وبقيت الحكومة مترددة، بينما كانت الشرطة والجيش يغليان غضبا ويستعدان لصب الزيت في النار، وكان قائد الجيش الجنرال «راديتسكي» نموذجا للظالم المستبد في الجيش النمسوي، وكان يجهر بأن «سفك دماء ثلاثة أيام يوصلنا إلى سلم يمتد ثلاثين سنة.» ولكن نائب الملك وحاكم ميلانو كانا يميلان إلى تدابير أكثر هوادة من تدابيره، وكان راديتسكي يدعو الله أن يهيئ له الميلانيون الفرصة بتصرفهم ليطلب المدد من المركز ويحكم بالقوة الساحقة.
وأخيرا هيأ له الميلانيون تلك الفرصة؛ ذلك أنهم فكروا في الإضراب عن استعمال التبغ إضرارا بالخزينة النمسوية، ولا سيما لأن التضحية به من جانب الطليان ممكنة، وأصبحت الشوارع في ميلانو في أوائل شباط خالية من المدخنين، وعرف الجيش كيف يستغل هذا الإضراب فوزع مقادير كبيرة من السجاير على الحامية، وأخذ الضباط والجنود ينفخون الدخان في وجوه المارة، وحين غضب الأهلون من هذا التحدي أمر راديتسكي خيالته بمهاجمتهم وهم عزل، وأعمل الجنود حرابهم في العمال الراجعين إلى بيوتهم فقتل عدة أشخاص وجرح أكثر من خمسين شخصا.
ولم تقف ميلانو ساكتة إزاء هذه الإهانة، فاحتج الأشراف والموظفون على هذا العمل الشائن، ودعا المطران من الكتدرائية الباري تعالى أن يلهم الحكومة الرأفة بالبشر فأصدر الإمبراطور بلاغا يتهدد فيه الناس بالعقوبة الصارمة، وقضى بهذا على كل أمل في إزالة الاختلاف بين الحكومة والأهلين وأصبح الشعب والجيش على طرفي نقيض.
وقد ولدت فتنة التبغ حقدا عاما في كل أنحاء إيطالية، وكانت الحركة القومية والحركة الإصلاحية قد ارتبطتا برباط واحد ارتباطا محكما حتى أصبحت الواحدة تؤثر في الأخرى فتتحمس الواحدة لنجاح الأخرى أو لفشلها، إلى أن حصر الإصلاحيون مطالبهم بالتعديلات الإدارية، وكان المعتدلون قد اتخذوا مبدأ العمل بمبدأ الأمراء شعارا لهم.
وحتى احتلال «فراره» كان الأمل ضعيفا جدا في الحصول على القانون الأساسي من بيوس أو لئوبولد أو شارل ألبرت، وكان الأحرار قد وحدوا جهودهم في ثلاث مواد، هي: حرية الصحافة، وإيجاد الحرس المدني، وإقامة مجلس للدولة، وقد حصلوا عليها في طوسكانه ودويلات الكنيسة، وكانت الظواهر تدل على أن البلاد رضيت بما تم، وأخذت الحرب ضد النمسة تشغل بال أنصار مازيني في ذلك الوقت أكثر مما تشغله فكرة الحكومة الشعبية.
ويتضح من ذلك أن جميع الأحزاب لم تفكر في الدستور، وأن الاشتراكية النظرية لم تكن قد انبثقت إلا قليلا بينما كان الاستياء الاقتصادي عظيما، وحدث أن جاء الشتاء قاسيا جدا فقضى على كثير من أشجار الزيتون، وأدت حرية التجارة في إنجلترة وأيرلندة إلى جر الحبوب إلى أسواقهم، فارتفعت بذلك أسعار الحبوب في إيطالية وبلغ الضيق في جنوة أشده.
وكان العمال يحملون حقدا دفينا على أسيادهم، وفي فلورنسة ثار الصناع ضد أسلوب تأدية الأجر بالسلعة، وأدى فقدان الخبز إلى كثرة الفتن واشتدادها، أما في طوسكانه فالأزمة أصابت صغار المزارعين والعمال، فأخذ المحرضون - من أي حزب كان - يستغلونهم، وفي الروماني نهب الناس المخابز على مرأى من الشرطة، وكان الناس يعدون هذه الفتن من عمل العملاء النمسويين أو رجال السانفيديست، واتخذت الأمور في ليفورنة شكلا جديا، وكان أهلها الأشداء قد تعلموا من «جرازاني» حب الدمقراطية فامتدت دعايات التحريض والإثارة طول الخريف، واستولى الشعب بعد يومين من فتنة التبغ على المدينة ودعى جرازاني لقيادة الحركة، فاستلم زمامها وأصبح الدكتاتور، بيد أن الحركة لم تلق إلا عطفا قليلا في القسم الباقي من طوسكانه، ولما رأى الناس ضعف الحكومة أخذوا يلحون عليها بتأسيس حكومة دستورية، وأصبح مؤكدا بأن الدستور وحده هو الذي يقلل من عجز القوة الإجرائية.
وساد الاقتناع نفسه في بيمونته؛ حيث كان المحافظون والإصلاحيون المفرطون على طرفي نقيض، وكانت الجمعية الزراعية في خلال السنتين الأخيرتين قد انشقت على نفسها بالنزاع بين الأشراف الأحرار بزعامة «كاميل كافور» والفرع الدموقراطي بزعامة سكرتير الجمعية «فاليريو» وامتد هذا النزاع إلى الشعب أيضا فسعى دازجيلو وفانتي مدبر مظاهرة ريميني إلى إزالة الاختلاف، وبدا للجميع أن الدستور وحده هو الذي يستطيع أن يطمن رغبات البلاد فرفع بالبو بنفسه مذكرة إلى الملك يرجوه فيها أن ينظر بعين الاعتبار إلى هذه الرغبة، إلا أن الاندفاع الحقيقي ظهر من قبل رجل كان الديموقراطيون يعدونه من المعتدلين المكروهين بل وأدعاهم إلى الريبة وهو كاميل كافور.
كان كافور ابن وزير من أشد وزراء الملك شارل ألبرت رجعية، وكان عمره حينئذ سبعا وثلاثين سنة، وكان في شبابه من الراديكاليين إلا أنه أخذ يميل إلى الاعتدال حتى أصبح من أنصار طريقة العقار الإنجليزي والارتباط المتقابل بين الطبقات، إلا أنه كان من الوطنيين الذين يكرهون اضطهاد النمسة والبابا ويحنق على الاستبداد الداخلي الذي عرقل التجارة وعد كل قريحة كفرا أو خيانة وطنية.
وقد ساح كثيرا في إنجلترة وفي فرنسة ورجع إلى بلاده يحمل حقدا على الإكليريكية وإيمانا قويا بالتجارة الحرة وبالحرية الاقتصادية وبالنشاط السياسي السليم، ورغم أنه كان أرستقراطيا بالولادة وبالبيئة التي نشأ فيها وبكثير من العادات؛ فقد أظهر بأطواره وبلباسه كرهه للمظاهر الأرستقراطية كزينة الرتب اعتقادا منه أن الأرستقراطية مائلة للزوال في المجتمع الحديث.
Bilinmeyen sayfa