وجهة العالم الإسلامي
وجهة العالم الإسلامي
Yayıncı
دار الفكر معاصر بيروت-لبنان / دار الفكر دمشق
Baskı Numarası
١٤٣١هـ = ٢٠٠٢م / ط١
Yayın Yeri
سورية
Türler
مالك بن نبي
مشكلات الحضارة
وجهة العالم الإسلامي
دار الفكر معاصر بيروت-لبنان
دار الفكر دمشق - سورية
1 / 1
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وجهة العالم الإسلامي
1 / 2
مالك بن نبي
مشكلات الحضارة
وجهة العالم الإسلامي
ترجمة عبد الصبور شاهين
بإشراف ندوة مالك بن نبي
دار الفكر
1 / 3
إعادة
١٤٣١هـ = ٢٠٠٢م
ط١: ١٩٨٦م
1 / 4
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
في عام ١٩٧١م ترك أستاذنا مالك بن نبي- ﵀ في المحكة الشرعية في طرابلس لبنان، وصية سجلت تحت رقم ٢٧٥/ ٦٧ في ١٦ ربيع الثاني ١٣٩١هـ الموافق ١٠ حزيران (يونيو) ١٩٧١م، وقد حملني فيها مسؤولية كتبه المعنوية والمادية.
وتحملًا مني لهذه الرسالة، ووفاءً لندوات سقتنا على ظمأ صافي الرؤية، رأيت تسمية ما يصدر تنفيذًا لوصية المؤلف (ندوة مالك بن نبي).
والتسمية هذه، دعوة إلى أصدقاء مالك بن نبي وقارئيه، ليواصلوا نهجًا في دراسة المشكلات، كان قد بدأه.
وهي مشروع نطرحه بوصفه نواة لعلاقات فكرية، كان ﵀ يرغب في توثيقها.
وإنني لأرجو من أصدقاء مالك وقارئيه، مساعدتنا على حفظ حقوق المؤلف في كل ما ينشر بالعربية أو الفرنسية مترجمًا من قبل المترجمين أو غير مترجم. فقد حمّلني- ﵀ مسؤولية حفظ هذه الحقوق، والإذن بنشر كتبه. فإن وجدت طبعات لم تذكر فيه إشارة إلى إذن صادر من قبلنا، فهذه طبعات غير مشروعة، ونرجو إبلاغنا عنها.
طرابلس لبنان
١٨ ربيع الأول ١٣٩٩هـ
١٥ شباط (فبراير) ١٩٧٩ م
عمر مسقاوي
1 / 5
الإهداء
إلى الشعب الجزائري الثائر
إنني أحيي كفاحك أيها الشعب الكريم
لأن عدالة القضية تخلع عليه القداسة
إنني أحييه لأن كفاح الطفل الجزائري، سبيل
مستقبله، ولأنه كفاح المرأة الجزائرية من أجل أمن بيتها
وسعادة أسرتها، ولأنه كفاح الشهداء ولأنه كفاح
الأبطال الذين يريقون دماءهم من أجل الحق المقدس
للطفل وللمرأة ... ولأنه كفاحك أيها الشعب الكريم من
أجل البقاء والكرامة والحرية.
إن الله الذي يبارك صراع الأبرار يبارك كفاحك
ويقوده إلى النصر تحت الراية المقدسة التي كتب
عليها وعده الصادق:
﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾
مالك
1 / 7
تقديم
بقلم الأستاذ محمد المبارك
ــ
ينتمي مؤلف هذا الكتاب الأستاذ (مالك بن نبي) إلى بلد عربي إسلامي، عانى من تجربة الصدام بين المجتمع الأوربي المادي والمجتمع الإسلامي العربي، ما لم يعانه بلد آخر، سواء في طول المدة أو قوة الصراع أو عمق الأثر. إن الجزائر تمثل هذه التجربة في نواحيها المؤلمة ومآسيها، وفي جوانبها المنتجة الموقظة المبشرة، كما أن المؤلف نفسه عانى هذه التجربة فكريًا ونفسيًا، كأشد ما يعانيها إنسان مثقف مرهف الشعور والحس.
