بيد أن القضية أصبحت وقتئذ تهم الدول الكاثوليكية كلها، وأخذت كل واحدة منها تسعى لتسبق غيرها في الزحف على روما، فالإسبان كانوا على أهبة إنزال خمسة آلاف جندي في «فيومجينو»، أما جنود نابولي فقد احتلوا أطراف باليسترينا إلى أن هجم عليهم جنود روما وهزموهم إلى ما وراء الحدود، أما القائد النمسوي فقصف مدينة بولونيه واضطرها إلى التسليم بعد أن دافعت دفاع المستميت ثمانية أيام.
وبعد أن قاومت إنكونة شهرا شرع النمسويون في حصارها، ولو أطلقت أيدي أهل روما في حركاتهم لاستطاعوا أن يوجهوا قوات فائقة نحو القائد النمسوي ويطوقوه، وكانت فرنسة في تقييدها لحركات جيش روما خير حليفة للنمسة، ولما وردت مدافع الحصار إلى جيش أودينو تجلت مقاصد الحكومة الإفرنسية على حقيقتها، فبعد أن أقام أودينو العراقيل في سبيل نجاح المفاوضات استولى على مواطن الدفاع عن شمال المدينة، وحينما تلقى دي لسبس من باريس أمرا بالعودة، استلم أودينو أمرا باحتلال روما بالقوة.
وبإعلان الحرب انتهى عهد المفاوضات الغامضة الطويل، وكانت الحكومة منذ أيام قد فقدت سلطتها على المدينة وعاد غاريبالدي من فللتري حانقا؛ لأن اللجنة لم توافق على استثمار النصر وتأذن له بالتقدم نحو نابولي، وطلب أن يعين دكتاتورا لأنه كان دائم الاحتقار لحكومة روما ويعتبر مازيني مهذارا.
وبينما كان أودينو يملك 30-40 ألف جندي ومدفعية حصار قوية لم يكن لدى أهل روما إلا ثلاثة عشر ألف جندي ناقص العدة، أكثرهم من دولة روما ومن جملتهم ثلاثة آلاف من الحرس الوطني والمواطنين المسلحين، وقد باشر أودينو الحركات بالفور حسب عادته.
وكان قد وعد بأن لا يشرع في الهجوم إلا صباح اليوم الرابع من حزيران ولكنه في الليلة الثانية من الشهر، وفي نهار الثالث باغت نقطتين من ستارات الرومانيين، واشتد القتال في الحدائق والكروم، ورغم كثرة الجند الإفرنسي الفائقة استرد الرومانيون مباني المصائف عدة مرات، بيد أن البطولة وحدها لا تسد النقص الناجم عن قلة العدد وأخطاء غاريبالدي.
وبعد قتال دام ثلاثة عشرة ساعة أخليت المواضع، وإذا كان الرومانيون قد خسروا بذلك الأرض خارج أسوار المدينة ما عدا معمل فاسجيللو، فإنهم أنقذوا المدينة من المباغتة وألجئوا الإفرنسيين إلى محاصرة المدينة حصارا منتظما معرضين إياهم إلى مرض الملاريا الذي قد يضطرهم إلى رفع الحصار إذا طال أمده، فالقصف الذي لا رحمة فيه ولا هوادة كما كان يتوقعه الكرادلة كان مظنونا أن يلجئ المدينة إلى التسليم السريع وأن المدينة إذا لم تنجد من الخارج فإن استلامها يتوقف على الوقت فقط، إلا أنه على الرغم من تناقص الذخائر فإن أحدا من أهلها لم يطلب الاستسلام وصبر السكان على القصف من دون أي تذم. وكان فنتورا قد حذر الرهبان قائلا: «إذا لم تسر الكنيسة مع الشعب فالشعب يسير من دونها لا بعيدا عنها فحسب بل سيناوئها.»
