وقد توقع أن يعبر غاريبالدي بعد بضعة أيام إلى كلبريه، فوافق في نهاية شهر حزيران على تجهيز النجدات المرسلة إلى غاريبالدي بالسلاح المخزون في دار صناعة الحكومة في جنوة، ومع ذلك فإن كافور ظل مترددا بين إسداء المعونة إلى حدها الأقصى والسير إلى آخر الشوط، والتملص من تبعة الحركة بتضحية غاريبالدي إذا اقتضت مصلحة الحكومة ذلك، أما فيما يتعلق بالاعتداء على ممتلكات البابا فإنه كان يرغب في عدم التدخل؛ ولذلك أقنع مديجي وكوسن بالكف عن نياتهما بشأن أومبريه على الرغم من أوامر غاريبالدي لهما وسوقهما النجدات إلى صقلية.
وأدرك كافور أن الحركة الديموقراطية المعادية للملكية البيمونتية قد تفرق صفوف القوميين وتؤدي إلى حرب أهلية، وقد ينحرف الناس في تيار الجمهورية، فعقد النية على توقيف تلك الحركة في بدئها، وأوفد لافارينا إلى باليرمو لكي يقوي غاريبالدي ضد النفوذ الديموقراطي، ويتولى تنظيم شئون الحكومة ويعمل في الانضمام.
وكان كريسبي في باليرمو وبرتاني في جنوة يبذلان جهدهما ليحولا دون الانضمام المطلق، أما غاريبالدي فكان يعتقد بأن إيطالية تحتاج إلى دكتاتور نزيه ولو إلى حين، ولاح له أن يؤجل أمر الانضمام ريثما يكمل مهمته، وأخذ يقتنع بأن السياسة الخارجية قد تتدخل فيما إذا استلم فيكتور عمانوئيل حكومة الجزيرة وقد تمنعه من العبور إلى القارة لإكمال مهمته في توحيد إيطالية.
أما كافور فلم تكن نفسه تتوق لضم الجزيرة فحسب بل بضم نابولي أيضا حالما تسنح الفرصة، ومما يؤسف له أن اختيار لافارينا للمهمة التي أنيطت به لم يكن موفقا؛ ذلك لأنه كان عدوا شخصيا لكريسبي وكان الحزب الديموقراطي يكرهه، وكان من السهل إقناع غاريبالدي الدكتاتور بأن الرجل الذي وقع على وثيقة التخلي عن نيس مسقط رأس غاريبالدي لا يمكن أن يكون صديقا له.
وقد كان أول عمل قام به لافارينا أن هاجم حكومة كريسبي بشدة ونشب الجدال بينهما، وبذلك سيطرت الحزازات الشخصية، وعبثا حاول غاريبالدي الاحتفاظ بصاحبه واضطر أخيرا إلى إقصاء كريسبي بعد أن رأى مناصرة الرأي العام لفارينا، بيد أن كريسبي ظل الرجل المسموع الكلمة لدى الدكتاتور؛ ولذلك امتنع غاريبالدي عن الموافقة على الانضمام مع أنه سبق فأراد الحركة نحو روما؛ ليستولي عليها ويجعلها عاصمة إيطالية الموحدة وأخيرا أبعد لافارينا من الجزيرة.
فغضب كافور لهذا العمل غضبا شديدا وأنذر غاريبالدي في أواخر حزيران بمنع سفر النجدات فيما إذا ظل كريسبي الدموقراطي المفرط وكيلا له، ولم يكد لافارينا يرجع إلى تورينو حتى منع المخازن من تقديم التجهيزات الحكومية إلى غاريبالدي، على أن كافور لم يكن شديد الرغبة في معاكسة غاريبالدي أملا في الاستفادة منه، فأوفد «ديبرتيس» بعد أن استطلع رأي غاريبالدي فوافق عليه لأن ديبرتيس كان قد استقال محتجا على التخلي عن نيس، وقد نجح ديبرتيس بالقيام بإصلاحات عظيمة في الإدارة وخطا نحو الوحدة في إدخاله القوانين البيمونتية إلى الجزيرة خطوات واسعة، وأراد كافور أن يتعاون ديبرتيس مع كريسبي، ولما عاد هذا للعمل اشترط بأن لا يبحث في الإلحاق ما لم تتحرر نابولي.
وتقصير كافور هنا أنه لم يعمل بعزم، فلو أمر بإجراء الاقتراع العام في الجزيرة للانضمام أو ضده لوفر على إيطالية كثيرا من الجهود والمتاعب ولتقبلت أكثرية الجزيرة هذا الطلب بارتياح، بيد أن مثل هذه السياسة الجريئة كانت تتطلب رجلا أكثر عزما من ديبرتيس.
وبث نجاح غاريبالدي الفرح في جميع أنحاء إيطالية، وأصبح مطمح أكثر الفتيان أن يجاهدوا تحت رايته، وقد تجند من بولونيا وحدها - كما قيل - سبعة آلاف وهرب جنود بيمونتيون من وحداتهم للالتحاق به، وسارع الطوسكانيون الذين كانوا يكرهون التجنيد من كل حدب وصوب للالتحاق بقوات مديجي وكوستر، وأخذت الاكتتابات لشراء مليون بندقية تتدفق وأظهر برتامن في جنوة كفاية عظيمة في تنظيم النجدات والإسراع في إرسالها. ووصل إلى صقلية قبل 30 تموز أكثر من تسعة آلاف رجل.
وحدث أن اصطدم مديجي بقوات يوسكو قائد الجند النابولي بالقرب من ميلازو في 17 تموز، فأسرع غاريبالدي إلى إرسال جميع الرجال الذين استطاع أن يحشدهم، وهاجم موضع يوسكو الحصين في برزخ ميلانو، وحدثت في 20 تموز معركة عنيفة، وكان جنود نابولي قد تحصنوا وراء الجدران والأسياج، ولكن رجال غاريبالدي استطاعوا - بعد قتال شديد - أن يحتلوا المدينة فالتجأ يوسكو إلى القصر، ورغم أن غاريبالدي لم يكن يملك مدافع حصار فقد استولى على القصر بعد ثلاثة أيام ثم أخلى جنود نابولي سيراكوزه وأوجسته، ولم يبق في الجزيرة بيد آل بوربون سوى قطعة مسينة.
ولم يقتصر اجتياح الحماسة التي ولدها غاريبالدي على الفتيان الذين سارعوا للانضمام إليه فحسب، بل انجرف في التيار رجال عرفوا بالرصانة من أمثال دازجيلو ولانزا، وقد كتب كافور في رسالة له: «إن أكثر الرجال تعقلا ورصانة وأشد المعتدلين والمحافظين؛ أصبحوا من أنصار الوحدة.» وكان خوفهم تلاشى رويدا رويدا كلما اتضح لهم أن بلادهم سوف تصبح مملكة متحدة كبيرة.
Bilinmeyen sayfa