ولعل قراء الأستاذ مالك لا يعرفون أنه مهندس كهربائي تخرج من كبريات المعاهد الهندسية العالية في فرنسا، وسلخ من حياته أكثر من ثلاثين سنة عاشها في أوربا، وكانت هذه السنون الطويلة والخصبة بالنسبة إلى رجل مثقف عميق الثقافة سببًا في إظهار ذاتيته، وإيقاظ الشعور في نفسه وفكره: إنه عربي مسلم، ليس هو من المجتمع الأوربي الذي عاش فيه بجسمه في شيء، وكان تعمقه في الثقافة الأوربية سببًا في تحرره من نفوذها، ومعرفته لمصادرها ومواردها، لدوافعها الخفية وبواعثها العميقة، ولا سيما أنه جمع إلى جانب الثقافة العلمية، ثقافة فلسفية واجتماعية واسعة الأرجاء، عميقة الأغوار، كما تدل عليه آثاره ومؤلفاته العديدة التي قرأناها. والمهم في الأمر أن ثقافته هذه لم تكن ثقافة فكرية تقتصر على ساحة الفكر، ولكنها نضحت بحرارة المأساة التي كانت تعيش فيها الجزائر، مأساة الاستعمار والاستعلاء والسلب، واستخدام أرفع النظريات
1 / 9
العلمية لأحط الغايات وأخس الأهداف. لقد تجمعت في قلبه ونفسه، في عاطفته وشعوره، في عقله وتفكيره، مآسي أولئك الملايين من البشر، الذين يعيشون على أرض الجزائر ضحايا لمدنية القرن العشرين، وأمثلة بارزة لانحطاط أهدافها وغاياتها.
ولذلك لا تجد لهذا الكتاب خصوصًا، وكتب مالك عمومًا، شبيهًا في كتب المشارقة من أبناء البلاد العربية، الذين لا يزال أكثر كتابهم يقفون من الحضارة الأوربية موقفًا آخر؛ هو موقف التلميذ المعجب الذي لم ينقض إعجابه، والمستجدي لأفكارها ومقاييسها، لأنه لم يعرف منها إلا مظاهرها، وإلا جوانبها الفكرية، ولم يعرف حين يعرفها إلا زائرًا، ولو طالت زيارته لها بضع سنين.
لقد كانت أوربا بالنسبة إلى الأستاذ مالك تربة صالحة لتنمية جذوره التي لا تزال متصلة ببلده، مغموسة بتاريخ أمته.
إنك حين تقرأ هذا الكتاب تشعر أنك لست تقرأ كتابًا، ولكنك تعيش مأساة أمة، وتعيش معها خلال عشرة قرون أو أكثر، وتمر بعقد قصتها خلال هذه القرون.
إن مسرح المأساة والبلد الذي تمثل عليه هو العالم الإسلامي بمجموعه، لا يخص المؤلف فيه بلدًا دون بلد، بل يبحث مشكلته المشتركة، يستعرض تاريخها منذ ظهور الإسلام، والمراحل التي مرت بها، ثم يقف بنا طويلًا في العقدة الأساسية في المرحلة الحاضرة من مراحل الإنسانية، ويوسع حينئذٍ مسرح المأساة ليرينا إياها في صورتها العالية، ويقفنا على مأساة الإنسانية التي تمثل على مسرح العالم، في جانبها الأوربي الأمريكي، وفي جانبها الإسلامي، بل يرينا من بعيد وجهها الهندوكي البوذي؛ كل ذلك ليدلنا على المخرج وعلى حل العقدة بنور يسلطه على المجتمع الإسلامي، وعلى هذه الرقعة من العالم التي تمتد من مراكش إلى إندونيسيا.
