة والنضح والحكمة، ثمة أيضا التوق للسعادة واتخاذ القرارات السديدة، وثمة طبعا الاهتمام القلق بالحياة اليومية والخبز والكساء والمسكن ... مثل هذه الاهتمامات ليست حقيرة أو تافهة، بل ضرورية لكي تستمر الحياة والحضارة؛ لكن ... ألا يوجد فوقها اهتمام أعلى منها جميعا؟
بالتأكيد يوجد فوقها الاهتمام القصي، الذي يمثل هدفا أخيرا لا هدف بعده للحياة ... للتجربة الوجودية، ولا بد لها من مثل هذا الهدف، لكي يكون لها معنى. ولنلاحظ أن ما أسماه تيليش بالقلق الروحي، قلق الخواء واللامعنى، ينجم عن فقدان اهتمام قصي، فقدان معنى يمنح المعنى لكل المعاني، فقدان إجابة - مهما كانت رمزية وغير مباشرة - للسؤال عن معنى الوجود، وتيليش يؤكد أن كل شخص لا يسأل عن معنى وجوده هو شخص غير ناضج حتى ولو كان عالما مبدعا أو سياسيا عظيما.
الاهتمام القصي إما أن يكون دينيا، أو دنيويا بواحد من أو حتى بكل شواغل الدنيا السامية: الأشياء المادية والأموال، أو المركز الاجتماعي، أو مصالح الطبقة أو الأمة، أو الحركة السياسية، أو المثل العليا من الأشخاص العظام سواء دينيين أو علمانيين، والأشكال الحضارية والثقافية كالفن والفكر والعلم ... إلخ،
20
كلها مواضيع تستحق الاهتمام القلق، بل وإن بعضها - خصوصا العلم والمال والطبقة - كانت في مراحل تاريخية متفاوتة بمثابة آلهة، إنها أشياء هامة، لكن لا تكفي، لا تصلح لأن تكون الاهتمام القصي الحقيقي ؛ لأنها متناهية وقتية متغيرة زائلة، وتشكل عبئا ينوء بثقله وعينا لأنه يعجز عن أن يعدل بينها.
21
لا بد من البحث عن اهتمام أعمق منها جميعا، أبعد وأبقى وأقدر على إشباع كل الاحتياجات الروحية، اهتمام قصي حقيقة، بمطلق لا متناه غير مشروط؛ واهتمام من هذا النمط لا بد أن يقود إلى المستوى الفائق للوجود، إلى الوجود ذاته - أي إلى الألوهية. معنى هذا أن الإيمان الديني هو فقط الاهتمام القصي الأمثل لكل إنسان، وكل اهتمام قصي عدا الإيمان زيف ووهم؛ إذ يقود إلى موضوعات دنيوية؛ أي زائلة، فكيف تكون قصية؟!
إن ديناميات الإيمان الديني هي عينها ديناميات الاهتمام القصي، والإيمان بوصفه اهتماما قصيا هو فعل للشخصية ككل
total personality ، يحدث في مركز حياة الشخص، ويتضمن كل عناصرها، فيشارك في ديناميات الحياة الشخصية،
22
محققا شجاعة الكينونة بقطبيها: الفردانية والمشاركة؛ لأن مصطلح «الاهتمام القصي» يوجد بين الجانبين الذاتي والموضوعي لفعل الإيمان، ذاتي من حيث هو مركزي للشخصية، وموضوعي من حيث إن فعل الإيمان يتجه إلى القصي ذاته.
23
هكذا يحدد الموقف الوجودي للفرد، فما هو الإيمان بالدين؟ هو اكتشاف أن كل شيء في حياة الفرد له مغزاه وقيمته، على قدر ما يتصل بالوجود الفائق المتعالي - بالرب.
وحين يعرف الإيمان بأنه الاهتمام القصي، سوف يكتسب ديناميكية تجعله أبعد ما يكون عن الثبوتية المقترنة بالدين التقليدي، «وقد يبدو أن المفهوم الديناميكي للإيمان لا يتيح مجالا للثقة التوكيدية المريحة التي نجدها في مواثيق الأديان الكبرى، بما فيها المسيحية؛ لكن ليس هذا هو الحال، المفهوم الديناميكي للإيمان نتيجة لتحليل المفاهيم لكلا الجانبين الذاتي والموضوعي للإيمان؛ إنه بالتأكيد وصف لحالة متحققة دائما للعقل، وتحليل للبنية، وهذا ليس وصفا لحالة الأشياء»
24
الراكدة المستسلمة. والذي يدخل منطقة الإيمان يدخل الحرم المقدس
Sanctuary
للحياة، فحيثما يكون ثمة إيمان، ثمة وعي بالمقدس، يهب شجاعة الكينونة وتأكيد-الذات، على الرغم من العدم بأشكاله الثلاثة.
لهذا يتمسك تيليش بالاهتمام القصي كتعريف للإيمان، وأيضا رفضا للتشويهات التي تلحق الإيمان من جراء التفسيرات العقلانية أو العاطفية أو تفسيرات أصحاب مذهب الإرادة الحرة
Voluntarism
ليس الإيمان فحسب؛ فالدين نفسه هو أيضا - وفقط - الاهتمام القصي، وأي اعتبار آخر تشيؤ للدين بل هراء، ولعلة تجديف. الرب أيضا هو الاهتمام القصي! وإلا فسوف ننظر إليه على أنه موضوع سام، طرف آخر من المفيد الدخول في علاقة معه، شأن أطراف أخرى عديدة ... المقصود من العقيدة الدينية أن نكون معنيين ومنشغلين بها، مهتمين ومهمومين بها، بصورة قصوى غير مشروطة، إنها تحتوينا داخلها، ونحن نحتويها داخلنا، حسنا أي تيليش! لكنك تحدد الاهتمام القصي بأنه الإيمان، وتعرف الإيمان بأنه الاهتمام القصي، في دوران منطقي واضح! والدوران مغالطه يندر بل يستحيل أن ينفذ منها اللاهوتي. ثم ترامى شأن الاهتمام القصي وانفلت من بين يدي تيليش، بحيث لا نجد حدودا نقف عليها أو حتى نتخطاها، فعل الإيمان هو الاهتمام القصي ... والدين هو الاهتمام القصي، والرب هو الاهتمام القصي، أي أصبح مفهوم الاهتمام القصي يعني كل شيء في التجربة الدينية، وبالتالي لا يعني أي شيء.
