الفصل الثالث
قال الراوي:
كان القصر قد استعاد رونقه بعد أن أصلحه أبرهة من آثار الحرب الطاحنة التي كانت بينه وبين أعدائه، وأصبحت أبهاؤه - كما كانت على عهد ملوك تبع - أعجوبة من أعاجيب الفن البديع.
كان البصر يمتد في إيوانه بين صفين من العمد المرمرية الرشيقة، تحف بهما من الجانبين عقود أنيقة مدت من بينها الطنافس الوثيرة من نسيج فارس والهند وأرمينية، وتتخللها تماثيل بارعة الصنع من نحاس أو مرمر، وآنية من فضة أو حجر شفاف، عليها نقوش افتن في تصويرها صناع القسطنطينية والإسكندرية. وكانت في أركان الإيوان أربعة أسود نحاسية سمراء، إذا دخل الهواء في أجوافها سمع لها صوت يشبه الزئير، كأنها عائدة عند الفجر إلى دحالها بعد أن امتلأت من صيدها في الليل.
ولما تقدم النهار توافدت على الأبواب جموع من الذين جاءوا فوجا بعد فوج، يسرعون من فجاج اليمن ليظهروا الولاء لأبرهة الملك المنصور، قبل أن يخرج في جيشه العظيم إلى حرب قريش.
ووقفت الجموع في حلقات يتهامس بعضها مع بعض، وعيونهم تلوح بين حين وحين إلى ردهة الإيوان تترقب قدوم الملك. وكانوا جميعا في زينة مختارة وملابس زاهية وسلاح محلى بالذهب والفضة، فكأن ألوان الزهر اجتمعت هناك من أحمرها وأصفرها وأزرقها، وما بين ذلك من ظلال شتى. كان فيهم زعماء القبائل من حمير أصحاب الملك القديم، ومن أشراف خثعم سادة فرسان الصحراء، وشيوخ همدان شجعان العرب، وفيهم من مهرة والسكاسك وكندة الذي عادوا إلى بلادهم بعد أن خلعتهم قبائل الشمال عن عروش نجد. وكان بينهم عدد كبير من وجوه المدائن الكبرى وصنعاء ونجران وزبيد وصعدة وعدن وغيرها، قد احتشدوا جميعا بدعوة من الملك ليستوثق من ولائهم قبل خروجه إلى مغامرته الجديدة التي ستمد ملكه على أرض العرب جميعا.
ودخل شيخ بدوي يتوكأ على عصاه ويطأ بنعليه الغليظتين طنافس البهو في بطء، ناظرا إلى الجمع الكثيف في هدوء، كأنه جاء يسوق إبله العطشى إلى مورد الماء. وكانت ملابسه الخشنة ووجهه المجعد تبدو مثل صرخة في وجه الجمع الحافل الأنيق، فكان أينما خطا تتجه إليه الأعين في اهتمام ودهشة. كان في هيئته محاربا قديما من بقية عهد منقرض. وحيا الشيخ أقرب الناس إليه تحية خافتة تضمر لونا من الاعتداد بالنفس. وكان يقف بين خطواته البطيئة يقلب بصره في الوجوه، كأنه يبحث عن وجه يعرفه. وكان يرى ما أمامه كأنه يلوح من وراء ضباب، ويستمع إلى الهمهمة الغامضة التي تتردد في البهو كأنها منبعثة من عالم بعيد. وكانت الأعمدة المرمرية تبرق جديدة، والأروقة المزخرفة تطل هادئة جليلة، والمصابيح تتدلى من عناقيدها النحاسية الفخمة كما كان يراها منذ عهد، عندما كان يدخل على ذي نواس آخر الملوك، ومع ذلك فقد كان البهو يبدو في نظره الكليل أجنبيا. وعادت إليه صورة ذي نواس يوم جمع شيوخ القبائل ليستنجد بهم على الأحباش الذين جاءوا لغزو بلادهم، وكان يبسط لهم يديه راجيا أن يتناسوا أحقادهم وعداواتهم، ويقفوا وراءه صفا واحدا ليحاربوا عدوهم ويدفعوه عن أرضهم. وتذكر ضجة الشيوخ وهم يتبادلون التهم ويتقاذفون بالصيحات الحانقة ثم ينصرفون فرادى؛ لكي يلقاهم الأحباش أشتاتا ويقهروهم واحدا بعد واحد.
ثم عادت إليه صور المعركة الطاحنة التي شهدها، وصورة ذي نواس وهو يولي منهزما عند شاطئ البحر، ويخوض الماء بفرسه حتى يغرق فيه لكيلا يقع أسيرا في يد عدوه المنتصر. أهؤلاء الذين يجتمعون في البهو الكبير من قومه؟ كان لا يعرف فيهم وجها واحدا. أجاء من واديه البعيد ليقف في هذه الصفوف حتى يحضر أبرهة؟ وأحس في صدره قبضة من الحزن ووخزة من الذلة. هذا ما تنبأ به ذو نواس عندما كان يتضرع إلى شيوخ القبائل ويسألهم أن يقفوا من ورائه، كأنه كان ينطق بلسان الغيب. قال لهم عند ذلك واليأس يغالب الحنق في صوته: «سوف تقفون أنتم أو من يبقى منكم بين يدي العدو، تحنون له رءوسكم خشوعا كما يحني العبد رأسه لسيده»، وهذا هو ذو نفر شيخ حمير، وبقية ذلك الجيل المنقرض تحكم عليه الأقدار أن يبقى حتى يحقق نبوءة الملك اليائس. هذا هو يقبل من أرضه البعيدة لكي يحني رأسه إلى أبرهة، وهؤلاء الذين لا يعرف منهم أحدا قد جاءوا جميعا لكي يجتمعوا وراء أبرهة ويحاربوا من أجله، كما لم يجتمعوا وراء ذي نواس وكما لم يحاربوا من أجل أنفسهم. وحجبت بصره الكليل غلالة من دمعة مترددة، فلم ير من أمامه إلا أشباحا مختلطة مضطربة، وسمع منها صوتا يناديه: مرحبا يا أبا الهيثم.
وعجب أن يعرفه أحد في ذلك الجمع، وكان يحسب أن الذين عرفوه قد ذهبوا ولم يبق منهم أحد يشاركه أسفه. ومد بصره فرأى رجلا طوالا يمد إليه يده.
وكان كهلا متين البناء أنيق الملبس، وخط الشيب لحيته، ولكن لمعات عينيه ونضرة وجهه أكسبته مظهر الشباب، وكان في منطقته خنجر له مقبض فضي يلمع بقطع من الجوهر، وكان صوته عميقا في شيء من الغلظ عندما قال للشيخ: أما تعرف نفيل بن حبيب؟
Bilinmeyen sayfa