1 / 10
إن طريقة المؤلف في كتابه هذا لا تقوم على سد التفاصيل والحوادث، بل على تحليل عميق- أعانه عليه ثقافة قوية واطلاع واسع- لمراحل التاريخ، وسير المدنية وتطورها، وهو يقسم تاريخ المجتمع الإسلامي إلى ثلاث مراحل: أولاها: مرحلة الإسلام الأولى في دفعته الإيمانية الحية، وهي أقوى هذه المراحل في حيويتها وقوتها الدافعة وخصبها، وتنتهي في معركة صفين. وثانيتها: مرحلة المدنية الإسلامية، وهي مرحلة التفكير والازدهار الحضاري، وتنتهي بسقوط دولة الموحدين. وثالثتها: مرحلة الجمود والانحطاط؛ ويصف كل مرحلة من هذه المراحل وصفًا تحليليًا عميقًا، ويخص المرحلة الأخيرة بالعناية لأنها المرحلة التي لا نزال نعيش في رواسبها وآثارها، ولأنها تمثل في نظره الصائب مرحلة القابلية للاستعمار.
وهو إذ يصل بتحليله التاريخي إلى هذه النقطة، يلتفت إلى العالم الأوربي، فيستعرض نشأة حضارته وصفاتها الأساسية العميقة التي ترتد إلى عهد بعيد، ويرجع بصفاتها إلى بيئتها الزراعية التي انبثقت عنها، ويسير معها في تطورها حتى يصل بها إلى العصر الحاضر، يذكر في خلال ذلك مناقبها وعيوبها والعناصر المختلفة التي تظاهرت على تكوينها: من مادية منظمة تولدت من زراعة الأرض، إلى روحية غزتها من خارجها وسطوحها بالمسيحية القادمة من الشرق، التي انكمشت وتقلصت واصطبغت بصبغة الحضارة المحلية، إلى العقلية الديكارتية التي تركت في التفكير الحديث أثرًا عميقا، إلى الصناعة الكبرى وما آلت إليه من ثورة في القيم والمفاهيم، وأنظمة الحكم والأخلاق.
ثم يقابل المؤلف هنا بين الحلقتين الأخيرتين المتقابلتين من سلسلتي التطور في أوربا وفي البلاد الإسلامية، ويصف ما يكون من التقاء عالمين أحدهما حطت فيه المدنية رحالها، وتردت بردائه، واتسمت بصفاته، وانتهت إلى عهد الاستعمار، وإلى المادية، مادية البورجوازيين (المتمولين) التي تجلت في
1 / 11
الرأسمالية، ومادية الكادحين الفقراء (البروليتاريا) التي تجلت في الشيوعية.
وأما العالم الآخر (البلاد الإسلامية) فقد رحلت عنه المدنية بعد أن تركته هيكلًا فارغًا تجلى عليه الجمود في مرافقه كلها، وركدت تلك النفحة الإيمانية، واستبدل بها ألفاظًا جامدة جوفاء، حتى غدا هذا العالم كما وصفه المؤلف قابلًا للاستعمار قبل أن يُستعمر.
ويستثير الأستاذ مالك هنا تفكيرنا وحماستنا في آن واحد، ويتنبأ بحل جديد لهذه العقدة، ويبشرنا برحلة جديدة بدت طلائعها في انهيار الحضارة الغربية؛ حضارة الاستعمار والمادية، وفي استيقاظ العالم الإسلامي وفقًا لنظريته التي بسطها في أول كتابه في (دورات المدنية وانتقالها)، ويقف بنا أمام تحليل رائع لواقعنا ولحركاتنا الحديثة في التجديد والتقليد والإصلاح، كاشفًا عن سطحية بعض هذه الحركات والمظاهر التجددية، مشيرًا إلى نواحي الأصالة والعمق في حركات الإصلاح والثورات الحقيقية من جهة أخرى.
ويرى كاتبنا الفيلسوف أن هذا العالم الإسلامي هو الذي يحقق الظروف النفسية لظهور (الإنسان الجديد)، وأن رسالته في هذا العصر التوفيق بين العلم والضمير، بين الأخلاق والصناعة، بين الطبيعة وما وراء الطبيعة، وأنه في منتصف الطريق إلى هذه الغاية، وأنه وإن كان يجب عليه بلوغ مستوى المدنية الحالية المادي، باستخدام مؤهلاته كلها على اعتياد النظام، في العهد الذري الذي يسيطر عليه الفكر الصناعي العلمي سيطرة شديدة؛ غير أن مهمته تظل روحية تقوم على التخفيف من حدة الفكر المادي والأنانية القومية.