ولا يكتفي تيليش بهذا، بل يمضي قدما في تعريفاته حتى يعرف المؤمن، وأيضا الملحد على أساس الاهتمام القصي؛ فالملحد «من ليس له اهتمام قصي، وبالتالي ليس لحياته عمق، إنها ضحلة.»
25
وهو غير ناضج لأنه لا يسأل عن معنى الوجود - الذي هو الإيمان بالألوهية. أما الشخص الديني المؤمن فهو من له اهتمام قصي، ولكن هذا التعريف الأخير ينطبق على المؤمن، وأيضا على الملحد ذي الاهتمام القصي غير الألوهية، وإذا كان ساميا بدرجة كافية، كالإبداع العلمي أو الفني أو الإنجاز السياسي؛ فليس من الضروري أن يعاني قلق الخواء واللامعنى. إذن فتعريفات تيليش ليس لها معنى ، ما لم نصادر معه على المطلوب؛ أي على أن الاهتمام القصي السديد هو فقط الإيمان الديني، وهي مصادرة لا تلزم إلا من اختار منذ البداية أن يكون دينيا!
تيليش إذن وقع في مغالطتي الدوران المنطقي والمصادرة على المطلوب، ولن يستطيع الإنكار، ومع هذا نحسبه لن يعدم ردا؛ فقد دافع عن هذا التفسير الوجودي للدين بأن المقابلة التقليدية بين الدين والإلحاد خاسرة؛ فهي كالآتي: هل الدين وحي منزل للإنسان؟ أم من خلق الإنسان؟ اللاهوتيون أصحاب البديل الأول حينما يحاولون البرهنة عليه، إنما يتخذون الخطوة الأولى للإلحاد، وهي إنكار أو تفنيد تلك البراهين، والمخرج من هذه الإشكالية هو أن الدين أولا وقبل كل شيء شعور، وبهذا ينأى عن كل اعتراضات عقلانية أو عملية أو تاريخية ... لكن شعور لا تكفي، فلنتقدم خطوة تتفادى سلبية الشعور، لنجد الدين هو في النهاية، «اهتمام قصي»، يفصح عن نفسه في كل الوظائف الخلاقة للروح الإنسانية،
26
وهو يعترف بأن الأطر التقليدية للدين، سوف تتأثر كثيرا، لكنه يتساءل: هل مواجهتنا للمطلق المقدس خبرة محدودة فيما نسميه عادة بالدين؟ ويقول: إجابتي هي بالقطع لا؛ فثمة شيء ما مقدس في كل شخص حتى في الملحدين، ذلك أن ثمة طريقتين للمرور بالخبرة بالمقدس؛ وهذا يؤدي إلى التمييز بين معنيين للدين؛ فثمة معنى واسع حيث يظهر المقدس
Holy
ونخبره كبعد للعمق ذاته، بعد للحقيقة القصية في المجالات المختلفة لمواجهة الإنسان مع الحقيقة، في الإلزام الأخلاقي ... العدالة الاجتماعية ... التعبير الجمالي ... الإبداع الفكري أو العلمي، المقدس حاضر وكموضوع للاهتمام القصي في كل هذه البنيات العلمانية، لكنه خفي خافت باهت؛ أما في المعنى الضيق للدين - المعنى الحرفي - فإن الخبرة بالمقدس مباشرة وصريحة وجلية، وذلك هو الاختلاف الوحيد
27
بين معنيي الدين.
هكذا نلاحظ أن «الاهتمام القصي» أو التفسير الوجودي للدين قد أدى بتيليش إلى تحديث راديكالي جذري ربما كان خطيرا واتهم بأنه يوهن العقيدة الدينية، ولكنه يجعل الدين متوشجا في صميم بنية هذا العصر، ويخبرنا تيليش بأنه استوحى الأصول الأولى لهذه الفكرة في ماربورج بألمانيا، حين كان يتمشى مع زميله ورفيقه اللاهوتي رودلف أوتو
R. Otto (1869-1937م) الضليع بالأديان الآسيوية وصاحب التعبير أو الكتاب الشهير «فكرة المقدس»
The Idea of Holy
وسأله تيليش: ما معنى المقدس؟ فأجاب: هو الغامض، هو المطلق ذاته، أساس كل المطلقيات،
28
فكانت الألوهية
Deity ، قمة المقولات اللاهوتية - أو قمة المقولات على إطلاقها - هي منطلق هذا التحديث، وهي في الواقع مناط تحديث تيليش الثوري الجريء، خصوصا في ارتباطها بالرمزية الدينية؛ لذا لا بد أن نفرد لهما حديثا.
الفصل الثامن
المتعالي ... القصي
يتلخص مفهوم الألوهية عند تيليش في الرفض التام - على أسس وجودية - للإله التقليدي المشخص، والبحث عن رب يعلو على الرب
God-above-God .