ولم تكن قلة الرجاء في المقاومة لتخفف من حماسة الناس وحميتهم، وقد تقدمت ستة آلاف امرأة للخدمة في المستشفيات وتجلت البطولة الإيطالية في الدفاع عن عاصمة إيطالية، فهذا غاريبالدي ورفقاؤه الذين حاربوا بجانبه في أمريكة يجاهدون وهذا «مانورا» الفتى الميلاني مع القناصين الماهرين من أهل لمبارديه، وهؤلاء الأشراف يقاتلون إلى جنب أبطال الأيام الخمسة ومتطوعة الحرب في التيرول، أما ماميلي الشاعر وداندولو وبيساكانة وبيكسيو وميديجي وكثير من الفتيان الأبطال، فمنهم من مات في سبيل روما ومنهم من عاش ليصبح من قادة المعركة في المستقبل ومنظميها، وكثيرون من هؤلاء لم يكونوا من الجمهوريين، وكان البعض منهم من الأشراف، إلا أن حب الوطن وسحر روما ساقاهم للقتال في المعركة الأخيرة في سبيل إيطالية، وكانت الحكومة جديرة بالمدافعين عنها وقد حافظت على الأمن بصورة تامة طول مدة الحصار وأدارت الشئون المالية بدراية ونزاهة، ورغم قلة الغذاء فالمجاعة لم تنتب المدينة، وأظهر مازيني نشاطا كبيرا وآراء صائبة، واستطاع أن يبث في الملتفين حوله حماسته وآماله، وكانت الحكومة تأمل أن توفق الحزب الجبلي في باريس في حمل الحكومة على الأخذ بسياسة المظاهرة الإيطالية وأن إنجلترة تتدخل، بيد أن بالمرستون كان تحت رحمة الكويد بنيسيت وكانت الثورة التي شبت في باريس في 13 حزيران آخر جهد قام به الحزب الجبلي.
وبعد مرور ثمانية أيام على محاصرة روما استولى المهاجمون على المعاقل وانسحب المدافعون إلى جدار أوريليانوس بعد أن تكبدوا خسائر فادحة، ولم يترك مديجي معمل فاسيللو إلا بعد أن خسر ثلاثمائة رجل من رجاله، أما مانورا فقاوم قوات تفوقه أضعافا مضاعفة، ولما لم يبق لدى المدافعين سلاح وحارب الأبطال الفتيان بسكاكينهم إلى أن خر رئيسهم صريعا، وأراد مازيني أن يقاوم أيضا إلا أن غاريبالدي صرح في المجلس التأسيسي بأنه لا رجاء في القتال، وقرر النواب إنهاء حرب لا فائدة منها، ودخل الإفرنسيون المدينة وكان الأهلون حين مرور الجنود بالطرقات يسخرون منهم ويهتفون هتافات عدائية لهم.
وغادر مازيني روما مترقبا الفرصة لاستئناف القتال، أما غاريبالدي فطلب إلى الذين رفضوا التسليم أن يلحقوا به على أن يعلموا بأنه ينتظرهم بالجوع والعطش والسهر، فسار وراءه ثلاثة آلاف يطاردهم الإفرنسيون والإسبان والنمسويون ثلاثة أسابيع، وسامهم القرويون خسفا، وأخذ عددهم يقل بمن يهرب منهم يوميا.
ثم وصلوا إلى سان مارينو؛ حيث تفاهم غاريبالدي مع السلطات على أن لا يصيب رجاله سوء، ثم سافر مع مئتين من أصحابه الأوفياء وزوجه «أنيتا» إلى «سسينه» وأبحروا منها إلى البندقية بيد أن السفن النمسوية ضبطت بعض قواربهم واضطر البعض الآخر يلجأ إلى الساحل وماتت «أنيتا» في غابة كوماجيو فلاقى غاريبالدي تشردا منقطع النظير في شبه الجزيرة التي كانت مراقبة من كل جهة، وقد خصص مبلغ عظيم لمن يقبض عليه.
Bilinmeyen sayfa