غير أنه يعتقد أن مركز الثقل في هذا العالم سينتقل من البحر المتوسط إلى آسيا، وأنه يتجه اليوم نحو جاكرتا مستفيدًا من تلك النفحة الصوفية التي لا تزال سارية في العالم البوذي والهندوسي، الذي يتصل به العالم الإسلامي في آسيا ويجاوره.
1 / 12
وقد أخالف المؤلف في نظرته هذه، ذلك أني- على تقديري للنهضة الرائعة التي تبدو في اندونيسيا وبعض البلاد الآسيوية الإسلامية- أرى أن للعالم العربي م كانت هـ ووظيفته الحيوية في قلب هذا العالم الإسلامي، وأنه أوتي القدرة على التوفيق بين القيم المادية والروحية، وإقامة التوازن بينهما، وأنه بحسن تفهمه للغة القرآن الكريم ولرسالة الحياة الجامعة بين المقاييس المادية والروحية، والجهد المادي والخلقي، لا يزال محط الأمل وموضع الرجاء، دون أن ينقص ذلك من قيمة الشعوب الإسلامية الأخرى، ومن خصائص عبقريتها، ولو أن العالم العريي لا يزال وعيه لم يبلغ العمق المطلوب، ولا يزال شعور الاضطلاع بحمل عبء هذه الرسالة الحضارية الكبرى ضعيفًا خافتًا، ولكن القوى المحركة، والبواعث النفسية، والدفقات الإيمانية لا تسير بسرعة منتظمة، بل بوثبات تتجاوز حساب الحاسبين. وأعتقد أن الأستاذ مالك في كتابه (فكرة الإفريقية الآسيوية) يبدو أقرب لرأيي هذا.
وعلى كل حال نستطيع أن نقول: إن هذا الكتاب يكشف في مالك بن نبي عن مفكر كبير احتل بسرعة فائقة مكانه اللائق في طليعة العالم العربي والعالم الإسلامي، وبرز بسلسلة من المؤلفات الأخرى (الظاهرة القرآنية، مشكلة الثقافة، شروط النهضة ...) جعلته رمزًا لهذه المرحلة الجديدة التي بدأناها: مرحلة التحرر الفكري، التحرر من الاستعمار، والنفوذ الفكري، والتبعية الثقافية والحضارية، مرحلة الاستقلال الحقيقي والشعور بالذات، والاضطلاع بالعبء، والثقة بالقدرة على البناء، والسير بركب الحضارة، بعد التحرر من رواسب عصر الانحطاط والتشويه وقلب القيم، والفراغ الفكري والروحي، ومن الشعور بالنقص واحتقار الذات والإعجاب السطحي بمدنية أشرفت على نهايتها، وبدت عيوبها ونقائصها.
إن مالكًا يبدو في كتابه هذا وفي مجموع آثاره لا مفكرًا كبيرًا وصاحب نظرية
1 / 13
فلسفية في الحضارة فحسب، بل داعيًا مؤمنًا يجمع بين نظرة الفيلسوف المفكر ومنطقه، وحماسة الداعية المؤمن وقوة شعوره، وإن آثاره في الحقيقة تحوي تلك الدفعة المحركة التي سيكون لها في بلاد العرب أولًا، وفي بلاد الإسلام ثانيًا، أثرها المنتج وقوتها الدافعة. وقلما استطاع كاتب مفكر أن يجمع كما جمع بين سعة الإطار والرقعة التي هي موضوع البحث، وعمق النظر والبحث، وقوة الإحساس والشعور- أنا لا أقول إنه (ابن نبي)، ولكني أقول إنه ينهل من نفحات النبوة، وينابيع الحقيقة الخالدة.
محمد المبارك
دمشق في
٢٠ من صفر ١٣٧٩هـ
٢٦ من آب (اغسطس) ١٩٥٩م
1 / 14
تنبيه
يظهر كتاب (وجهة العالم الإسلامي) بعد تحريره بسنوات أربع، دون أدنى تعديل يتصل بما جد من أحداث، خلال تلك الفترة، اللهم إلا ما رآه المؤلف ضروريًا فسجله تعليقًا على الهامش مؤرخًا بعام ١٩٥٤.