بداية، يستغل تيليش «المعنى الواسع للدين» ليستدرج كل الأطراف؛ وعلى أساسه يؤكد للملحدين أن الإلحاد الحقيقي مستحيل؛ لأن الألوهية أقرب إلى الإنسان من حبل الوتين: إنها الآفاق اللامتناهية المحيطة بعالمنا، ولا يوجد مكان نفر منها إليه، ولن نستطيع أن ننكر الألوهية إنكارا مطلقا، فقط نستبدل بها آلهة زائفة، مثلا: الله قاطن في السماء، لكن الغريب حقا - بل المستحيل - أن نحاول العروج إليها كي نفر منه! هذا ما يفعله المثاليون اللادينيون، حين يحاولون الصعود إلى سماء الكمال والصدق والعدالة؛ لكي يبرروا الاستغناء عن الألوهية، كي يفروا منها! ولكن إلى حيث لا أين، إلى يوتوبيا. وشبيه بهذا ما فعلته الحضارة التقانية المعاصرة في تقدمها العلمي المطرد، كلاهما يحاول الفرار من الله بأن يتقدم إلى الأمام أكثر، ويقتحم آفاقا أكثر، لكن يد الله فوق أيديهم. الألوهية - كما أخبرتنا المزامير، وكما أدرك مارتن لوثر بقوة وسطوع - هي الحضور الدائم الأبدي، الذي يتغلغل في كل موجود، ليكون أكثر حضورا.
1
إن الفرار الزائف ليس خطأ الفارين فحسب، بل يعود إلى الفكرة التقليدية عن رب خلق الكون من العدم، ثم يقتصر دوره على مراقبة البشر، لعقاب الخاطئين وإثابة المحسنين ومن يطيعون أوامره، وكأنه طاغية أو شرطي كوني
Cosmic Policeman ، مهمته الضبط الأخلاقي! وهو في الآن نفسه يحنو علينا حنو الأب على أبنائه القصر، ويكفل لنا الخلود، والمتع الدائمة والسعادة النهائية.
يقول تيليش: «ليست هذه صورة حقيقية للرب، بل بالأحرى صورة للإنسان حين يحاول أن يصنع ربا في خياله، من أجل راحته، إنه نتاج خيال الإنسان وتفكيره التواق، ومن حق كل ملحد مخلص لحيثيات العقل أن ينكره، فليس هذا إلها البتة، وليس ذا حقيقية.»
2
والخطأ يعود إلى اللاهوت التقليدي؛ فقد تسربل في أحابيل توحيد إلهي ملكي
monarchic-montheism ، وجعل الله مجرد شخص سماوي تام الكمال.
3
هذه الصورة المشخصة الساذجة مصدر عراقيل أمام انطلاقة الفكر الديني، وإذا أمكن للدينيين أن يثبتوه، فإنه يمكن للملاحدة أن ينفوه، كما سبق أن أوضح كانط في تبيانه لنقائض العقل الخالص. وأحس القديس برنارد أنه يكرهه من نفس المنطلق الذي تتدفق منه ينابيع الحب للرب الحقيقي، وثار ضده الوجوديون؛ لأنه يجرد الإنسان من ذاتيته وفردانيته وحريته. وأعلن نيتشه موته. فيقول تيليش: «إن فردريك نيتشه هذا الملحد الشهير، وألد أعداء الدين والمسيحية، قد عرف عن قوى فكرة الألوهية، أكثر مما يعرفه غالبية المسيحيين المؤمنين.»
4
يؤكد تيليش أن إله العهد القديم فعلا مات، أو أن هذا المفهوم للألوهية لا بد وأن ينتهي، وراح يبحث عن مفهوم جديد لرب يعلو على الرب، ولعله بهذا يباعد بعض الشيء بينه وبين كلاسيكيات المسيحية التقليدية، ويقترب من الطريق الذي شقه المتصوف الوجودي الميستر إيكهارت. وتيليش يجاهر بإعجاب به، ويحلو له الاستشهاد بأقواله، وقد بحث إيكهارت عن ربوبية
Godness
مفارقة للرب، للثالوث المسيحي. لكنه تحدث بعد هذا عن صيرورة أو عملية
الحقيقة التي تنبثق من الربوبية، إلى الكلمة غير المنطوقة (الأب)، إلى الكلمة المنطوقة (الابن)، إلى الحب (الروح القدس). إن الثالوث: الأب والابن والروح القدس، أو الكلمة غير المنطوقة والكلمة المنطوقة والحب، هذا الثالوث يحتويه الله، ومن الحب (الروح القدس) إلى الخلق المثالي، إلى الخلق الظاهري ... وعلى المتصوف أن يتحد بالحقيقة عبر نفس المراحل، ولكن بالعكس؛ أي يبدأ من الخلق الظاهري
5 ...
أما تيليش فهو أكثر تجريدا ومعقولية، وذلك من منطلق رفضه أن تكون الألوهية موضوعا، يقبل الإثبات أو النفي، ومفارقا لعالم الذوات. الرب متعال على عالم الموضوعات، وبالمثل على عالم الذوات، ويتجاوزهما، ويعلو على الثنائية القائمة بينهما ، وبين النفس/العالم، إنه لا متناه، وهذه خاصية لا يشاركه فيها أي موجود آخر؛ لذلك فهو مستوى فائق للوجود، يعلو على الوجود، إنه الوجود ذاته، قوة الوجود التي تقاوم العدم، عمقه وأساسه، وبالتالي أساس وجودنا، ومنه - من الرب - نستمد شجاعة تأكيد-الذات على الرغم من العدم الذي يهددنا بصوره الثلاث.
وبهذا لا يكون الرب كينونة ثابتة، ماهية استاتيكية، إنه روح حية؛ فيؤكد تيليش أن يسوع المسيح ليس إلها أصبح إنسانا، بل إنسانية جوهرية، تجيب على التساؤل الوجودي المطروح، فتقهر قوة الاغتراب، قوة الموت والإدانة واللامعنى، وتفتح أمام الإنسان طريق المشاركة في الوجود الجديد. ومشاركة الإنسان حقيقية، بيد أنها جزئية، هكذا تتكاتف المثالية مع الوجودية لتحديد الألوهية.