فإذا لم يعد ممكنًا تطبيق آراء المؤلف، التي سجلها غداة الأزمة الفلسطينية، على الأوضاع الراهنة في العالم الإسلامي، فإن تنقيح هذه الآراء لن يفيد في علاج الأوضاع الجديدة، أما إذا كان من الممكن تطبيقها، فسيستطيع القارئ من باب أولى أن يقدر مدى صلاحيتها بوصفها مقياسًا لما جدّ من أحداث.
أية كانت وجهة الأمر، فإن صناعة تاريخ العالم الإسلامي لم تعد من مهمة المؤامرات الخارجية التي قعدت به إلى حين عن التطور والازدهار، وإنما هو العمل الصامت المضني، المنبعث عن حركته الداخلية. وهو ما جهد المؤلف للكشف عنه في الصفحات التي نقدمها إلى القارئ الكريم.
حزيران (يونيو)، ١٩٥٤
1 / 15
مدخل الدراسة
كنت قد فرغت من تخطيط هذه الدراسة، عندما جاءني أحد أصدقائي، وقد كان على علم بمشروعي، فأطلعني على المؤلف القيم الذي وضعه الأستاذ (جب) بعنوان (الاتجاهات الحديثة في الفكر الإسلامي) Les tendances modernes de L'Islam. فوجدت أن موقف المؤلف الكبير يشبه في مواطن كثيرة موقفي الذي حاولت مع قصر باعي أن أجلوه.
فهل كان عليّ أن أراعي هذا التشابه، فأكتفي بإحالة القارئ إلى آراء أستاذ أكسفورد، وخاصة فيما يتصل بالفصلين الثاني والثالث من هذا الكتاب ..؟ لقد آثرت أن أواصل طريقي متخذًا منه سندًا يؤيد رأيي، وهو سند له عندي وزن كبير.
غير أنه يبدو لي من الضروري أن أشير إلى بعض المواطن التي اختلفنا فيها كيلا أعود إليها داخل الكتاب تجنبًا للجدل.
فأنا لا أعتقد أن صفة (الذرية) (١) - تلك اللازمة من لوازم العقل العاجز عن التعميم- خاصة فطرية من خواص الفكر العربي، على ما أكده المستشرق الإنجليزي المحترم، بل هي طراز من طرز العقل الإنساني عامة عندما يقصر عن بلوغ درجة معينة من التطور والنضج، أو عندما يفوتها، وبعبارة أدق يقع العقل المعمم في التطور التاريخي بين مرحلتين من مراحل (الذرية).
فالفكر غالبًا ما يكون ذريًا في خطواته الأولى، كما كانت الحال في أوربا
_________
(١) يقصد المؤلف بالذرية atomisme، نزوع الفرد إلى تجزئة مشكلة الحياة فيتناولها ذرة درة.
1 / 17
قبل (ديكارت)، وكما صارت إليه الحال بعد عصر ابن خلدون في العالم الإسلامي، عندما توقف كل جهد عقلي.
ولكن التراث الثقافي الخطير الذي خلفته الحضارة الإسلامية للحضارة الحديثة، يظل شاهدًا على ما كان يتصف به الفكر الإسلامي في عصوره الذهبية، فلقد اتسم كفاحه في مجالاته كافة بالإحساس (بالقانون)، وهو يستلزم القدرة على التركيب، فوضعت النظريات القانونية وبناها الفقهاء على قواعد (الأصول). وهكذا نجد التشريع الإسلامي يحمل للمرة الأولى في تاريخ التشريع طابع نظام فلسفي يقوم على مبادئ أساسية، بينما لا يعدو القانون الروماني أن يكون مجموعة من الملفقات القانونية العفوية، ليس بينها رباط عقلي.
وبوسعنا أن نذكر أيضًا ما حققه العلامة (أبو الوفا) في علم الفلك من اكتشاف للتغيير في حركة القمر، وهو ما يطلق عليه اسم (اللا متساوية الثانية)، وما حققه العلامة (ابن خلدون)، الذي يرجع إليه الفضل في استنباط قوانين التاريخ وعلاقاتها بأوجه نشاط المجتمعات، وهذا دليل على أن الفكر العربي كان يحمل حاسة القانون وذوقه.
ولست أيضًا مع العالم الإنجليزي، فيما ذهب إليه حين تحدث عن (الاتجاه الإنساني) في الحركة الإسلامية الحديثة، فعزاه إلى تأثير الثقافة الأوربية. فإن من الواجب أولًا أن نحدد مصطلحاتنا: فإذا كنا نتحدث عن نزعة إنسانية تقليدية أو دبلوماسية، فإنا نعترف مختارين بأن الثرثرة الإنسانية ذات جرس جميل، وبأن المتاع اللغوي لدى بعض المسلمين المحدثين قد أثرى ببعض الجمل المنمقة، وببعض الأشعرة الخلابة.
بيد أنه ربما وجب علينا أن نبحث الوقائع وأن نذر الألفاظ، وذلك بأن
1 / 18
نتناول النزعة الإنسانية في معادنها الأصيلة من التسامح والإيثار واحترام شخص الإنسان.
ولا مجال في مثل هذا الكتاب لعقد مثل هذه الموازنة، إذ ينبغي أن نبدأ فيما يخص الإنسانية في الإسلام، بذكر (القيمة الدينية) التي قررها القرآن للفرد، كما أكدنا ذلك في دراستنا عن (الظاهرة القرآنية)، في الفصل الذي درسنا فيه (علاقة القرآن بالكتاب المقدس).
وربما كان من الواجب أن نورد أيضًا ما أوصى به أبو بكر الصديق، ﵁، جيش المسلمين من أن «لا يقتلوا الأعزل، ولا الراهب في صومعته، ولا يقتلوا الأنعام، ولا يحرقوا الزرع» (١).
ثم يرد بعد ذلك الموقف الجليل الذي وقفه عمر، ﵁، عندما استولى المسلمون على بيت المقدس، فقد أبى أن يؤدي الصلاة داخل كنيسة القيامة، واكتفى بأن يسجد عند بابها الخارجي في خشوع، مؤمّنًا بذلك النصارى من جسارة الجند المسلمين، كما أننا لا نستطيع أن نضرب صفحًا عن سعة الصدر التي امتازت بها مدارس الفكر في العالم الإسلامي في عصرها الذهبي، حين تتلمذ عليها الفكر الإنساني دونما قيد أو شرط؛ كان العلم أمرًا مباحًا للراهب (جربرت)، وللكاهن (ميمون)، على حد سواء. فإذا ما رجعنا البصر إلى الحضارة الأوربية الحديثة، وجدناها تدل بعلمها على البلدان المتخلفة أو على الأصح: البلدان التي صيرتها متخلفة، فلا يمكن أن ننسى فداحة الثمن الذي تكبده بعض مثقفينا المسلمين من الأشغال الشاقة والسجن المؤبد.
_________
(١) هذه الوصية في أصلها مما كان يوصي به الرسول ﷺ صحابته حين كان يوجههم إلى الغزو، فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن ابن عباس قال: كان رسول الله ﷺ إذا بعث جيوشه قال: «اخرجوا باسم الله تعالى، تقاتلون في سبيل الله من كفر بالله، لا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع» مجمع الزوائد ٥/ ٣١٦.
1 / 19
فكيف يتأتى للعالم الإسلامي أن يبحث عن إلهام فلسفته الإنسانية فيما وراء تقاليده العريقة ..؟ إن حديثنا عن إنسانية أوربا لا يكون إلا حديثًا عن نزعة إنسانية (جذبية) دون إشعاع، وفي هذه الحالة نراها تعني (إنسانية أوربية) في الداخل، و(إنسانية استعمارية) في الخارج، وهذه الأخيرة قائمة على أقبح المعادلات السياسية وأشنعها: (فالإنسان) في عرفها مضروبًا في (المعامل الاستعماري) يساوي مستعمرًا.