والمهم أن ثمة طريقين للتفكير في الألوهية! طريقا لقهر الاغتراب، وطريقا للقاء غريب؛ وقد اختار تيليش الطريق الأول.
6 •••
ولكن تيليش أطلق لنفسه العنان وهو يفلسف الألوهية، وكيفها تكييفا كي يكون الإيمان بها قهرا للعدم الروحي الذي يهدد عصرنا بقلق الخواء واللامعنى؛ فكان المرمى لمعظم سهام النقد التي وجهت له؛ ثار عليه اللاهوتيون والفلاسفة على السواء.
اللاهوتيون التقليديون قالوا: إن مفهوم الرب ينبغي وأن يملك في صلب ذاته كل حيثياته، وتيليش جعله غير مستقل، بل معتمدا على وجود الوجود، ووجود الإنسان؛
7 «هو فعلا ينكر أية حجة على وجود الرب، ولا يثبت دليلا إلا وعي الإنسان بتناهيه، الذي يعني وعيا بلا متناه برب، ويدفع إلى شجاعة تأكيد الذات التي تقهر التناهي والعدم فتؤكده قوة الوجود، الوجود-ذاته الرب ...» فرأى البعض في هذا أن تيليش وأتباعه، وأهمهم الأسقف روبنسون، إنما يواصلون اتجاه أقوى منظري الإلحاد لودفيج فيورباخ
L. Feuerbach (1804-1872م) القائل إن الرب يعثر على ذاته، في أعماق تأكيده لذاته،
8
وانتهى إلى أن الإنسان هو الذي خلق الرب أو مفهوم الرب، وليس العكس!
ويسخر كارل بارت من رفض الألوهية التقليدية، قائلا إن تيليش لا يزال يكافح ضد «المفتش الأكبر» لديستويفسكي، واعترف تيليش بهذا، بل وأكد أنه عنصر حاسم في تفكيره! وبرر موقفه بأنه يحارب فلول الهترنومي، نشدانا للثيونومي.
أما الفلاسفة فقد أزعجهم الالتباس الشديد في المفهوم، والمصطلحات الدالة عليه؛ ففضلا عن الاهتمام القصي والألوهية والرب، ثمة الوجود ذاته
Being-itself
وأساس الوجود وبعد الوجود وعمق الوجود، وكلها مردودة إلى قوة الوجود
، التي هي قوة أن يكون
To Be ؛ ويأتي جارنيت
A. C. Garnett
وهو ليس يندرج رسميا مع فلاسفة التحليل المنطقي ولكنه يهتم جدا بمنطق اللغة الدينية، وأثبت بتحليلات مسهبة أن تيليش لو كان ملما بأبسط مبادئ التحليل المنطقي واللغوي لأدرك أن حججه تستند على فشل في فهم منطق فعل الكينونة
To Be ،
9
والحق أننا لم نلمس من تيليش أي إلمام ولا اهتمام بمسألة المنطق وقواعده. •••
ولعل المهرب الوحيد لتيليش من هذه الانتقادات هو تأكيده أن اللغة العادية تعجز عن أن تقول أي شيء عن الرب، حتى «مطلق» لا تكفيه؛ فكل ما نقوله منتزع من مادة واقعنا المتناهي، فكيف يعبر عن اللامتناهي، اللهم إلا بصورة مجازية أو رمزية؟! إن اللغة الرمزية هي فقط القادرة على التعبير عن القصي،
10
والعبارة غير الرمزية الوحيدة التي يمكن أن تقال عن الرب هي «كل عبارة يمكن أن تقال عنه عبارة رمزية.»
11
فكان تيليش من أبرز المعبرين عن التفسير المجازي الرمزي للغة الدينية؛ أي النظرية القائلة إن كل العبارات الدينية ومضمونات الكتب المقدسة ليست البتة تقريرات عن وقائع، بل هي مجازات، رموز في رموز، إمكانية فك طلاسمها مفتوحة ومتجددة دائما؛ وقد تمادى تيليش في هذا حتى وجه إليه نقد بأنه يعجز عن إعطاء أي وظيفة واضحة أو محددة للغة الدينية.
12
ولكن ليست اللغة فحسب؛ فتقريبا كل شيء ديني عند تيليش هو رمزي، حتى حدد المهمة الرسمية للاهوت بأنها توضيح وظيفة الرموز.
والرب الذي يظهر في كل فعل من أفعال الإيمان، هو الرمز الأساسي لاهتمامنا القصي، رمز الرموز المطلق الشامل الحاوي لكل الرموز. وكل العقائد الدينية ينبغي وأن تفهم على أنها محض رموز له. وتيليش - بتعضيد من ملته البروتستانتية - يرفض اعتبار أي شخص أو شيء أو مؤسسة، مقدسا
Holy ؛ لا شيء مقدسا سوى المطلق الأبدي اللامتناهي غير المشروط - الرب. الرموز الدينية الأخرى كالصليب قدسية؛ لأنها تشارك في قدسيته، لكن المشاركة ليست الدخول في ذات الهوية؛ لذلك فهي ليست قدسية وتحمل قيمتها ومغزاها في حد ذاتها، بل فقط من حيث هي رموز للحقيقة القصية للرب؛ لذلك يفرق تيليش بين مستويين للرموز الدينية: المستوى المتعالي الفائق لواقعنا ورمزه الأساسي الرب؛ والمستوى الكامن أي الذي يواجهنا داخل واقعنا التجريبي كتجسد المسيح والعائلة المقدسة والأم العذراء - وبقية الرموز. ولكن الرب ليس مجرد رمز، إنه الوجود-ذاته أساس الوجود؛ لذلك أمكن لأشياء تواجهنا في الزمان والمكان، مأخوذة من خبرة الواقع المتناهية، كحادثة من التاريخ الديني أو معجزة، أن تكون رموزا له ... للمقدس. ونحن ندركها وندرك قيمتها ومغزاها من خلال التواصل بين الله والإنسان من خلال الوحي؛ وأنها تصبح قدسية، لكن تظل دنيوية تاريخية لا فائقة للطبيعة؛ لتذكرنا بأننا مشدودون إلى الأشياء الدنيوية المرئية، تماما كما نتحدث عن العمق والعميق كخصائص روحية، في حين أنهما مستمدان من الأبعاد المكانية.
والرموز الدينية لا تظهر منفصلة، بل مترابطة في كل واحد؛ ولا يعوزها أن تكون صادقة، يكفي أنها ذات فعالية وجودية؛ أي تحتوي على قوة المرموز إليه فتستثير الوعي بقوة الوجود.
أي رمز - ديني أو غير ديني - يفتح لنا مستوى من الحقيقة كان مخبوءا، والحديث غير الرمزي لا يناسبه، وكل رمز له وظيفة معينة لا يمكن أن يؤديها غيره، فلا يمكن أن يحل رمز محل آخر، وهذا هو ما يميز الرموز عن العلامات. والرمز الديني هو فقط لا سواه الذي يفتح لنا المستوى الأقصى للحقيقة، البعد اللانهائي؛ أي الألوهية؛ لذلك فهو جوهري جدا في التجربة الدينية الفردية. العقل حين يخوص غمارها بعمق، يحتويه ما وراء العقل، ويحتوي هو إياه؛ فلا يمكنه أن يتعامل مع موضوعه مباشرة، أو في صورة مفهوم محدد - فقط من خلال الرمز.
والرمز لا يخلق ولا يكتسب وظيفته بأية نية متعمدة؛ فعن أي رحم تتخلق دلالته؟ يقال عن رحم اللاوعي الجمعي؛ لكن تيليش يقول عن رحم العلاقة المتغيرة - تبعا للظروف الحضارية - بالقصي، بالرب.
هكذا نلاحظ أن الرمز الديني يحمل التقاطع - أو يقف على الحدود بين الموقف الفردي والموقف الجمعي. وحرص تيليش الدائم على هذا من أبرز النقاط التي تسجل له، أو للوجودية الدينية عموما؛ لأنه غالبا ما يفلت من أيدي الوجوديين الملاحدة، أو أنهم يفشلون في تحقيقه حتى ولو حرصوا واهتموا بمقولة المعية والتشارك.
وأبلغ آيات نجاح تيليش في هذا، إنما هي انطلاقة تفسيره الديني للتجربة الوجودية الفردية؛ ليغدو من الجهة الأخرى للحدود أساسا مكينا للبناء الحضاري المروم - الثيونومي. ولكن لكي يقوم اللاهوت نفسه بهذه المهمة، فلا بد أن يغدو - بدوره - لاهوتا حضاريا.
الفصل التاسع
اللاهوت الحضاري
يمثل باول تيليش مع كارل بارت القوسين المتطرفين اللذين يحصران بينهما متغيرات اللاهوت البروتستانتي المعاصر. بارت يواصل تيار مارتن لوثر وكالفن مباشرة فيقيم لاهوته على أساس مطلقية الرب؛ أي - أنه تعالى - ليس موضوعا لمعرفتنا أو لأفعالنا، فلا ينبغي أن يطمح عقل الإنسان المتناهي لاستكناه سره. الإنسان على الأرض، والرب في السماء،
1
مفارق له؛ لقد تعالى سبحانه علوا كبيرا. المسيحية ليست لها أية أسس عقلانية، ولا ينبغي أن يكون. الوحي يحمل في ذاته كل حيثياته، فيرفض بارت أي دفاع عن الوحي أو إثبات أو تبرير له، بأسانيد إنسانية حضارية. اللاهوت لاهوت الكنيسة فقط، فليدخلها من يريد الحقيقة، ويمارس الطقوس الدينية، التي لن يفهمها إلا المؤمنون؛ بهذا فقط تدخل الروح المقدسة في النفس الإنسانية.
هذه هي الصورة التي حددها بارت لإعادة صياغة وإحياء المسيحية، والتي ينبغي في رأيه أن تتكفل بها البروتستانتية؛ لذلك يمثل بارت أعنف مهاجمي اللاهوتيات الليبرالية التي تفسر الوحي تبعا لصالح الإنسان وحضارته؛ إنها - أي اللاهوتيات الليبرالية - هي تلك الحركة البروتستانتية التي تفجرت في القرن التاسع عشر، بل ومنذ أيام كانط، أصبحت الحضارة هي معيار صدق العقيدة، وباتت مهمة اللاهوتيين الليبراليين (الأحرار) هي الدفاع عن العقيدة بمصطلحات الحضارة وفي حدودها، وتلك سخرية أنتجتها مسيحية الحاضر الواهنة، وتقلص نفوذها؛ وعلى هذا يؤكد بارت أن اللاهوت ينبغي أن يقف في مواجهة الحضارة العلمانية، ولا يتعامل معها إطلاقا.
2
ويمثل تيليش الرفض التام لهذا التقابل بين اللاهوت والحضارة، ويؤكد أن فلسفته للدين معنية أولا بالعلاقة بينهما، والتي ينبغي تحديدها على أساس كليهما، الدين لا يمكنه أن يهجر المطلق؛ الألوهية، ولن يسمح لنفسه أن يصبح مجرد منطقة محدودة داخل الحضارة، أو أن يتخذ موقعا جانبها، وهذا ما حاولته الحضارة الليبرالية؛ ليصبح الدين نافلة ستندثر يوما ما؛ لأن بنية الحضارة مكتملة بدونه، والحضارة بدورها قد ترى أنها لن تستسلم للدين بغير أن تتخلى عن استقلالها ... عن الأوتونومية تماما، وربما عن نفسها، وهي لا يمكن أن تتخلى عن الحق والعدل والحرية والعقل باسم المطلق الديني والحقيقة أن «الدين هو الجوهر غير المشروط للحضارة، والحضارة هي الصورة المشروطة للدين.»