أيًا ما كان الأمر، فإن كتاب العالم الإنجليزي يستحق اهتمام كل مسلم يريد أن يختط بعض المعالم لأفكاره، وأن يقوِّم موضوعيًا، لا أقول القيم الإيجابية في نهضته فحسب، ولكن القيم السلبية التي تعد حاليًا أساس الفوضى في العالم الإسلامي.
ويتحدث (جب) على الأخص عن (النزعة الأدبية)، وهو ما سبق أن نددنا به تحت عنوان (الحرفية) في الثقافة (١).
كما يتحدث عن سمة غالبة يرمز إليها بذوق الفخر والمديح، وبالنزعة الرومانتيكية التي تتسم بها ثقافتنا، حتى عند بعض كبار المفكرين المحدثين، ولهذا الحديث قيمة كبرى في كتابه، وخاصة لدى من يذهبون إلى القول إن محرك التقدم ودليله إنما هو (الحقيقة)، والفخر إنما يكون دائمًا على حساب (الحقيقة)، فهو خيانة لها، وبالتالي خيانة للتاريخ نفسه.
ولكن إذا كان من الخيانة للحقيقة أن نسرف في الحديث عن أنفسنا، فمن الخيانة لها أيضًا أن نجهل قدر أنفسنا، فنقلل من شأنها، ولهذا يبدو أن (جب) قد أغفل الحديث عن مركب النقص الذي يتصف به بعض المثقفين والقادة المسلمين.
_________
(١) انظر كتابنا (شروط النهضة).
1 / 20
وأعود فأكرر القول إن كتاب المستشرق الإنجليزي يعد مرشدًا ثمينًا لكتابي هذا في دراسة الأمراض (شبه الصبيانية) في العالم الإسلامي، ولكم أتمنى أن يتأمل موضوعاته كثيرون من المسلمين، كما تأملتها، وأن يقدروا فيه نزاهته التي سمت على كل مركب عقيدي أو سياسي.
***
1 / 21
الفصل الأول
مجتمع ما بعد الموحدين
﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾
[البقرة: ٢/ ١٣٤، ١٤١﴾
ــ
1 / 23
الظَّاهِرَةُ الدَّوْرِيَّةُ
﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾
[آل عمران: ٣/ ١٤٠]
ــ
لدراسة التاريخ جوانب متعددة، فإذا ما تناولناه بالقياس إلى الفرد كان دراسة نفسية، إذ يكون دراسة للإنسان بوصفه عاملًا نفسيًا زمنيًا في بناء حضارة، ولكن هذه الحضارة تعد مظهرًا من مظاهر الحياة والفكر الجماعي، ومن هذا الجانب يعد التاريخ دراسة اجتماعية، إذ يكون دراسة لشرائط نمو مجتمع معين لا يقوم نموه على حقائق الجنس أو عوامل السياسة، بقدر ما يخضع لخصائصه الأخلاقية والجمالية والصناعية المتوافرة في رقعة تلك الحضارة.
على أن هذا المجتمع ليس معزولًا، بل إن تطوره مشروط ببعض الصلات الضرورية مع بقية المجموعة الإنسانية، ومن هذا الجانب يصبح التاريخ ضربًا من الميتافيزيقا، إذ أن مجاله يمتد إلى ما وراء السببية التاريخية، لكي يلم بالظواهر في غايتها. هذا الجانب الميتافيزيقي يضم الأسباب التي لا تدخل ضمن ما أطلق عليه توينبي (مجال الدراسة) لحضارة ما.
فالمؤرخون حين يدرسون مثلًا انهيار الامبراطورية الرومانية، يقصرون الأسباب التي حتمت ذلك الانهيار على نطاق معين ينطبق على رقعة تلك الإمبراطورية من ناحية، وعلى السهول الشمالية التي تدفقت منها القبائل الجرمانية من ناحية أخرى، خلال القرنين الرابع والخامس، فهذا بالتحديد هو المجال الذي يرى فيه المؤرخون تأثير الأسباب التاريخية التي حللت إمبراطورية روما. وهناك تكونت الموجة الجرمانية التي أطلق عليها المؤرخون الألمان
1 / 25