3
إن تيليش يستأنف الطريق الذي شقه تلميذ شلنج، إمام اللاهوت الليبرالي فردريش شلايرماخر
F. Schleirmacher (1768-1834م) والذي يعتبره أبا اللاهوت البروتستانتي الحديث والمعاصر بأسره؛ فإذا أخذنا في الاعتبار أنه قام ليختلف عن اللاهوت الأرثوذكسي والكاثوليكي، فلا بد أن يكون تركيبا من الله والإنسان. وقد قام شلايرماخر - على حد تعبير تيليش - بهذا «التركيب العظيم»؛ إنه لم ينكر فلسفة التنوير، لكن بتركيبه، انتصر عليها في قلب المجال اللاهوتي؛ فقد كان الدين في عصر التنوير فقط لتحقيق الأمر الأخلاقي، أما في المجال المعرفي، فالفصل تام بين الرب وبين الإنسان وعالمه، بحيث يتساوى الإيمان والإلحاد. وجاء شلايرماخر ليرفض هذا الفصل، لم يقل بوحدة الوجود الصوفية، لكنه تمسك بمبدأ هوية
Identity
الله في العالم والمصطلح الذي استعمله للخبرة بهذه الهوية هو الشعور
Feeling . الدين ليس معرفة نظرية، ولا مجرد فعل أخلاقي، إنه أساسا شعور، شعور بالاعتماد المطلق على غير المشروط - على الرب. والشعور ليس البتة عاطفة شخصية، إنه حدس بالكلي غير المحدود، وبضغطه على عمق أساس الوجود. هكذا قدم شلايرماخر للمثقفين التنويريين الذين ينكرون الدين، فلسفة تخلق فهما جديدا للدين، يقوم على أن كل لاهوت لا بد أن يجيب بطريقة أو بأخرى عن السؤال الذي يطرحه العقل الإنساني في كل مرحلة حضارية،
4
وقدم أيضا الطريق الذي يسير فيه تيليش، كما هو واضح.
وتيليش بوقوفه على الحدود بين الدين والحضارة، وبين الموقف الفردي والجمعي، يؤكد كما أكد أوغسطين أن المجتمعات تشكلت على أساس، ولأنها القصي لموضوع ما للحب المشترك؛ يؤكد أن الاهتمام القصي لا يشكل تجربة الفرد فحسب، بل وأيضا المجتمع، فيحدد القيمة والمصير لكل أمة أو جيل، ويتغلغل في كل منتجات الحضارة خصوصا الفن، ويعطيها طابعها الفريد؛ لذلك لا بد أن يحلل اللاهوتيون هذه المنتجات لكي يضعوا الإصبع على العقيدة في كل موقف حضاري. وفهم الموقف الحضاري بدوره يستلزم قبلا معطيات قيمية وتوجهات وجودية، إنه إذن دائرة مغلقة تبدأ من العقيدة الدينية وتنتهي إليها. يتوغل تيليش في اللاهوت الحضاري، مستندا على التمييز بين الدين كعقيدة تمثل تجربة وجودية عميقة وتصلح أساسا للبناء الحضاري، وبين الدين بممارساته الصورية وطقوسه الشكلية التي أعلن أنها غير ذات أهمية إطلاقا، أو بتعبيره اللاذع «الختان أو عدم الختان، ليس هو المشكلة.» ولن يمثل حجة للمسيحية - في مواجهة الأديان الكبرى الأخرى أو العلمانية والمثالية الأخلاقية - أن طقوسها أبسط أو شعائرها أفضل، خصوصا وأن العلمانية والمثالية وما إليها سوف تتباهى بأنها متحررة أصلا من الطقوس وأيضا الخزعبلات. مجد المسيحية في بساطتها التي تلخصها كلمتا القديس بولس «الوجود الجديد» صورة جديدة لحضارة الإنسان.
5
ولم يعتبر تيليش الوعظ مهمة احترافية، وكان قليل بل عديم الاهتمام بالدعوة المستهلكة إلى الوصايا العشر. وبالاطلاع على مواعظه نلقاه لا يلجأ البتة إلى الوعد والوعيد بالجنة والنار؛ فهذه الأساليب لم تعد تجدي كمدخل للتجربة الدينية في عصرنا هذا. المدخل الحقيقي الفعال هو التجربة الوجودية، بل ولم يعتن بالمشاكل التقليدية للاهوت المسيحي. وفي كتابه «الموقف الديني سنة 1929م» أعلن أنه لا يدافع عن أي مضمون محدد للوحي، كالتجسيد والعشاء الرباني ... بل يدافع عن العقيدة المسيحية في تفسيرها الصحيح كعلاقة أبدية بين الله والإنسان، متضمنة دوما في أوجه الحضارة وليس الدين سرا ملغزا لا شأن للعقل به كما رأى بارت، ولا هو في حاجة إلى الميتافيزيقيات المجردة التي أمعنت الكاثوليكية في إثقال كاهله بها، «وليس ثمة لغة قدسية هبطت من سماوات علوية، ووضعت بين غلافي كتاب ؛ اللغة الدينية لغة عادية، تتغير تبعا للقوى التي تعبر عنها.»
6
فيمكن أن يفهم الدين جدا، ولكن في إطار التاريخ والحضارة الإنسانية، تماما كما أنهما يمكن أن يفهما من زاوية دينية. •••
وعلى هذا الأساس قام «اللاهوت النسقي» لتيليش، ليؤكد أن ثمة وجوها عدة للإنجيل، كل وجه يلائم عصرا من العصور. ومصادر اللاهوت النسقي ثلاثة: الإنجيل وهو طبعا المصدر الأساسي - التقليد
Tradition - تاريخ الدين والحضارة. ولكن ما هو معيار
norm
الالتجاء إلى هذه المصادر، والأخذ منها؟ المعيار هو التساؤل الوجودي الذي تطرحه طبيعة الحضارة في مرحلتها التاريخية المعينة؛
7
فقد ساد في نهاية الحضارة القديمة القلق الأونطيقي، وفي نهاية العصور الوسطى ساد القلق الأخلاقي؛ أما في العصر الحديث فيسود القلق الروحي؛ وسيادة نمط يحدد المعيار اللاهوتي لا ينفي أن النمطين الآخرين حاضران ومؤثران، كما سبق أن أوضحنا.
8
شهدت نهاية العصور القديمة صراع الإمبراطوريات: غزو الإسكندر للشرق، الحروب بين أتباعه وقادته، غزو روما للشرق والغرب، تحولها لإمبراطورية على يد قيصر، طغيان الأباطرة، انهيار المدينة المستقلة، والدولة القومية ... وتلاشي البقية الباقية من البنى الأرستقراطية-الديمقراطية للمجتمع. ساد الفرد شعور بأن مصيره في يد قوة سياسية أو طبيعية هائجة لا يرتكن إليها، سيطر القلق الأونطيقي، وصار التساؤل الملح عن المصير والموت؛ فكانت الكنيسة القديمة مشغولة بالموت، وصاغت لاهوتا يجعل الإنجيل يهب الإنسان الخلود، لا سيما من خلال المشاركة في ماهية يسوع الحية أبدا.
أما في العصور الوسطى، فقد كان التأثير الحاسم للرسالات السماوية، ليتفاقم القلق الأخلاقي، ويتخذ رمزا هو غضب الرب وبطشه وعقابه الرهيب؛ فكانت مظاهر الحياة الدينية التي طبعت العصر كالحج والاستغفار والولاء للأيقونات ... من أجل نوال الرحمة الإلهية ومغفرة الذنوب؛ فكانت الكنيسة مشغولة بالإجابة عن تساؤل الذنب والإدانة، بالخطيئة وبالإله الغفور الرحيم، وصاغت لاهوتا يجعل الإنجيل يهب الإنسان الخلاص وطريق التوبة والغفران، وتفاقم الأمر حتى انتهى بصياغة صكوك الغفران!
ثم ظهر العصر الحديث بسقوط الحكم الاستبدادي، ونمو الليبرالية والديمقراطية، ثم نشأة الحضارة التقانية. إن ما حدث انتصار للإنسان على القوى الهائجة السياسية والطبيعية معا، فتراجع قلق الموت، ولما كان الانتصار للإنسان لا عليه فقد أكسبه ثقة بنفسه وببلوغه سن الرشد، فتراجع أيضا القلق الأخلاقي، وصار العدم الروحي هو المسيطر. والسؤال الوجودي لعصرنا، والذي يشكل معيارنا لصياغة اللاهوت من مصادره الثلاثة إنما هو عن تأكيد-الذات على الرغم من الخواء واللامعنى.
والإجابة التي نخرج بها من الإنجيل هي أنه يعطينا الأمان ويدرأ عنا العدم الروحي الذي يهددنا حين يمنحنا فرصة المشاركة في القوة اللامتناهية للوجود-ذاته ، الرب، عن طريق الإيمان به. هذه هي إجابة الإنجيل عن سؤالنا المعاصر، «وهي لا تلغي إجابتي المرحلتين السابقتين، ولا تحل محلهما.»
9
وبسهولة يمكن ملاحظة كيف أن روح التثليث المسيحي قد شبعت هذه النظرة، سواء بوعي أو بدون وعي من صاحبها؛ فاللاهوت ثلاثي المصادر، يتصدى لثلاثة أسئلة، ليعطي ثلاث إجابات ملائمة لثلاث مراحل حضارية، عانت أنماطا ثلاثة من القلق ... لكن تيليش أسير المشروع الثقافي الغربي، أطر الحضارة الغربية هي القضبان الحديدية التي يصب فيها فكره، اللاهوتي والفلسفي على السواء! •••
فهل يشفع له أن تعامله المرن مع اللاهوت، مكنه من العناية بالحوار بين الديانات المختلفة على أساس أنها جميعا تملك عنصرا مشتركا يتمثل في أن الألوهية هي الاهتمام القصي، وكأنه يواصل حلم أو مشروع «ابن عربي» بوحدة الأديان، وربما يدفعه من أعماقه شعور ممض بأن الحرب العالمية حدثت بسبب من نماء وتعاظم النزعة القومية؛ مما جعله يحلم دائما بمجتمع يضم البشر أجمعين. يقول تيليش حوار لا مواجهة؛ فلا ينبغي أن تنافس الأديان الكبرى بعضها، بل عليها أن تلتقي معا من أجل مواجهة التحدي الحقيقي، وهو أشباه الديانات المعاصرة من قبل النزعة الإنسانية الليبرالية والنزعة القومية والشيوعية والفاشية والنازية والعلمية المتطرفة ... إلخ وتيليش يقول عنها أشباه
Quasi
ديانات، وليس ديانات زائفة
لأنها تحمل تماثلا مع الدين من حيث قوة استحواذ الاهتمام القصي، على الشخص ولحد قد يدفعه لتكريس الحياة، وربما بذلها، إن الدين لن ينتهي أبدا، والهجوم الحقيقي عليه من هؤلاء؛ فلتتحد الأديان معا من أجل السؤال المطروح عن مستقبل الدين في مواجهة انتصار العلمانية الأوتونومية، الذي عم وساد في معظم أنحاء العالم الغربي الآن.
يقول تيليش صراحة: «إننا نسيء إلى يسوع حين نقر بأنه مؤسس ديانة جديدة أو آت بشيء آخر أنقى وأصفى»
10
لم يكن يبحث إلا عن الوجود الجديد. والمسيحية بغير أن تفقد أسسها التاريخية يمكنها استيعاب الكثير من العناصر في الجهود الفلسفية القديمة للتوفيق بين الديانات المختلفة.
فالمسيحية نفسها لم تحدد موقفها حيال الأديان الأخرى، ولا ألغتها جميعا. أنبياء اليهود اعتبروا آلهة الديانة الوثنية مجرد قوى أدنى من يهوا خصوصا فيما يتعلق بالتنبؤ بالمستقبل وتحديده، والاستجابة إلى الصلوات ونشر العدالة. الآلهة الأخرى حقائق منافسة، ويهوا له القوى العليا؛ ثم كان يسوع ليؤكد مطلقية الرب، وأنه الوجود الفريد الذي لا يقارن ولا ينافس. ومع المسيحية المبكرة كان الحكم على الأديان الأخرى تحدده فكرة اللوجوس اليوناني (العقل/الكلمة) الذي هو كائن في معظم الأديان الأخرى.
11
كل هذه الحقائق المعروفة جيدا، والتي تعني العالمية المذهلة للمسيحية، ينبغي أن نأخذها الآن في الاعتبار ونحن ننظر في المواجهة بين المسيحية والأديان الأخرى؛ لندرك أن المسيحية لم تنظر لذاتها أبدا بوصفها الديانة التي تستبعد تماما أو تنكر إنكارا مطلقا أية ديانة أخرى؛ إنها لم تفقد تبصرها وتفعل هذا إلا بعد النجاح المذهل السريع للإسلام، وانتزاعه المسيحية من أماكن عديدة، أهمها مصر، إنه محصلة لأول مواجهة للمسيحية مع ديانة جديدة للعالم؛ والحملات الصليبية أقوى تعبير عن هذه الخاصية غير العقلانية والاستحواذية التي اكتسبتها المسيحية تحت تأثير نجاح الإسلام، وهي في الآن نفسه دليل على أن المسيحية كانت تحارب حكما سياسيا قويا؛ واستبصار ديني عميق.
12
إن مشكلة المسيحية في مواجهة من يرفضونها ويتمسكون بديانات أخرى، ليست حق الرفض، بل طبيعته، فإذا كان رفضا شاملا فهو خطأ؛ لأنه لا يجعل أرضية مشتركة تكفل قبولا أو رفضا، أما إذا كان رفضا لأجزاء وقبولا لأجزاء، فهذا موقف أكثر تسامحا، لكنه أسلوب تجزيئي لا يناسب الحكم على الدين، ولا حتى على الفلسفة؛ أما أسلوب الرفض الثالث، فهو مركب جدلي من الرفض والقبول، وهذا هو الموقف الذي ينبغي التمسك به؛ لأنه يمكن أن يخلق أرضية مشتركة بين الديانات المختلفة.
13 •••
ويبقى أخيرا، وأيضا أولا، ودائما، وفي كل خطوة المحك وآية الانضباط؛ يبقى المنهج. والواقع أن تيليش أضفى النسقية على لاهوته، فغذى اللاهوت المسيحي عموما وأثراه، حين قدم منهجه الفريد، منهج التضايف
Method of Correlation ، الذي يحمل سمة تيليش المميزة، فيحلو له أحيانا أن يسمي لاهوته «لاهوت التضايف».
ومنهج التضايف - بحكم طبيعة المنهج - الإطار لكل ما سبق؛ إنه تبرير وتعميق اللاهوت بأن تضايفه إلى الموقفين الفردي والحضاري. وقد كانت وظيفة الكنيسة دائما هي الإجابة عن التساؤلات المتضمنة في كل وجود إنساني، فلا بد أن يستغل اللاهوت المادة الضخمة والعميقة للتحليل الوجودي في كافة المجالات الحضارية، وهو لا يستطيع أن يقبلها ببساطة، فكيف إذن؟ الكيفية أو المنهج هو «أن يأخذ بيمناه تحليلات الموقف الوجودي، وبيسراه رسالة الوحي المسيحي، ويضايف الأسئلة المتضمنة في الأولى على الإجابات المتضمنة في الثانية»؛
14
أي يواجه التحليل الوجودي بالرموز التي عبرت بها المسيحية عن الاهتمام القصي، وهذا هو المنهج الملائم لكل من رسالة يسوع والمأزق الإنساني كما تكشف في الحضارة المعاصرة. والبروتستانتية بما تنطوي عليه من نزعة نقدية ورفض التبعية المطلقة للسلطات الدينية شيء عظيم جدا، ولكن لا بد لها من البعد البنائي، من الوجود في قلب التوتر على الحدود بين البنائي والتصويبي؛ وحين تجعل من العقيدة إجابات عن أسئلة الوجود الإنساني في مرحلته التاريخية المعينة، سوف يتحقق البعدان التصويبي والبنائي، وسوف يتعين على اللاهوت أن يتواجد في توترات حقائق الوحي مع الموقف الوجودي والحضاري للإنسان.
والإجابة اللاهوتية ليست مشتقة من التساؤل الوجودي؛ لأن الفلسفة الوجودية لا تعطي أبدا أية إجابة فقط تحدد شكلها، والسؤال لا يحدد الإجابة بأكثر مما تحدد الإجابة السؤال؛ الاثنان متضايفان. التضايف أساس فلسفي عام، حتى إن الوحي هو التضايف بين العقل وبين أساس الوجود؛ أي الألوهية.
من الواضح أن التضايف هو منهج الربط بين اللاهوت والحضارة، على الأسس الوجودية، وبنظرة أعمق نلاحظ أنه منهج الربط بين المقاطعات الشاسعة التي أراد تيليش أن يقف على الحدود بينها، فهل تراه استطاع؟
Bilinmeyen sayfa